223 هـ
837 م
سنة ثلاث وعشرين ومائتين (ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث)

ذكر خبر قدوم الافشين ببابك على المعتصم، فمن ذلك قدوم الأفشين على المعتصم ببابك وأخيه، ذكر أن قدومه عليه به كان ليلة الخميس …

لثلاث خلون من صفر بسامرا، وأن المعتصم كان يوجه إلى الأفشين كل يوم من حين فصل من برزند إلى أن وافى سامرا فرسا وخلعة، وأن المعتصم لعنايته بأمر بابك وأخباره ولفساد الطريق بالثلج وغيره، جعل من سامرا إلى عقبة حلوان خيلا مضمرة، على رأس كل فرسخ فرسا معه مجر مرتب، فكان يركض بالخبر ركضا حتى يؤديه من واحد إلى واحد، يدا بيد، وكان ما خلف حلوان إلى أذربيجان قد رتبوا فيه المرج، فكان يركض بها يوما أو يومين ثم تبدل ويصير غيرها، ويحمل عليها غلمان من أصحاب المرج كل دابة على رأس فرسخ، وجعل لهم ديادبة على رءوس الجبال بالليل والنهار، وأمرهم أن ينعروا إذا جاءهم الخبر، فإذا سمع الذي يليه النعير تهيأ فلا يبلغ إليه صاحبه الذي نعر حتى يقف له على الطريق، فيأخذ الخريطة منه، فكانت الخريطة تصل من عسكر الأفشين إلى سامرا في أربعة ايام وأقل، فلما صار الأفشين بقناطر حذيفة تلقاه هارون بن المعتصم وأهل بيت المعتصم، فلما صار الأفشين ببابك إلى سامرا أنزله الأفشين في قصره بالمطيرة، فلما كان في جوف الليل ذهب أحمد بن أبي دواد متنكرا، فرآه وكلمه، ثم رجع إلى المعتصم، فوصفه له، فلم يصبر المعتصم حتى ركب إليه بين الحائطين في الحير، فدخل إليه متنكرا، ونظر إليه وتأمله، وبابك لا يعرفه، فلما كان من غد قعد له المعتصم يوم اثنين أو خميس، واصطف الناس من باب العامة إلى المطيرة، وأراد المعتصم أن يشهره ويريه الناس، فقال: على أي شيء يحمل هذا؟ وكيف يشهر! فقال حزام: يا أمير المؤمنين، لا شيء أشهر من الفيل، فقال: صدقت، فأمر بتهيئة الفيل، وأمر به فجعل في قباء ديباج وقلنسوة سمور مدورة، وهو وحده، فقال محمد بن عبد الملك الزيات:

قد خضب الفيل كعاداته *** يحمل شيطان خراسان
والفيل لا تخضب أعضاؤه *** إلا لذي شأن من الشان

فاستشرفه الناس من المطيرة إلى باب العامة، فأدخل دار العامة إلى أمير المؤمنين، وأحضر جزارا ليقطع يديه ورجليه، ثم أمر أن يحضر سيافه، فخرج الحاجب من باب العامه، وهو ينادى: نودنود- وهو اسم سياف بابك- فارتفعت الصيحة بنودنود حتى حضر، فدخل دار العامة، فأمره أمير المؤمنين أن يقطع يديه ورجليه، فقطعهما فسقط، وأمر أمير المؤمنين بذبحه وشق بطن أحدهما، ووجه برأسه إلى خراسان، وصلب بدنه بسامرا عند العقبة، فموضع خشبته مشهور، وأمر بحمل أخيه عبد الله مع ابن شروين الطبري إلى إسحاق بن إبراهيم خليفته بمدينة السلام، وأمره بضرب عنقه، وأن يفعل به مثل ما فعل بأخيه، وصلبه، فلما صار به الطبري إلى البردان، نزل به ابن شروين في قصر البردان، فقال عبد الله أخو بابك لابن شروين: من أنت؟ فقال: ابن شروين ملك طبرستان، فقال: الحمد لله الذي وفق لي رجلا من الدهاقين يتولى قتلي قال: إنما يتولى قتلك هذا- وكان عنده نودنود، وهو الذي قتل بابك- فقال له: أنت صاحبي، وإنما هذا علج، فأخبرني، أأمرت ان تطعمني شيئا أم لا؟ قال: قل ما شئت، قال: اضرب لي فالوذجة، قال: فأمر فضربت له فالوذجة في جوف الليل، فأكل منها حتى تملأ، ثم قال: يا أبا فلان، ستعلم غدا أني دهقان إن شاء الله ثم قال: تقدر أن تسقيني نبيذا؟ قال: نعم، ولا تكثر، قال: فإني لا أكثر، قال: فأحضر أربعة أرطال خمر، فقعد فشربها على مهل إلى قريب من الصبح، ثم رحل في السحر، فوافى به مدينة السلام، ووافى به راس الجسر، وامر إسحاق ابن إبراهيم بقطع يديه ورجليه، فلم ينطق ولم يتكلم، وأمر بصلبه فصلب في الجانب الشرقي بين الجسرين بمدينة السلام وذكر عن طوق بن أحمد، أن بابك لما هرب صار إلى سهل بن سنباط فوجه الأفشين أبا سعيد وبو زباره، فأخذاه منه، فبعث سهل مع بابك بمعاوية ابنه إلى الأفشين، فأمر لمعاوية بمائة ألف درهم، وأمر لسهل بألف ألف درهم استخرجها له من أمير المؤمنين، ومنطقة مغرقة بالجوهر وتاج البطرقة، فبطرق سهل بهذا السبب، والذي كان عنده عبد الله أخو بابك عيسى بن يوسف المعروف بابن أخت اصطفانوس ملك البيلقان.
وذكر عن محمد بن عمران كاتب علي بن مر، قال: حدثني علي بن مر، عن رجل من الصعاليك يقال له مطر، قال: كان والله يا أبا الحسن بابك ابني، قلت: وكيف؟ قال: كنا مع ابن الرواد، وكانت أمه ترتوميذ العوراء من علوج ابن الرواد، فكنت انزل عليها، وكانت مصكة، فكانت تخدمني وتغسل ثيابي، فنظرت إليها يوما، فواثبتها بشبق السفر وطول الغربة، فأقررته في رحمها ثم قال: غبنا غيبة بعد ذلك، ثم قدمنا فإذا هي تطلبنى، فنزلت في منزل آخر، فصارت إلي يوما، فقالت: حين ملات بطنى تنزل هاهنا وتتركني! فأذاعت أنه مني، فقلت: والله لئن ذكرتني لأقتلنك، فأمسكت عني، فهو والله ابني.
وكان يجزي الأفشين في مقامه بإزاء بابك سوى الأرزاق، والأنزال والمعاون في كل يوم يركب فيه عشرة آلاف درهم.
وفي كل يوم لا يركب فيه خمسة آلاف درهم وكان جميع من قتل بابك في عشرين سنه مائتي الف وخمسه وخمسين ألفا وخمسمائة إنسان وغلب يحيى بن معاذ وعيسى بن محمد بن أبي خالد وأحمد بن الجنيد، وأسره وزريق بن علي بن صدقة ومحمد بن حميد الطوسي وإبراهيم بن الليث، وأسر مع بابك ثلاثة آلاف وثلاثمائة وتسعة أناسى، واستنقذ ممن كان في يده من المسلمات وأولادهم سبعه آلاف وستمائه إنسان، وعدة من صار في يد الأفشين من بني بابك سبعة عشر رجلا ومن البنات والكنات ثلاث وعشرون امرأة، فتوج المعتصم الأفشين وألبسه وشاحين بالجوهر، ووصله بعشرين ألف ألف درهم، منها عشرة آلاف ألف صلة وعشرة آلاف ألف درهم يفرقها في أهل عسكره، وعقد له على السند وأدخل عليه الشعراء يمدحونه، وأمر للشعراء بصلات، وذلك يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر، وكان مما قيل فيه قول أبي تمام الطائي:

بذ الجلاد البذ فهو دفين *** ما ان به إلا الوحوش قطين
لم يقر هذا السيف هذا الصبر في *** هيجاء إلا عز هذا الدين
قد كان عذرة سودد فافتضها *** بالسيف فحل المشرق الأفشين
فأعادها تعوي الثعالب وسطها *** ولقد ترى بالأمس وهي عرين
هطلت عليها من جماجم أهلها *** ديم إمارتها طلى وشئون
كانت من المهجات قبل مفازة *** عسرا، فأضحت وهي منه معين.

ذكر خبر إيقاع الروم باهل زبطره
وفي هذه السنة أوقع توفيل بن ميخائيل صاحب الروم بأهل زبطرة، فأسرهم وخرب بلدهم، ومضى من فوره إلى ملطية فأغار على أهلها وعلى أهل حصون من حصون المسلمين، إلى غير ذلك، وسبا من المسلمات- فيما قيل- أكثر من ألف امرأة، ومثل بمن صار في يده من المسلمين، وسمل أعينهم، وقطع آذانهم وآنافهم.

ذكر الخبر عن سبب فعل صاحب الروم بالمسلمين ما فعل من ذلك:
ذكر أن السبب في ذلك كان ما لحق بابك من تضييق الأفشين عليه وإشرافه على الهلاك، وقهر الأفشين إياه، فلما أشرف على الهلاك، وأيقن بالضعف من نفسه عن حربه، كتب الى ملك الروم توفيل بن ميخائيل بن جورجس، يعلمه أن ملك العرب قد وجه عساكره ومقاتلته إليه حتى وجه خياطه- يعني جعفر بن دينار- وطباخه- يعني إيتاخ- ولم يبق على بابه أحد، فإن أردت الخروج إليه فاعلم أنه ليس في وجهك أحد يمنعك، طمعا منه بكتابه ذلك إليه في أن ملك الروم أن تحرك انكشف عنه بعض ما هو فيه بصرف المعتصم بعض من بإزائه من جيوشه إلى ملك الروم، واشتغاله به عنه.
فذكر أن توفيل خرج في مائة ألف – وقيل أكثر – فيهم من الجند نيف وسبعون ألفا، وبقيتهم أتباع حتى صار إلى زبطرة، ومعه من المحمرة الذين كانوا خرجوا بالجبال فلحقوا بالروم حين قاتلهم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب جماعة رئيسهم بارسيس وكان ملك الروم قد فرض لهم، وزوجهم وصيرهم مقاتلة يستعين بهم في أهم أموره إليه، فلما دخل ملك الروم زبطرة وقتل الرجال الذين فيها، وسبى الذراري والنساء التي فيها وأحرقها، بلغ النفير- فيما ذكر- إلى سامرا، وخرج أهل ثغور الشام والجزيرة وأهل الجزيرة إلا من لم يكن عنده دابة ولا سلاح، واستعظم المعتصم ذلك.
فذكر أنه لما انتهى إليه الخبر بذلك صاح في قصره النفير، ثم ركب دابته وسمط خلفه شكالا وسكة حديد وحقيبة، فلم يستقم له أن يخرج إلا بعد التعبئة، فجلس- فيما ذكر- في دار العامة، وقد أحضر من أهل مدينة السلام قاضيها عبد الرحمن بن إسحاق وشعيب بن سهل، ومعهما ثلاثمائة وثمانية وعشرون رجلا من أهل العدالة، فأشهدهم على ما وقف من الضياع، فجعل ثلثا لولده، وثلثا لله، وثلثا لمواليه ثم عسكر بغربي دجلة، وذلك يوم الاثنين لليلتين خلتا من جمادى الأولى ووجه عجيف بن عنبسة وعمرا الفرغاني ومحمد كوته وجماعة من القواد إلى زبطرة إعانة لأهلها، فوجدوا ملك الروم قد انصرف إلى بلاده بعد ما فعل ما قد ذكرناه، فوقفوا قليلا، حتى تراجع الناس إلى قراهم، واطمأنوا فلما ظفر المعتصم ببابك، قال: أي بلاد الروم أمنع وأحصن؟
فقيل: عمورية، لم يعرض لها أحد من المسلمين منذ كان الإسلام، وهي عين النصرانية وبنكها، وهي اشرف عندهم من القسطنطينية.

ذكر الخبر عن فتح عموريه
وفي هذه السنة شخص المعتصم غازيا إلى بلاد الروم وقيل كان شخوصه إليها من سامرا في سنة أربع وعشرين ومائتين- وقيل في سنة اثنتين وعشرين ومائتين- بعد قتله بابك.
فذكر أنه تجهز جهازا لم يتجهز مثله قبله خليفة قط، من السلاح والعدد والآلة وحياض الأدم والبغال والروايا والقرب وآلة الحديد والنفط، وجعل على مقدمته أشناس، ويتلوه محمد بن إبراهيم، وعلى ميمنته إيتاخ، وعلى ميسرته جعفر بن دينار بن عبد الله الخياط، وعلى القلب عجيف بن عنبسة.
ولما دخل بلاد الروم أقام على نهر اللمس، وهو على سلوقية قريبا من البحر، بينه وبين طرسوس مسيرة يوم، وعليه يكون الفداء إذا فودي بين المسلمين والروم، وأمضى المعتصم الأفشين خيذر بن كاوس إلى سروج، وأمره بالبروز منها والدخول من درب الحدث، وسمى له يوما أمره أن يكون دخوله فيه، وقدر لعسكره وعسكر أشناس يوما جعله بينه وبين اليوم الذي يدخل فيه الأفشين، بقدر ما بين المسافتين إلى الموضع الذي رأى أن يجتمع العساكر فيه- وهو أنقرة- ودبر النزول على أنقرة، فإذا فتحها الله عليه صار إلى عمورية، إذ لم يكن شيء مما يقصد له من بلاد الروم أعظم من هاتين المدينتين، ولا أحرى أن تجعل غايته التي يؤمها.
وأمر المعتصم أشناس أن يدخل من درب طرسوس، وامره بانتظاره بالصفصاف فكان شخوص أشناس يوم الأربعاء لثمان بقين من رجب، وقدم المعتصم وصيفا في أثر أشناس على مقدمات المعتصم، ورحل المعتصم يوم الجمعة لست بقين من رجب.
فلما صار أشناس بمرج الأسقف، ورد عليه كتاب المعتصم من المطامير يعلمه أن الملك بين يديه، وأنه يريد أن يجوز العساكر اللمس، فيقف على المخاضة، فيكبسهم، ويأمره بالمقام بمرج الأسقف- وكان جعفر بن دينار على ساقة المعتصم- وأعلم المعتصم أشناس في كتابه أن ينتظر موافاة الساقة، لأن فيها الأثقال والمجانيق والزاد وغير ذلك، وكان ذلك بعد في مضيق الدرب لم يخلص، ويأمره بالمقام إلى أن يتخلص صاحب الساقة من مضيق الدرب بمن معه، ويصحر حتى يصير في بلاد الروم.
فأقام أشناس بمرج الأسقف ثلاثة أيام، حتى ورد كتاب المعتصم، يأمره أن يوجه قائدا من قواده في سرية يلتمسون رجلا من الروم، يسألونه عن خبر الملك ومن معه، فوجه أشناس عمرا الفرغاني في مائتي فارس، فساروا ليلتهم حتى أتوا حصن قرة فخرجوا يلتمسون رجلا من حول الحصن، فلم يمكن ذلك، ونذر بهم صاحب قرة، فخرج في جميع فرسانه الذين كانوا معه بالقرة، وكمن في الجبل الذي فيما بين قرة ودرة، وهو جبل كبير يحيط برستاق يسمى رستاق قرة، وعلم عمرو الفرغاني أن صاحب قرة قد نذر بهم، فتقدم إلى درة، فكمن بها ليلته، فلما انفجر عمود الصبح صير عسكره ثلاثة كراديس، وأمرهم أن يركضوا ركضا سريعا، بقدر ما يأتونه بأسير عنده خبر الملك، ووعدهم أن يوافوه به في بعض المواضع التي عرفها الأدلاء، ووجه مع كل كردوس دليلين وخرجوا مع الصبح، فتفرقوا في ثلاثة وجوه، فأخذوا عدة من الروم، بعضهم من أهل عسكر الملك، وبعضهم من الضواحي، وأخذ عمرو رجلا من الروم من فرسان أهل القرة، فسأله عن الخبر، فأخبره أن الملك وعسكره بالقرب منه وراء اللمس بأربعة فراسخ، وأن صاحب قرة نذر بهم في ليلتهم هذه، وأنه ركب فكمن في هذا الجبل فوق رءوسهم، فلم يزل عمرو في الموضع الذي كان وعد فيه أصحابه، وأمر الأدلاء الذين معه أن يتفرقوا في رءوس الجبال، وأن يشرفوا على الكراديس الذين وجههم إشفاقا أن يخالفهم صاحب قرة إلى أحد الكراديس، فرآهم الأدلاء، ولوحوا لهم، فأقبلوا فتوافوا هم وعمرو في موضع غير الموضع الذي كانوا اتعدوا له، ثم نزلوا قليلا، ثم ارتحلوا يريدون العسكر، وقد أخذوا عدة ممن كان في عسكر الملك، فصاروا إلى أشناس في اللمس، فسألهم عن الخبر، فأخبروه أن الملك مقيم منذ أكثر من ثلاثين يوما ينتظر عبور المعتصم ومقدمته باللمس، فيواقعهم من وراء اللمس، وأنه جاءه الخبر قريبا، أنه قد رحل من ناحية الأرمنياق عسكر ضخم، وتوسط البلاد- يعني عسكر الأفشين- وأنه قد صار خلفه.
فأمر الملك رجلا من أهل بيته ابن خاله، فاستخلفه على عسكره، وخرج ملك الروم في طائفة من عسكره يريد ناحية الأفشين، فوجه أشناس بذلك الرجل الذي أخبره بهذا الخبر إلى المعتصم، فأخبره بالخبر، فوجه المعتصم من عسكره قوما من الأدلاء، وضمن لهم لكل رجل منهم عشرة آلاف درهم، على أن يوافوا بكتابه الأفشين، وأعلمه فيه أن أمير المؤمنين مقيم، فليقم إشفاقا من أن يواقعه ملك الروم وكتب إلى أشناس كتابا يأمره أن يوجه من قبله رسولا من الأدلاء الذين يعرفون الجبال والطرق والمشبهة بالروم، وضمن لكل رجل منهم عشرة آلاف درهم إن هو أوصل الكتاب، ويكتب إليه أن ملك الروم قد اقبل نحوه فليقم مكانه حتى يوافيه كتاب أمير المؤمنين.
فتوجهت الرسل إلى ناحية الأفشين، فلم يلحقه أحد منهم، وذلك أنه كان وغل في بلاد الروم، وتوافت آلات المعتصم وأثقاله مع صاحب الساقة إلى العسكر، فكتب إلى أشناس يأمره بالتقدم، فتقدم أشناس والمعتصم من ورائه، بينهم مرحلة، ينزل هذا ويرحل هذا ولم يرد عليهم من الأفشين خبر، حتى صاروا من أنقرة على مسيرة ثلاث مراحل، وضاق عسكر المعتصم ضيقا شديدا من الماء والعلف سنه 223 وكان اشناس قد اسر عده اسرى في طريقه، فأمر بهم فضربت أعناقهم حتى بقي منهم شيخ كبير، فقال الشيخ: ما تنتفع بقتلي، وأنت في هذا الضيق، وعسكرك أيضا في ضيق من الماء والزاد، وهاهنا قوم قد هربوا من أنقرة خوفا من أن ينزل بهم ملك العرب، وهم بالقرب منا هاهنا، معهم من الميرة والطعام والشعير شيء كثير، فوجه معي قوما لأدفعهم إليهم، وخل سبيلي! فنادى منادي أشناس: من كان به نشاط فليركب، فركب معه قريب من خمسمائة فارس، فخرج أشناس حتى صار من العسكر على ميل، وبرز معه من نشط من الناس، ثم برز فضرب دابته بالسوط، فركض قريبا من ميلين ركضا شديدا، ثم وقف ينظر إلى أصحابه خلفه، فمن لم يلحق بالكردوس لضعف دابته رده إلى العسكر، ودفع الرجل الأسير إلى مالك بن كيدر، وقال له: متى ما أراك هذا سبيا وغنيمة كثيرة فخل سبيله على ما ضمنا له فسار بهم الشيخ إلى وقت العتمة، فأوردهم على واد وحشيش كثير، فأمرج الناس دوابهم في الحشيش حتى شبعت، وتعشى الناس وشربوا حتى رووا، ثم سار بهم حتى أخرجهم من الغيضة، وسار أشناس من موضعه الذي كان به متوجها إلى أنقرة.
وأمر مالك بن كيدر والأدلاء الذين معه أن يوافوه بأنقرة، فسار بهم الشيخ العلج بقية ليلتهم يدور بهم في جبل ليس يخرجهم منه، فقال الأدلاء لمالك بن كيدر: هذا الرجل يدور بنا، فسأله مالك عما ذكر الأدلاء، فقال: صدقوا، القوم الذين تريدهم خارج الجبل، وأخاف أن أخرج من الجبل بالليل فيسمعوا صوت حوافر الخيل على الصخر، فيهربوا، فإذا خرجنا من الجبل ولم نر أحدا قتلني، ولكن أدور بك في هذا الجبل إلى الصبح، فإذا أصبحنا خرجنا إليهم، فأريتك إياهم حتى آمن ألا تقتلني فقال له مالك:
ويحك! فأنزلنا في هذا الجبل حتى نستريح، فقال: رأيك، فنزل مالك ونزل الناس على الصخرة، وأمسكوا لجم دوابهم حتى انفجر الصبح، فلما طلع الفجر قال: وجهوا رجلين يصعدان هذا الجبل، فينظران ما فوقه، فيأخذان من أدركا فيه، فصعد أربعة من الرجال، فأصابوا رجلا وامرأة، فانزلوهما، فساء لهما العلج: أين بات أهل انقرة؟ فسموا لهم الموضع الذي باتوا فيه، فقال لمالك: خل عن هذين، فإنا قد أعطيناهما الأمان حتى دلونا، فخلى مالك عنهما، ثم سار بهم العلج إلى الموضع الذي سماه لهم، فأشرف بهم على العسكر عسكر أهل أنقرة، وهم في طرف ملاحة، فلما رأوا العسكر صاحوا بالنساء والصبيان، فدخلوا الملاحة، ووقفوا لهم على طرف الملاحة يقاتلون بالقنا، ولم يكن موضع حجارة ولا موضع خيل، وأخذوا منهم عدة أسرى، وأصابوا في الأسرى عدة بهم جراحات عتق من جراحات متقدمة، فساءلوهم عن تلك الجراحات، فقالوا: كنا في وقعة الملك مع الأفشين، فقالوا لهم:
حدثونا بالقضية فأخبروهم أن الملك كان معسكرا على أربعة فراسخ من اللمس، حتى جاءه رسول، أن عسكرا ضخما قد دخل من ناحية الأرمنياق، فاستخلف على عسكره رجلا من أهل بيته، وأمره بالمقام في موضعه، فإن ورد عليه مقدمة ملك العرب، واقعه إلى أن يذهب هو فيواقع العسكر الذي دخل الأرمنياق- يعني عسكر الأفشين- فقال أميرهم: نعم، وكنت ممن سار مع الملك، فواقعناهم صلاة الغداة فهزمناهم، وقتلنا رجالتهم كلهم، وتقطعت عساكرنا في طلبهم، فلما كان الظهر رجع فرسانهم، فقاتلونا قتالا شديدا حتى حرقوا عسكرنا، واختلطوا بنا واختلطنا بهم، فلم ندر في أي كردوس الملك! فلم نزل كذلك إلى وقت العصر، ثم رجعنا إلى موضع عسكر الملك الذي كنا فيه فلم نصادفه، فرجعنا إلى موضع معسكر الملك الذي خلفه على اللمس، فوجدنا العسكر قد انتقض، وانصرف الناس عن الرجل قرابة الملك الذي كان الملك استخلفه على العسكر، فأقمنا على ذلك ليلتنا، فلما كان الغد، وافانا الملك في جماعة يسيرة، فوجد عسكره قد اختل، وأخذ الذي استخلفه على العسكر، فضرب عنقه، وكتب إلى المدن والحصون ألا يأخذوا رجلا ممن انصرف من عسكر الملك إلا ضربوه بالسياط، او يرجع إلى موضع سماه لهم الملك انحاز إليه ليجتمع إليه الناس، ويعسكر به، ليناهض ملك العرب، ووجه خادما له خصيا إلى أنقرة على أن يقيم بها، ويحفظ أهلها إن نزل بها ملك العرب.
قال الأسير: فجاء الخصي إلى أنقرة، وجئنا معه، فإذا أنقرة قد عطلها أهلها، وهربوا منها، فكتب الخصي إلى ملك الروم يعلمه ذلك، فكتب إليه الملك يأمره بالمسير إلى عمورية.
قال: وسألت عن الموضع الذي قصد إليه أهلها- يعني أهل أنقرة- فقالوا لي: إنهم بالملاحة فلحقنا بهم.
قال مالك بن كيدر: فدعوا الناس كلهم، خذوا ما أخذتم، ودعوا الباقي، فترك الناس السبي والمقاتلة وانصرفوا راجعين يريدون عسكر أشناس، وساقوا في طريقهم غنما كثيرا وبقرا، وأطلق ذلك الشيخ الأسير مالك، وسار إلى عسكر أشناس بالأسرى، حتى لحق بأنقرة، فمكث أشناس يوما واحدا، ثم لحقه المعتصم من غد، فأخبره بالذي أخبره به الأسير، فسر المعتصم بذلك.
فلما كان اليوم الثالث جاءت البشرى من ناحية الأفشين يخبرون بالسلامة، وأنه وارد على أمير المؤمنين بأنقرة.
قال: ثم ورد على المعتصم الأفشين بعد ذلك اليوم بيوم بأنقرة، فأقاموا بها أياما، ثم صير العسكر ثلاثة عساكر: عسكر فيه أشناس في الميسرة، والمعتصم في القلب، والأفشين في الميمنة، وبين كل عسكر وعسكر فرسخان، وأمر كل عسكر منهم أن يكون له ميمنة وميسرة، وأن يحرقوا القرى ويخربوها، ويأخذوا من لحقوا فيها من السبي، وإذا كان وقت النزول توافى كل أهل عسكر إلى صاحبهم ورئيسهم، يفعلون ذلك فيما بين أنقرة إلى عمورية، وبينهما سبع مراحل، حتى توافت العساكر بعمورية.
قال: فلما توافت العساكر بعمورية، كان أول من وردها أشناس، وردها يوم الخميس ضحوه، فدار حولها دورة، ثم نزل على ميلين منها بموضع فيه ماء وحشيش، فلما طلعت الشمس من الغد، ركب المعتصم، فدار حولها دورة، ثم جاء الأفشين في اليوم الثالث، فقسمها أمير المؤمنين بين القواد كما تدور، صير إلى كل واحد منهم أبراجا منها على قدر كثرة أصحابه وقلتهم، وصار لكل قائد منهم ما بين البرجين إلى عشرين برجا، وتحصن أهل عمورية وتحرزوا.
وكان رجل من المسلمين قد أسره أهل عمورية، فتنصر وتزوج فيهم، فحبس نفسه عند دخولهم الحصن، فلما رأى أمير المؤمنين ظهر وصار إلى المسلمين، وجاء إلى المعتصم، وأعلمه أن موضعا من المدينة حمل الوادي عليه من مطر جاءهم شديد، فحمل الماء عليه، فوقع السور من ذلك الموضع، فكتب ملك الروم إلى عامل عمورية أن يبني ذلك الموضع، فتوانى في بنائه حتى كان خروج الملك من القسطنطينية إلى بعض المواضع، فتخوف الوالي أن يمر الملك على تلك الناحية فيمر بالسور، فلا يراه بني، فوجه خلف الصناع فبنى وجه السور بالحجارة حجرا حجرا، وصير وراءه من جانب المدينة حشوا، ثم عقد فوقه الشرف كما كان، فوقف ذلك الرجل المعتصم على هذه الناحية التي وصف، فأمر المعتصم فضرب مضربه في ذلك الموضع، ونصب المجانيق على ذلك البناء، فانفرج السور من ذلك الموضع، فلما رأى أهل عموريه انفراج السور، علقوا عليه الخشب الكبار، كل واحد بلزق الأخرى، فكان حجر المنجنيق إذا وقع على الخشب تكسر، فعلقوا خشبا غيره، وصيروا فوق الخشب البراذع ليترسوا السور.
فلما ألحت المجانيق على ذلك الموضع، انصدع السور، فكتب ياطس والخصي إلى ملك الروم، كتابا يعلمانه أمر السور، ووجها الكتاب مع رجل فصيح بالعربية وغلام رومي، واخرجاهما من الفصيل، فعبرا الخندق، ووقعا إلى ناحية أبناء الملوك المضمومين إلى عمرو الفرغاني، فلما خرجا من الخندق أنكروهما، فسألوهما، من أين أنتما؟ قالا لهم: نحن من أصحابكم، قالوا: من أصحاب من أنتم؟ فلم يعرفا أحدا من قواد أهل العسكر يسميانه لهم، فأنكروهما، وجاءوا بهما إلى عمرو الفرغاني بن أربخا، فوجه بهما عمرو إلى أشناس، فوجه بهما أشناس إلى المعتصم، فساءلهما المعتصم، وفتشهما، فوجد معهما كتابا من ياطس إلى ملك الروم، يعلمه فيه أن العسكر قد أحاط بالمدينة في جمع كثير، وقد ضاق بهم الموضع وقد كان دخوله ذلك الموضع خطأ- وأنه قد اعتزم على أن يركب، ويحمل خاصة أصحابه على الدواب التي في الحصن، ويفتح الأبواب ليلا غفلة، ويخرج فيحمل على العسكر كائنا فيه ما كان، أفلت فيه من أفلت، وأصيب فيه من أصيب، حتى يتخلص من الحصار، ويصير إلى الملك.
فلما قرأ المعتصم الكتاب أمر للرجل الذي يتكلم منهما بالعربية والغلام الرومي الذي معه ببدرة، فأسلما وخلع عليهما، وأمر بهما حين طلعت الشمس فأداروهما حول عموريه، فقالا: يا طس يكون في هذا البرج، فأمر بهما فوقفا بحذاء البرج الذي فيه ياطس طويلا، وبين أيديهما رجلان يحملان لهما الدراهم وعليهما الخلع، ومعهما الكتاب حتى فهمهما ياطس وجميع الروم، وشتموهما من فوق السور، ثم أمر بهما المعتصم فنحوهما، وامر المعتصم ان يكون الحراسة بينهم نوائب، في كل ليلة يحضرها الفرسان، يبيتون على دوابهم بالسلاح وهم وقوف عليها، لئلا يفتح الباب ليلا، فيخرج من عمورية إنسان، فلم يزل الناس يبيتون كذلك نوائب على ظهور الدواب في السلاح ودوابهم بسروجها، حتى انهدم السور ما بين برجين من الموضع الذي وصف للمعتصم أنه لم يحكم عمله.
وسمع أهل العسكر الوجبة فتشوفوا، وظنوا أن العدو قد خرج على بعض الكراديس حتى أرسل المعتصم من طاف على الناس في العسكر يعلمهم أن ذلك صوت السور وقد سقط، فطيبوا نفسا.
وكان المعتصم حين نزل عمورية ونظر إلى سعة خندقها وطول سورها، وكان قد استاق في طريقه غنما كثيرة، فدبر في ذلك أن يتخذ مجانيق كبارا على قدر ارتفاع السور، يسع كل منجنيق منها أربعة رجال، وعملها أوثق ما يكون وأحكمه، وجعلها على كراسي تحتها عجل، ودبر في ذلك أن يدفع الغنم إلى أهل العسكر إلى كل رجل شاة، فيأكل لحمها، ويحشو جلدها ترابا ثم يؤتى بالجلود مملوءة ترابا، حتى تطرح في الخندق.
ففعل ذلك بالخندق، وعمل دبابات كبارا تسع كل دبابة عشرة رجال، وأحكمها على أن يدحرجها على الجلود المملوءة ترابا حتى يمتلئ الخندق، ففعل ذلك، وطرحت الجلود فلم تقع الجلود، مستوية منضدة خوفا منهم من حجارة الروم، فوقعت مختلفة، ولم يمكن تسويتها، فأمر أن يطرح فوقها التراب حتى استوت، ثم قدمت دبابة فدحرجها، فلما صارت من الخندق في نصفه تعلقت بتلك الجلود، وبقي القوم فيها، فما تخلصوا منها إلا بعد جهد ثم مكثت تلك العجله مقيمه هناك، لم يمكن فيها حيلة حتى فتحت عمورية، وبطلت الدبابات والمنجنيقات والسلاليم وغير ذلك، حتى أحرقت.
فلما كان من الغد قاتلهم على الثلمة، وكان أول من بدأ بالحرب أشناس وأصحابه، وكان الموضع ضيقا، فلم يمكنهم الحرب فيه، فأمر المعتصم بالمنجنيقات الكبار التي كانت متفرقة حول السور، فجمع بعضها إلى بعض، وصيرها حول الثلمة، وأمر أن يرمى ذلك الموضع، وكانت الحرب في اليوم الثاني على الأفشين وأصحابه، فأجادوا الحرب وتقدموا وكان المعتصم واقفا على دابته بإزاء الثلمة وأشناس وأفشين وخواص القواد معه، وكان باقي القواد الذين دون الخاصة وقوفا رجالة، فقال المعتصم: ما كان أحسن الحرب اليوم! فقال عمرو الفرغاني: الحرب اليوم أجود منها أمس، وسمعها أشناس فأمسك، فلما انتصف النهار، وانصرف المعتصم إلى مضربه، فتغدى وانصرف القواد إلى مضاربهم يتغدون، وقرب أشناس من باب مضربه، ترجل له القواد كما كانوا يفعلون، وفيهم عمرو الفرغاني وأحمد بن الخليل بن هشام، فمشوا بين يديه كعادتهم عند مضربه، فقال لهم أشناس: يا أولاد الزنا، أيش تمشون بين يدي! كان ينبغي أن تقاتلوا أمس حيث تقفون بين يدي أمير المؤمنين، فتقولون: أن الحرب اليوم أحسن منها أمس، كان أمس يقاتل غيركم، انصرفوا إلى مضاربكم فلما انصرف عمرو الفرغاني وأحمد بن الخليل بن هشام، قال أحدهما للآخر: أما ترى هذا العبد ابن الفاعلة- يعني أشناس- ما صنع بنا اليوم! أليس الدخول إلى بلاد الروم أهون من هذا الذي سمعناه اليوم! فقال عمرو الفرغاني لأحمد بن الخليل- وكان عند عمرو خبر-: يا أبا العباس، سيكفيك الله أمره، عن قريب أبشر فأوهم أحمد أن عنده خبرا، فألح عليه أحمد يسأله، فأخبره بما هم فيه، وقال: إن العباس بن المأمون قد تم أمره، وسنبايع له ظاهرا، ونقتل المعتصم وأشناس وغيرهما عن قريب ثم قال له: أشير عليك أن تأتي العباس، فتقدم فتكون في عداد من مال إليه فقال له أحمد:
هذا أمر لا أحسبه يتم، فقال له عمرو: قد تم وفرغ، وأرشده إلى الحارث السمرقندي- قرابة سلمة بن عبيد الله بن الوضاح، وكان المتولي لإيصال الرجال إلى العباس وأخذ البيعة عليهم- فقال له عمرو: أنا أجمع بينك وبين الحارث حتى تصير في عداد أصحابنا، فقال له أحمد: أنا معكم إن كان هذا الأمر يتم فيما بيننا وبين عشرة أيام، وإن جاوز ذلك فليس بيني وبينكم عمل، فذهب الحارث، فلقي العباس فأخبره أن عمرا قد ذكره لأحمد بن الخليل، فقال له: ما كنت أحب ان يطلع الخليل على شيء من أمرنا، أمسكوا عنه.
ولا تشركوه في شيء من أمركم، دعوه بينهما فأمسكوا عنه فلما كان في اليوم الثالث كانت الحرب على أصحاب أمير المؤمنين خاصة، ومعهم المغاربة والأتراك، والقيم بذلك إيتاخ، فقاتلوا فأحسنوا واتسع لهم الموضع المنثلم، فلم تزل الحرب كذلك حتى كثرت في الروم الجراحات.
وكان قواد ملك الروم عند ما نزل بهم عسكر المعتصم اقتسموا البروج، لكل قائد وأصحابه عدة أبرجة، وكان الموكل بالموضع الذي انثلم من السور رجلا من قواد الروم يقال له وندوا، وتفسيره بالعربية ثور، فقاتل الرجل وأصحابه قتالا شديدا بالليل والنهار والحرب عليه وعلى أصحابه، لم يمده ياطس ولا غيره بأحد من الروم، فلما كان بالليل مضى القائد الموكل بالثلمة إلى الروم، فقال: إن الحرب علي وعلى أصحابي، ولم يبق معي أحد إلا قد جرح، فصيروا أصحابكم على الثلمة يرمون قليلا، وإلا افتضحتم وذهبت المدينة فأبوا أن يمدوه بأحد، فقالوا: سلم السور من ناحيتنا، وليس نسألك أن تمدنا، فشأنك وناحيتك، فليس لك عندنا مدد فاعتزم هو واصحابه على ان يخرجوا إلى أمير المؤمنين المعتصم، ويسألوه الأمان على الذرية، ويسلموا إليه الحصن بما فيه من الخرثي والمتاع والسلاح وغير ذلك.
فلما أصبح وكل أصحابه بجنبي الثلمة، وخرج فقال: إني أريد أمير المؤمنين، وأمر أصحابه ألا يحاربوا حتى يعود إليهم، فخرج حتى وصل إلى المعتصم، فصار بين يديه، والناس يتقدمون إلى الثلمة، وقد أمسك الروم عن الحرب حتى وصلوا إلى السور، والروم يقولون بأيديهم:
لا تحيوا، وهم يتقدمون، ووندوا بين يدي المعتصم جالس، فدعا المعتصم بفرس فحمله عليه، وقابل حتى صار الناس معهم على حرف الثلمة، وعبد الوهاب ابن علي بين يدي المعتصم، فأومأ إلى الناس بيده: أن ادخلوا، فدخل الناس المدينة، فالتفت وندوا، وضرب بيده إلى لحيته، فقال له المعتصم: مالك؟
قال: جئت أريد أن أسمع كلامك وتسمع كلامي، فغدرت بي، فقال المعتصم: كل شيء تريد أن تقوله فهو لك علي، قل ما شئت، فإني لست أخالفك قال: أيش لا تخالفني وقد دخلوا المدينة! فقال المعتصم:
اضرب بيدك إلى ما شئت فهو لك، وقل ما شئت فإني أعطيكه فوقف في مضرب المعتصم وكان ياطس في برجه الذي هو فيه وحوله جماعة من الروم مجتمعين، وصارت طائفة منهم إلى كنيسة كبيرة في زاوية عمورية، فقاتلوا قتالا شديدا، فأحرق الناس الكنيسة عليهم فاحترقوا عن آخرهم، وبقي ياطس في برجه حوله أصحابه، وباقي الروم وقد أخذتهم السيوف، فبين مقتول ومجروح، فركب المعتصم عند ذلك حتى جاء فوقف حذاء ياطس، وكان مما يلي عسكر أشناس، فصاحوا: يا ياطس، هذا أمير المؤمنين، فصاح الروم من فوق البرج: ليس ياطس هاهنا، قالوا: بلى، قولوا له: إن أمير المؤمنين واقف، فقالوا: ليس ياطس هاهنا فمر أمير المؤمنين مغضبا، فلما جاوز صاح الروم: هذا ياطس، هذا ياطس! فرجع المعتصم إلى حيال البرج حتى وقف، ثم أمر بتلك السلاليم التي هيئت، فحمل سلم منها، فوضع على البرج الذي هو فيه، وصعد عليه الحسن الرومي- غلام لأبي سعيد محمد بن يوسف- وكلمه ياطس، فقال: هذا أمير المؤمنين، فانزل على حكمه، فنزل الحسن، فأخبر المعتصم أنه قد رآه وكلمه، فقال المعتصم: قل له فلينزل، فصعد الحسن ثانية، فخرج ياطس من البرج متقلدا سيفا حتى وقف على البرج والمعتصم ينظر إليه، فخلع سيفه من عنقه، فدفعه إلى الحسن، ثم نزل ياطس، فوقف بين يدي المعتصم، فقنعه سوطا، وانصرف المعتصم إلى مضربه، وقال: هاتوه، فمشى قليلا، ثم جاءه رسول المعتصم، أن احملوه، فحملوه، فذهب به إلى مضرب أمير المؤمنين ثم أقبل الناس بالأسرى والسبي من كل وجه حتى امتلأ العسكر، فأمر المعتصم بسيل الترجمان أن يميز الأسرى، فيعزل منهم أهل الشرف والقدر من الروم في ناحية، ويعزل الباقين في ناحية، ففعل ذلك بسيل ثم أمر المعتصم فوكل بالمقاسم قواده، ووكل أشناس بما يخرج من ناحيته، وأمره أن ينادي عليه، ووكل الأفشين بما يخرج من ناحيته، وامره ان ينادى ويبيع، وامر إيتاخ بناحيته مثل ذلك، وجعفرا الخياط بمثل ذلك في ناحيته، ووكل مع كل قائد من هؤلاء رجلا من قبل أحمد بن ابى دواد يحصي عليه، فبيعت المقاسم في خمسة أيام، بيع منها ما استباع، وأمر بالباقي فضرب بالنار، وارتحل المعتصم منصرفا إلى أرض طرسوس.
ولما كان يوم إيتاخ قبل أن يرتحل المعتصم منصرفا، وثب الناس على المغنم الذي كان إيتاخ على بيعه، وهو اليوم الذي كان عجيف وعد الناس فيه أن يثب بالمعتصم، فركب المعتصم بنفسه ركضا، وسل سيفه، فتنحى الناس عنه من بين يديه، وكفوا عن انتهاب المغنم، فرجع إلى مضربه، فلما كان من الغد أمر ألا ينادى على السبي إلا ثلاثة أصوات، ليتروج البيع، فمن زاد بعد ثلاثة أصوات، وإلا بيع العلق، فكان يفعل ذلك في اليوم الخامس، فكان ينادي على الرقيق خمسة خمسة، وعشرة عشرة، والمتاع الكثير جملة واحدة.
قال: وكان ملك الروم قد وجه رسولا في أول ما نزل المعتصم على عمورية فأمر به المعتصم فأنزل على موضع الماء الذي كان الناس يستقون منه، وكان بينه وبين عمورية ثلاثة أميال، ولم يأذن له في المصير إليه حتى فتح عمورية، فلما فتحها أذن له في الانصراف إلى ملك الروم، فانصرف وانصرف المعتصم يريد الثغور، وذلك أنه بلغه أن ملك الروم يريد الخروج في أثره، أو يريد التعبث بالعسكر، فمضى في طريق الجادة مرحلة، ثم رجع إلى عمورية، وأمر الناس بالرجوع، ثم عدل عن طريق الجادة إلى طريق وادي الجور، ففرق الأسرى على القواد، ودفع إلى كل قائد من القواد طائفة منهم يحفظهم، ففرقهم القواد على أصحابهم، فساروا في طريق نحوا من أربعين ميلا، ليس فيه ماء، فكان كل من امتنع من الأسرى أن يمشي معهم لشدة العطش الذي أصابهم ضربوا عنقه، فدخل الناس في البرية في طريق وادي الجور فأصابهم العطش، فتساقط الناس والدواب وقتل بعض الأسرى بعض الجند وهرب.
وكان المعتصم قد تقدم العسكر، فاستقبل الناس، ومعه الماء قد حمله من الموضع الذي نزله، وهلك الناس في هذا الوادي من العطش، وقال الناس للمعتصم: إن هؤلاء الأسرى قد قتلوا بعض جندنا، فأمر عند ذلك بسيل الرومي بتمييز من له القدر منهم، فعزلوا ناحية، ثم امر بالباقين فأصعدوا إلى الجبال، وأنزلوا إلى الأودية فضربت أعناقهم جميعا، وهم مقدار ستة آلاف رجل، قتلوا في موضعين بوادي الجور وموضع آخر.
ورحل المعتصم من ذلك الموضع يريد الثغر حتى دخل طرسوس، وكان قد نصب له الحياض من الأدم حول العسكر من الماء إلى العسكر بعمورية والحياض مملوءة، والناس يشربون منها لا يتعبون في طلب الماء.
وكانت الوقعة التي وقعت بين الأفشين وملك الروم- فيما ذكر- يوم الخميس لخمس بقين من شعبان وكانت إناخة المعتصم على عمورية يوم الجمعة لست خلون من شهر رمضان، وقفل بعد خمسة وخمسين يوما.
وقال الحسين بن الضحاك الباهلي يمدح الأفشين، ويذكر وقعته التي كانت بينه وبين ملك الروم:

أثبت المعصوم عزا لأبي *** حسن أثبت من ركن إضم
كل مجد دون ما أثله *** لبني كاوس أملاك العجم
إنما الأفشين سيف سله *** قدر الله بكف المعتصم
لم يدع بالبذ من ساكنة *** غير أمثال كأمثال إرم
ثم أهدى سلما بابكه *** رهن حجلين نجيا للندم
وقرا توفيل طعنا صادقا *** فض جمعيه جميعا وهزم
قتل الأكثر منهم ونجا *** من نجا لحما على ظهر وضم

ذكر خبر المعتصم مع العباس بن المأمون
وفي هذه السنة حبس المعتصم العباس بن المأمون وأمر بلعنه.

ذكر الخبر عن سبب فعله ذلك:
ذكر أن السبب كان في ذلك أن عجيف بن عنبسة حين وجهه المعتصم إلى بلاد الروم، لما كان من أمر ملك الروم بزبطرة مع عمرو بن أربخا الفرغاني ومحمد كوته، لم يطلق يد عجيف في النفقات كما أطلقت يد الأفشين، واستقصر المعتصم أمر عجيف وأفعاله، واستبان ذلك لعجيف، فوبخ عجيف العباس على ما تقدم من فعله عند وفاة المأمون حين بايع أبا إسحاق وعلى تفريطه فيما فعل، وشجعه على أن يتلافى ما كان منه.
فقبل العباس ذلك، ودس رجلا يقال له الحارث السمرقندي، قرابة عبيد الله بن الوضاح- وكان العباس يأنس به، وكان الحارث رجلا أديبا له عقل ومداراة- فصيره العباس رسوله وسفيره إلى القواد، فكان يدور في العسكر حتى تألف له جماعة من القواد، وبايعوه وبايعه منهم خواص، وسمى لكل رجل من قواد المعتصم رجلا من ثقات أصحابه ممن بايعه، ووكله بذلك، وقال: إذا أمرنا بذلك، فليثب كل رجل منكم على من ضمناه أن يقتله، فضمنوا له ذلك، فكان يقول للرجل ممن بايعه: عليك يا فلان أن تقتل فلانا، فيقول: نعم، فوكل من بايعه من خاصة المعتصم بالمعتصم ومن خاصة الأفشين بالأفشين، ومن خاصه اشناس باشناس، ممن بايعه من الأتراك، فضمنوا ذلك جميعا فلما أرادوا أن يدخلوا الدرب وهم يريدون أنقرة وعمورية، ودخل الأفشين من ناحية ملطية، أشار عجيف على العباس ان يثب على المعتصم في الدرب وهو في قلة من الناس، وقد تقطعت عنه العساكر، فيقتله ويرجع إلى بغداد، فكان الناس يفرحون بانصرافهم من الغزو، فأبى العباس عليه، وقال: لا أفسد هذه الغزاة، حتى دخلوا بلاد الروم، وافتتحوا عمورية، فقال عجيف للعباس: يا نائم، كم تنام! قد فتحت عمورية، والرجل ممكن، دس قوما ينتبهون هذا الخرثي، فإنه إذا بلغه ذلك ركب بسرعة، فتأمر بقتله هناك، فأبى عليه العباس، وقال، أنتظر حتى يصير إلى الدرب، فيخلو كما خلا في البدأة، فهو أمكن منه هاهنا وكان عجيف قد أمر من ينتهب المتاع، فانتهب بعض الخرثي في عسكر إيتاخ.
فركب المعتصم وجاء ركضا، فسكن الناس، ولم يطلق العباس أحدا من أولئك الرجال الذين كان واعدهم، فلم يحدثوا شيئا، وكرهوا أن يفعلوا شيئا بغير أمره.
وكان عمرو الفرغاني قد بلغه الخبر ذلك اليوم، ولعمرو الفرغاني قرابة، غلام أمرد في خاصة المعتصم، فجاء الغلام الى ولد عمرو يشرب عندهم تلك في الليلة، فأخبرهم أن أمير المؤمنين ركب مستعجلا، وأنه كان يعدو بين يديه، وقال: إن أمير المؤمنين قد غضب اليوم، فأمرني أن أسل سيفي، وقال: لا يستقبلك أحد إلا ضربته، فسمع عمرو ذلك من الغلام، فأشفق عليه أن يصاب، فقال له: يا بني، أنت أحمق، أقل من الكينونة عند أمير المؤمنين بالليل، والزم خيمتك، فإن سمعت صيحة مثل هذه الصيحة، أو شغبا أو شيئا فلا تبرح من خيمتك، فإنك غلام غر، لست تعرف بعد العساكر ، فعرف الغلام مقالة عمرو.
وارتحل المعتصم من عمورية يريد الثغر، ووجه الأفشين ابن الأقطع في طريق خلاف طريق المعتصم، وأمره أن يغير على موضع سماه له، وأن يوافيه في بعض الطريق، فمضى ابن الأقطع، وتوجه المعتصم يريد الثغر، فسار حتى صار إلى موضع أقام فيه ليريح ويستريح، وليسلك الناس من المضيق الذي بين أيديهم ووافى ابن الأقطع عسكر الأفشين بما أصاب من الغنائم، وكان عسكر المعتصم على حدة وعسكر الأفشين على حدة، بين كل عسكر قدر ميلين أو أكثر، واعتل أشناس فركب المعتصم صلاة الغداة يعوده، فجاء إلى مضربه فعاده، ولم يكن الأفشين لحقه بعد.
ثم خرج المعتصم منصرفا، فتلقاه الأفشين في الطريق، فقال له المعتصم:
تريد أبا جعفر وكان عمرو الفرغاني وأحمد بن الخليل عند منصرف المعتصم من عيادة أشناس توجها إلى ناحية عسكر الأفشين لينظرا ما جاء به ابن الأقطع من السبي فيشتريا منه ما أعجبهما، فتوجها ناحية عسكر الأفشين ولقيهما الأفشين يريد أشناس- فترجلا، وسلما عليه، ونظر إليهما حاجب أشناس من بعد، فدخل الأفشين إلى أشناس، ثم انصرف، وتوجها إلى عسكر الأفشين، فلم يكن السبي أخرج بعد، فوقفا ناحية ينتظران أن ينادي على السبي، فيشتريا منه، ودخل حاجب أشناس على أشناس، فقال: إن عمرا الفرغاني وأحمد بن الخليل تلقيا الأفشين، وهما يريدان عسكره، فترجلا وسلما عليه، وتوجها الى عسكره سنه 223 فدعا أشناس محمد بن سعيد السعدي، فقال له: اذهب إلى عسكر الأفشين، فانظر هل ترى هناك عمرا الفرغاني وأحمد بن الخليل! وانظر عند من نزلا، وأي شيء قصتهما؟ فجاء محمد بن سعيد، فأصابهما واقفين على ظهور دوابهما فقال: ما اوقفكما هاهنا؟ قالا: وقفنا ننتظر سبي ابن الأقطع يخرج، فنشتري بعضه، فقال لهما محمد بن سعيد: وكلا وكيلا يشترى لكما، فقال: لا نحب أن نشتري إلا ما نراه، فرجع محمد، فأخبر أشناس بذلك، فقال لحاجبه: قل لهؤلاء الزموا عسكركم: فهو خير لكم- يعنى عمرا وابن الخليل- ولا تذهبوا هاهنا وهاهنا فذهب الحاجب إليهما، فأعلمهما، فاغتما لذلك واتفقا على أن يذهبا إلى صاحب خبر العسكر، فيستعفياه من أشناس، فصارا إلى صاحب الخبر، فقالا: نحن عبيد أمير المؤمنين، يضمنا إلى من شاء، فإن هذا الرجل يستخف بنا، قد شتمنا وتوعدنا، ونحن نخاف أن يقدم علينا، فليضمنا أمير المؤمنين إلى من أحب فأنهى صاحب الخبر ذلك إلى المعتصم من يومه، واتفق الرحيل صلاة الغداة، وكان إذا ارتحل الناس سارت العساكر على حيالها، وسار أشناس والأفشين وجميع القواد في عسكر أمير المؤمنين، ووكلوا خلفاءهم بالعساكر، فيسيرون بها وكان الافشين على الميسره وأشناس على الميمنة، فلما ذهب أشناس إلى المعتصم، قال له: أحسن أدب عمرو الفرغاني وأحمد بن الخليل، فإنهما قد حمقا أنفسهما، فجاء اشناس ركضا إلى معسكره، فسأل عن عمرو وابن الخليل، فأصاب عمرا، وكان ابن الخليل قد مضى في الميسرة يبادر الروم، فجاءوه بعمرو الفرغاني، وقال: هاتوا سياطا، فمكث طويلا مجردا ليس يؤتى بالسياط، فتقدم عمه إلى أشناس، فكلمه في عمرو- وكان عمه أعجميا- وعمرو واقف، فقال: احملوه، فالبسوه قباء طاق، فحملوه على بغل في قبة، وساروا به إلى العسكر، وجاء أحمد بن الخليل وهو يركض، فقال: احبسوا هذا معه، فأنزل عن دابته، وصير عديله، ودفعا إلى محمد بن سعيد السعدي يحفظهما، فكان يضرب لهما مضربا في فازة وحجرة ومائدة، ويفرش لهما فرشا وطية، وحوضا من ماء وأثقالهما وغلمانهما في العسكر، لم يحرك منها شيء، فلم يزالا كذلك حتى صارا إلى جبل الصفصاف وكان أشناس على الساقة، وكان بغا على ساقه عسكر المعتصم، فلما صار بالصفصاف، وسمع الغلام الفرغاني قرابة عمرو بحبس عمرو، ذكر الغلام للمعتصم ما دار بينه وبين عمرو من الكلام في تلك الليلة، مما قال له عمرو، إذا رأيت شغبا فالزم خيمتك، فقال المعتصم لبغا: لا ترحل غدا حتى تجيء أشناس، فتأخذ منه عمرا، وتلحقنى به، وكان هذا بالصفصاف.
فوقف بغا بأعلامه ينتظر أشناس، وجاء محمد بن سعيد ومعه عمرو واحمد ابن الخليل، فقال بغا لأشناس: أمرني أمير المؤمنين أن أوافيه بعمرو الساعة، فأنزل عمرو، وجعل مع أحمد بن الخليل في القبة رجل يعادله، ومضى بغا بعمرو إلى المعتصم، فأرسل أحمد بن الخليل غلاما من غلمانه إلى عمرو، لينظر ما يصنع به، فرجع الغلام فاخبره انه ادخل على أمير المؤمنين، فمكث ساعة ثم دفع إلى إيتاخ، وكان أمير المؤمنين لما دخل ساء له عن الكلام الذي قاله للغلام قرابته، فأنكر وقال: هذا الغلام كان سكران، ولم يفهم ولم أقل شيئا مما ذكره، فأمر به فدفع إلى إيتاخ، وسار المعتصم حتى صار إلى باب مضايق البدندون، وأقام أشناس ثلاثة أيام على مضيق البدندون ينتظر أن تتخلص عساكر أمير المؤمنين، لأنه كان على الساقة، فكتب أحمد بن الخليل إلى أشناس رقعة يعلمه أن لأمير المؤمنين عنده نصيحة، وأشناس مقيم على مضيق البدندون، فبعث إليه أشناس باحمد بن الخصيب وابى سعيد محمد ابن يوسف يسألانه عن النصيحة، فذكر أنه لا يخبر بها إلا أمير المؤمنين، فرجعا فأخبرا أشناس بذلك، فقال: ارجعا فاحلفا له: إني حلفت بحياة أمير المؤمنين، إن هو لم يخبرني بهذه النصيحة أن أضربه بالسياط حتى يموت، فرجعا فأخبرا أحمد بن الخليل بذلك.
فأخرج جميع من عنده، وبقي أحمد بن الخصيب وأبو سعيد فأخبرهما بما ألقى إليه عمرو الفرغاني من أمر العباس، وشرح لهما جميع ما كان عنده، وأخبرهما بخبر الحارث السمرقندي، فانصرفا إلى أشناس، فأخبراه بذلك، فبعث أشناس في طلب الحدادين، فجاءوا بحدادين من الجند، فدفع إليهما حديدا، فقال: اعملا لي قيدا مثل قيد أحمد بن الخليل، وعجلا به الساعة، ففعلا ذلك، فلما كان عنده حبسه، وكان حاجب أشناس يبيت عند أحمد بن الخليل مع محمد بن سعيد السعدي.
فلما كان تلك الليلة عند العتمة ذهب الحاجب الى خيمه الحارث السمرقندي فاخرجه منها، وجاء به الى اشناس فقيده، وامر الحاجب أن يحمله إلى أمير المؤمنين، فحمله الحاجب إليه، واتفق رحيل أشناس صلاة الغداة، فجاء أشناس إلى موضع معسكره، فتلقاه الحارث معه رجل من قبل المعتصم، وعليه خلع، فقال له أشناس: مه، فقال: القيد الذي كان في رجلي صار في رجل العباس وسأل المعتصم الحارث حين صار إليه عن أمره، فأقر أنه كان صاحب خبر العباس، وأخبره بجميع أمره وجميع من بايع العباس من القواد فأطلق المعتصم الحارث وخلع عليه، ولم يصدق على أولئك القواد لكثرتهم وكثرة من سمي منهم.
وتحير المعتصم في أمر العباس، فدعا به حين خرج إلى الدرب فأطلقه ومناه، وأوهمه أنه قد صفح عنه، وتغدى معه، وصرفه إلى مضربه، ثم دعاه بالليل، فنادمه على النبيذ، وسقاه حتى أسكره، واستحلفه ألا يكتمه من أمره شيئا، فشرح له قصته، وسمى له جميع من كان دب في أمره، وكيف كان السبب في ذلك في كل واحد منهم، فكتبه المعتصم وحفظه، ثم دعا الحارث السمرقندي بعد ذلك، فسأله عن الأسباب، فقص عليه مثل ما قص عليه العباس، ثم أمر بعد ذلك بتقييد العباس، ثم قال للحارث: قد رضتك على أن تكذب، فأجد السبيل إلى سفك دمك فلم تفعل، فقد أفلت، فقال له: يا أمير المؤمنين، لست بصاحب كذب.
ثم دفع العباس إلى الأفشين، ثم تتبع المعتصم أولئك القواد، فأخذوا جميعا، فأمر أن يحمل أحمد بن الخليل على بغل بإكاف بلا وطاء، ويطرح في الشمس إذا نزل، ويطعم في كل يوم رغيفا واحدا، وأخذ عجيف بن عنبسة فيمن أخذ من القواد، فدفع من سائر القواد إلى إيتاخ، ودفع ابن الخليل إلى أشناس، فكان عجيف وأصحابه يحملون في الطريق على بغال باكف بلا وطاء، وأخذ الشاه بن سهل- وهو الرأس ابن الرأس من أهل قرية من خراسان يقال لها سجستان- فدعا به المعتصم والعباس بين يديه، فقال له: يا بن الزانية، أحسنت إليك فلم تشكر! فقال له الشاه بن سهل:
ابن الزانية هذا الذي بين يديك- يعني العباس- لو تركني هذا كنت أنت الساعة لا تقدر أن تقعد في هذا المجلس وتقول لي: يا بن الفاعلة؟ فأمر به المعتصم، فضربت عنقه، وهو أول من قتل من القواد ومعه صحبه، ودفع عجيف إلى إيتاخ فعلق عليه حديدا كثيرا وحمله على بغل في محمل بلا وطاء.
وأما العباس فكان في يدي الأفشين، فلما نزل المعتصم منبج- وكان العباس جائعا- سأل الطعام، فقدم إليه طعام كثير، فأكل فلما طلب الماء منع وأدرج في مسح، فمات بمنبج، وصلى عليه بعض إخوته.
وأما عمرو الفرغاني، فإنه لما نزل المعتصم بنصيبين في بستان، دعا صاحب البستان، فقال له: احفر بئرا في موضع أومأ إليه بقدر قامة، فبدأ صاحب البستان فحفرها، ثم دعا بعمرو والمعتصم جالس في البستان، قد شرب أقداحا من نبيذ، فلم يكلمه المعتصم، ولم يتكلم عمرو حتى مثل بين يديه، فقال: جردوه، فجرد، وضرب بالسياط ضربة الأتراك، والبئر تحفر، حتى إذا فرغ من حفرها قال صاحب البستان: قد حفرتها، فأمر المعتصم عند ذلك فضرب وجه عمرو وجسده بالخشب، فلم يزل يضرب حتى سقط، ثم قال: جروه إلى البئر فاطرحوه فيها، فلم يتكلم عمرو ولم ينطق يومه ذلك، حتى مات فطرح في البئر، وطمت عليه.
وأما عجيف بن عنبسة، فلما صار بباعيناثا، فوق بلد قليلا، مات في المحمل، فطرح عند صاحب المسلحة، وأمر أن يدفن فيها، فجاء به إلى جانب حائط خرب فطرحه عليه فقبر هناك.
وذكر عن علي بن حسن الريداني أنه قال: كان عجيف في يد محمد ابن إبراهيم بن مصعب، فسأله المعتصم عنه، فقال له: يا محمد، لم يمت عجيف؟ قال: يا سيدي اليوم يموت، ثم أتى محمد مضربه، فقال لعجيف يا أبا صالح، أي شيء تشتهي؟ قال أسفيدباج وحلوى فالوذج، فأمر أن يعمل له من كل طعام، فأكل وطلب الماء فمنع، فلم يزل يطلب وهو يسوق حتى مات، فدفن بباعيناثا قال: وأما التركي الذي كان ضمن للعباس قتل أشناس متى ما أمره العباس- وكان كريما على أشناس ينادمه ولا يحجب عنه في ليل ولا نهار- فإنه أمر بحبسه، فحبسه أشناس قبله في بيت، وطين عليه الباب، وكان يلقي إليه في كل يوم رغيفا وكوز ماء، فأتاه ابنه في بعض أيامه، فكلمه من وراء الحائط، فقال له: يا بني، لو كنت تقدر لي على سكين كنت أقدر أن أتخلص من موضعي هذا، فلم يزل ابنه يتلطف في ذلك حتى أوصل إليه سكينا، فقتل به نفسه.
وأما السندي بن بختاشه، فأمر المعتصم أن يوهب لأبيه بختاشه- لأن بختاشه لم يكن يتلطخ بشيء من أمر العباس- فقال المعتصم: لا يفجع هذا الشيخ بابنه، فأمر بتخلية سبيله.
وأما أحمد بن الخليل، فإنه دفعه أشناس إلى محمد بن سعيد السعدي، فحفر له بئرا في الجزيرة بسامرا، فسأل عنه المعتصم يوما من الأيام، فقال لأشناس: ما فعل أحمد بن الخليل؟ فقال له أشناس: هو عند محمد بن سعيد السعدي، قد حفر له بئرا وأطبق عليه، وفتح له فيها كوة ليرمي إليه بالخبز والماء فقال المعتصم: هذا أحسبه قد سمن على هذه الحال، فأخبر أشناس محمد بن سعيد بذلك، فأمر محمد بن سعيد أن يسقى الماء، ويصب عليه في البئر حتى يموت: ويمتلئ البئر، فلم يزل يصب عليه الماء، والرمل ينشف الماء، فلم يغرق ولم يمتلئ البئر، فأمر أشناس بدفعه إلى غطريف الخجندي، فدفع إليه، فمكث عنده أياما، ثم مات فدفن.
وأما هرثمة بن النضر الختلي، فكان واليا على المراغة، وكان في عداد من سماه العباس أنه من أصحابه، فكتب في حمله في الحديد، فتكلم فيه الأفشين، واستوهبه من المعتصم، فوهبه له، فكتب الأفشين كتابا إلى هرثمة ابن النضر يعلمه أن أمير المؤمنين قد وهبه له، وأنه قد ولاه البلد الذي يصل إليه الكتاب فيه، فورد به الدينور عند العشاء مقيدا، فطرح في الخان، وهو موثق في الحديد، فوافاه الكتاب في جنح الليل، فأصبح وهو والي الدينور وقتل باقي القواد ومن لم يحفظ اسمه من الأتراك والفراغنة وغيرهم، قتلوا جميعا.
وورد المعتصم سامرا سالما بأحسن حال، فسمي العباس: اللعين يومئذ، ودفع ولد سندس من ولد المأمون إلى إيتاخ، فحبسوا في سرداب من داره ثم ماتوا بعد.
وجرح في هذه السنة في شوال إسحاق بن إبراهيم، جرحه خادم له.
وحج بالناس فيها محمد بن داود.