163 هـ
779 م
سنة ثلاث وستين ومائة (ذكر الخبر عن الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا)

فمن ذلك ما كان فيها من هلاك المقنع، وذلك أن سعيدا الحرشي حصره بكش، فاشتد عليه الحصار، فلما أحس بالهلكة شرب سما، وسقاه نساءه …

وأهله، فمات وماتوا- فيما ذكر- جميعا، ودخل المسلمون قلعته، واحتزوا رأسه، ووجهوا به الى المهدى وهو بحلب.

ذكر خبر غزو الروم
وفيها قطع المهدي البعوث للصائفة على جميع الأجناد من أهل خراسان وغيرهم، وخرج فعسكر بالبردان، فأقام به نحوا من شهرين يتعبأ فيه ويتهيأ، ويعطي الجنود، وأخرج بها صلات لأهل بيته الذين شخصوا معه، فتوفي عيسى بْن علي في آخر جمادى الآخرة ببغداد وخرج المهدي من الغد إلى البردان متوجها إلى الصائفة، واستخلف ببغداد موسى بْن المهدي، وكاتبه يومئذ أبان بْن صدقة، وعلى خاتمه عبد الله بْن علاثة، وعلى حرسه علي بْن عيسى، وعلى شرطه عبد الله بْن خازم، فذكر العباس بْن محمد أن المهدي لما وجه الرشيد إلى الصائفة سنة ثلاث وستين ومائة خرج يشيعه وأنا معه، فلما حاذى قصر مسلمة، قلت: يا أمير المؤمنين، إن لمسلمة في أعناقنا منة، كان محمد بْن علي مر به، فأعطاه أربعة آلاف دينار، وقال له: يا بن عم هذان ألفان لدينك، وألفان لمعونتك، فإذا نفدت فلا تحتشمنا فقال لما حدثته الحديث: احضروا من هاهنا من ولد مسلمة ومواليه، فأمر لهم بعشرين ألف دينار، وأمر أن تجرى عليهم الأرزاق، ثم قال: يا أبا الفضل، كافانا مسلمة وقضينا حقه؟ قلت: نعم، وزدت يا امير المؤمنين.
وذكر إبراهيم بْن زياد، عن الهيثم بْن عدي، أن المهدي أغزى هارون الرشيد بلاد الروم، وضم إليه الربيع الحاجب والحسن بْن قحطبة.
قَالَ محمد بْن العباس: إني لقاعد في مجلس أبي في دار أمير المؤمنين وهو على الحرس، إذ جاء الحسن بْن قحطبة، فسلم علي، وقعد على الفراش الذي يقعد أبي عليه، فسأل عنه فأعلمته أنه راكب، فقال لي: يا حبيبي أعلمه أني جئت، وأبلغه السلام عني، وقل له: إن أحب أن يقول لأمير المؤمنين: يقول الحسن بْن قحطبة: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك! أغزيت هارون، وضممتني والربيع إليه، وأنا قريع قوادك، والربيع قريع مواليك، وليس تطيب نفسي بان نخلى جميعا بابك، فاما أغزيتني مع هارون وأقام الربيع، وإما أغزيت الربيع وأقمت ببابك قَالَ: فجاء أبي فأبلغته الرسالة، فدخل على المهدي فأعلمه، فقال: أحسن والله الاستعفاء، لا كما فعل الحجام ابْن الحجام- يعني عامر بْن إسماعيل- وكان استعفى من الخروج مع إبراهيم فغضب عليه، واستصفى ماله.
وذكر عبد الله بْن أحمد بْن الوضاح، قَالَ: سمعت جدي أبا بديل، قَالَ: أغزى المهدي الرشيد، وأغزى معه موسى بْن عيسى وعبد الملك بْن صالح بْن علي وموليي أبيه: الربيع الحاجب والحسن الحاجب، فلما فصل دخلت عليه بعد يومين أو ثلاثة، فقال: ما خلفك عن ولي العهد، وعن أخويك خاصة؟ يعني الربيع والحسن الحاجب قلت: أمر أمير المؤمنين ومقامي بمدينة السلام حتى يأذن لي قَالَ: فسر حتى تلحق به وبهما، واذكر ما تحتاج إليه قَالَ: قلت: ما أحتاج إلى شيء من العدة، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في وداعه! فقال لي: متى تراك خارجا؟ قَالَ: قلت من غد، قَالَ: فودعته وخرجت، فلحقت القوم قَالَ: فأقبلت أنظر إلى الرشيد يخرج، فيضرب بالصوالجة، وانظر إلى موسى بْن عيسى وعبد الملك ابن صالح، وهما يتضاحكان منه قَالَ: فصرت إلى الربيع والحسن- وكنا لا نفترق- قال: فقلت: لا جزاكما الله عمن وجهكما ولا عمن وجهتما معه خيرا، فقالا: إيه، وما الخبر؟ قَالَ: قلت: موسى بْن عيسى وعبد الملك بْن صالح يتضاحكان من ابن أمير المؤمنين، أوما كنتما تقدران أن تجعلا لهما مجلسا يدخلان عليه فيه ولمن كان معه من القواد في الجمعه يدخلون عليه ويخلوه في سائر ايامه لما يريد! قَالَ: فبينا نحن في ذلك المسير إذ بعثا إلي في الليل قَالَ: فجئت وعندهما رجل، فقالا لي: هذا غلام الغمر بْن يزيد، وقد أصبنا معه كتاب الدولة قَالَ: ففتحت الكتاب، فنظرت فيه إلى سني المهدي فإذا هي عشر سنين.
قَالَ: فقلت: ما في الأرض أعجب منكما! أتريان أن خبر هذا الغلام يخفى، وأن هذا الكتاب يستتر! قالا: كلا، قلت: فإذا كان أمير المؤمنين قد نقص من سنيه ما نقص، افلستم أول من نعى اليه نفسه! قال: فتبلدوا والله، وسقط في أيديهما، فقالا: فما الحيلة؟ قلت: يا غلام علي بعنبسة- يعني الوراق الأعرابي مولى آل أبي بديل- فأتي به، فقلت له: خط مثل هذا الخط، وورقة مثل هذه الورقة، وصير مكان عشر سنين أربعين سنة، وصيرها في الورقه، قال: فو الله لولا أني رأيت العشر في تلك والأربعين في هذه ما شككت أن الخط ذلك الخط، وأن الورقة تلك الورقة.
قَالَ: ووجه المهدي خالد بْن برمك مع الرشيد وهو ولي العهد حين وجهه لغزو الروم، وتوجه معه الحسن وسليمان ابنا برمك، ووجه معه على أمر العسكر ونفقاته وكتابته والقيام بأمره يحيى بْن خالد- وكان أمر هارون كله إليه- وصير الربيع الحاجب مع هارون يغزو عن المهدي، وكان الذي بين الربيع ويحيى على حسب ذلك، وكان يشاورهما ويعمل برأيهما، ففتح الله عليهم فتوحا كثيرة، وأبلاهم في ذلك الوجه بلاء جميلا، وكان لخالد في ذلك بسمالو أثر جميل لم يكن لأحد، وكان منجمهم يسمى البرمكي تبركا به ونظرا إليه قَالَ: ولما ندب المهدي هارون الرشيد لما ندبه له من الغزو، أمر أن يدخل عليه كتاب أبناء الدعوة لينظر إليهم ويختار له منهم رجلا.
قَالَ يحيى: فأدخلوني عليه معهم، فوقفوا بين يديه، ووقفت آخرهم، فقال لي: يا يحيى، ادن، فدنوت، ثم قَالَ لي: اجلس، فجلست فجثوت بين يديه، فقال لي: إني قد تصفحت أبناء شيعتي وأهل دولتي، واخترت منهم رجلا لهارون ابني أضمه إليه ليقوم بأمر عسكره، ويتولى كتابته، فوقعت عليك خيرتي له، ورأيتك أولى به، إذ كنت مربيه وخاصته، وقد وليتك كتابته وأمر عسكره قَالَ: فشكرت ذلك له، وقبلت يده، وأمر لي بمائة ألف درهم معونة على سفري، فوجهت في ذلك العسكر لما وجهت له.
قَالَ: وأوفد الربيع سليمان بْن برمك إلى المهدي، وأوفد معه وفدا، فأكرم المهدي وفادته وفضله، وأحسن إلى الوفد الذين كانوا معه، ثم انصرفوا من وجههم ذلك.

عزل عبد الصمد بن على عن الجزيرة وتوليه زفر بن الحارث
وفي هذه السنة، سنة مسير المهدي مع ابنه هارون، عزل المهدى عبد الصمد ابن علي عن الجزيرة، وولى مكانه زفر بْن عاصم الهلالي.

ذكر السبب في عزله إياه:
ذكر أن المهدي سلك في سفرته هذه طريق الموصل، وعلى الجزيرة عبد الصمد بْن علي، فلما شخص المهدي من الموصل، وصار بأرض الجزيرة، لم يتلقه عبد الصمد ولا هيأ له نزلا، ولا أصلح له قناطر فاضطغن ذلك عليه المهدي، فلما لقيه تجهمه وأظهر له جفاء، فبعث إليه عبد الصمد بألطاف لم يرضها، فردها عليه، وازداد عليه سخطا، وامر بأخذه باقامه النزل له، فتعبث في ذلك، وتقنع، ولم يزل يربي ما يكرهه إلى أن نزل حصن مسلمة، فدعا به، وجرى بينهما كلام أغلظ له فيه القول المهدي، فرد عليه عبد الصمد ولم يحتمله، فأمر بحبسه وعزله عن الجزيرة، ولم يزل في حبسه في سفره ذلك وبعد أن رجع إلى أن رضي عنه وأقام له العباس بْن محمد النزل، حتى انتهى إلى حلب، فأتته البشرى بها بقتل المقنع، وبعث وهو بها عبد الجبار المحتسب لجلب من بتلك الناحية من الزنادقة ففعل، وأتاه بهم، وهو بدابق، فقتل جماعة منهم وصلبهم، وأتي بكتب من كتبهم فقطعت بالسكاكين ثم عرض بها جنده، وأمر بالرحلة، واشخص جماعه من وافاه من أهل بيته مع ابنه هارون إلى الروم، وشيع المهدي ابنه هارون حتى قطع الدرب، وبلغ جيحان، وارتاد بها المدينة التي تسمى المهدية، وودع هارون على نهر جيحان فسار هارون حتى نزل رستاقا من رساتيق أرض الروم فيه قلعة، يقال لها سمالو، فأقام عليها ثمانيا وثلاثين ليلة، وقد نصب عليها المجانيق، حتى فتحها الله بعد تخريب لها، وعطش وجوع أصاب أهلها، وبعد قتل وجراحات كانت في المسلمين، وكان فتحها على شروط شرطوها لأنفسهم: لا يقتلوا ولا يرحلوا، ولا يفرق بينهم، فأعطوا ذلك، فنزلوا، ووفى لهم، وقفل هارون بالمسلمين سالمين إلا من كان أصيب منهم بها.
وفي هذه السنة وفي سفرته هذه، صار المهدي إلى بيت المقدس، فصلى فيه، ومعه العباس بْن محمد والفضل بْن صالح وعلي بْن سليمان وخاله يزيد ابن منصور.
وفيها عزل المهدي إبراهيم بْن صالح عن فلسطين، فسأله يزيد بْن منصور حتى رده عليها.
وفيها ولى المهدي ابنه هارون المغرب كله وأذربيجان وأرمينية، وجعل كاتبه على الخراج، ثابت بْن موسى، وعلى رسائله يحيى بن خالد بن برمك وفيها عزل زفر بْن عاصم عن الجزيرة، وولى مكانه عبد الله بن صالح ابن علي، وكان المهدي نزل عليه في مسيره إلى بيت المقدس، فأعجب بما رأى من منزله بسلمية.
وفيها عزل معاذ بْن مسلم عن خراسان وولاها المسيب بْن زهير.
وعزل فيها يحيى الحرشي عن أصبهان، وولى مكانه الحكم بْن سعيد.
وعزل فيها سعيد بْن دعلج عن طبرستان والرويان، وولاهما عمر ابن العلاء.
وفيها عزل مهلهل بْن صفوان عن جرجان، وولاها هشام بْن سعيد.
وحج بالناس في هذه السنة علي بْن المهدي.
وكان على اليمامة والمدينة ومكة والطائف فيها جعفر بْن سليمان، وعلى الصلاة والأحداث بالكوفة إسحاق بْن الصباح، وعلى قضائها شريك، وعلى البصرة وأعمالها وكور دجلة والبحرين وعمان والفرض وكور الأهواز وكور فارس محمد بْن سليمان، وعلى خراسان المسيب بْن زهير، وعلى السند نصر بن محمد ابن الاشعث.