235 هـ
849 م
سنة خمس وثلاثين ومائتين (ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث)

ذكر الخبر عن مقتل ايتاخ
فمن ذلك مقتل إيتاخ الخزري …

ذكر الخبر عن صفة مقتله:
ذكر عن إيتاخ أنه لما انصرف من مكة راجعا إلى العراق، وجه المتوكل إليه سعيد بن صالح الحاجب مع كسوة وألطاف، وأمره أن يلقاه بالكوفة أو ببعض طريقه، وقد تقدم المتوكل إلى عامله على الشرطة ببغداد بأمره فيه.
فذكر عن إبراهيم بن المدبر، أنه قال: خرجت مع إسحاق بن إبراهيم حين قرب إيتاخ من بغداد، وكان يريد أن يأخذ طريق الفرات إلى الأنبار، ثم يخرج إلى سامرا، فكتب إليه إسحاق بن إبراهيم: أن أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، قد أمر أن تدخل بغداد، وأن يلقاك بنو هاشم ووجوه الناس، وأن تقعد لهم في دار خزيمة بن خازم، فتأمر لهم بجوائز قال: فخرجنا حتى إذا كنا بالياسرية، وقد شحن ابن إبراهيم الجسر بالجند والشاكرية، وخرج في خاصته، وطرح له بالياسرية صفة، فجلس عليها حتى قالوا: قد قرب منك فركب فاستقبله، فلما نظر إليه أهوى إسحاق لينزل، فحلف عليه إيتاخ ألا يفعل.
قال: وكان إيتاخ في ثلاثمائة من أصحابه وغلمانه، عليه قباء أبيض، متقلدا سيفا بحمائل، فسارا جميعا، حتى إذا صارا عند الجسر تقدمه إسحاق عند الجسر، وعبر حتى وقف على باب خزيمة بن خازم، وقال لإيتاخ تدخل أصلح الله الأمير! وكان الموكلون بالجسر كلما مر بهم غلام من غلمانه قدموه، حتى بقي في خاصة غلمانه، ودخل بين يديه قوم، وقد فرشت له دار خزيمة، وتأخر إسحاق، وأمر ألا يدخل الدار من غلمانه الا ثلاثة أو أربعة، وأخذت عليه الأبواب، وأمر بحراسته من ناحية الشط، وكسرت كل درجة في قصر خزيمة بن خازم، فحين دخل أغلق الباب خلفه، فنظر فإذا ليس معه إلا ثلاثة غلمان، فقال: قد فعلوها! ولو لم يؤخذ ببغداد ما قدروا على أخذه، ولو دخل إلى سامرا، فأراد بأصحابه قتل جميع من خالفه امكنه ذلك قال: فأتي بطعام قرب الليل، فأكل فمكث يومين أو ثلاثة، ثم ركب إسحاق في حراقة وأعد لإيتاخ أخرى، ثم أرسل إليه أن يصير إلى الحراقة، وأمر بأخذ سيفه، فحدروه إلى الحراقة، وصير معه قوم في السلاح وصاعد إسحاق، حتى صار إلى منزله، وأخرج إيتاخ حين بلغ دار إسحاق، فأدخل ناحية منها، ثم قيد فأثقل بالحديد في عنقه ورجليه، ثم قدم بابنيه منصور ومظفر، وبكاتبيه سليمان بن وهب وقدامة بن زياد النصراني بغداد.
وكان سليمان على أعمال السلطان، وقدامة على ضياع إيتاخ خاصة، فحبسوا ببغداد، فأما سليمان وقدامة فضربا، فأسلم قدامة وحبس منصور ومظفر.
وذكر عن ترك مولى إسحاق أنه قال: وقفت على باب البيت الذي فيه إيتاخ محبوس، فقال لي: يا ترك، قلت: ما تريد يا منصور؟ قال: أقرئ الأمير السلام، وقل له: قد علمت ما كان يأمرني به المعتصم والواثق في أمرك، فكنت أدفع عنك ما أمكنني، فلينفعني ذلك عندك، أما أنا فقد مر بي شدة ورخاء، فما أبالي ما أكلت وما شربت، وأما هذان الغلامان، فإنهما عاشا في نعمة ولم يعرفا البؤس، فصير لهما مرقة ولحما وشيئا يأكلان منه قال:
ترك فوقفت على باب مجلس إسحاق، قال لي: ما لك يا ترك؟ أتريد أن تتكلم بشيء؟ قلت: نعم، قال لي ايتاخ كذا، كذا، قال: وكانت وظيفة إيتاخ رغيفا وكوزا من ماء، ويأمر لابنيه بخوان فيه سبعة أرغفة وخمس غرف، فلم يزل ذلك قائما حياة إسحاق، ثم لا أدري ما صنع بهما، فأما إيتاخ فقيد وصير في عنقه ثمانون رطلا، وقيد ثقيل، فمات يوم الأربعاء لخمس خلون من جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين ومائتين، وأشهد إسحاق على موته أبا الحسن إسحاق بن ثابت بن أبي عباد وصاحب بريد بغداد والقضاة، وأراهم إياه لا ضرب به ولا أثر وحدثني بعض شيوخنا أن إيتاخ كان موته بالعطش، وأنه أطعم فاستسقى فمنع الماء، حتى مات عطشا، وبقي ابناه في الحبس حياة المتوكل، فلما أفضى الأمر إلى المنتصر أخرجهما، فأما مظفر فإنه لم يعش بعد أن أخرج من السجن إلا ثلاثة أشهر حتى مات، واما منصور فعاش بعده.

ذكر خبر اسر ابن البعيث وموته
وفي هذه السنة قدم بغا الشرابي بابن البعيث في شوال وبخليفته أبي الأغر وبأخوي ابن البعيث صقر وخالد- وكانا نزلا بأمان- وبابن لابن البعيث، يقال له العلاء، خرج بأمان، وقدم من الأسرى بنحو من مائة وثمانين رجلا، ومات باقيهم قبل أن يصلوا، فلما قربوا من سامرا حملوا على الجمال يستشرفهم الناس، فأمر المتوكل بحبسه وحبسهم، وأثقله حديدا فذكر عن علي بن الجهم، أنه قال: أتي المتوكل بمحمد بن البعيث، فأمر بضرب عنقه، فطرح على نطع، وجاء السيافون فلوحوا له، فقال المتوكل، وغلظ عليه: ما دعاك يا محمد إلى ما صنعت؟ قال: الشقوة، وأنت الحبل الممدود بين الله وبين خلقه، وإن لي فيك لظنين أسبقهما إلى قلبي أولاهما بك، وهو العفو، ثم اندفع بلا فضل، فقال:

أبى الناس إلا أنك اليوم قاتلي *** إمام الهدى والصفح بالناس أجمل
وهل أنا إلا جبلة من خطية *** وعفوك من نور النبوه يجبل
فإنك خير السابقين الى العلا *** ولا شك أن خير الفعالين تفعل

قال علي: ثم التفت إلي المتوكل، فقال: إن معه لأدبا، وبادرت فقلت: بل يفعل أمير المؤمنين خيرهما ويمن عليك، فقال: ارجع إلى منزلك.
وحدثني أنه أنشدني بالمراغة جماعة من أشياخها أشعارا لابن البعيث بالفارسية، ويذكرون أدبه وشجاعته، وله أخبار وأحاديث.
وحدثني بعض من ذكر أنه شهد المتوكل حين أتي بابن البعيث، وكلمه ابن البعيث بما كلمه به، فتكلم فيه المعتز، وهو جالس مع أبيه المتوكل، فاستوهبه فوهب له، وعفي عنه.
وكان ابن البعيث حين هرب قال:

كم قد قضيت أمورا كان أهملها *** غيري وقد أخذ الإفلاس بالكظم
لا تعذليني فيما ليس ينفعني *** إليك عني جرى المقدار بالقلم
سأتلف المال في عسر وفي يسر *** إن الجواد الذي يعطي على العدم

وكان ابن البعيث حين هرب خلف في منزله ثلاثة بنين له، يقال لهم:
البعيث وجعفر وحلبس، وجواري، فحبسوا ببغداد في قصر الذهب، فتكلم بغا الشرابي بعد موت ابن البعيث- ومات بعد دخوله سامرا بشهر- في أبي الأغر ختنه، فأطلق وأطلقت خالة لابن البعيث، فخرجت من السجن، فماتت فرحا من يومها، وبقي الباقون في الحبس.

وذكر أن ابن البعيث صير في عنقه مائة رطل، فلم يزل مكبوبا على وجهه حتى مات.
ولما أخذ ابن البعيث أخرج من الحبس من كان محبوسا بسبب كفالته به، وقد كان بعضهم مات في الحبس، فأخرج بعد باقي عياله وصير بنوه:
حلبس والبعيث وجعفر في عداد الشاكريه مع عبيد الله بن خاقان، واجريت عليهم الأنزال.

امر المتوكل مع النصارى
وفي هذه السنة أمر المتوكل بأخذ النصارى وأهل الذمة كلهم بلبس الطيالسة العسلية والزنانير وركوب السروج بركب الخشب وبتصيير كرتين على مؤخر السروج، وبتصيير زرين على قلانس من لبس منهم قلنسوة مخالفة لون القلنسوة التي يلبسها المسلمون، وبتصيير رقعتين على ما ظهر من لباس مماليكهم مخالف لونهما لون الثوب الظاهر الذي عليه، وأن تكون إحدى الرقعتين بين يديه عند صدره، والأخرى منهما خلف ظهره، وتكون كل واحدة من الرقعتين قدر أربع أصابع، ولونهما عسليا، ومن لبس منهم عمامة فكذلك يكون لونها لون العسلي، ومن خرج من نسائهم فبرزت فلا تبرز إلا في إزار عسلي، وأمر بأخذ مماليكهم بلبس الزنانير وبمنعهم لبس المناطق، وأمر بهدم بيعهم المحدثة، وبأخذ العشر من منازلهم، وان كان الموضع واسعا صير مسجدا، وإن كان لا يصلح أن يكون مسجدا صير فضاء، وأمر أن يجعل على أبواب دورهم صور شياطين من خشب مسمورة، تفريقا بين منازلهم وبين منازل المسلمين، ونهى أن يستعان بهم في الدواوين وأعمال السلطان التي يجري أحكامهم فيها على المسلمين، ونهى أن يتعلم أولادهم في كتاتيب المسلمين، ولا يعلمهم مسلم، ونهى أن يظهروا في شعانينهم صليبا، وأن يشمعلوا في الطريق، وأمر بتسوية قبورهم مع الأرض، لئلا تشبه قبور المسلمين.
وكتب إلى عماله في الآفاق:
بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فإن الله تبارك وتعالى بعزته التي لا تحاول وقدرته على ما يريد، اصطفى الإسلام فرضيه لنفسه، وأكرم به ملائكته، وبعث به رسله، وأيد به أولياءه، وكنفه بالبر، وحاطه بالنصر، وحرسه من العاهة، وأظهره على الأديان، مبرأ من الشبهات، معصوما من الآفات، محبوا بمناقب الخير، مخصوصا من الشرائع بأطهرها وأفضلها، ومن الفرائض بأزكاها وأشرفها، ومن الأحكام بأعدلها وأقنعها، ومن الأعمال بأحسنها وأقصدها، وأكرم أهله بما أحل لهم من حلاله، وحرم عليهم من حرامه، وبين لهم من شرائعه وأحكامه، وحد لهم من حدوده ومناهجه، وأعد لهم من سعة جزائه وثوابه، فقال في كتابه فيما أمر به ونهى عنه، وفيما حض عليه فيه ووعظ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]، وقال فيما حرم على اهله مما غمط فيه اهل الأديان من رديء المطعم والمشرب والمنكح لينزههم عنه وليظهر به دينهم، ليفضلهم عليهم تفضيلا: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ} [المائدة: 3] إلى آخر الآية، ثم ختم ما حرم عليهم من ذلك في هذه الآية بحراسة دينه، ممن عند عنه وبإتمام نعمته على أهله الذين اصطفاهم، فقال عز وجل: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] الآية، وقال عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ} [النساء: 23] وقال: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ} [المائدة: 90] الآية، فحرم على المسلمين من مآكل أهل الأديان أرجسها وأنجسها، ومن شرابهم أدعاه إلى العداوة والبغضاء، وأصده عن ذكر الله وعن الصلاة، ومن مناكحهم أعظمها عنده وزرا، وأولاها عند ذوي الحجى والألباب تحريما، ثم حباهم محاسن الأخلاق وفضائل الكرامات، فجعلهم أهل الإيمان والأمانة، والفضل والتراحم واليقين والصدق، ولم يجعل في دينهم التقاطع والتدابر، ولا الحمية ولا التكبر، ولا الخيانة ولا الغدر، ولا التباغي ولا التظالم، بل أمر بالأولى ونهى عن الأخرى، ووعد وأوعد عليها جنته وناره، وثوابه وعقابه، فالمسلمون بما اختصهم الله من كرامته، وجعل لهم من الفضيلة بدينهم الذي اختاره لهم، بائنون على الأديان بشرائعهم الزاكية، وأحكامهم المرضية الطاهرة، وبراهينهم المنيرة، وبتطهير الله دينهم بما أحل وحرم فيه لهم وعليهم، قضاء من الله عز وجل في إعزاز دينه، حتما ومشيئة منه في إظهار حقه ماضية، واراده منه في اتمام نعمته على أهله نافذة {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42]، وليجعل الله الفوز والعاقبة للمتقين، والخزي في الدنيا والآخرة على الكافرين.
وقد رأى أمير المؤمنين- وبالله توفيقه وإرشاده- أن يحمل أهل الذمة جميعا بحضرته وفي نواحي أعماله، أقربها وأبعدها، وأخصهم وأخسهم على تصيير طيالستهم التي يلبسونها، من لبسها من تجارهم وكتابهم، وكبيرهم وصغيرهم، على ألوان الثياب العسلية، لا يتجاوز ذلك منهم متجاوز إلى غيره، ومن قصر عن هذه الطبقة من أتباعهم وأرذالهم، ومن يقعد به حاله عن لبس الطيالسة منهم أخذ بتركيب خرقتين صبغهما ذلك الصبغ يكون استدارة كل واحدة منهما شبرا تاما في مثله، على موضع أمام ثوبه الذي يلبسه، تلقاء صدره، ومن وراء ظهره، وان يؤخذ الجميع منهم في قلانسهم بتركيب أزرة عليها تخالف ألوانها ألوان القلانس، ترتفع في أماكنها التي تقع بها، لئلا تلصق فتستر ولا ما يركب منها على حباك فتخفى، وكذلك في سروجهم باتخاذ ركب خشب لها، ونصب أكر على قرابيسها، تكون ناتئة عنها، وموفية عليها، لا يرخص لهم في إزالتها عن قرابيسهم، وتأخيرها إلى جوانبها، بل يتفقد ذلك منهم، ليقع ما وقع من الذي أمر أمير المؤمنين بحملهم عليه ظاهرا يتبينه الناظر من غير تأمل، وتأخذه الأعين من غير طلب، وأن تؤخذ عبيدهم وإماؤهم، ومن يلبس المناطق من تلك الطبقة بشد الزنانير والكساتيج مكان المناطق التي كانت في أوساطهم، وأن توعز إلى عمالك فيما أمر به أمير المؤمنين في ذلك إيعازا تحدوهم به إلى استقصاء ما تقدم إليهم فيه، وتحذرهم إدهانا وميلا، وتتقدم إليهم في إنزال العقوبة بمن خالف ذلك من جميع أهل الذمة عن سبيل عناد وتهوين إلى غيره، ليقتصر الجميع منهم على طبقاتهم وأصنافهم على السبيل التي أمر أمير المؤمنين بحملهم عليها، وأخذهم بها إن شاء الله.
فاعلم ذلك من رأي أمير المؤمنين وأمره، وانفذ إلى عمالك في نواحي عملك ما ورد عليك من كتاب أمير المؤمنين بما تعمل به إن شاء الله، وأمير المؤمنين يسأل الله ربه ووليه أن يصلي على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وملائكته، وأن يحفظه فيما استخلفه عليه من أمر دينه، ويتولى ما ولاه مما لا يبلغ حقه فيه إلا بعونه، حفظا يحمل به ما حمله، وولاية يقضي بها حقه منه ويوجب بها له أكمل ثوابه، وأفضل مزيده، أنه كريم رحيم.
وكتب إبراهيم بن العباس في شوال سنة خمس وثلاثين ومائتين فقال علي بن الجهم:

العسليات التي فرقت *** بين ذوي الرشدة والغي
وما على العاقل ان تكثروا *** فانه اكثر للفيء

ظهور محمود بن الفرج النيسابورى
وفي هذه السنة ظهر بسامرا رجل يقال له محمود بن الفرج النيسابوري فزعم أنه ذو القرنين، ومعه سبعة وعشرون رجلا عند خشبة بابك، وخرج من أصحابه بباب العامة رجلان، وببغداد في مسجد مدينتها آخران، وزعما أنه نبي، وأنه ذو القرنين، فأتي به وبأصحابه المتوكل، فأمر بضربه بالسياط، فضرب ضربا شديدا، فمات من بعد من ضربه ذلك، وحبس أصحابه، وكانوا قدموا من نيسابور، ومعهم شيء يقرءونه، وكان معهم عيالاتهم، وفيهم شيخ يشهد له بالنبوة، ويزعم أنه يوحى إليه، وأن جبريل يأتيه بالوحي، فضرب محمود مائة سوط، فلم ينكر نبوته حين ضرب، وضرب الشيخ الذي كان يشهد له أربعين سوطا، فأنكر نبوته حين ضرب وحمل محمود إلى باب العامة، فأكذب نفسه، وقال: الشيخ قد اختدعني، وأمر أصحاب محمود أن يصفعوه فصفعوه، كل واحد منهم عشر صفعات، وأخذ له مصحف فيه كلام قد جمعه ذكر أنه قرآنه، وان جبريل ع كان يأتيه به، ثم مات يوم الأربعاء لثلاث خلون من ذي الحجة في هذه السنه ودفن في الجزيرة.

ذكر عقد المتوكل البيعه لبنيه الثلاثة
وفي هذه السنة عقد المتوكل البيعة لبنيه الثلاثة: لمحمد وسماه المنتصر، ولأبي عبد الله بن قبيحة- ويختلف في اسمه، فقيل إن اسمه محمد، وقيل: اسمه الزبير، ولقبه المعتز- ولإبراهيم وسماه المؤيد بولاية العهد، وذلك- فيما قيل- يوم السبت لثلاث بقين من ذي الحجة- وقيل لليلتين بقيتا منه- وعقد لكل واحد منهم لواءين، أحدهما أسود وهو لواء العهد، والآخر أبيض وهو لواء العمل، وضم إلى كل واحد من العمل ما أنا ذاكره.
فكان ما ضم إلى ابنه محمد المنتصر من ذلك إفريقية والمغرب كله من عريش مصر إلى حيث بلغ سلطانه من المغرب وجند قنسرين والعواصم والثغور الشامية والجزرية وديار مضر وديار ربيعه والموصل وهيت وعانات والخابور وقرقيسيا وكورباجرمى وتكريت وطساسيج السواد وكور دجلة والحرمين واليمن وعك وحضر موت واليمامة والبحرين والسند ومكران وقندابيل وفرج بيت الذهب وكور الأهواز والمستغلات بسامرا وماه الكوفة وماه البصره وماسبذان ومهرجانقذق وشهرزور ودراباذ والصامغان وأصبهان وقم وقاشان وقزوين وأمور الجبل والضياع المنسوبة إلى الجبال وصدقات العرب بالبصرة.
وكان ما ضم إلى ابنه المعتز كور خراسان وما يضاف إليها، وطبرستان والري وأرمينية وأذربيجان وكور فارس ضم إليه في سنة أربعين خزن بيوت الأموال في جميع الآفاق، ودور الضرب، وأمر بضرب اسمه على الدراهم.
وكان ما ضم إلى ابنه المؤيد جند دمشق وجند حمص وجند الأردن وجند فلسطين، فقال أبو الغصن الأعرابي:

إن ولاة المسلمين الجله *** محمد ثم أبو عبد الله
ثمت إبراهيم آبي الذله *** بورك في بني خليفة الله

وكتب بينهم كتابا نسخته:
هذا كتاب كتبه عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين، وأشهد الله على نفسه بجميع ما فيه ومن حضر من أهل بيته وشيعته وقواده وقضاته وكفاته وفقهائه وغيرهم من المسلمين لمحمد المنتصر بالله، ولأبي عبد الله المعتز بالله، وإبراهيم المؤيد بالله، بني أمير المؤمنين، في أصالة من رأيه، وعموم من عافية بدنه، واجتماع من فهمه، مختارا لما شهد به، متوخيا بذلك طاعة ربه، وسلامة رعيته واستقامتها وانقياد طاعتها، واتساع كلمتها، وصلاح ذات بينها، وذلك في ذي الحجة سنه خمسه وثلاثين ومائتين انه جعل، إلى محمد المنتصر بالله بن جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين ولاية عهد المسلمين في حياته والخلافة عليهم من بعده، وأمره بتقوى الله التي هي عصمة من اعتصم بها ونجاة من لجأ إليها، وعز من اقتصر عليها، فإن بطاعة الله تتم النعمة، وتجب من الله الرحمة، والله غفور رحيم وجعل عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين الخلافة من بعد محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين إلى أبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين، ثم من بعد أبي عبد الله المعتز ابن أمير المؤمنين الخلافة إلى إبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين وجعل عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين لمحمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين على أبي عبد الله المعتز بالله وإبراهيم المؤيد بالله ابنى امير المؤمنين السمع والطاعة والنصيحة والمشايعة والموالاة لأوليائه والمعاداة لأعدائه، في السر والجهر، والغضب والرضا، والمنع والإعطاء، والتمسك ببيعته، والوفاء بعهده، لا يبغيانه غائلة، ولا يحاولانه مخاتلة، ولا يمالئان عليه عدوا، ولا يستبدان دونه بأمر يكون فيه نقض لما جعل إليه أمير المؤمنين من ولاية العهد في حياته والخلافة من بعده.
وجعل عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين على محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين لأبي عبد الله المعتز بالله وإبراهيم المؤيد بالله ابني أمير المؤمنين الوفاء بما عقده لهما، وعهد به إليهما من الخلافة بعد محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين، وإبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين الخليفة من بعد أبي عبد الله المعتز بالله ابن امير المؤمنين، والإتمام على ذلك، والا يخلعهما ولا واحدا منهما، ولا يعقد دونهما ولا دون واحد منهما بيعة لولد، ولا لأحد من جميع البرية، ولا يؤخر منهما مقدما، ولا يقدم منهما مؤخرا، ولا ينقصهما ولا واحدا منهما شيئا من أعمالهما التي ولاهما عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين وكل واحد منهما، من الصلاة والمعاون والقضاء والمظالم والخراج والضياع والغنيمة والصدقات وغير ذلك من حقوق أعمالهما، وما في عمل كل واحد منهما، من البريد والطرر وخزن بيوت الأموال والمعاون ودور الضرب وجميع الأعمال التي جعلها أمير المؤمنين، ويجعلها إلى كل واحد منهما، ولا ينقل عن واحد منهما أحدا من ناحيته من القواد والجند والشاكرية والموالي والغلمان وغيرهم، ولا يعترض عليه في شيء من ضياعه وإقطاعاته وسائر أمواله وذخائره وجميع ما في يده، وما حواه وملكت يده من تالد وطارف، وقديم ومستأنف، وجميع ما يستفيده ويستفاد له بنقص، ولا يحرم ولا يجنف، ولا يعرض لأحد من عماله وكتابه وقضاته وخدمه ووكلائه وأصحابه، وجميع أسبابه بمناظرة ولا محاسبة، ولا غير ذلك من الوجوه والأسباب كلها، ولا يفسخ فيما وكده أمير المؤمنين لهما في هذا العقد والعهد، بما يزيل ذلك عن جهته، أو يؤخره عن وقته، أو يكون ناقضا لشيء منه.
وجعل عبد الله جعفر المتوكل على الله أمير المؤمنين على أبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين إن أفضت إليه الخلافة بعد محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين لإبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين مثل الشرائط التي اشترطها على محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين بجميع ما سمى فيه ووصف في هذا الكتاب، وعلى ما بين وفسر، مع الوفاء من أبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين، بما جعله أمير المؤمنين لإبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين من الخلافة وتسليم ذلك راضيا به ممضيا له، مقدما ما فيه حق الله عليه وما أمره به أمير المؤمنين، غير ناكث ولا ناكب بذلك، ولا مبدل، فإن الله تعالى جده وعز ذكره يتوعد من خالف أمره، وعند عن سبيله في محكم كتابه: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 181]
على أن لأبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين ولإبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين على محمد المنتصر بالله ابن امير المؤمنين، الامان، وهما مقيمان بحضرته أو أحدهما، أو كانا غائبين عنه، أو مجتمعين كانا أو متفرقين ويستمر أبو عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين في ولايته بخراسان وأعمالها المتصلة بها والمضمومة إليها، ويستمر إبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين في ولايته بالشام وأجنادها، فعلى محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين، أن يمضي أبا عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين إلى خراسان وأعمالها المتصلة بها والمضمومة إليها، وأن يسلم له ولايتها وأعمالها كلها وأجنادها والكور الداخلة فيما ولي جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين أبا عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين، فلا يعوقه عنها، ولا يحبسه قبله ولا في شيء من البلدان دون خراسان والكور والأعمال المضمومة إليها، وإن يعجل إشخاصه إليها واليا عليها وعلى جميع أعمالها، مفردا بها مفوضا إليه أعمالها كلها، لينزل حيث أحب من كور عمله، ولا ينقله عنها، وأن يشخص معه جميع من ضم إليه أمير المؤمنين، ويضم من مواليه وقواده وشاكريته وأصحابه وكتابه وعماله وخدمه ومن اتبعه من صنوف الناس بأهاليهم وأولادهم وعيالهم وأموالهم، ولا يحبس عنه أحدا، ولا يشرك في شيء من أعماله أحدا، ولا يوجه عليه أمينا ولا كاتبا ولا بريدا، ولا يضرب على يده في قليل ولا كثير.
وأن يطلق محمد المنتصر بالله لإبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين الخروج إلى الشام وأجنادها فيمن ضم أمير المؤمنين ويضمه إليه من مواليه وقواده وخدمه وجنوده وشاكريته وصحابته وعماله وخدامه ومن اتبعه من صنوف الناس باهاليها وأولادهم وأموالهم، ولا يحبس عنهم أحدا، ويسلم اليه ولايتها وأعمالها وجنودها كلها، لا يعوقه عنها، ولا يحبسه قبله ولا في شيء من البلدان دونها، وأن يعجل إشخاصه إلى الشام وأجنادها واليا عليها، ولا ينقله عنها، وأن عليه له فيمن ضم إليه من القواد والموالي والغلمان والجنود والشاكرية وأصناف الناس وفي جميع الأسباب والوجوه مثل الذي اشترط على محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين لأبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين في خراسان وأعمالها على ما رسم من ذلك، وبين ولخص، وشرح في هذا الكتاب.
ولإبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين على أبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين- إذا أفضت الخلافة إليه، وإبراهيم المؤيد بالله مقيم بالشام- أن يقره بها أو كان بحضرته، أو كان غائبا عنه، أن يمضيه إلى عمله من الشام، ويسلم إليه أجنادها وولايتها وأعمالها كلها، ولا يعوقه عنها، ولا يحبسه قبله ولا في شيء من البلدان دونها، وأن يعجل إشخاصه إليها واليا عليها وعلى جميع أعمالها، على مثل الشرط الذي أخذ لأبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين على محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين في خراسان وأعمالها، على ما رسم ووصف وشرط في هذا الكتاب، لم يجعل أمير المؤمنين لواحد ممن وقعت عليه وله هذه الشروط، من محمد المنتصر بالله، وأبي عبد الله المعتز بالله، وإبراهيم المؤيد بالله، بني أمير المؤمنين، أن يزيل شيئا مما اشترطنا في هذا الكتاب، ووكدنا، وعليهم جميعا الوفاء به، لا يقبل الله منهم إلا ذلك، ولا التمسك إلا بعهد الله فيه، وكان عهد الله مسؤولا.
أشهد الله رب العالمين جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين ومن حضره من المسلمين بجميع ما في هذا الكتاب على إمضائه إياه، على محمد المنتصر بالله، وأبي عبد الله المعتز بالله، وإبراهيم المؤيد بالله، بني أمير المؤمنين بجميع ما سمى ووصف فيه، وكفى بالله شهيدا ومعينا لمن أطاعه راجيا، ووفى بعهده خائفا وحسيبا، ومعاقبا من خالفه معاندا، أو صدف عن أمره مجاهدا.
وقد كتب هذا الكتاب أربع نسخ، وقعت شهادة الشهود بحضرة أمير المؤمنين في كل نسخة منها، في خزانة أمير المؤمنين نسخة، وعند محمد المنتصر ابن أمير المؤمنين نسخة، وعند أبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين نسخة، ونسخة عند إبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين.
وقد ولى جعفر الإمام المتوكل على الله أبا عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين أعمال فارس وأرمينية وأذربيجان إلى ما يلي أعمال خراسان وكورها والأعمال المتصلة بها والمضمومة إليها، على أن يجعل له على محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين في ذلك الذي جعل له في الحياطة في نفسه والوثاق في أعماله، والمضمومين إليه، وسائر من يستعين به من الناس جميعا في خراسان والكور المضمومة إليها والمتصلة بها على ما سمى ووصف في هذا الكتاب وقال إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول يمدح بني المتوكل الثلاثة:
المنتصر، والمعتز، والمؤيد:

أضحت عرى الإسلام وهي منوطة *** بالنصر والإعزاز والتأييد
بخليفة من هاشم وثلاثة *** كنفوا الخلافة من ولاة عهود
قمر توالت حوله أقماره *** يكنفن مطلع سعده بسعود
كنفتهم الآباء واكتنفت بهم *** فسعوا بأكرم أنفس وجدود

وله في المعتز بالله:

أشرق المشرق بالمعتز بالله ولاحا *** إنما المعتز طيب بث في الناس ففاحا

وله أيضا فيها:

الله أظهر دينه وأعزه بمحمد *** والله أكرم بالخلافة جعفر بن محمد
والله أيد عهده بمحمد ومحمد *** ومؤيد لمؤيدين إلى النبي محمد

وفيها كانت وفاة إسحاق بن إبراهيم صاحب الجسر في يوم الثلاثاء لست بقين من ذي الحجة وقيل كانت وفاته لسبع بقين منه، وصير ابنه مكانه، وكسي خمس خلع، وقلد سيفا، وبعث المتوكل حين انتهى إليه خبر مرضه بابنه المعتز لعيادته مع بغا الشرابي وجماعة من القواد والجند وذكر أن ماء دجلة تغير في هذه السنة إلى الصفرة ثلاثة أيام، ففزع الناس لذلك، ثم صار في لون ماء المدود وذلك في ذي الحجة.
وفيها أتي المتوكل بيحيى بن عمر بن حسين بن زيد بن علي بن ابى طالب ع من بعض النواحي، وكان- فيما ذكر- قد جمع قوما، فضربه عمر بن فرج ثمان عشرة مقرعة، وحبس ببغداد في المطبق.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود.