198 هـ
813 م
سنة ثمان وتسعين ومائة (ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث)

ذكر خبر استيلاء طاهر على بغداد
فمن ذلك ما كان من خلاف خزيمة بْن خازم محمد بْن هارون …

ومفارقته إياه واستئمانه إلى طاهر بْن الحسين ودخول هرثمة الجانب الشرقي.
ذكر الخبر عن سبب فراقه إياه وكيف كان الأمر في مصيره والدخول في طاعة طاهر:
ذكر أن السبب في ذلك كان أن طاهرا كتب إلى خزيمة يذكر له أن الأمر إن يقطع بينه وبين محمد ولم يكن له اثر في نصرته، لم يقصر في أمره.
فلما وصل كتابه إليه شاور ثقات أصحابه وأهل بيته، فقالوا له: نرى والله أن هذا الرجل أخذ بقفا صاحبنا، فاحتل لنفسك ولنا، فكتب إلى طاهر بطاعته، وأخبره أنه لو كان هو النازل في الجانب الشرقي مكان هرثمة لكان يحمل نفسه له على كل هول، وأعلمه قلة ثقته بهرثمة، ويناشده ألا يحمله على مكروه من أمره إلا أن يضمن له القيام دونه، وإدخال هرثمة إليه ليقطع الجسور، ويتبع هو أمرا يؤثر رأيه ورضاه، وأنه إن لم يضمن له ذلك، فليس يسعه تعريضه للسفله والغوغاء والرعاع والتلف فكتب طاهر إلى هرثمة يلومه ويعجزه، ويقول: جمعت الأجناد، وأتلفت الأموال، وأقطعتها دون أمير المؤمنين ودوني، وفي مثل حاجتي إلى الكلف والنفقات، وقد وقفت على قوم هينة شوكتهم، يسير أمرهم، وقوف المحجم الهائب، إن في ذلك جرما، فاستعد للدخول، فقد أحكمت الأمر على دفع العسكر وقطع الجسور، وأرجو ألا يختلف عليك في ذلك اثنان إن شاء الله.
قَالَ: وكتب إليه هرثمة: أنا عارف ببركة رأيك، ويمن مشورتك، فمر بما أحببت، فلن أخالفك، قَالَ: فكتب طاهر بذلك إلى خزيمة.
وقد ذكر أن طاهرا لما كاتب خزيمة كتب أيضا إلى محمد بْن علي بْن عيسى بْن ماهان بمثل ذلك قيل: فلما كانت ليلة الأربعاء لثمان بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة وثب خزيمة بْن خازم ومحمد بْن علي بْن عيسى على جسر دجلة فقطعاه، وركزا أعلامهما عليه، وخلعا محمدا، ودعوا لعبد الله المأمون، وسكن أهل عسكر المهدي ولزموا منازلهم وأسواقهم في يومهم ذلك، ولم يدخل هرثمة حتى مضى إليه نفر يسير غيرهما من القواد، فحلفوا له أنه لا يرى منهم مكروها، فقبل ذلك منهم، فقال حسين الخليع في قطع خزيمة الجسر:

علينا جميعا من خزيمة منة *** بها أخمد الرحمن ثائرة الحرب
تولى أمور المسلمين بنفسه *** فذب وحامى عنهم أشرف الذب
ولولا أبو العباس ما انفك دهرنا *** يبيت على عتب ويغدو على عتب
خزيمة لم ينكر له مثل هذه *** إذا اضطربت شرق البلاد مع الغرب
أناخ بجسري دجلة القطع والقنا *** شوارع والأرواح في راحة العضب
وأم المنايا بالمنايا مخيلة *** تفجع عن خطب، وتضحك عن خطب
فكانت كنار ماكرتها سحابة *** فأطفأت اللهب الملفف باللهب
وما قتل نفس في نفوس كثيرة *** إذا صارت الدنيا إلى الأمن والخصب
بلاء أبي العباس غير مكفر *** إذا فزع الكرب المقيم إلى الكرب

فذكر عن يحيى بْن سلمة الكاتب أن طاهرا غدا يوم الخميس على المدينة الشرقية وأرباضها، والكرخ وأسواقها، وهدم قنطرتي الصراة العتيقة والحديثه واشتد عندهما القتال، واشتد طاهر على أصحابه، وباشر القتال بنفسه، وقاتل من كان معه بدار الرقيق فهزمهم حتى ألحقهم بالكرخ، وقاتل طاهر بباب الكرخ وقصر الوضاح، فهزمهم أصحاب محمد وردوا على وجوههم، ومر طاهر لا يلوي على أحد حتى دخل قسرا بالسيف وأمر مناديه فنادى بالأمان لمن لزم منزله، ووضع بقصر الوضاح وسوق الكرخ والأطراف قوادا وجندا في كل موضع على قدر حاجته منهم، وقصد إلى مدينة أبي جعفر، فأحاط بها وبقصر زبيدة وقصر الخلد من لدن باب الجسر إلى باب خراسان وباب الشام وباب الكوفة وباب البصرة وشاطئ الصراة إلى مصبها في دجلة بالخيول والعدة والسلاح، وثبت على قتال طاهر حاتم بْن الصقر والهرش والأفارقة، فنصب المجانيق خلف السور على المدينة وبإزاء قصر زبيدة وقصر الخلد ورمى، وخرج محمد بأمه وولده إلى مدينة أبي جعفر، وتفرق عنه عامة جنده وخصيانه وجواريه في السكك والطرق، لا يلوي منهم أحد على أحد، وتفرق الغوغاء والسفلة، وفي ذلك يقول عمرو الوراق:

يا طاهر الظهر الذي *** مثاله لم يوجد
يا سيد بن السيد *** بن السيد بن السيد
رجعت إلى أعمالها *** الأولى غزاة محمد
من بين نطاف وسواط *** وبين مقرد
ومجرد يأوي إلى *** عيارة ومجرد
ومقيد نقب السجون *** فعاد غير مقيد
ومسود بالنهب ساد *** وكان غير مسود
ذلوا لعزك واستكانوا *** بعد طول تمرد

وذكر عن علي بْن يزيد، أنه قَالَ: كنت يوما عند عمرو الوراق أنا وجماعة، فجاء رجل، فحدثنا بوقعة طاهر بباب الكرخ وانهزام الناس عنه، فقال عمرو: ناولني قدحا، وقال في ذلك:

خذها فللخمرة أسماء *** لها دواء ولها داء
يصلحها الماء إذا صفقت *** يوما وقد يفسدها الماء
وقائل كانت لهم وقعة *** في يومنا هذا وأشياء
قلت له: أنت امرؤ جاهل *** فيك عن الخيرات إبطاء
اشرب ودعنا من أحاديثهم *** يصطلح الناس إذا شاءوا

قَالَ: ودخل علينا آخر، فقال: قاتل فلان الغزاة، وأقدم فلان، وانتهب فلان قَالَ: فقال أيضا:

أي دهر نحن فيه *** مات فيه الكبراء
هذه السفلة والغوغاء *** فينا أمناء
ما لنا شيء من الأشياء *** إلا ما يشاء
ضجت الأرض وقد ضجت *** إلى الله السماء
رفع الدين وقد هانت *** على الله الدماء
يا أبا موسى لك الخيرات *** قد حان اللقاء
هاكها صرفا عقارا *** قد أتاك الندماء

وقال أيضا عمرو الوراق في ذلك:

إذا ما شئت أن تغضب *** جنديا وتستأمر
فقل: يا معشر الأجناد *** قد جاءكم طاهر

قَالَ وتحصن محمد بالمدينة هو ومن يقاتل معه، وحصره طاهر وأخذ عليه الأبواب، ومنع منه ومن أهل المدينة الدقيق والماء وغيرهما فذكر عن الحسين بْن أبي سعيد أن طارقا الخادم- وكان من خاصة محمد، وكان المأمون بعد مقدمه أخبره أن محمدا سأله يوما من الأيام وهو محصور، أو قَالَ في آخر يوم من أيامه، أن يطعمه شيئا- قَالَ: فدخلت المطبخ فلم أجد شيئا، فجئت الى جمره العطارة- وكانت جارية الجوهر- فقلت لها: إن أمير المؤمنين جائع، فهل عندك شيء، فإني لم أجد في المطبخ شيئا؟ فقالت لجارية لها يقال لها بنان: أي شيء عندك؟ فجاءت بدجاجة ورغيف، فأتيته بهما فأكل، وطلب ماء يشربه فلم يوجد في خزانة الشراب، فأمسى وقد كان عزم على لقاء هرثمة، فما شرب ماء حتى أتى عليه.
وذكر عن محمد بْن راشد أن إبراهيم بْن المهدي أخبره أنه كان نازلا مع محمد المخلوع في مدينة المنصور في قصره بباب الذهب، لما حصره طاهر.
قَالَ: فخرج ذات ليلة من القصر يريد أن يتفرج من الضيق الذي هو فيه، فصار إلى قصر القرار- في قرن الصراة، أسفل من قصر الخلد- في جوف الليل، ثم أرسل إلي فصرت إليه، فقال: يا إبراهيم، أما ترى طيب هذه الليلة، وحسن القمر في السماء، وضوءه في الماء! ونحن حينئذ في شاطئ دجلة، فهل لك في الشرب! فقلت: شأنك، جعلني الله فداك! فدعا برطل نبيذ فشربه، ثم أمر فسقيت مثله قَالَ: فابتدأت أغنيه من غير أن يسألني، لعلمي بسوء خلقه، فغنيت ما كنت أعلم أنه يحبه، فقال لي:
ما تقول فيمن يضرب عليك؟ فقلت: ما أحوجني إلى ذلك، فدعا بجارية متقدمة عنده يقال لها ضعف، فتطيرت من اسمها، ونحن في تلك الحال التي هو عليها، فلما صارت بين يديه، قَالَ: تغني، فغنت بشعر النابغة الجعدى:

كليب لعمري كان أكثر ناصرا *** وأيسر ذنبا منك ضرج بالدم

قَالَ: فاشتد ما غنت به عليه، وتطاير منه، وقال لها: غني غير هذا، فتغنت:

أبكى فراقهم عيني وأرقها *** إن التفرق للأحباب بكاء
ما زال يعدو عليهم ريب دهرهم *** حتى تفانوا وريب الدهر عداء

فقال لها: لعنك الله! أما تعرفين من الغناء شيئا غير هذا! قالت:
يا سيدي، ما تغنيت إلا بما ظننت أنك تحبه، وما أردت ما تكرهه، وما هو إلا شيء جاءني ثم أخذت في غناء آخر:

أما ورب السكون والحرك *** إن المنايا كثيرة الشرك
ما اختلف الليل والنهار ولا *** دارت نجوم السماء في الفلك
إلا لنقل النعيم من ملك *** عان بحب الدنيا إلى ملك
وملك ذي العرش دائم أبدا *** ليس بفان ولا بمشترك

فقال لها: قومي غضب الله عليك! قَالَ: فقامت وكان له قدح بلور حسن الصنعة، وكان محمد يسميه زب رباح، وكان موضوعا بين يديه، فقامت الجارية منصرفة فتعثرت بالقدح فكسرته- قَالَ إبراهيم: والعجب أنا لم نجلس مع هذه الجارية قط إلا رأينا ما نكره في مجلسنا ذلك- فقال لي:
ويحك يا إبراهيم! ما ترى ما جاءت به هذه الجارية، ثم ما كان من أمر القدح! والله ما أظن أمري إلا وقد قرب، فقلت: يطيل الله عمرك، ويعز ملكك، ويديم لك، ويكبت عدوك فما استتم الكلام حتى سمعنا صوتا من دجلة: {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ} [يوسف: 41]، فقال: يا إبراهيم، ما سمعت ما سمعت! قلت: لا والله، ما سمعت شيئا- وقد كنت سمعت- قَالَ: تسمع حسا! قَالَ: فدنوت من الشط فلم أر شيئا، ثم عاودنا الحديث، فعاد الصوت: {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ} [يوسف: 41]، فوثب من مجلسه ذلك مغتما، ثم ركب فرجع إلى موضعه بالمدينة، فما كان بعد هذا إلا ليلة أو ليلتان حتى حدث ما حدث من قتله، وذلك يوم الأحد لست- أو لأربع- خلون من صفر، سنة ثمان وتسعين ومائة وذكر عن أبي الحسن المدائني، قَالَ: لما كان ليلة الجمعة لسبع بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة، دخل محمد بْن هارون مدينة السلام هاربا من القصر الذي كان يقال له الخلد، مما كان يصل إليه من حجارة المنجنيق، وأمر بمجالسه وبسطه أن تحرق فأحرقت، ثم صار إلى المدينة، وذلك لأربع عشرة شهرا، منذ ثارت الحرب مع طاهر الا اثنى عشر يوما

ذكر الخبر عن قتل الامين
وفي هذه السنة قتل محمد بْن هارون.

ذكر الخبر عن مقتله:
ذكر عن محمد بْن عيسى الجلودي أنه قَالَ: لما صار محمد إلى المدينة، وقر فيها، وعلم قواده أنه ليس لهم ولا له فيها عدة للحصار، وخافوا أن يظفر بهم، دخل على محمد حاتم بْن الصقر ومحمد بْن إبراهيم بْن الأغلب الإفريقي وقواده، فقالوا: قد آلت حالك وحالنا إلى ما ترى، وقد رأينا رأيا نعرضه عليك، فانظر فيه واعتزم عليه، فإنا نرجو أن يكون صوابا، ويجعل الله فيه الخيرة إن شاء الله قَالَ: ما هو؟ قالوا: قد تفرق عنك الناس، وأحاط بك عدوك من كل جانب، وقد بقي من خيلك معك ألف فرس من خيارها وجيادها، فنرى أن نختار من قد عرفناه بمحبتك من الأبناء سبعمائة رجل، فنحملهم على هذه الخيل ونخرج ليلا على باب من هذه الأبواب فإن الليل لأهله، ولن يثبت لنا أحد إن شاء الله، فنخرج حتى نلحق بالجزيرة والشام فتفرض الفروض، وتجبي الخراج، وتصير في مملكة واسعة، وملك جديد، فيسارع إليك الناس، وينقطع عن طلبك الجنود، والى ذلك ما قد أحدث الله عز وجل في مكر الليل والنهار أمورا فقال لهم: نعم ما رأيتم، واعتزم على ذلك.
وخرج الخبر إلى طاهر، فكتب إلى سليمان بْن أبي جعفر، وإلى محمد بْن عيسى بْن نهيك وإلى السندي بْن شاهك: والله لئن لم تقروه وتردوه عن هذا الرأي لا تركت لكم ضيعة إلا قبضتها، ولا تكون لي همة إلا أنفسكم.
فدخلوا على محمد، فقالوا: قد بلغنا الذي عزمت عليه، فنحن نذكرك الله في نفسك! إن هؤلاء صعاليك، وقد بلغ الأمر إلى ما ترى من الحصار، وضاق عليهم المذهب، وهم يرون ألا أمان لهم على أنفسهم وأموالهم عند أخيك وعند طاهر وهرثمة لما قد انتشر عنهم من مباشره الحرب والجد فيها، ولسنا نأمن إذا برزوا بك، وحصلت في أيديهم أن يأخذوك أسيرا، ويأخذوا رأسك فيتقربوا بك، ويجعلوك سبب أمانهم، وضربوا له فيه الأمثال.
قَالَ محمد بْن عيسى الجلودي: وكان أبي وأصحابه قعودا في رواق البيت الذي محمد وسليمان وأصحابه فيه قَالَ: فلما سمعوا كلامهم، ورأوا أنه قد قبله مخافة أن يكون الأمر على ما قالوا له، هموا أن يدخلوا عليهم فيقتلوا سليمان وأصحابه، ثم بدا لهم وقالوا: حرب من داخل، وحرب من خارج.
فكفوا وأمسكوا.
قَالَ محمد بن عيسى: فلما نكت ذلك في قلب محمد، ووقع في نفسه ما وقع منه، أضرب عما كان عزم عليه، ورجع إلى قبول ما كانوا بذلوا له من الأمان والخروج، فأجاب سليمان والسندي ومحمد بْن عيسى إلى ما سألوه من ذلك، فقالوا: إنما غايتك اليوم السلامة واللهو، وأخوك يتركك حيث أحببت، ويفردك في موضع، ويجعل لك كل ما يصلحك وكل ما تحب وتهوى، وليس عليك منه بأس ولا مكروه فركن إلى ذلك، وأجابهم إلى الخروج إلى هرثمة.
قَالَ محمد بْن عيسى: وكان أبي وأصحابه يكرهون الخروج إلى هرثمة، لأنهم كانوا من أصحابه، وقد عرفوا مذاهبه، وخافوا أن يجفوهم ولا يخصهم، ولا يجعل لهم مراتب، فدخلوا على محمد فقالوا له: إذ أبيت أن تقبل منا ما أشرنا عليك- وهو الصواب- وقبلت من هؤلاء المداهنين، فالخروج الى طاهر خير لك من الخروج إلى هرثمة قَالَ محمد بْن عيسى: فقال لهم: ويحكم! أنا أكره طاهرا، وذلك أني رأيت في منامي كأني قائم على حائط من آجر شاهق في السماء، عريض الأساس وثيق، لم أر حائطا يشبهه في الطول والعرض والوثاقة، وعلى سوادي ومنطقتي وسيفي وقلنسوتي وخفي، وكان طاهر في أصل ذلك الحائط، فما زال يضرب أصله حتى سقط الحائط وسقطت، وندرت قلنسوتي من رأسي، وأنا أتطير من طاهر، وأستوحش منه، وأكره الخروج إليه لذلك، وهرثمة مولانا وبمنزلة الوالد، وأنا به أشد أنسا وأشد ثقة وذكر عن محمد بْن إسماعيل، عن حفص بْن أرميائيل، أن محمدا لما أراد أن يعبر من الدار بالقرار إلى منزل كان في بستان موسى- وكان له جسر في ذلك الموضع- أمر أن يفرش في ذلك المجلس ويطيب قَالَ: فمكثت ليلتي أنا وأعواني نتخذ الروائح والطيب ونكثب التفاح والرمان والأترج، ونضعه في البيوت، فسهرت ليلتي أنا وأعواني، ولما صليت الصبح دفعت إلى عجوز قطعة بخور من عنبر، فيها مائة مثقال كالبطيخة، وقلت لها: إني سهرت ونعست نعاسا شديدا، ولا بد لي من نومة، فإذا نظرت إلى أمير المؤمنين قد أقبل على الجسر، فضعي هذا العنبر على الكانون وأعطيتها كانونا من فضة صغيرا عليه جمر، وأمرتها أن تنفخ حتى تحرقها كلها، ودخلت حراقة فنمت، فما شعرت إلا وبالعجوز قد جاءت فزعة حتى أيقظتني، فقالت لي:
قم يا حفص، فقد وقعت في بلاء، قلت: وما هو؟ قالت: نظرت إلى رجل مقبل على الجسر منفرد، شبيه الجسم بجسم أمير المؤمنين، وبين يديه جماعة وخلفه جماعة، فلم أشك أنه هو، فأحرقت العنبرة، فلما جاء، فإذا هو عبد الله بْن موسى، وهذا أمير المؤمنين قد أقبل قَالَ: فشتمتها وعنفتها قَالَ: وأعطيتها أخرى مثل تلك لتحرقها بين يديه، ففعلت، وكان هذا من أوائل الأدبار.
وذكر علي بْن يزيد، قَالَ: لما طال الحصار على محمد، فارقه سليمان بْن أبي جعفر وإبراهيم بْن المهدي ومحمد بْن عيسى بْن نهيك، ولحقوا جميعا بعسكر المهدي، ومكث محمد محصورا في المدينة يوم الخميس ويوم الجمعة والسبت وناظر محمد أصحابه ومن بقي معه في طلب الأمان، وسألهم عن الجهة في النجاة من طاهر، فقال له السندي: والله يا سيدي، لئن ظفر بنا المأمون لعلى رغم منا وتعس جدودنا، وما أرى فرجا إلا هرثمة قَالَ له:
وكيف بهرثمة وقد أحاط الموت بي من كل جانب! وأشار عليه آخرون بالخروج إلى طاهر وقالوا: لو حلفت له بما يتوثق به منك أنك مفوض إليه ملكك، فلعله كان سيركن إليك فقال لهم: أخطأتم وجه الرأي، وأخطأت في مشاورتكم، هل كان عبد الله أخي لو جهد نفسه وولى الأمور برأيه بالغا عشر ما بلغه له طاهر! وقد محصته وبحثت عن رأيه، فما رأيته يميل إلى غدر به، ولا طمع فيما سواه، ولو أجاب إلى طاعتي، وانصرف إلي ثم ناصبني أهل الأرض ما اهتممت بأمر، ولوددت أنه أجاب إلى ذلك، فمنحته خزائني وفوضت إليه أمري، ورضيت أن أعيش في كنفه، ولكني لا أطمع في ذلك منه فقال له السندي: صدقت يا أمير المؤمنين، فبادر بنا إلى هرثمة، فإنه يرى ألا سبيل عليك إذا خرجت إليه من الملك، وقد ضمن إلي أنه مقاتل دونك إن هم عبد الله بقتلك، فاخرج ليلا في ساعة قد نوم الناس فيها، فإني أرجو أن يغبى على الناس أمرنا.
وقال أبو الحسن المدائني: لما هم محمد بالخروج إلى هرثمة، وأجابه إلى ما أراد، اشتد ذلك على طاهر، وأبى أن يرفه عنه ويدعه يخرج، وقال: هو في حيزي والجانب الذي أنا فيه، وأنا أخرجته بالحصار والحرب، حتى صار إلى طلب الأمان، ولا أرضى أن يخرج إلى هرثمة دوني، فيكون الفتح له.
ولما رأى هرثمة والقواد ذلك، اجتمعوا في منزل خزيمة بْن خازم، فصار إليهم طاهر وخاصة قواده، وحضرهم سليمان بْن المنصور ومحمد بْن عيسى بْن نهيك والسندي بْن شاهك، وأداروا الرأي بينهم، ودبروا الأمر، وأخبروا طاهرا أنه لا يخرج إليه أبدا، وأنه إن لم يجب إلى ما سأل لم يؤمن أن يكون الأمر في أمره مثله في أيام الحسين بْن علي بْن عيسى بْن ماهان، فقالوا له: يخرج ببدنه إلى هرثمة- إذ كان يأمن به ويثق بناحيته، وكان مستوحشا منك، ويدفع إليك الخاتم والقضيب والبردة- وذلك الخلافة- ولا تفسد هذا الأمر واغتنمه إذ يسره الله فأجاب إلى ذلك ورضي به ثم قيل: إن الهرش لما علم بالخبر، أراد التقرب إلى طاهر، فخبره أن الذي جرى بينهم وبينه مكر، وأن الخاتم والبردة والقضيب تحمل مع محمد إلى هرثمة فقبل طاهر ذلك منه، وظن أنه كما كتب به إليه، فاغتاظ وكمن حول قصر أم جعفر وقصور الخلد كمناء بالسلاح ومعهم العتل والفؤوس، وذلك ليلة الأحد لخمس بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة، وفي الشهر السرياني خمسة وعشرون من أيلول.
فذكر الحسن بْن أبي سعيد، قَالَ: أخبرني طارق الخادم، قَالَ: لما هم محمد بالخروج إلى هرثمة عطش قبل خروجه، فطلبت له في خزانة شرابه ماء فلم أجده قَالَ: وأمسى فبادر يريد هرثمة للوعد الذي كان بينه وبينه، ولبس ثياب الخلافة، دراعة وطيلسانا والقلنسوة الطويلة، وبين يديه شمعة.
فلما انتهينا إلى دار الحرس من باب البصرة، قَالَ: اسقني من جباب الحرس، فناولته كوزا من ماء، فعافه لزهوكته فلم يشرب منه، وصار إلى هرثمة.
فوثب به طاهر، وأكمن له نفسه في الخلد، فلما صار إلى الحراقة، خرج طاهر وأصحابه فرموا الحراقة بالسهام والحجارة، فمالوا ناحية الماء، وانكفأت الحراقة، فغرق محمد وهرثمة ومن كان فيها، فسبح محمد حتى عبر وصار إلى بستان موسى، وظن أن غرقه إنما كان حيلة من هرثمة، فعبر دجلة حتى صار إلى قرب الصراة، وكان على المسلحة إبراهيم بن جعفر البلخى ومحمد بن حميد هو ابن أخي شكلة أم إبراهيم بْن المهدي- وكان طاهر ولاه وكان إذا ولى رجلا من أصحابه خراسانيا ضم إليه قوما- فعرفه محمد بْن حميد وهو المعروف بالطاهري، وكان طاهر يقدمه في الولايات، فصاح بأصحابه فنزلوا، فأخذوه، فبادر محمدا لما، فأخذ بساقيه فجذبه، وحمل على برذون، وألقي عليه إزار من أزر الجند غير مفتول، وصار به إلى منزل إبراهيم بْن جعفر البلخي، وكان ينزل بباب الكوفة، وأردف رجلا خلفه يمسكه لئلا يسقط، كما يفعل بالأسير.
فذكر عن الحسن بْن أبي سعيد، أن خطاب بْن زياد حدثه أن محمدا وهرثمة لما غرقا، بادر طاهر إلى بستان مؤنسة، بإزاء باب الأنبار، موضع معسكره لئلا يتهم بغرق هرثمة قَالَ: فلما انتهى طاهر- ونحن معه في الموكب والحسن ابن علي المأموني والحسن الكبير الخادم للرشيد- إلى باب الشام، لحقنا محمد بْن حميد، فترجل ودنا من طاهر، فأخبره أنه قد أسر محمدا، ووجه به إلى باب الكوفة إلى منزل إبراهيم البلخي قَالَ: فالتفت إلينا طاهر، فأخبرنا الخبر، وقال: ما تقولون؟ فقال له المأموني: مكن، أي لا تفعل فعل حسين ابن علي قَالَ: فدعا طاهر بمولى له يقال له قريش الدنداني، فأمره بقتل محمد قَالَ: وأتبعه طاهر يريد باب الكوفة إلى الموضع.
وأما المدائني فإنه ذكر عن محمد بْن عيسى الجلودي، قَالَ: لما تهيأ للخروج- وكان بعد عشاء الآخرة من ليلة الأحد- خرج إلى صحن القصر، فقعد على كرسي، وعليه ثياب بيض وطيلسان أسود، فدخلنا عليه، فقمنا بين يديه بالأعمدة قَالَ: فجاء كتلة الخادم، فقال: يا سيدي، أبو حاتم يقرئك السلام، ويقول: يا سيدي وافيت للميعاد لحملك، ولكني أرى ألا تخرج الليلة، فإني رأيت في دجلة على الشط أمرا قد رابني، وأخاف أن أغلب فتؤخذ من يدي أو تذهب نفسك، ولكن أقم بمكانك حتى أرجع ثم استعد ثم آتيك القابلة فأخرجك، فإن حوربت حاربت دونك ومعي عدتي قَالَ: فقال له محمد: ارجع إليه، فقل له: لا تبرح، فإني خارج إليك الساعة لا محالة، ولست أقيم إلى غد قَالَ: وقلق وقال: قد تفرق عني الناس ومن على بابي من الموالي والحرس، ولا آمن إن أصبحت وانتهى الخبر بتفريقهم إلى طاهر أن يدخل علي فيأخذني ودعا بفرس له أدهم محذوف أغر محجل، كان يسميه الزهري، ثم دعا بابنيه فضمهما إليه، وشمهما وقبلهما، وقال: أستودعكما الله، ودمعت عيناه، وجعل يمسح دموعه بكمه، ثم قام فوثب على الفرس، وخرجنا بين يديه إلى باب القصر، حتى ركبنا دوابنا، وبين يديه شمعة واحدة فلما صرنا الى الطاقات مما يلى باب خراسان، قَالَ لي أبي: يا محمد، ابسط يدك عليه، فإني أخاف أن يضربه إنسان بالسيف، فإن ضرب كان الضرب بك دونه قَالَ: فألقيت عنان فرسي بين معرفته، وبسطت يدي عليه حتى انتهينا إلى باب خراسان، فأمرنا به ففتح، ثم خرجنا إلى المشرعة، فإذا حراقة هرثمة، فرقي إليها، فجعل الفرس يتلكأ وينفر، وضربه بالسوط وحمله عليها، حتى ركبها في دجلة، فنزل في الحراقة، وأخذنا الفرس، ورجعنا إلى المدينة، فدخلناها وأمرنا بالباب فأغلق، وسمعنا الواعية، فصعدنا على القبة التي على الباب، فوقفنا فيها نسمع الصوت.
فذكر عن أحمد بْن سلام صاحب المظالم أنه قَالَ: كنت فيمن ركب مع هرثمة من القواد في الحراقة، فلما نزلها محمد قمنا على أرجلنا إعظاما، وجثى هرثمة على ركبتيه، وقال له: يا سيدي، ما أقدر على القيام لمكان النقرس الذي بي، ثم احتضنه وصيره في حجره، ثم جعل يقبل يديه ورجليه وعينيه، ويقول: يا سيدي ومولاي وابن سيدي ومولاي قَالَ: وجعل يتصفح وجوهنا، قَالَ: ونظر إلى عبيد الله بْن الوضاح، فقال له: أيهم أنت؟ قَالَ: أنا عبيد الله بْن الوضاح، قَالَ: نعم، فجزاك الله خيرا، فما أشكرني لما كان منك من أمر الثلج! ولو قد لقيت أخي أبقاه الله لم أدع أن أشكرك عنده، وسألته مكافأتك عني قَالَ: فبينا نحن كذلك- وقد أمر هرثمة بالحراقة أن تدفع- إذ شد علينا أصحاب طاهر في الزواريق والشذوات وعطعطوا وتعلقوا بالسكان، فبعض يقطع السكان، وبعض ينقب الحراقة، وبعض يرمي بالآجر والنشاب قَالَ: فنقبت الحراقة، فدخلها الماء فغرقت، وسقط هرثمة إلى الماء، فأخرجه ملاح، وخرج كل واحد منا على حيله، ورايت محمدا حين صار إلى تلك الحال قد شق عليه ثيابه، ورمى بنفسه إلى الماء.
قَالَ: فخرجت إلى الشط، فعلقني رجل من أصحاب طاهر، فمضى بي إلى رجل قاعد على كرسي من حديد على شط دجلة في ظهر قصر أم جعفر، بين يديه نار توقد، فقال بالفارسية: هذا رجل خرج من الماء ممن غرق من أهل الحراقة، فقال لي: من أنت؟ قلت: من أصحاب هرثمة، انا احمد ابن سلام صاحب شرطة مولى أمير المؤمنين، قَالَ: كذبت فاصدقني، قَالَ: قلت قد صدقتك، قَالَ: فما فعل المخلوع؟ قلت: قد رأيته حين شق عليه ثيابه، وقذف بنفسه في الماء قَالَ: قدموا دابتي، فقدموا دابته، فركب وأمر بي أن أجنب قَالَ: فجعل في عنقي حبل وجنبت، وأخذ في درب الرشدية، فلما انتهى إلى مسجد أسد بْن المرزبان، انبهرت من العدو فلم أقدر أن أعدو، فقال الذي يجنبني: قد قام هذا الرجل، وليس يعدو، قال: انزل، فحذ رأسه، فقلت له: جعلت فداك! لم تقتلني وأنا رجل علي من الله نعمة، ولم أقدر على العدو، وأنا أفدي نفسي بعشرة آلاف درهم قَالَ: فلما سمع ذكر العشرة آلاف درهم، قلت: تحبسني عندك حتى تصبح وتدفع إلي رسولا حتى أرسله إلى وكيلي في منزلي في عسكر المهدي، فإن لم يأتك بالعشرة آلاف فاضرب عنقي قَالَ: قد أنصفت، فأمر بحملي، فحملت ردفا لبعض أصحابه، فمضى بي إلى دار صاحبه، دار أبي صالح الكاتب، فأدخلني الدار، وأمر غلمانه أن يحتفظوا بي، وتقدم إليهم، وأوعز وتفهم مني خبر محمد ووقوعه في الماء، ومضى إلى طاهر ليخبره خبره، فإذا هو إبراهيم البلخي قَالَ: فصيرني غلمانه في بيت من بيوت الدار فيه بوار ووسادتان أو ثلاث- وفي رواية حصر مدرجة- قَالَ: فقعدت في البيت، وصيروا فيه سراجا، وتوثقوا من باب الدار، وقعدوا يتحدثون قَالَ: فلما ذهب من الليل ساعة، إذا نحن بحركة الخيل فدقوا الباب، ففتح لهم، فدخلوا وهم يقولون: يسر زبيدة قَالَ: فأدخل علي رجل عريان عليه سراويل وعمامة متلثم بها، وعلى كتفيه خرقة خلقة، فصيروه معي، وتقدموا إلى من في الدار في حفظه، وخلفوا معهم قوما آخرين أيضا منهم قَالَ: فلما استقر في البيت حسر العمامة عن وجهه، فإذا هو محمد، فاستعبرت واسترجعت فيما بيني وبين نفسي قَالَ: وجعل ينظر إلي، ثم قَالَ:
أيهم أنت؟ قَالَ: قلت: أنا مولاك يا سيدي، قَالَ: وأي الموالي؟ قلت:
أحمد بْن سلام صاحب المظالم، فقال: وأعرفك بغير هذا، كنت تأتيني بالرقة؟
قَالَ: قلت: نعم، قَالَ: كنت تأتيني وتلطفني كثيرا، لست مولاي بل أنت أخي ومني ثم قَالَ: يا أحمد، قلت: لبيك يا سيدي، قال: ادن منى وضمني إليك، فانى أجد وحشة شديدة قَالَ: فضممته إلي، فإذا قلبه يخفق خفقا شديدا كاد أن يفرج عن صدره فيخرج قَالَ: فلم أزل أضمه إلي وأسكنه قَالَ: ثم قَالَ: يا أحمد، ما فعل أخي؟ قَالَ: قلت: هو حي، قَالَ: قبح الله صاحب بريدهم ما أكذبه! كان يقول: قد مات، شبه المعتذر من محاربته، قال: قلت: بل قبح الله وزراءك! قَالَ: لا تقل لوزرائي إلا خيرا، فما لهم ذنب، ولست بأول من طلب أمرا فلم يقدر عليه قَالَ: ثم قَالَ: يا أحمد، ما تراهم يصنعون بي؟ أتراهم يقتلوني أو يفون لي بأيمانهم؟ قَالَ:
قلت: بل يفون لك يا سيدي قَالَ: وجعل يضم على نفسه الخرقة التي على كتفيه، ويضمها ويمسكها بعضده يمنة ويسرة قَالَ: فنزعت مبطنة كانت علي ثم قلت: يا سيدي، ألق هذه عليك قَالَ: ويحك! دعني، هذا من الله عز وجل، لي في هذا الموضع خير.
قَالَ: فبينا نحن كذلك، إذ دق باب الدار، ففتح، فدخل علينا رجل عليه سلاحه، فتطلع في وجهه مستثبتا له، فلما أثبته معرفة، انصرف وغلق الباب، وإذا هو محمد بْن حميد الطاهري، قَالَ: فعلمت أن الرجل مقتول.
قَالَ: وكان بقي علي من صلاتي الوتر، فخفت أن أقتل معه ولم أوتر، قَالَ:
فقمت أوتر، فقال لي: يا أحمد، لا تتباعد مني، وصل إلى جانبي، أجد وحشة شديدة قَالَ: فاقتربت منه، فلما انتصف الليل أو قارب، سمعت حركة الخيل، ودق الباب، ففتح، فدخل الدار قوم من العجم بأيديهم السيوف مسللة، فلما رآهم قام قائما، وقال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! ذهبت والله نفسي في سبيل الله! أما من حيلة! أما من مغيث! أما من أحد من الأبناء! قَالَ: وجاءوا حتى قاموا على باب البيت الذي نحن فيه، فأحجموا عن الدخول، وجعل بعضهم يقول لبعض: تقدم، ويدفع بعضهم بعضا قَالَ: فقمت فصرت خلف الحصر المدرجة في زاوية البيت، وقام محمد، فأخذ بيده وسادة، وجعل يقول: ويحكم! إني ابن عم رسول الله ص، أنا ابن هارون، وأنا أخو المأمون، الله الله في دمي! قَالَ: فدخل عليه رجل منهم يقال له خمارويه- غلام لقريش الدنداني مولى طاهر- فضربه بالسيف ضربة وقعت على مقدم رأسه، وضرب محمد وجهه بالوسادة التي كانت في يده، واتكأ عليه ليأخذ السيف من يده فصاح خمارويه: قتلني قتلني- بالفارسية قَالَ: فدخل منهم جماعة، فنخسه واحد منهم بالسيف في خاصرته، وركبوه فذبحوه ذبحا من قفاه، وأخذوا رأسه، فمضوا به إلى طاهر، وتركوا جثته.
قَالَ: ولما كان في وقت السحر جاءوا إلى جثته فأدرجوها في جل، وحملوها.
قَالَ: فأصبحت فقيل لي: هات العشرة آلاف درهم وإلا ضربنا عنقك.
قَالَ: فبعثت إلى وكيلي فأتاني، فأمرته فأتاني بها، فدفعتها إليه قَالَ: وكان دخول محمد المدينة يوم الخميس، وخرج إلى دجلة يوم الأحد وذكر عن أحمد بْن سلام في هذه القصة أنه قَالَ: قلت لمحمد لما دخل علي البيت وسكن: لا جزى الله وزراءك خيرا، فإنهم أوردوك هذا المورد! فقال لي: يا أخي، ليس بموضع عتاب ثم قَالَ: أخبرني عن المأمون أخي، أحي هو؟ قلت: نعم، هذا القتال عمن إذا! هو إلا عنه! قَالَ: فقال لي:
أخبرني يحيى أخو عامر بْن إسماعيل بْن عامر- وكان يلي الخبر في عسكر هرثمة- أن المأمون مات، فقلت له: كذب قَالَ: ثم قلت له: هذا الإزار الذي عليك إزار غليظ فالبس إزاري وقميصي هذا فإنه لين، فقال لي: من كانت حاله مثل حالي فهذا له كثير قَالَ: فلقنته ذكر الله والاستغفار، فجعل يستغفر قَالَ: وبينا نحن كذلك، إذ هدة تكاد الأرض ترجف منها، وإذا أصحاب طاهر قد دخلوا الدار وأرادوا البيت، وكان في الباب ضيق، فدافعهم محمد بمجنة كانت معه في البيت، فما وصلوا إليه حتى عرقبوه، ثم هجموا عليه، فحزوا رأسه واستقبلوا به طاهرا، وحملوا جثته إلى بستان مؤنسة إلى معسكره، إذ أقبل عبد السلام بْن العلاء صاحب حرس هرثمة فأذن له- وكان عبر إليه على الجسر الذي كان بالشماسية- فقال له: أخوك يقرئك السلام، فما خبرك؟ قَالَ: يا غلام، هات الطس، فجاءوا به وفيه رأس محمد، فقال: هذا خبري فأعلمه فلما أصبح نصب رأس محمد على باب الأنبار، وخرج من أهل بغداد للنظر إليه ما لا يحصى عددهم، وأقبل طاهر يقول: رأس المخلوع محمد.
وذكر محمد بْن عيسى أنه رأى المخلوع على ثوبه قملة، فقال: ما هذا؟
فقالوا: شيء يكون في ثياب الناس، فقال: أعوذ بالله من زوال النعمة! فقتل من يومه.
وذكر عن الحسن بْن أبي سعيد أن الجندين: جند طاهر وجند أهل بغداد، ندموا على قتل محمد، لما كانوا يأخذون من الأموال.
وذكر عنه أنه ذكر أن الخزانة التي كان فيها رأس محمد ورأس عيسى ابن ماهان ورأس أبي السرايا كانت إليه قَالَ: فنظرت في رأس محمد، فإذا فيه ضربة في وجهه، وشعر رأسه ولحيته صحيح لم يتحات منه شيء، ولونه على حاله قَالَ: وبعث طاهر برأس محمد إلى المأمون مع البردة والقضيب والمصلى- وهو من سعف مبطن- مع محمد بْن الحسن بْن مصعب ابن عمه، فامر له بألف الف درهم، فرايت ذا الرياستين، وقد أدخل رأس محمد على ترس بيده إلى المأمون، فلما رآه سجد.
قَالَ الحسن: فأخبرني ابن أبي حمزة، قَالَ: حدثني علي بْن حمزة العلوي، قَالَ: قدم جماعة من آل أبي طالب على طاهر وهو بالبستان حين قتل محمد بن زبيدة ونحن بالحضرة، فوصلهم ووصلنا، وكتب إلى المأمون بالإذن لنا أو لبعضنا، فخرجنا إلى مرو، وانصرفنا إلى المدينة، فهنئونا بالنعمة، ولقينا من بها من أهلها وسائر أهل المدينة، فوصفنا لهم قتل محمد، وأن طاهر بْن الحسين دعا مولى يقال له قريش الدنداني، وأمره بقتله قَالَ: فقال لنا شيخ منهم: كيف قلت! فأخبرته، فقال الشيخ: سبحان الله! كنا نروي هذا أن قريشا يقتله، فذهبنا إلى القبيلة، فوافق الاسم الاسم! وذكر عن محمد بْن أبي الوزير أن علي بْن محمد بْن خالد بْن برمك أخبره أن إبراهيم بْن المهدي لما بلغه قتل محمد، استرجع وبكى طويلا، ثم قَالَ:
عوجا بمغنى طلل داثر بالخلد ذات الصخر والآجر والمرمر المسنون يطلى به والباب باب الذهب الناضر عوجا بها فاستيقنا عندها على يقين قدرة القادر وأبلغا عني مقالا إلى المولى على المأمور والأمر قولا له: يا بن ولي الهدى طهر بلاد الله من طاهر لم يكفه أن حز أوداجه ذبح الهدايا بمدى الجازر حتى أتى يسحب أوصاله في شطن يفنى مدى السائر قد برد الموت على جنبه وطرفه منكسر الناظر قَالَ: وبلغ ذلك المأمون فاشتد عليه.

وذكر عن المدائني أن طاهرا كتب إلى المأمون بالفتح:
أما بعد، فالحمد لله المتعالي ذي العزة والجلال، والملك والسلطان، الذي إذا أراد أمرا فإنما يقول له كن فيكون، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
كان فيما قدر الله فأحكم، ودبر فأبرم، انتكاث المخلوع ببيعته، وانتقاضه بعهده، وارتكاسه في فتنته، وقضاؤه عليه القتل بما كسبت يداه وما الله {بِظَلَّٰمٍ لِّلعَبِيدِ} [الحج: 10] وقد كتبت إلى أمير المؤمنين- أطال الله بقاءه- في إحاطة جند الله بالمدينة والخلد، وأخذهم بأفواهها وطرقها ومسالكها في دجلة نواحي أزقة مدينة السلام وانتظام المسالح حواليها وحدرى السفن والزواريق بالعرادات والمقاتلة، إلى ما واجه الخلد وباب خراسان، تحفظا بالمخلوع، وتخوفا من أن يروغ مراغا، ويسلك مسلكا يجد به السبيل إلى اثاره فتنه، واحياء ثائره، أو يهايج قتالا بعد أن حصره الله عز وجل وخذله، ومتابعة الرسل بما يعرض عليه هرثمة بْن أعين مولى أمير المؤمنين، ويسألني من تخلية الطريق له في الخروج إليه واجتماعي وهرثمة بْن أعين، لنتناظر في ذلك، وكراهتي ما أحدث وراءه من أمره بعد إرهاق الله إياه، وقطعه رجاءه من كل حيلة ومتعلق، وانقطاع المنافع عنه، وحيل بينه وبين الماء، فضلا عن غيره، حتى هم به خدمه وأشياعه من أهل المدينة ومن نجا معه إليها، وتحزبوا على الوثوب به للدفع عن أنفسهم والنجاة بها، وغير ذلك مما فسرت لأمير المؤمنين أطال الله بقاءه مما أرجو أن يكون قد أتاه.
وإني أخبر أمير المؤمنين أني رويت فيما دبر هرثمة بْن أعين مولى أمير المؤمنين في المخلوع، وما عرض عليه وأجابه إليه، فوجدت الفتنة في تخلصه من موضعه الذي قد أنزله الله فيه بالذلة والصغار وصيره فيه إلى الضيق والحصار تزداد، ولا يزيد أهل التربص في الأطراف إلا طمعا وانتشارا، وأعلمت ذلك هرثمة بْن أعين، وكراهتي ما أطمعه فيه وأجابه إليه، فذكر أنه لا يرى الرجوع عما أعطاه، فصادرته- بعد يأس من انصرافه- عن رأيه، على أن يقدم المخلوع رداء رسول الله ص وسيفه وقضيبه قبل خروجه، ثم أخلى له طريق الخروج إليه، كراهة أن يكون بيني وبينه اختلاف نصير منه إلى أمر يطمع الأعداء فينا، أو فراق القلوب بخلاف ما نحن عليه من الائتلاف والاتفاق على ذلك، وعلى أن نجتمع لميعادنا عشية السبت.
فتوجهت في خاصة ثقاتي الذين اعتمدت عليهم، وأثق بهم، بربط الجأش، وصدق البأس، وصحة المناصحة، حتى طالعت جميع أمر كل من كنت وكلت بالمدينة والخلد برا وبحرا، والتقدمة إليهم في التحفظ والتيقظ والحراسة والحذر، ثم انكفأت إلى باب خراسان، وكنت أعددت حراقات وسفنا، سوى العدة التي كانت لأركبها بنفسي لوقت ميعادي بيني وبين هرثمة، فنزلتها في عدة ممن كان ركب معي من خاصة ثقاتي وشاكريتي، وصيرت عدة منهم فرسانا ورجالة بين باب خراسان والمشرعة وعلى الشط وأقبل هرثمة بْن أعين حتى صار بقرب باب خراسان معدا مستعدا، وقد خاتلني بالرسالة إلى المخلوع إلى أن يخرج إليه إذا وافى المشرعة، ليحمله قبل أن أعلم، أو يبعث إلي بالرداء والسيف والقضيب، على ما كان فارقني عليه من ذلك فلما وافى خروج المخلوع على من وكلت بباب خراسان، نهضوا عند طلوعه عليهم ليعرفوا الطابع لأمري كان أتاهم، وتقدمي إليهم ألا يدعو أحدا يجوزهم إلا بأمري فبادرهم نحو المشرعة، وقرب هرثمة إليه الحراقة، فسبق الناكث أصحابي إليها، وتأخر كوثر، فظفر به قريش مولاي، ومعه الرداء والقضيب والسيف، فأخذه وما معه، فنفر اصحاب المخلوع عند ما رأوا من إرادة أصحابي منع مخلوعهم من الخروج، فبادر بعضهم حراقة هرثمة، فتكفأت بهم حتى أغرقت في الماء ورسبت، فانصرف بعضهم إلى المدينة، ورمى المخلوع عند ذلك بنفسه من الحراقة في دجلة متخلصا إلى الشط، نادما على ما كان من خروجه، ناقضا للعهد، داعيا بشعاره، فابتدره عدة من أوليائي الذين كنت وكلتهم بما بين مشرعة باب خراسان وركن الصراة، فأخذوه عنوة قهرا بلا عهد ولا عقد، فدعا بشعاره، وعاد في نكثه، فعرض عليهم مائة حبة، ذكر أن قيمة كل حبة مائة ألف درهم، فأبوا إلا الوفاء لخليفتهم أبقاه الله، وصيانة لدينهم، وإيثارا للحق الواجب عليهم، فتعلقوا به، قد أسلمه الله وأفرده، كل يرغبه، ويريد أن يفوز بالحظوة عندي دون صاحبه، حتى اضطربوا فيما بينهم، وتناولوه بأسيافهم منازعة فيه، وتشاحا عليه، إلى أن اتيح له مغيظ لله ودينه ورسوله وخليفته، فاتى عليه وأتاني الخبر بذلك، فأمرت بحمل رأسه إلي، فلما أتيت به تقدمت إلى من كنت وكلت بالمدينة والخلد وما حواليها وسائر من في المسالح، في لزوم مواضعهم، والاحتفاظ بما يليهم، إلى أن يأتيهم أمري.
ثم انصرفت فأعظم الله لأمير المؤمنين الصنع والفتح عليه وعلى الإسلام به وفيه.
فلما أصبحت هاج الناس واختلفوا في المخلوع، فمصدق بقتله، ومكذب وشاك وموقن، فرأيت أن أطرح عنهم الشبهة في أمره، فمضيت برأسه، لينظروا إليه فيصح بعينهم، وينقطع بذلك بعل قلوبهم، ودخل التياث المستشرفين للفساد والمستوفزين للفتنة، وغدوت نحو المدينة فاستسلم من فيها، وأعطى أهلها الطاعة، واستقام لأمير المؤمنين شرقي ما يلي مدينة السلام وغربيه وأرباعه وأرباضه ونواحيه، وقد وضعت الحرب أوزارها وتلافى بالسلام والإسلام أهله، وبعد الله الدغل عنهم، وأصارهم ببركة أمير المؤمنين إلى الأمن والسكون والدعة والاستقامة والاغتباط، والصنع من الله جل وعز والخيرة، والحمد لله على ذلك.
فكتبت إلى أمير المؤمنين حفظه الله، وليس قبلي داع إلى فتنة، ولا متحرك ولا ساع في فساد، ولا أحد إلا سامع مطيع باخع حاضر، قد أذاقه الله حلاوة أمير المؤمنين ودعة ولايته، فهو يتقلب في ظلها، يغدو في متجره ويروح في معايشه، والله ولى صنع من ذلك، والمتمم له، والمان بالزيادة فيه برحمته.
وانا اسال الله ان تهني أمير المؤمنين نعمته، ويتابع له فيها مزيده ويوزعه عليها شكره، وأن يجعل منته لديه متواليه دائما متواصلة، حتى يجمع الله له خير الدنيا والآخرة، ولأوليائه وأنصار حقه ولجماعة المسلمين ببركته وبركة ولايته ويمن خلافته، إنه ولي ذلك منهم وفيه، إنه سميع لطيف لما يشاء وكتب يوم الأحد لأربع بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة.
وذكر عن محمد المخلوع انه قبل مقتله، وبعد ما صار في المدينة، ورأى الأمر قد تولى عنه، وأنصاره يتسللون فيخرجون إلى طاهر، قعد في الجناح الذي كان عمله على باب الذهب- وكان تقدم في بنائه قبل ذلك- وأمر بإحضار كل من كان معه في المدينة من القواد والجند، فجمعوا في الرحبة، فأشرف عليهم، وقال:
الحمد لله الذي يرفع ويضع، ويعطي ويمنع، ويقبض ويبسط، وإليه المصير أحمده على نوائب الزمان، وخذلان الأعوان، وتشتت الرجال، وذهاب الأموال، وحلول النوائب، وتوفد المصائب، حمدا يدخر لي به أجزل الجزاء، ويرفدني أحسن العزاء وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شريك له كما شهد لنفسه، وشهدت له ملائكته، وأن محمدا عبده الامين، ورسوله الى المسلمين، ص، آمين رب العالمين.
أما بعد يا معشر الأبناء، وأهل السبق إلى الهدى، فقد علمتم غفلتي كانت أيام الفضل بْن الربيع وزير علي ومشير، فمادت به الأيام بما لزمني به من الندامة في الخاصة والعامة، إلى ان نبهتمونى فانتبهت، واستعنتموني في جميع ما كرهتهم من نفسي وفيكم، فبذلت لكم ما حواه ملكي، ونالته مقدرتي، مما جمعته وورثته عن آبائي، فقودت من لم يجز، واستكفيت من لم يكف، واجتهدت- علم الله- في طلب رضاكم بكل ما قدرت عليه، واجتهدتم- علم الله- في مساءتي في كل ما قدرتم عليه، من ذلك توجيهى إليكم علي بْن عيسى شيخكم وكبيركم وأهل الرأفة بكم والتحنن عليكم، فكان منكم ما يطول ذكره، فغفرت الذنب، وأحسنت واحتملت، وعزيت نفسي عند معرفتي بشرود الظفر، وحرصي على مقامكم مسلحة بحلوان مع ابن كبير صاحب دعوتكم، ومن على يدي أبيه كان فخركم، وبه تمت طاعتكم: عبد الله بْن حميد بْن قحطبة، فصرتم من التألب عليه إلى ما لا طاقة له به، ولا صبر عليه يقودكم رجل منكم وأنتم عشرون ألفا، الى عامدين، وعلى سيدكم متوثبين مع سعيد الفرد، سامعين له مطيعين ثم وثبتم مع الحسين علي، فخلعتموني وشتمتموني، وانتهبتموني وحبستموني، وقيدتموني، وأشياء منعتموني من ذكرها، حقد قلوبكم وتلكؤ طاعتكم أكبر وأكثر.
فالحمد لله حمد من أسلم لأمره، ورضي بقدره، والسلام وقيل: لما قتل محمد، وارتفعت الثائرة، وأعطي الأمان الأبيض والأسود، وهدأ الناس، ودخل طاهر المدينة يوم الجمعة، فصلى بالناس، وخطبهم خطبة بليغة، نزع فيها من قوارع القرآن، فكان مما حفظ من ذلك أن قَالَ:
الحمد لله {مَالِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26]
في آي من القرآن أتبع بعضها بعضا، وحض على الطاعة ولزوم الجماعة، ورغبهم في التمسك بحبل الطاعة وانصرف إلى معسكره.
وذكر أنه لما صعد المنبر يوم الجمعة، وحضره من بني هاشم والقواد وغيرهم جماعة كثيرة، قَالَ:
الحمد لله مالك الملك، يؤتيه من يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ ٱلْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81] ، و {لاَ يَهْدِي كَيْدَ ٱلْخَائِنِينَ} [يوسف: 52]، إن ظهور غلبتنا لم يكن من أيدينا ولا كيدنا، بل اختار الله للخلافة إذ جعلها عمادا لدينه، وقواما لعباده، وضبط الأطراف وسد الثغور، وإعداد العدة، وجمع الفيء، وإنفاذ الحكم، ونشر العدل، وإحياء السنة، بعد إذبال البطالات، والتلذذ بموبق الشهوات والمخلد إلى الدنيا مستحسن لداعي غرورها، محتلب دره نعمتها، الف لزهره روضتها، كلف برونق بهجتها وقد رأيتم من وفاء موعود الله عز وجل لمن بغى عليه، وما أحل به من بأسه ونقمته، لما نكب عن عهده، وارتكب معصيته، وخالف أمره، وغيره ناهيه، وعظته مرديه، فتمسكوا بوثائق عصم الطاعة، واسلكوا مناحي سبيل الجماعة، واحذروا مصارع أهل الخلاف والمعصية، الذين قدحوا زناد الفتنة، وصدعوا شعب الألفة، فأعقبهم الله خسار الدنيا والآخرة.
ولما فتح طاهر بغداد كتب إلى أبي إسحاق المعتصم- وقد ذكر بعضهم أنه إنما كتب بذلك إلى إبراهيم بْن المهدي، وقال الناس: كتبه إلى أبي إسحاق المعتصم:
أما بعد، فإنه عزيز علي أن أكتب إلى رجل من أهل بيت الخلافة بغير التأمير، ولكنه بلغني أنك تميل بالرأي، وتصغي بالهوى، إلى الناكث المخلوع، وإن كان كذلك فكثير ما كتبت به إليك، وإن كان غير ذلك فالسلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته وكتب في أسفل الكتاب هذه الأبيات:

ركوبك الأمر ما لم تبل فرصته *** جهل ورأيك بالتغرير تغرير
أقبح بدنيا ينال المخطئون بها *** حظ المصيبين والمغرور مغرور.

وثوب الجند بطاهر بن الحسين بعد مقتل الامين
وفي هذه السنة وثب الجند بعد مقتل محمد بطاهر، فهرب منهم وتغيب أياما حتى أصلح أمرهم.

ذكر الخبر عن سبب وثوبهم به وإلى ما آل أمره وأمرهم:
ذكر عن سعيد بْن حميد، أنه ذكر أن أباه حدثه، أن أصحاب طاهر بعد مقتل محمد بخمسة أيام، وثبوا به، ولم يكن في يديه مال، فضاق به أمره، وظن أن ذلك عن مواطأة من اهل الارباض إياهم، وانهم معهم عليه، ولم يكن تحرك في ذلك من أهل الأرباض أحد، فاشتدت شوكة أصحابه، وخشي على نفسه، فهرب من البستان، وانتهبوا بعض متاعه، ومضى الى عقرقوف وكان قد أمر بحفظ أبواب المدينة وباب القصر على أم جعفر، وموسى وعبد الله ابني محمد، ثم أمر بتحويل زبيدة وموسى وعبد الله ابني محمد معها من قصر أبي جعفر إلى قصر الخلد، فحولوا ليلة الجمعة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ربيع الأول، ثم مضى بهم من ليلتهم في حراقة إلى همينيا على الغربي من الزاب الأعلى، ثم أمر بحمل موسى وعبد الله إلى عمهما بخراسان على طريق الأهواز وفارس.
قَالَ: ولما وثب الجند بطاهر، وطلبوا الأرزاق، أحرقوا باب الأنبار الذي على الخندق وباب البستان، وشهروا السلاح، وكانوا كذلك يومهم ومن الغد، ونادوا موسى: يا منصور وصوب الناس إخراج طاهر موسى وعبد الله، وقد كان طاهر انحاز ومن معه من القواد، وتعبأ لقتالهم ومحاربتهم، فلما بلغ ذلك القواد والوجوه صاروا إليه واعتذروا، وأحالوا على السفهاء والأحداث، وسألوه الصفح عنهم وقبول عذرهم والرضا عنهم، وضمنوا له ألا يعودوا لمكروه له ما أقام معهم فقال لهم طاهر: والله ما خرجت عنكم إلا لوضع سيفي فيكم، وأقسم بالله لئن عدتم لمثلها لأعودن إلى رأيي فيكم، ولأخرجن إلى مكروهكم، فكسرهم بذلك، وأمر لهم برزق أربعة أشهر، فقال في ذلك بعض الأبناء:

آلى الأمير- وقوله وفعاله *** حق- بجمع معاشر الزعار
إن هاج هائجهم وشغب شاغب *** من كل ناحية من الأقطار
ألا يناظر معشرا من جمعهم *** إمهال ذي عدل وذي إنظار
حتى ينيخ عليهم بعظيمة *** تدع الديار بلاقع الآثار

فذكر عن المدائني أن الجند لما شغبوا، وانحاز طاهر، ركب اليه سعيد ابن مالك بْن قادم ومحمد بْن أبي خالد وهبيرة بْن خازم، في مشيخة من أهل الأرباض، فحلفوا بالمغلظة من الأيمان، أنه لم يتحرك في هذه الأيام أحد من أبناء الأرباض، ولا كان ذلك عن رأيهم، ولا أرادوه، وضمنوا له صلاح نواحيهم من الأرباض، وقيام كل إنسان منهم في ناحيته بكل ما يجب عليه، حتى لا يأتيه من ناحية أمر يكرهه وأتاه عميرة- أبو شيخ بن عميرة الأسدي- وعلى ابن يزيد، في مشيخة من الأبناء، فلقوه بمثل ما لقيه به ابن أبي خالد وسعيد ابن مالك وهبيرة، وأعلموه حسن رأي من خلفهم من الأبناء ولين طاعتهم له، وأنهم لم يدخلوا في شيء مما صنع أصحابه في البستان فطابت نفسه إلا أنه قَالَ لهم: إن القوم يطلبون أرزاقهم، وليس عندي مال فضمن لهم سعيد ابن مالك عشرين ألف دينار، وحملها إليه، فطابت بها نفسه، وانصرف إلى معسكره بالبستان وقال طاهر لسعيد: إني أقبلها منك على أن تكون علي دينا، فقال له: بل هي إنما صلة وقليل لغلامك وفيما أوجب الله من حقك.
فقبلها منه، وأمر للجند برزق أربعة أشهر، فرضوا وسكنوا.
قَالَ المدائني: وكان مع محمد رجل يقال له السمرقندي، وكان يرمي عن مجانيق كانت في سفن من باطن دجلة، وربما كان يشتد أمر أهل الأرباض على من بإزائهم من أصحاب محمد في الخنادق، فكان يبعث إليه، فيجيء به فيرميهم- وكان راميا لم يكن حجره يخطئ- ولم يقتل الناس يومئذ بالحجارة كما قيل، فلما قتل محمد قطع الجسر، وأحرقت المجانيق التي كانت في دجلة يرمي عنها، فأشفق على نفسه، وتخوف من بعض من وتره أن يطلبه، فاستخفى، وطلبه الناس، فتكارى بغلا، وخرج إلى ناحية خراسان هاربا، فمضى حتى إذا كان في بعض الطريق استقبله رجل فعرفه، فلما جازه قَالَ الرجل للمكاري:
ويحك! أين تذهب مع هذا الرجل! والله لئن ظفر بك معه لتقتلن، وأهون ما هو مصيبك أن تحبس، قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! قد والله عرفت اسمه، وسمعت به قتله الله! فانطلق المكاري إلى أصحابه- أو مسلحة انتهى إليها- فاخبرهم خبره، وكانوا من اصحاب كند غوش من أصحاب هرثمة، فأخذوه وبعثوا به إلى هرثمة، وبعث به هرثمة إلى خزيمة بْن خازم بمدينة السلام، فدفعه خزيمة إلى بعض من وتره فأخرجه إلى شاطئ دجلة من الجانب الشرقي فصلب حيا، فذكروا أنه لما أرادوا شدة على خشبته، اجتمع خلق كثير، فجعل يقول قبل أن يشدوه: أنتم بالأمس تقولون: لا قطع الله يا سمرقندي يدك، واليوم قد هيأتم حجارتكم ونشابكم لترموني! فلما رفعت الخشبة أقبل الناس عليه رميا بالحجارة والنشاب وطعنا بالرماح حتى قتلوه، وجعلوا يرمونه بعد موته، ثم أحرقوه من غد، وجاءوا بنار ليحرقوه بها، وأشعلوها فلم تشتعل، وألقوا عليه قصبا وحطبا، فأشعلوها فيه، فاحترق بعضه، وتمزقت الكلاب بعضه، وذلك يوم السبت لليلتين خلتا من صفر.

ذكر الخبر عن صفه محمد ابن هارون وكنيته وقدر ما ولي ومبلغ عمره
قَالَ هشام بْن محمد وغيره: ولي محمد بْن هارون وهو أبو موسى يوم الخميس لإحدى عشرة بقيت من جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين ومائه، وقتل ليله الأحد لست بقين من صفر سنة سبع وتسعين ومائة وأمه زبيدة ابنة جعفر الأكبر بْن أبي جعفر، فكانت خلافته أربع سنين وثمانية أشهر وخمسة أيام:
وقد قيل: كانت كنيته أبا عبد الله.
وأما محمد بْن موسى الخوارزمي فإنه ذكر عنه أنه قَالَ: أتت الخلافة محمد بْن هارون للنصف من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة، وحج بالناس في هذه السنة التي ولي فيها داود بْن عيسى بْن موسى، وهو على مكة وأبو البختري على ولايته، وبعد ولايته بعشره اشهر وخمسه ايام وجه عصمه ابن أبي عصمة ألى ساوة، وعقد ولايته لابنه موسى بولاية العهد لثلاث خلون من شهر ربيع الأول، وكان على شرطه علي بْن عيسى بْن ماهان.
وحج بالناس سنة أربع وتسعين ومائه على بن الرشيد، وعلى المدينة إسماعيل بْن العباس بْن محمد، وعلى مكة داود بْن عيسى، وكان بين انعقد لابنه الى التقاء علي بْن عيسى بْن ماهان وطاهر بْن الحسين وقتل علي بْن عيسى بْن ماهان سنة خمس وتسعين ومائة، سنة وثلاثة أشهر وتسعة وعشرون يوما قَالَ: وقتل المخلوع ليلة الأحد لخمس بقين من المحرم، قَالَ: فكانت ولايته مع الفتنة أربع سنين وسبعة أشهر وثلاثة أيام.
ولما قتل محمد ووصل خبره إلى المأمون في خريطة من طاهر يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من صفر سنة ثمان وتسعين ومائة أظهر المأمون الخبر، وأذن للقواد فدخلوا عليه وقام الفضل بْن سهل فقرا الكتاب بالخبر، فهنىء بالظفر، ودعوا الله له وورد الكتاب من المأمون بعد قتل محمد على طاهر وهرثمة بخلع القاسم بْن هارون، فأظهرا ذلك، ووجها كتبهما به، وقرئ الكتاب بخلعه يوم الجمعة لليلتين بقيتا من شهر ربيع الأول سنة سبع وتسعين ومائة، وكان عمر محمد كله- فيما بلغني- ثمانيا وعشرين سنة وكان سبطا أنزع أبيض صغير العينين أقنى، جميلا، عظيم الكراديس، بعيد ما بين المنكبين وكان مولده بالرصافة.
وذكر أن طاهرا قَالَ حين قتله:

قتلت الخليفة في داره *** وأنهبت بالسيف أمواله

وقال أيضا:

ملكت الناس قسرا واقتدارا *** وقتلت الجبابرة الكبارا
ووجهت الخلافة نحو مرو *** إلى المأمون تبتدر ابتدارا. 

ذكر ما قيل في محمد بْن هارون ومرثيته
فما قيل في هجائه:

لم نبكيك لماذا؟ للطرب! *** يا أبا موسى وترويج اللعب
ولترك الخمس في أوقاتها *** حرصا منك على ماء العنب
وشنيف أنا لا أبكي له *** وعلى كوثر لا أخشى العطب
لم تكن تعرف ما حد الرضا *** لا ولا تعرف ما حد الغضب
لم تكن تصلح للملك ولم *** تعطك الطاعة بالملك العرب
أيها الباكي عليه لا بكت *** عين من أبكاك إلا للعجب
لم نبكيك لما عرضتنا *** للمجانيق وطورا للسلب
ولقوم صيرونا اعبدا *** لهم ينزو على الرأس الذنب
في عذاب وحصار مجهد *** سدد الطرق فلا وجه طلب
زعموا أنك حي حاشر *** كل من قال بهذا قد كذب
ليت من قد قاله في وحدة *** من جميع ذاهب حيث ذهب
أوجب الله علينا قتله *** فإذا ما أوجب الأمر وجب
كان والله علينا فتنة *** غضب الله عليه وكتب

وقال عمرو بْن عبد الملك الوراق يبكي بغداد، ويهجو طاهرا ويعرض به:

من ذا أصابك يا بغداد بالعين *** ألم تكوني زمانا قرة العين!
ألم يكن فيك أقوام لهم شرف *** بالصالحات وبالمعروف يلقوني
ألم يكن فيك قوم كان مسكنهم *** وكان قربهم زينا من الزين
صاح الزمان بهم بالبين فانقرضوا *** ماذا الذي فجعتني لوعة البين
أستودع الله قوما ما ذكرتهم *** إلا تحدر ماء العين من عيني
كانوا ففرقهم دهر وصدعهم *** والدهر يصدع ما بين الفريقين
كم كان لي مسعد منهم على زمني *** كم كان منهم على المعروف من عون
لله در زمان كان يجمعنا *** أين الزمان الذي ولى ومن اين!
يا من يخرب بغدادا ليعمرها *** أهلكت نفسك ما بين الطريقين
كانت قلوب جميع الناس واحدة *** عينا، وليس لكون العين كالدين
لما أشتهم فرقتهم فرقا *** والناس طرا جميعا بين قلبين

وذكر عمر بْن شبة أن محمد بْن أحمد الهاشمي حدثه، ان لبانه ابنه على ابن المهدي قالت:

أبكيك لا للنعيم والأنس *** بل للمعالي والرمح والترس
أبكي على هالك فجعت به *** أرملني قبل ليلة العرس

وقد قيل إن هذا الشعر لابنة عيسى بْن جعفر، وكانت مملكة بمحمد.
وقال الحسين بْن الضحاك الأشقر، مولى باهلة، يرثي محمدا، وكان من ندمائه، وكان لا يصدق بقتله، ويطمع في رجوعه:

يا خير أسرته وإن زعموا *** إني عليك لمثبت أسف
الله يعلم أن لي كبدا *** حرى عليك ومقلة تكف
ولئن شجيت بما رزئت به *** إني لأضمر فوق ما أصف
هلا بقيت لسد فاقتنا *** أبدا، وكان لغيرك التلف!
فلقد خلفت خلائفا سلفوا *** ولسوف يعوز بعدك الخلف
لا بات رهطك بعد هفوتهم *** إني لرهطك بعدها شنف
هتكوا بحرمتك التي هتكت *** حرم الرسول ودونها السجف
وثبت أقاربك التي خذلت *** وجميعها بالذل معترف
لم يفعلوا بالشط إذ حضروا *** ما تفعل الغيرانة الأنف
تركوا حريم أبيهم نفلا *** والمحصنات صوارخ هتف
أبدت مخلخلها على دهش *** أبكارهن ورنت النصف
سلبت معاجرهن واجتليت *** ذات النقاب ونوزع الشنف
فكأنهن خلال منتهب *** در تكشف دونه الصدف
ملك تخون ملكه قدر *** فوهى وصرف الدهر مختلف
هيهات بعدك أن يدوم لنا *** عز وأن يبقى لنا شرف
لا هيبوا صحفا مشرفة *** للغادرين وتحتها الجدف
أفبعد عهد الله تقتله *** والقتل بعد أمانة سرف
فستعرفون غدا بعاقبة *** عز الإله فأوردوا وقفوا
يا من يخون نومه أرق *** هدت الشجون وقلبه لهف
قد كنت لي أملا غنيت به *** فمضى وحل محله الأسف
مرج النظام وعاد منكرنا *** عرفا وأنكر بعدك العرف
فالشمل منتشر لفقدك والدنيا *** سدى والبال منكسف

وقال أيضا يرثيه:

إذا ذكر الأمين نعى الأمينا *** وإن رقد الخلي حمى الجفونا
وما برحت منازل بين بصرى *** وكلواذى تهيج لي شجونا
عراص الملك خاوية تهادى *** بها الأرواح تنسجها فنونا
تخون عز ساكنها زمان *** تلعب بالقرون الأولينا
فشتت شملهم بعد اجتماع *** وكنت بحسن ألفتهم ضنينا
فلم أر بعدهم حسنا سواهم *** ولم ترهم عيون الناظرينا
فوا أسفا وإن شمت الأعادي *** وآه على أمير المؤمنينا
أضل العرف بعدك متبعوه *** ورفه عن مطايا الراغبينا
وكن الى جنابك كل يوم *** يرحن على السعود ويغتدينا
هو الجبل الذي هوت المعالي *** لهدته وريع الصالحونا
ستندب بعدك الدنيا جوارا *** وتندب بعدك الدين المصونا
فقد ذهبت بشاشة كل شيء *** وعاد الدين مطروحا مهينا
تعقد عز متصل بكسرى *** وملته وذل المسلمونا

وقال أيضا يرثيه:

أسفا عليك سلاك أقرب قربة *** مني وأحزاني عليك تزيد

وقال عبد الرحمن بْن أبي الهداهد يرثي محمدا:

يا غرب جودي قد بت من وذمه *** فقد فقدنا العزيز من ديمه
ألوت بدنياك كف نائبة *** وصرت مغضى لنا على نقمه
أصبح للموت عندنا علم *** يضحك سن المنون من علمه
ما استنزلت درة المنون على *** أكرم من حل في ثرى رحمه
خليفة الله في بريته *** تقصر أيدي الملوك عن شيمه
يفتر عن وجهه سنا قمر *** ينشق عن نوره دجى ظلمه
زلزلت الأرض من جوانبها *** إذ أولغ السيف من نجيع دمه
من سكتت نفسه لمصرعة *** من عمم الناس أو ذوي رحمه
رأيته مثل ما رآه به *** حتى تذوق الأمر من سقمه
كم قد رأينا عزيز مملكة *** ينقل عن أهله وعن خدمه
يا ملكا ليس بعده ملك *** لخاتم الأنبياء في أممه
جاد وحيا الذي أقمت به *** سح غزير الوكيف من ديمه
لو أحجم الموت عن أخي ثقة *** أسوي في العز مستوى قدمه
أو ملك لا ترام سطوته *** إلا مرام الشتيم في أجمه
خلدك العز ما سرى سدف *** أو قام طفل العشي في قدمه
أصبح ملك إذا اتزرت به *** يقرع سن الشقاة من ندمه
أثر ذو العرش في عداك كما *** أثر في عاده وفي إرمه
لا يبعد الله سوره تليت *** لخير داع دعاه في حرمه
ما كنت إلا كحلم ذي حلم *** أولج باب السرور في حلمه
حتى إذا أطلقته رقدته *** عاد إلى ما اعتراه من عدمه

وقال أيضا يرثيه:

أقول وقد دنوت من الفرار *** سقيت الغيث يا قصر القرار
رمتك يد الزمان بسهم عين *** فصرت ملوحا بدخان نار
أبن لي عن جميعك أين حلوا *** وأين مزارهم بعد المزار
وأين محمد وابناه ما لي *** أرى أطلالهم سود الديار!
كأن لم يؤنسوا بأنيس ملك *** يصون على الملوك بخير جار
إمام كان في الحدثان عونا *** لنا والغيث يمنح بالقطار
لقد ترك الزمان بني أبيه *** وقد غمرتهم سود البحار
أضاعوا شمسهم فجرت بنحس *** فصاروا في الظلام بلا نهار
وأجلوا عنهم قمرا منيرا *** وداستهم خيول بني الشرار
ولو كانوا لهم كفوا ومثلا *** إذا ما توجوا تيجان عار
ألا بان الإمام ووارثاه *** لقد ضرما الحشا منا بنار
وقالوا الخلد بيع فقلت ذلا *** يصير ببائعيه إلى صغار
كذاك الملك يتبع أوليه *** إذا قطع القرار من القرار

وقال مقدس بْن صيفي يرثيه:

خليلي ما أتتك به الخطوب *** فقد أعطتك طاعته النحيب
تدلت من شماريخ المنايا *** منايا ما تقوم لها القلوب
خلال مقابر البستان قبر *** يجاور قبره أسد غريب
لقد عظمت مصيبته على من *** له في كل مكرمة نصيب
على أمثاله العبرات تذرى *** وتهتك في مآتمه الجيوب
وما اذخرت زبيدة عنه دمعا *** تخص به النسيبة والنسيب
دعوا موسى ابنه لبكاء دهر *** على موسى ابنه دخل الحزيب
رأيت مشاهد الخلفاء منه *** خلاء ما بساحتها مجيب
ليهنك أنني كهل عليه *** أذوب، وفي الحشا كبد تذوب
أصيب به البعيد فخر حزنا *** وعاين يومه فيه المريب
أنادي من بطون الأرض شخصا *** يحركه النداء فما يجيب
لئن نعت الحروب إليه نفسا *** لقد فجعت بمصرعه الحروب

وقال خزيمة بْن الحسن يرثيه على لسان أم جعفر:

لخير إمام قام من خير عنصر *** وأفضل سام فوق أعواد منبر
لوارث علم الأولين وفهمهم *** وللملك المأمون من أم جعفر
كتبت وعيني مستهل دموعها *** إليك ابن عمي من جفوني ومحجري
وقد مسني ضر وذل كابه *** وارق عيني يا بن عمي تفكري
وهمت لما لاقيت بعد مصابه *** فأمري عظيم منكر جد منكر
سأشكو الذي لاقيته بعد فقده *** إليك شكاة المستهام المقهر
وأرجو لما قد مر بي مذ فقدته *** فأنت لبثي خير رب مغير
أتى طاهر لا طهر الله طاهرا *** فما طاهر فيما أتى بمطهر
فأخرجني مكشوفة الوجه حاسرا *** وأنهب أموالي وأحرق آدري
يعز على هارون ما قد لقيته *** وما مر بي من ناقص الخلق أعور
فإن كان ما أسدى بأمر أمرته *** صبرت لأمر من قدير مقدر
تذكر أمير المؤمنين قرابتي *** فديتك من ذي حرمة متذكر

وقال أيضا يرثيه:

سبحان ربك رب العزة الصمد *** ماذا أصبنا به في صبحة الأحد
وما أصيب به الإسلام قاطبة *** من التضعضع في ركنيه والاود
من لم يصب بأمير المؤمنين ولم *** يصبح بمهلكة والهم في صعد
فقد أصبت به حتى تبين في *** عقلي وديني وفي دنياى والجسد
يا ليلة يشتكي الإسلام مدتها *** والعالمون جميعا آخر الأبد
غدرت بالملك الميمون طائره *** وبالإمام وبالضرغامة الأسد
سارت إليه المنايا وهي ترهبه *** فواجهته بأوغاد ذوي عدد
بشورجين واغتام يقودهم *** قريش بالبيض في قمص من الزرد
فصادفوه وحيدا لا معين له *** عليهم غائب الأنصار بالمدد
فجرعوه المنايا غير ممتنع *** فردا فيا لك من مستسلم فرد
يلقى الوجوه بوجه غير مبتذل *** ابهى وانقى من القوهية الجدد
وا حسرتا وقريش قد أحاط به *** والسيف مرتعد في كف مرتعد
فما تحرك بل ما زال منتصبا *** منكس الرأس لم يبدي ولم يعد
حتى إذا السيف وافى وسط مفرقه *** أذرته عنه يداه فعل متئد
وقام فاعتلقت كفاه لبته *** كضيغم شرس مستبسل لبد
فاحتزه ثم أهوى فاستقل به *** للأرض من كف ليث محرج حرد
فكاد يقتله لو لم يكاثره *** وقام منفلتا منه ولم يكد
هذا حديث أمير المؤمنين وما *** نقصت من أمره حرفا ولم أزد
لا زلت أندبه حتى الممات وإن *** أخنى عليه الذي أخنى على لبد

وذكر عن الموصلي أنه قَالَ: لما بعث طاهر برأس محمد إلى المأمون بكى ذو الرياستين، وقال: سل علينا سيوف الناس والسنتهم، أمرناه أن يبعث به أسيرا فبعث به عقيرا! وقال له المأمون: قد مضى ما مضى فاحتل في الاعتذار منه، فكتب الناس فأطالوا، وجاء أحمد بْن يوسف بشبر من قرطاس فيه:
أما بعد، فإن المخلوع كان قسيم أمير المؤمنين في النسب واللحمة، وقد فرق الله بينه وبينه في الولاية والحرمه، لمفارقته عصم الدين، وخروجه من الأمر الجامع للمسلمين، يقول الله عز وجل حين اقتص علينا نبأ ابن نوح: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ} [هود: 46]، فلا طاعة لأحد في معصية الله، ولا قطيعة إذا كانت القطيعة في جنب الله وكتابي إلى أمير المؤمنين وقد قتل الله المخلوع، ورداه رداء نكثه، وأحصد لأمير المؤمنين أمره، وأنجز له وعده، وما ينتظر من صادق وعده حين رد به الإلفة بعد فرقتها، وجمع الأمة بعد شتاتها، وأحيا به أعلام الإسلام بعد دروسها.

ذكر الخبر عن بعض سير المخلوع محمد بْن هارون
ذكر عن حميد بْن سعيد، قَالَ: لما ملك محمد، وكاتبه المأمون، وأعطاه بيعته، طلب الخصيان وابتاعهم، وغالى بهم، وصيرهم لخلوته في ليله ونهاره، وقوام طعامه وشرابه، وأمره ونهيه، وفرض لهم فرضا سماهم الجرادية، وفرضا من الحبشان سماهم الغرابية، ورفض النساء الحرائر والإماء حتى رمى بهن، ففي ذلك يقول بعضهم:

ألا يا مزمن المثوى بطوس *** عزيبا ما يفادى بالنفوس
لقد أبقيت للخصيان بعلا *** تحمل منهم شؤم البسوس
فأما نوفل فالشأن فيه *** وفي بدر، فيا لك من جليس!
وما العصمي بشار لديه *** إذا ذكروا بذي سهم خسيس
وما حسن الصغير أخس حالا *** لديه عند مخترق الكئوس
لهم من عمره شطر وشطر *** يعاقر فيه شرب الخندريس
وما للغانيات لديه حظ *** سوى التقطيب بالوجه العبوس
إذا كان الرئيس كذا سقيما *** فكيف صلاحنا بعد الرئيس!
فلو علم المقيم بدار طوس *** لعز على المقيم بدار طوس

قَالَ حميد: ولما ملك محمد وجه إلى جميع البلدان في طلب الملهين وضمهم إليه، وأجرى لهم الأرزاق، ونافس في ابتياع فره الدواب، وأخذ الوحوش والسباع والطير وغير ذلك، واحتجب عن إخوته وأهل بيته وقواده، واستخف بهم، وقسم ما في بيوت الأموال وما بحضرته من الجوهر في خصيانه وجلسائه ومحدثيه، وحمل إليه ما كان في الرقة من الجوهر والخزائن والسلاح، وأمر ببناء مجالس لمتنزهاته ومواضع خلوته ولهوه ولعبه بقصر الخلد والخيزرانية وبستان موسى وقصر عبدويه وقصر المعلى ورقة كلواذى وباب الأنبار وبناورى والهوب، وأمر بعمل خمس حراقات في دجلة على خلقة الأسد والفيل والعقاب والحية والفرس، وأنفق في عملها مالا عظيما، فقال أبو نواس يمدحه:

سخر الله للأمين مطايا *** لم تسخر لصاحب المحراب
فإذا ما ركابه سرن برا *** سار في الماء راكبا ليث غاب
أسدا باسطا ذراعيه يهوى *** اهرت الشدق كالح الأنياب
لا يعانيه باللجام ولا السوط *** ولا غمز رجله في الركاب
عجب الناس إذ رأوك على صورة *** ليث تمر مر السحاب
سبحوا إذ رأوك سرت عليه *** كيف لو أبصروك فوق العقاب
ذات زور ومنسر وجناحين *** تشق العباب بعد العباب
تسبق الطير في السماء إذا ما *** استعجلوها بجيئة وذهاب
بارك الله للأمير وأبقاه *** وأبقى له رداء الشباب
ملك تقصر المدائح عنه *** هاشمي موفق للصواب

وذكر عن الحسين بْن الضحاك، قَالَ: ابتنى الأمير سفينة عظيمة، أنفق عليها ثلاثة آلاف ألف درهم، واتخذ أخرى على خلقة شيء يكون في البحر يقال له الدلفين، فقال في ذلك أبو نواس الحسن بن هانئ:

قد ركب الدلفين بدر الدجى *** مقتحما في الماء قد لججا
فأشرقت دجلة في حسنه *** واشرق الشطان واستبهجا
لم تر عيني مثله مركبا *** أحسن ان سار وان احنجا
إذا استحثثته مجاديفه *** أعنق فوق الماء أو هملجا
خص به الله الأمين الذي *** أضحى بتاج الملك قد توجا

وذكر عن أحمد بْن إسحاق بْن برصوما المغني الكوفي أنه قَالَ: كان العباس بْن عبد الله بْن جعفر بْن أبي جعفر من رجالات بني هاشم جلدا وعقلا وصنيعا، وكان يتخذ الخدم، وكان له خادم من آثر خدمه عنده يقال له منصور، فوجد الخادم عليه، فهرب إلى محمد، وأتاه وهو بقصر أم جعفر المعروف بالقرار، فقبله محمد أحسن قبول، وحظي عنده حظوة عجيبة.
قَالَ: فركب الخادم يوما في جماعة خدم كانوا لمحمد يقال لهم السيافة، فمر بباب العباس بْن عبد الله، يريد بذلك أن يري خدم العباس هيئته وحاله التي هو عليها وبلغ ذلك الخبر العباس، فخرج محضرا في قميص حاسرا، في يده عمود عليه كيمخت، فلحقه في سويقة أبي الورد، فعلق بلجامه، ونازعه أولئك الخدم، فجعل لا يضرب أحدا منهم إلا أوهنة، حتى تفرقوا عنه، وجاء به يقوده حتى أدخله داره وبلغ الخبر محمدا، فبعث إلى داره جماعه، فوقفوا حيالها، وصف العباس غلمانه ومواليه على سور داره، ومعهم الترسه والسهام، فقام أحمد بْن إسحاق: فخفنا والله النار أن تحرق منازلنا، وذلك أنهم أرادوا أن يحرقوا دار العباس قَالَ: وجاء رشيد الهاروني، فاستأذن عليه فدخل إليه، فقال: ما تصنع! أتدري ما أنت فيه وما قد جاءك! لو أذن لهم لاقتلعوا دارك بالأسنة، ألست في الطاعة! قَالَ: بلى، قَالَ: فقم فاركب قَالَ: فخرج في سواده، فلما صار على باب داره، قَالَ: يا غلام، هلم دابتي فقال رشيد: لا ولا كرامة! ولكن تمضي راجلا قَالَ: فمضى، فلما صار إلى الشارع نظر، فإذا العالمون قد جاءوا، وجاءه الجلودي والإفريقي وأبو البط وأصحاب الهرش قَالَ: فجعل ينظر إليهم، وأنا أراه راجلا ورشيد راكب قَالَ: وبلغ أم جعفر الخبر، فدخلت على محمد، وجعلت تطلب إلى محمد، فقال لها: نفيت من قرابتي من رسول الله ص إن لم أقتله! وجعلت تلح عليه، فقال لها: والله إني لأظنني سأسطو بك قَالَ: فكشفت شعرها، وقالت: ومن يدخل علي وأنا حاسر! قَالَ: فبينا محمد كذلك- ولم يأت العباس بعد- إذ قدم صاعد الخادم عليه بقتل علي بْن عيسى بْن ماهان، فاشتغل بذلك، وأقام العباس في الدهليز عشرة أيام، ونسيه ثم ذكره، فقال: يحبس في حجرة من حجر داره، ويدخل عليه ثلاثة رجال من مواليه من مشايخهم يخدمونه، ويجعل له وظيفة في كل يوم ثلاثة ألوان قَالَ: فلم يزل على هذه الحال حتى خرج حسين بْن علي بْن عيسى بْن ماهان، ودعا إلى المأمون، وحبس محمد قَالَ: فمر إسحاق بْن عيسى بْن علي ومحمد بْن محمد المعبدي بالعباس بْن عبد الله وهو في منظرة، فقالا له: ما قعودك؟ اخرج إلى هذا الرجل- يعنيان حسين بْن علي- قَالَ: فخرج فأتى حسينا، ثم وقف عند باب الجسر، فما ترك لأم جعفر شيئا من الشتم إلا قاله، وإسحاق بْن موسى يأخذ البيعة للمأمون قَالَ: ثم لم يكن إلا يسيرا حتى قتل الحسين، وهرب العباس الى نهر بين إلى هرثمة، ومضى ابنه الفضل بْن العباس إلى محمد، فسعى إليه بما كان لأبيه، ووجه محمد إلى منزله، فأخذ منه أربعة آلاف الف درهم وثلاثمائة ألف دينار، وكانت في قماقم في بئر، وأنسوا قمقمين من تلك القماقم، فقال: ما بقي من ميراث أبي سوى هذين القمقمين، وفيهما سبعون ألف دينار.
فلما انقضت الفتنة وقتل محمد رجع إلى منزله فأخذ القمقمين وجعلهما.
وحج في تلك السنه، وهي سنه ثمان وتسعين ومائة.
قَالَ أحمد بْن إسحاق: وكان العباس بْن عبد الله يحدث بعد ذلك، فيقول: قَالَ لي سليمان بْن جعفر ونحن في دار المأمون: أما قتلت ابنك بعد؟
فقلت: يا عم، جعلت فداك! ومن يقتل ابنه! فقال لي: اقتله، فهو الذي سعى بك وبمالك فأفقرك.
وذكر عن أحمد بْن إسحاق بْن برصوما، قَالَ: لما حصر محمد وضغطه الأمر، قَالَ: ويحكم! ما أحد يستراح إليه! فقيل له: بلى، رجل من العرب من أهل الكوفة، يقال له وضاح بْن حبيب بْن بديل التميمي، وهو بقية من بقايا العرب، وذو رأي أصيل، قَالَ: فأرسلوا إليه، قَالَ: فقدم علينا، فلما صار إليه قَالَ له: إني قد خبرت بمذهبك ورأيك، فأشر علينا في أمرنا، قَالَ له: يا أمير المؤمنين، قد بطل الرأي اليوم وذهب، ولكن استعمل الأراجيف، فإنها من آلة الحرب، فنصب رجلا كان ينزل دجيلا يقال له بكير بْن المعتمر، فكان إذا نزلت بمحمد نازلة وحادثة هزيمة قَالَ له:
هات، فقد جاءنا نازلة، فيضع له الأخبار، فإذا مشى الناس تبينوا بطلانها.
قَالَ أحمد بْن إسحاق: كأني أنظر إلى بكير بْن المعتمر شيخ عظيم الخلق.
وذكر عن العباس بْن أحمد بْن أبان الكاتب، قَالَ: حدثنا إبراهيم بْن الجراح، قَالَ: حدثني كوثر، قَالَ: أمر محمد بن زبيدة يوما أن يفرش له على دكان في الخلد، فبسط له عليه بساط زرعي، وطرحت عليه نمارق وفرش مثله، وهيئ له من آنية الفضة والذهب والجوهر أمر عظيم، وامر قيمه جواريه ان تهيئ له مائة جارية صانعة، فتصعد إليه عشرا عشرا، بأيديهن العيدان يغنين بصوت واحد، فأصعدت إليه عشرا، فلما استوين على الدكان اندفعن فغنين:

هم قتلوه كي يكونوا مكانه *** كما غدرت يوما بكسرى مرازبه

قَالَ: فتأفف من هذا، ولعنها ولعن الجواري، فأمر بهن فأنزلن، ثم لبث هنيهة وأمرها أن تصعد عشرا، فلما استوين على الدكان اندفعن فغنين:

من كان مسرورا بمقتل مالك *** فليأت نسوتنا بوجه نهار
يجد النساء حواسرا يندبنه *** يلطمن قبل تبلج الأسحار

قَالَ: فضجر وفعل مثل فعلته الأولى، وأطرق طويلا، ثم قَالَ:
أصعدي عشرا، فأصعدتهن، فلما وقفن على الدكان، اندفعن يغنين بصوت واحد:

كليب لعمري كان أكثر ناصرا *** وأيسر ذنبا منك ضرج بالدم

قَالَ: فقام من مجلسه، وأمر بهدم ذلك المكان تطيرا مما كان.
وذكر عن محمد بْن عبد الرحمن الكندي، قَالَ: حدثني محمد بْن دينار، قَالَ: كان محمد المخلوع قاعدا يوما، وقد اشتد عليه الحصار، فاشتد اغتمامه، وضاق صدره، فدعا بندمائه والشراب ليتسلى به، فأتى به، وكانت له جارية يتحظاها من جواريه، فأمرها أن تغني، وتناول كأسا ليشربه، فحبس الله لسانها عن كل شيء، فغنت:

كليب لعمري كان أكثر ناصرا *** وأيسر ذنبا منك ضرج بالدم

فرماها بالكأس الذي في يده، وأمر بها فطرحت للأسد، ثم تناول كأسا
أخرى، ودعا بأخرى فغنت:

هم قتلوه كي يكونوا مكانه *** كما غدرت يوما بكسرى مرازبه

فرمى وجهها بالكأس، ثم تناول كأسا أخرى ليشربها، وقال لأخرى:
غني، فغنت:
قومي هم قتلوا اميم أخي قال: فرمى وجهها بالكأس، ورمى الصينية برجله، وعاد إلى ما كان فيه من همه، وقتل بعد ذلك بأيام يسيرة.
وذكر عن أبي سعيد أنه قَالَ: ماتت فطيم- وهي أم موسى بْن محمد بْن هارون المخلوع- فجزع عليها جزعا شديدا، وبلغ أم جعفر، فقالت: احملوني إلى أمير المؤمنين، قَالَ: فحملت إليه، فاستقبلها، فقال: يا سيدتي، ماتت فطيم، فقالت:

نفسي فداؤك لا يذهب بك اللهف *** ففي بقائك ممن قد مضى خلف
عوضت موسى فهانت كل مرزئة *** ما بعد موسى على مفقودة أسف

وقالت: أعظم الله أجرك، ووفر صبرك، وجعل العزاء عنها ذخرك! وذكر عن إبراهيم بْن إسماعيل بْن هانئ، ابن أخي أبي نواس، قَالَ:
حدثني أبي قَالَ: هجا عمك أبو نواس مضر في قصيدته التي يقول فيها:

أما قريش فلا افتخار لها *** إلا التجارات من مكاسبها
وأنها إن ذكرت مكرمة *** جاءت قريش تسعى بغالبها
إن قريشا إذا هي انتسبت *** كان لها الشطر من مناسبها

قَالَ: يريد أن أكرمها يغالب قَالَ: فبلغ ذلك الرشيد في حياته، فأمر بحبسه، فلم يزل محبوسا حتى ولي محمد، فقال يمدحه، وكان انقطاعه إليه أيام إمارته، فقال:

تذكر أمين الله والعهد يذكر *** مقامي وإنشاديك والناس حضر
ونثري عليك الدر يا در هاشم *** فيأمن رأى درا على الدر ينثر!
أبوك الذي لم يملك الأرض مثله *** وعمك موسى عدله المتخير
وجدك مهدي الهدى وشقيقه *** أبو أمك الأدنى أبو الفضل جعفر
وما مثل منصوريك: منصور هاشم *** ومنصور قحطان إذا عد مفخر
فمن ذا الذي يرمي بسهميك في العلا *** وعبد مناف والداك وحمير

قَالَ: فتغنت بهذه الأبيات جارية بين يدي محمد، فقال لها: لمن الأبيات؟ فقيل له: لأبي نواس، فقال: وما فعل؟ فقيل له: محبوس، فقال: ليس عليه بأس قَالَ: فبعث إليه إسحاق بْن فراشة وسعيد بْن جابر أخا محمد من الرضاعة، فقالا: إن أمير المؤمنين ذكرك البارحة فقال:
ليس عليه بأس، فقال أبياتا، وبعث بها إليه، وهي هذه الأبيات:

أرقت وطار عن عيني النعاس *** ونام السامرون ولم يؤاسوا
أمين الله قد ملكت ملكا *** عليك من التقى فيه لباس
ووجهك يستهل ندى فيحيا *** به في كل ناحية أناس
كأن الخلق في تمثال روح *** له جسد وأنت عليه راس
أمين الله إن السجن بأس *** وقد أرسلت: ليس عليك باس

فلما أنشده قَالَ: صدق، علي به، فجيء به في الليل، فكسرت قيوده، وأخرج حتى أدخل عليه، فأنشأ يقول:

مرحبا مرحبا بخير إمام *** صيغ من جوهر الخلافة نحتا
يا أمين الإله يكلؤك الله *** مقيما وظاعنا حيث سرتا
إنما الأرض كلها لك دار *** فلك الله صاحب حيث كنتا

قَالَ: فخلع عليه، وخلى سبيله، وجعله في ندمائه.
وذكر عن عبد الله بْن عمرو التميمي، قَالَ: حدثني أحمد بْن إبراهيم الفارسي، قَالَ: شرب أبو نواس الخمر، فرفع ذلك إلى محمد في أيامه، فأمر بحبسه، فحبسه الفضل بْن الربيع ثلاثة أشهر، ثم ذكره محمد، فدعا به وعنده بنو هاشم وغيرهم، ودعا له بالسيف والنطع يهدده بالقتل، فأنشده أبو نواس هذه الأبيات:
تذكر أمين الله والعهد يذكر الشعر الذي ذكرناه قبل، وزاد فيه:

تحسنت الدنيا بحسن خليفة *** هو البدر إلا أنه الدهر مقمر
إمام يسوس الناس سبعين حجة *** عليه له منها لباس ومئزر
يشير إليه الجود من وجناته *** وينظر من أعطافه حين ينظر
أيا خير مأمول يرجى، أنا امرؤ *** رهين أسير في سجونك مقفر
مضى أشهر لي مذ حبست ثلاثة *** كأني قد أذنبت ما ليس يغفر
فإن كنت لم أذنب ففيم تعقبي! *** وإن كنت ذا ذنب فعفوك أكثر

قَالَ: فقال له محمد: فإن شربتها؟ قَالَ: دمي لك حلال يا أمير المؤمنين، فأطلقه قَالَ: فكان أبو نواس يشمها ولا يشربها وهو قوله:

لا أذوق المدام إلا شميما

وذكر عن مسعود بْن عيسى العبدي، قَالَ: أخبرني يحيى بْن المسافر القرقسائي، قَالَ: أخبرني دحيم غلام أبي نواس، أن أبا نواس عتب عليه محمد في شرب الخمر، فطبق به- وكان للفضل بْن الربيع خال يستعرض أهل السجون ويتعاهدهم ويتفقدهم- ودخل في حبس الزنادقة، فرأى فيه أبا نواس- ولم يكن يعرفه- فقال له: يا شاب، أنت مع الزنادقة! قَالَ:
معاذ الله، قَالَ: فلعلك ممن يعبد الكبش! قَالَ: أنا آكل الكبش بصوفه، قَالَ: فلعلك ممن يعبد الشمس؟ قَالَ: إني لأتجنب القعود فيها بغضا لها، قَالَ: فبأي جرم حبست؟ قَالَ: حبست بتهمة أنا منها بريء، قَالَ: ليس إلا هذا؟ قَالَ: والله لقد صدقتك قَالَ: فجاء إلى الفضل، فقال له:
يا هذا، لا تحسنون جوار نعم الله عز وجل! أيحبس الناس بالتهمة! قَالَ: وما ذاك؟ فأخبره بما ادعى من جرمه، فتبسم الفضل، ودخل على محمد، فأخبره بذلك، فدعا به، وتقدم إليه أن يجتنب الخمر والسكر، قَالَ:
نعم، قيل له: فبعهد الله! قَالَ: نعم، قَالَ: فأخرج، فبعث إليه فتيان من قريش فقال لهم: إني لا أشرب، قالوا: وإن لم تشرب فآنسنا بحديثك، فأجاب، فلما دارت الكأس بينهم، قالوا: ألم ترتح لها؟ قال: لا سبيل والله الى شربها، وأنشأ يقول:

أيها الرائحان باللوم لوما *** لا أذوق المدام إلا شميما
نالني بالملام فيها إمام *** لا أرى في خلافه مستقيما
فاصرفاها إلى سواي فإني *** لست إلا على الحديث نديما
إن حظي منها إذا هي دارت *** أن أراها وأن أشم النسيما
فكأني وما أحسن منها *** قعدي يزين التحكيما
كل عن حملة السلاح إلى الحرب *** فأوصى المطيق ألا يقيما

وذكر عن أبي الورد السبعي أنه قَالَ: كنت عند الفضل بْن سهل بخراسان، فذكر الأمين، فقال: كيف لا يستحل قتال محمد وشاعره يقول في مجلسه:

ألا سقني خمرا وقل لي هي الخمر *** ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر

قَالَ: فبلغت القصة محمدا، فأمر الفضل بْن الربيع فأخذ أبا نواس فحبسه وذكر كامل بْن جامع عن بعض أصحاب أبي نواس ورواته، قَالَ:
كان أبو نواس قَالَ أبياتا بلغت الأمين في آخرها:

وقد زادني تيها على الناس أنني *** أراني أغناهم إذا كنت ذا عسر
ولو لم أنل فخرا لكانت صيانتي *** فمي عن جميع الناس حسبي من الفخر
ولا يطمعن في ذاك مني طامع *** ولا صاحب التاج المحجب في القصر

قَالَ: فبعث إليه الأمين- وعنده سليمان بْن أبي جعفر- فلما دخل عليه، قَالَ: يا عاض بظر أمه العاهره! يا بن اللخناء- وشتمه أقبح الشتم- أنت تكسب بشعرك أوساخ أيدي اللئام، ثم تقول:
ولا صاحب التاج المحجب في القصر.
أما والله لا نلت مني شيئا أبدا فقال له سليمان بْن أبي جعفر: والله يا أمير المؤمنين، وهو من كبار الثنوية، فقال محمد: هل يشهد عليه بذلك شاهد؟
فاستشهد سليمان جماعة، فشهد بعضهم أنه شرب في يوم مطير، ووضع قدحه تحت السماء، فوقع فيه القطر، وقال: يزعمون أنه ينزل مع كل قطرة ملك، فكم ترى أني أشرب الساعة من الملائكة! ثم شرب ما في القدح، فأمر محمد بحبسه، فقال أبو نواس في ذلك:

يا رب إن القوم قد ظلموني *** وبلا اقتراف تعطل حبسوني
وإلى الجحود بما عرفت خلافه *** مني إليه بكيدهم نسبوني
ما كان إلا الجري في ميدانهم *** في كل جري والمخافة ديني
لا العذر يقبل لي فيفرق شاهدي *** منهم ولا يرضون حلف يميني
ولكان كوثر كان أولى محبسا *** في دار منقصة ومنزل هون
أما الأمين فلست أرجو دفعه *** عني، فمن لي اليوم بالمأمون!

قَالَ: وبلغت المأمون أبياته، فقال: والله لئن لحقته لأغنينه غنى لا يؤمله، قَالَ: فمات قبل دخول المأمون مدينة السلام.
قَالَ: ولما طال حبس أبي نواس، قَالَ في حبسه- فيما ذكر- عن دعامة:

احمدوا الله جميعا *** يا جميع المسلمينا
ثم قولوا لا تملوا *** ربنا أبق الأمينا
صير الخصيان حتى *** صير التعنين دينا
فاقتدى الناس جميعا *** بأمير المؤمنينا

قَالَ: وبلغت هذه الأبيات أيضا المأمون وهو بخراسان، فقال: إني لأتوكفه أن يهرب إلي.
وذكر يعقوب بْن إسحاق، عمن حدثه، عن كوثر خادم المخلوع، أن محمدا أرق ذات ليلة، وهو في حربه مع طاهر، فطلب من يسامره فلم يقرب إليه أحد من حاشيته، فدعا حاجبه، فقال: ويلك! قد خطرت بقلبي خطرات فأحضرني شاعرا ظريفا أقطع به بقية ليلتي، فخرج الحاجب، فاعتمد أقرب من بحضرته، فوجد أبا نواس، فقال له: أجب أمير المؤمنين، فقال له: لعلك أردت غيري! قَالَ: لم أرد أحدا سواك فأتاه به، فقال: من أنت؟ قَالَ: خادمك الحسن بْن هانئ، وطليقك بالأمس، قَالَ: لا ترع، إنه عرضت بقلبي أمثال أحببت أن تجعلها في شعر، فإن فعلت ذلك أجزت حكمك فيما تطلب، فقال: وما هي يا أمير المؤمنين؟ قَالَ: قولهم: عفا الله عما سلف، وبئس والله ما جرى فرسي، واكسري عودا على أنفك، وتمنعي أشهى لك قَالَ: فقال أبو نواس حكمي أربع وصائف مقدودات، فأمر بإحضارهن، فقال:

فقدت طول اعتلالك *** وما أرى في مطالك
لقد اردت جفائى *** وقد اردت وصالك
ماذا أردت بهذا! *** تمنعي أشهى لك

وأخذ بيد وصيفة فعزلها، ثم قَالَ:

قد صحت الأيمان من حلفك *** وصحت حتى مت من خلفك
بالله يا ستي احنثي مرة *** ثم اكسري عودا على أنفك

ثم عزل الثانية، ثم قَالَ:

فديتك ماذا الصلف *** وشتمك أهل الشرف!
صلى عاشقا مدنفا *** قد أعتب مما اقترف
ولا تذكري ما مضى *** عفا الله عما سلف

ثم عزل الثالثة، وقال:

وباعثات إلي في الغلس *** أن ائتنا واحترس من العسس
حتى إذا نوم العداة ولم *** أخش رقيبا ولا سنا قبس
ركبت مهري وقد طربت إلى *** حور حسان نواعم لعس
فجئت والصبح قد نهضت له *** فبئس والله ما جرى فرسي

فقال: خذهن لا بارك الله لك فيهن! وذكر عن الموصلي، عن حسين خادم الرشيد، قَالَ: لما صارت الخلافة إلى محمد هيئ له منزل من منازله على الشط، بفرش أجود ما يكون من فرش الخلافة وأسواه، فقال: يا سيدي، لم يكن لأبيك فرش يباهي به الملوك والوفود الذين يردون عليه أحسن من هذا، فأحببت أن أفرشه لك، قَالَ: فأحببت أن يفرش لي في أول خلافتي المردراج، وقال: مزقوه، قَالَ: فرأيت والله الخدم والفراشين قد صيروه ممزقا وفرقوه.
وذكر عن محمد بْن الحسن، قَالَ: حدثني أحمد بْن محمد البرمكي أن إبراهيم بن المهدى غنى محمد بن زبيده:

 هجرتك حتى قيل لا يعرف القلى *** وزرتك حتى قيل ليس له صبر

فطرب محمد، وقال: أوقروا زورقه ذهبا.
وذكر عن علي بْن محمد بْن إسماعيل، عن مخارق، قَالَ: انى لعند محمد بن زبيدة يوما ماطرا، وهو مصطبح، وأنا جالس بالقرب منه، وأنا أغني وليس معه أحد، وعليه جبة وشي، لا والله ما رأيت أحسن منها فأقبلت أنظر إليها، فقال: كأنك استحسنتها يا مخارق! قلت: نعم يا سيدي، عليك لأن وجهك حسن فيها، فأنا أنظر إليه وأعوذك قَالَ: يا غلام، فأجابه الخادم، قَالَ: فدعا بجبة غير تلك، فلبسها وخلع التي عليه علي، ومكثت هنيهة ثم نظرت إليه، فعاودني بمثل ذلك الكلام، وعاودته، فدعا بأخرى حتى فعل ذلك بثلاث جباب ظاهرت بينها قَالَ: فلما رآها علي ندم وتغير وجهه، وقال: يا غلام، اذهب إلى الطباخين فقل لهم: يطبخوا لنا مصليه، ويجيدوا صنعتها، وأتني بها الساعة، فما هو إلا أن ذهب الغلام حتى جاء الخوان، وهو لطيف صغير، في وسطه غضارة ضخمة ورغيفان، فوضعت بين يديه، فكسر لقمة فأهوى بها إلى الصحيفة، ثم قَالَ: كل يا مخارق، قلت: يا سيدي، أعفني من الأكل، قَالَ: لست أعفيك فكل، فكسرت لقمة، ثم تناولت شيئا، فلما وضعته في فمي، قَالَ: لعنك الله! ما أشرهك! نغصتها علي وأفسدتها، وأدخلت يدك فيها، ثم رفع الغضارة بيده، فإذا هي في حجري، وقال: قم لعنك الله! فقمت، وذاك الودك والمرق يسيل من الجباب، فخلعتها وأرسلت بها الى منزلي، ودعوت القصارين والوشاءين، فجهدت جهدي أن تعود كما كانت فما عادت.
وذكر عن البحتري أبي عبادة، عن عبيد الله بْن أبي غسان، قَالَ: كنت عند محمد في يوم شات شديد البرد، وهو في مجلس له مفرد مفروش بفرش، قلما رأيت أرفع قيمة مثله ولا أحسن، وأنا في ذلك اليوم طاو ثلاثة أيام ولياليهن إلا من النبيذ، والله لا أستطيع أن أتكلم ولا أعقل، فنهض نهضة البول، فقلت لخادم من خدم الخاصة: ويلك! قد والله مت، فهل من حيلة إلى شيء تلقيه في جوفي يبرد عني ما أنا فيه! فقال: دعني حتى أحتال لك وأنظر ما أقول، وصدق مقالتي، فلما رجع محمد وجلس نظر الخادم إلي نظرة، فتبسم، فرآه محمد، فقال: مم تبسمت؟ قَالَ: لا شيء يا سيدي، فغضب قَالَ البحتري: فقال: شيء في عبيد الله بْن أبي غسان، لا يستطيع أن يشم رائحة البطيخ ولا يأكله، ويجزع منه جزعا شديدا فقال: يا عبيد الله هذا فيك؟ قَالَ: قلت: إي والله يا سيدي، ابتليت به، قَالَ: ويحك! مع طيب البطيخ وطيب ريحه! قَالَ: فقلت: أنا كذا، قَالَ: فتعجب ثم قَالَ: علي ببطيخ، فأتى منه بعدة، فلما رأيته أظهرت القشعريرة منه، وتنحيت قَالَ: خذوه، وضعوا البطيخ بين يديه، قَالَ: فأقبلت أريه الجزع والاضطراب من ذلك، وهو يضحك، ثم قَالَ: كل واحدة، قَالَ:
فقلت: يا سيدي، تقتلني وترمي بكل شيء في جوفي وتهيج علي العلل، الله الله في! قَالَ: كل بطيخة ولك فرش هذا البيت، علي عهد الله بذلك وميثاقه، قلت: ما أصنع بفرش بيت، وأنا اموت ان أكلت! قَالَ: فتأبيت، وألح علي، وجاء الخادم بالسكاكين فقطعوا بطيخة، فجعلوا يحشونها في فمي، وأنا أصرخ وأضطرب، وأنا مع ذلك أبلع، وأنا أريه أني بكره أفعل ذلك وألطم رأسي، وأصيح وهو يضحك، فلما فرغت تحول إلى بيت آخر، ودعا الفراشين، فحملوا فرش ذلك البيت إلى منزلي، ثم عاودني في فرش ذلك البيت في بطيخة أخرى، ثم فعل كفعله الأول، وأعطاني فرش البيت، حتى أعطاني فرش ثلاثة أبيات، وأطعمني ثلاث بطيخات، قَالَ: وحسنت والله حالي، واشتد ظهري.
قَالَ: وكان منصور بْن المهدي يريه أنه ينصح له، فجاء وقد قام محمد يتوضأ، وعلمت ان محمدا سيعقبنى بشر ندامة على ما خرج من يديه، فأقبل علي منصور ومحمد غائب عن المجلس، وقد بلغه الخبر، فقال: يا بن الفاعلة، تخدع أمير المؤمنين، فتأخذ متاعه! والله لقد هممت أفعل وأفعل، فقلت: يا سيدي، قد كان ذاك، وكان السبب فيه كذا وكذا، فإن احببت ان تقتلني فتأثم فشأنك، وإن تفضلت فأهل لذلك أنت، ولست أعود قَالَ:
فإني أتفضل عليك قَالَ: وجاء محمد، فقال: افرشوا لنا على تلك البركة، ففرشوا له عليها، فجلس وجلسنا وهي مملوءة ماء، فقال: يا عم، اشتهيت أن اصنع شيئا، أرمي بعبيد الله إلى البركة وتضحك منه قَالَ: يا سيدي إن فعلت هذا قتلته لشدة برد الماء وبرد يومنا هذا، ولكني أدلك على شيء خيرت به، طيب، قَالَ: ما هو؟ قَالَ: تأمر به يشد في تخت، ويطرح على باب المتوضأ، ولا يأتي باب المتوضأ أحد إلا بال على رأسه فقال: طيب والله، ثم أتى بتخت فأمر فشددت فيه، ثم أمر فحملت والقيت على باب المتوضإ، وجاء الخدم فأرخوا الرباط عني، وأقبلوا يرونه أنهم يبولون علي وأنا أصرخ، فمكث بذلك ما شاء الله وهو يضحك ثم أمر بي فحللت وأريته أني تنظفت وأبدلت ثيابي وجاوزت عليه وذكر عن عبد الله بن العباس بن الفضل بْن الربيع عن أبيه وكان حاجب المخلوع- قَالَ: كنت قائما على رأسه، فأتي بغداء فتغدى وحده، وأكل أكلا عجيبا، وكان يوما يعد للخلفاء قبله على هيئة ما كان يهيأ لكل واحد منهم يأكل من كل طعام، ثم يؤتى بطعامه قَالَ: فأكل حتى فرغ ثم رفع رأسه إلى أبي العنبر- خادم كان لأمه- فقال: اذهب إلى المطبخ، فقل لهم يهيئون لي بزماورد، ويتركونه طوالا لا يقطعونه، ويكون حشوة شحوم الدجاج والسمن والبقل والبيض والجبن والزيتون والجوز، ويكثرون منه ويعجلونه، فما مكث إلا يسيرا حتى جاءوا به في خوان مربع، وقد جعل عليه البزماورد الطوال، على هيئة القبة العبد صمدية، حتى صير أعلاها بزماوردة واحدة، فوضع بين يديه، فتناول واحدة فأكلها، ثم لم يزل كذلك حتى لم يبق على الخوان شيئا.
وذكر عن علي بْن محمد أن جابر بْن مصعب حدثه، قَالَ: حدثني مخارق، قَالَ: مرت بي ليلة ما مرت بي مثلها قط، إني لفي منزلي بعد ليل، إذ أتاني رسول محمد- وهو خليفة- فركض بي ركضا، فانتهى بي إلى داره، فأدخلت فإذا إبراهيم بْن المهدي قد أرسل إليه كما أرسل إلي، فوافينا جميعا، فانتهى إلى باب مفض إلى صحن، فإذا الصحن مملوء شمعا من شمع محمد العظام، وكأن ذلك الصحن في نهار، وإذا محمد في كرج، وإذا الدار مملوءة وصائف وخدما، وإذا اللعابون يلعبون، ومحمد وسطهم في الكرج يرقص فيه، فجاءنا رسول يقول: قَالَ لكما: قوما في هذا الموضع على هذا الباب مما يلي الصحن، ثم ارفعا أصواتكما معبرا ومقصرا عن السورناي، واتبعاه في لحنة قَالَ: وإذا السورناي والجواري واللعابون في شيء واحد:
هذي دنانير تنساني واذكرها.
تتبع الزمار قال: فو الله ما زلت وإبراهيم قائمين نقولها، نشق بها حلوقنا حتى انفلق الصبح، ومحمد في الكرج ما يسأمه ولا يمله حتى أصبح يدنو منا، أحيانا نراه، وأحيانا يحول بيننا وبينه الجواري والخدم.
وذكر الحسين بْن فراس مولى بني هاشم، قَالَ: غزا الناس في زمان محمد على أن يرد عليهم الخمس، فرد عليهم، فأصاب الرجل ستة دنانير، وكان ذلك مالا عظيما.
وذكر عن ابن الإعرابي، قَالَ: كنت حاضر الفضل بْن الربيع، وأتي بالحسن بْن هانئ، فقال: رفع إلى أمير المؤمنين إنك زنديق، فجعل يبرأ من ذلك ويحلف، وجعل الفضل يكرر عليه، وسأله أن يكلم الخليفة فيه، ففعل وأطلقه، فخرج وهو يقول:

أهلي أتيتكم من القبر *** والناس محتبسون للحشر
لولا أبو العباس ما نظرت *** عيني إلى ولد ولا وفر
فالله ألبسني به نعما *** شغلت حسابتها يدي شكري
لقيتها من مفهم فهم *** فمددتها بأنامل عشر

وذكر عن الرياشي أن أبا حبيب الموشي حدثه، قال: كنت مع مؤنس ابن عمران، ونحن نريد الفضل بْن الربيع ببغداد، فقال لي مؤنس: لو دخلنا على أبي نواس! فدخلنا عليه السجن، فقال لمؤنس: يا أبا عمران، أين تريد؟
قَالَ: أردت أبا العباس الفضل بْن الربيع، قَالَ: فتبلغه رقعة أعطيكها؟
قَالَ: نعم، قَالَ: فأعطاه رقعة فيها:

ما من يد في الناس واحدة *** إلا أبو العباس مولاها
نام الثقات على مضاجعهم *** وسرى إلى نفسي فأحياها
قد كنت خفتك ثم أمنني *** من أن أخافك خوفك الله
فعفوت عني عفو مقتدر *** وجبت له نقم فألغاها

قَالَ: فكانت هذه الأبيات سبب خروجه من الحبس وذكر عن محمد بْن خلاد الشروي، قَالَ: حدثني أبي قَالَ: سمع محمد شعر أبي نواس وقوله:
ألا سقني خمرا وقل لي هي الخمر.
وقوله:

اسقنيها يا ذفافه *** مزة الطعم سلافه
ذل عندي من قلاها *** لرجاء أو مخافه
مثل ما ذلت وضاعت *** بعد هارون الخلافه

قَالَ: ثم أنشد له:

فجاء بها زيتية ذهبية *** فلم نستطع دون السجود لها صبرا

قَالَ: فحبسه محمد على هذا، وقال: إيه! أنت كافر، وأنت زنديق.
فكتب في ذلك إلى الفضل بْن الربيع:

أنت يا بن الربيع علمتني الخير *** وعودتنيه والخير عاده
فارعوى باطلي وأقصر جهلي *** وأظهرت رهبة وزهاده
لو تراني شبهت بي الحسن البصري *** في حال نسكه وقتاده
بركوع أزينه بسجود *** واصفرار مثل اصفرار الجراده
فادع بي لا عدمت تقويم مثلي *** فتأمل بعينك السجاده
لو رآها بعض المرائين يوما *** لاشتراها يعدها للشهاده.

خلافة المأمون عبد الله بْن هارون
وفي هذه السنة وضعت الحرب- بين محمد وعبد الله ابنى هارون الرشيد- أوزارها، واستوسق الناس بالمشرق والعراق والحجاز لعبد الله المأمون بالطاعة.
وفيها خرج الحسن بن الهرش في ذي الحجة منها يدعو إلى الرضى من آل محمد- بزعمه- في سفلة الناس، وجماعة كثيرة من الأعراب، حتى أتى النيل، فجبى الأموال، وأغار على التجار، وانتهب القرى، واستاق المواشي.
وفيها ولى المأمون كل ما كان طاهر بْن الحسين افتتحه من كور الجبال وفارس والأهواز والبصرة والكوفة والحجاز واليمن الحسن بن سهل أخا الفضل ابن سهل، وذلك بعد مقتل محمد المخلوع ودخول الناس في طاعة المأمون.
وفيها كتب المأمون إلى طاهر بْن الحسين، وهو مقيم ببغداد بتسليم جميع ما بيده من الأعمال في البلدان كلها إلى خلفاء الحسن بْن سهل، وأن يشخص عن ذلك كله إلى الرقة، وجعل إليه حرب نصر بْن شبث وولاه الموصل والجزيرة والشام والمغرب.
وفيها قدم علي بْن أبي سعيد العراق خليفة للحسن بْن سهل على خراجها، فدافع طاهر عليا بتسليم الخراج إليه، حتى وفى الجند أرزاقهم، فلما وفاهم سلم إليه العمل.
وفيها كتب المأمون إلى هرثمة يأمره بالشخوص إلى خراسان.
وحج بالناس في هذه السنة العباس بْن موسى بْن عيسى بْن موسى بْن محمد بن على.