178 هـ
794 م
سنة ثمان وسبعين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

فمما كان فيها من ذلك وثوب الحوفية بمصر، من قيس وقضاعة وغيرهم بعامل الرشيد عليهم إسحاق بْن سليمان، وقتالهم إياه، وتوجيه الرشيد …

اليه هرثمة ابن أعين في عدة من القواد المضمومين إليه مددا لإسحاق بْن سليمان، حتى أذعن أهل الحوف، ودخلوا في الطاعة، وأدوا ما كان عليهم من وظائف السلطان- وكان هرثمة إذ ذاك عامل الرشيد على فلسطين- فلما انقضى أمر الحوفية صرف هارون إسحاق بْن سليمان عن مصر، وولاها هرثمة نحوا من شهر، ثم صرفه وولاها عبد الملك بْن صالح.
وفيها كان وثوب أهل أفريقية بعبدويه الأنباري ومن معه من الجند هنالك، فقتل الفضل بْن روح بْن حاتم، وأخرج من كان بها من آل المهلب، فوجه الرشيد إليهم هرثمة بْن أعين، فرجعوا إلى الطاعة.
وقد ذكر أن عبدويه هذا لما غلب على أفريقية، وخلع السلطان، عظم شأنه وكثر تبعه، ونزع إليه الناس من النواحي، وكان وزير الرشيد يومئذ يحيى بْن خالد ابن برمك، فوجه إليه يحيى بْن خالد بْن برمك يقطين بْن موسى ومنصور بْن زياد كاتبه، فلم يزل يحيى بْن خالد يتابع على عبدويه الكتب بالترغيب في الطاعة والتخويف للمعصية والاعذار إليه والإطماع والعدة حتى قبل الأمان، وعاد إلى الطاعة وقدم بغداد، فوفى له يحيى بما ضمن له وأحسن إليه، وأخذ له أمانا من الرشيد، ووصله ورأسه.
وفي هذه السنة فوض الرشيد أموره كلها إلى يحيى بْن خالد بْن برمك.
وفيها خرج الوليد بْن طريف الشاري بالجزيرة، وحكم بها، ففتك بابراهيم ابن خازم بْن خزيمة بنصيبين، ثم مضى منها الى أرمينية.

ولايه الفضل بن يحيى على خراسان وسيرته بها
وفيها شخص الفضل بْن يحيى إلى خراسان واليا عليها، فأحسن السيرة بها، وبنى بها المساجد والرباطات، وغزا ما وراء النهر، فخرج إليه خاراخره ملك أشروسنة، وكان ممتنعا.
وذكر أن الفضل بْن يحيى اتخذ بخراسان جندا من العجم سماهم العباسية، وجعل ولاءهم لهم، وأن عدتهم بلغت خمسمائة ألف رجل، وأنه قدم منهم بغداد عشرون ألف رجل، فسموا ببغداد الكرنبية، وخلف الباقي منهم بخراسان على أسمائهم ودفاترهم، وفي ذلك يقول مروان بْن أبي حفصة:

ما الفضل إلا شهاب لا أفول له *** عند الحروب إذا ما تأفل الشهب
حام على ملك قوم عز سهمهم *** من الوراثة في أيديهم سبب
أمست يد لبني ساقي الحجيج بها *** كتائب ما لها في غيرهم أرب
كتائب لبني العباس قد عرفت *** ما ألف الفضل منها العجم والعرب
أثبت خمس مئين في عدادهم *** من الألوف التي أحصت لك الكتب
يقارعون عن القوم الذين هم *** أولى بأحمد في الفرقان إن نسبوا
إن الجواد ابن يحيى الفضل لا ورق *** يبقى على جود كفيه ولا ذهب
ما مر يوم له مذ شد مئزره *** إلا تمول أقوام بما يهب
كم غاية في الندى والبأس أحرزها *** للطالبين مداها دونها تعب
يعطي اللهى حين لا يعطي الجواد ولا *** ينبو إذا سلت الهندية القضب
ولا الرضا والرضا لله غايته *** إلى سوى الحق يدعوه ولا الغضب
قد فاض عرفك حتى ما يعادله *** غيث مغيث ولا بحر له حدب

قال: وكان مروان بْن أبي حفصة قد أنشد الفضل في معسكره قبل خروجه إلى خراسان:

ألم تر أن الجود من لدن آدم *** تحدر حتى صار في راحة الفضل
إذا ما أبو العباس راحت سماؤه *** فيا لك من هطل ويا لك من وبل
إذا أم طفل راعها جوع طفلها *** دعته باسم الفضل فاستعصم الطفل
ليحيا بك الإسلام إنك عزه *** وإنك من قوم صغيرهم كهل

وذكر محمد بْن العباس أن الفضل بْن يحيى أمر له بمائة ألف درهم، وكساه وحمله على بغلة قَالَ: وسمعته يقول: اصبت في قدمتي هذه سبعمائة ألف درهم وفيه يقول:

تخيرت للمدح ابن يحيى بْن خالد *** فحسبي ولم أظلم بأن أتخيرا
له عادة أن يبسط العدل والندى *** لمن ساس من قحطان أو من تنزرا
إلى المنبر الشرقي سار ولم يزل *** له والد يعلو سريرا ومنبرا
يعد ويحيى البرمكي ولا يرى *** لدى الدهر الا قائدا او مومرا

ومدحه سلم الخاسر، فقال:

وكيف تخاف من بؤس بدار *** تكنفها البرامكة البحور
وقوم منهم الفضل بْن يحيى *** نفير ما يوازنه نفير
له يومان: يوم ندى وبأس *** كأن الدهر بينهما أسير
إذا ما البرمكي غدا ابن عشر *** فهمته وزير أو أمير

وذكر الفضل بْن إسحاق الهاشمي أن إبراهيم بْن جبريل خرج مع الفضل ابن يحيى إلى خراسان وهو كاره للخروج، فأحفظ ذلك الفضل عليه قال إبراهيم: فدعاني يوما بعد ما أغفلني حينا، فدخلت عليه، فلما صرت بين يديه سلمت، فما رد علي، فقلت في نفسي: شر والله- وكان مضطجعا، فاستوى جالسا- ثم قَالَ: ليفرخ روعك يا إبراهيم، فإن قدرتي عليك تمنعني منك، قَالَ: ثم عقد لي على سجستان، فلما حملت خراجها، وهبه لي وزادني خمسمائة ألف درهم قَالَ: وكان إبراهيم على شرطه وحرسه، فوجهه إلى كابل، فافتتحها وغنم غنائم كثيرة.
قَالَ: وحدثني الفضل بْن العباس بْن جبريل- وكان مع عمه إبراهيم- قَالَ: وصل إلى إبراهيم في ذلك الوجه سبعة آلاف ألف، وكان عنده من مال الخراج أربعة آلاف ألف درهم، فلما قدم بغداد وبنى داره في البغيين استزار الفضل ليريه نعمته عليه، وأعد له الهدايا والطرف وآنية الذهب والفضة، وأمر بوضع الأربعة الآلاف ألف في ناحية من الدار.
قَالَ: فلما قعد الفضل بْن يحيى قدم إليه الهدايا والطرف، فأبى أن يقبل منها شيئا، وقال له: لم آتك لاسلبك، فقال: إنها نعمتك أيها الأمير.
قَالَ: ولك عندنا مزيد، قَالَ: فلم يأخذ من جميع ذلك إلا سوطا سجزيا، وقال: هذا من آلة الفرسان، فقال له: هذا المال من مال الخراج، فقال:
هو لك، فأعاد عليه، فقال: أما لك بيت يسعه! فسوغه ذلك، وانصرف.
قَالَ: ولما قدم الفضل بْن يحيى من خراسان خرج الرشيد إلى بستان أبي جعفر يستقبله، وتلقاه بنو هاشم والناس من القواد والكتاب والأشراف، فجعل يصل الرجل بالألف الف وبالخمسمائة ألف، ومدحه مروان بْن أبي حفصة، فقال:

حمدنا الذي أدى ابن يحيى فأصبحت *** بمقدمه تجري لنا الطير أسعدا
وما هجعت حتى رأته عيوننا *** وما زلن حتى آب بالدمع حشدا
لقد صبحتنا خيله ورجاله *** باروع بذ الناس بأسا وسوددا
نفى عن خراسان العدو كما نفى *** ضحى الصبح جلباب الدجي فتعردا
لقد راع من أمسى بمرو مسيره *** إلينا، وقالوا شعبنا قد تبددا
على حين ألقى قفل كل ظلامة *** وأطلق بالعفو الأسير المقيدا 
وأفشى بلا من مع العدل فيهم*** أيادي عرف باقيات وعودا
فأذهب روعات المخاوف عنهم *** واصدر باغي الأمن فيهم وأوردا
وأجدى على الأيتام فيهم بعرفه *** فكان من الآباء أحنى وأعودا
إذا الناس راموا غاية الفضل في الندى *** وفي البأس ألفوها من النجم أبعدا
سما صاعدا بالفضل يحيى وخالد *** إلى كل أمر كان أسنى وأمجدا
يلين لمن أعطى الخليفة طاعة *** ويسقي دم العاصي الحسام المهندا
أذلت مع الشرك النفاق سيوفه *** وكانت لأهل الدين عزا مؤبدا
وشد القوى من بيعة المصطفى الذي *** على فضله عهد الخليفة قلدا
سمي النبي الفاتح الخاتم الذي *** به الله أعطى كل خير وسددا
أبحت جبال الكابلي ولم تدع *** بهن لنيران الضلالة موقدا
فأطلعتها خيلا وطئن جموعه *** قتيلا ومأسورا وفلا مشردا
وعادت على ابن البرم نعماك بعد ما ***تحوب مخذولا يرى الموت مفردا

وذكر العباس بْن جرير، أن حفص بْن مسلم- وهو أخو رزام بْن مسلم، مولى خالد بْن عبد الله القسري- حدثه أنه قَالَ: دخلت على الفضل بن يحيى مقدمه خراسان، وبين يديه بدر تفرق بخواتيمها، فما فضت بدرة منها، فقلت:

كفى الله بالفضل بْن يحيى بْن خالد *** وجود يديه بخل كل بخيل

قال: فقال لي مروان بْن أبي حفصة: وددت أني سبقتك إلى هذا البيت، وأن على غرم عشرة آلاف درهم.
وغزا فيها الصائفة معاوية بْن زفر بْن عاصم، وغزا الشاتيه فيها سليمان ابن راشد، ومعه البيد بطريق صقلية.
وحج بالناس فيها محمد بْن إبراهيم بْن محمد بْن علي، وكان على مكة.