صفر 43 هـ
أيار 663 م
سنة ثلاث وأربعين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

فمن ذَلِكَ غزوة بسر بن أبي أرطاة الروم ومشتاه بأرضهم حَتَّى بلغ القسطنطينية- فِيمَا زعم الْوَاقِدِيّ- وَقَدْ أنكر ذاك قوم من أهل الأخبار، …

فَقَالُوا: لَمْ يَكُنْ لبسر بأرض الروم مشتى قط.
وفيها مات عَمْرو بن الْعَاصِ بمصر يوم الفطر، وقبل كَانَ عمل عَلَيْهَا لعمر ابن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أربع سنين، ولعثمان أربع سنين إلا شهرين، ولمعاوية سنتين إلا شهرا.
وفيها ولى مُعَاوِيَة، عَبْد اللَّهِ بن عَمْرو بن الْعَاصِ مصر بعد موت أَبِيهِ، فوليها لَهُ- فِيمَا زعم الْوَاقِدِيّ- نحوا من سنتين وفيها مات مُحَمَّد بن مسلمة فِي صفر بِالْمَدِينَةِ، وصلى عَلَيْهِ مَرْوَان بن الحكم.

خبر قتل المستورد بن علفه الخارجي
وفيها قتل المستورد بن علفة الخارجي، فِيمَا زعم هِشَام بن مُحَمَّدٍ وَقَدْ زعم بعضهم أنه قتل فِي سنة اثنتين وأربعين.

ذكر الخبر عن مقتله:
قَدْ ذكرنا مَا كَانَ من اجتماع بقايا الخوارج الَّذِينَ كَانُوا ارتثوا يوم النهر، ومن كَانَ مِنْهُمُ انحاز إِلَى الري وغيرهم إِلَى النفر الثلاثة الَّذِينَ سميت قبل، الَّذِينَ أحدهم المستورد بن علفة، وذكرنا بيعتهم المستورد، واجتماعهم عَلَى الخروج فِي غرة هلال شعبان من سنة ثلاث وأربعين.
فذكر هِشَام، عن أبي مخنف، أن جَعْفَر بن حُذَيْفَة الطَّائِيّ حدثه عن المحل بن خليفة، أن قبيصة بن الدمون أتى الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ- وَكَانَ عَلَى شرطته- فَقَالَ: إن شمر بن جعونة الكلابي جاءني فخبرني أن الخوارج قَدِ اجتمعوا فِي منزل حيان بن ظبيان السلمي، وَقَدِ اتعدوا أن يخرجوا إليك فِي غرة شعبان، فَقَالَ الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ لقبيصة بن الدمون- وَهُوَ حليف لثقيف، وزعموا أن أصله كَانَ من حضرموت من الصدف: سر بالشرطة حَتَّى تحيط بدار حيان بن ظبيان فأتني بِهِ، وهم لا يرون إلا أنه أَمِير تِلَكَ الخوارج فسار قبيصة فِي الشرطة وفي كثير مِنَ النَّاسِ، فلم يشعر حيان بن ظبيان إلا والرجال مَعَهُ فِي داره نصف النهار، وإذا مَعَهُ معاذ بن جوين ونحو من عشرين رجلا من أَصْحَابهما، وثارت امرأته، أم ولد لَهُ، فأخذت سيوفا كَانَتْ لَهُمْ، فألقتها تحت الفراش، وفزع بعض القوم إِلَى سيوفهم فلم يجدوها، فاستسلموا، فانطلق بهم الى المغيره ابن شُعْبَةَ، فَقَالَ لَهُمُ الْمُغِيرَة: مَا حملكم عَلَى مَا أردتم من شق عصا الْمُسْلِمِينَ؟
فَقَالُوا: مَا أردنا من ذَلِكَ شَيْئًا، قَالَ: بلى، قَدْ بلغني ذَلِكَ عنكم، ثُمَّ قَدْ صدق ذَلِكَ عندي جماعتكم، قَالُوا لَهُ: أما اجتماعنا في هذا المنزل فان حيان ابن ظبيان أقرأنا القرآن، فنحن نجتمع عنده فِي منزله فنقرأ القرآن عَلَيْهِ.
فَقَالَ: اذهبوا بهم إِلَى السجن، فلم يزالوا فِيهِ نحوا من سنة، وسمع إخوانهم بأخذهم فحذروا، وخرج صاحبهم المستورد بن علفة فنزل دارا بالحيرة إِلَى جنب قصر العدسيين من كلب، فبعث إِلَى إخوانه، وكانوا يختلفون إِلَيْهِ ويتجهزون، فلما كثر اختلاف أَصْحَابه إِلَيْهِ قَالَ لَهُمْ صاحبهم المستورد بن علفة التيمي:
تحولوا بنا عن هَذَا المكان، فإني لا آمن أن يُطَّلَعَ عَلَيْكُمْ فإنهم فِي ذَلِكَ يقول بعضهم لبعض: نأتي مكان كذا وكذا، ويقول بعضهم: نأتي مكان كذا وكذا، إذ أشرف عَلَيْهِم حجار بن أبجر من دار كَانَ هُوَ فِيهَا وطائفة من أهله، فإذا هم بفارسين قَدْ أقبلا حَتَّى دخلا تِلَكَ الدار الَّتِي فِيهَا القوم، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ بأسرع من أن جَاءَ آخران فدخلا، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ إلا قليل حَتَّى جَاءَ آخر فدخل، ثُمَّ آخر فدخل، وَكَانَ ذَلِكَ يعنيه، وَكَانَ خروجهم قَدِ اقترب، فَقَالَ حجار لصاحبة الدار الَّتِي كَانَ فِيهَا نازلا وَهِيَ ترضع صبيا لها: ويحك! مَا هَذِهِ الخيل الَّتِي أراها تدخل هَذِهِ الدار؟ قالت: والله مَا أدري مَا هم! إلا أن الرجال يختلفون إِلَى هَذِهِ الدار رجالا وفرسانا لا ينقطعون، وَلَقَدْ أنكرنا ذَلِكَ منذ أيام، وَلا ندري من هم! فركب حجار فرسه، وخرج مَعَهُ غلام لَهُ، فأقبل حَتَّى انتهى إِلَى باب دارهم، فإذا عَلَيْهِ رجل مِنْهُمْ، فكلما أتى إنسان مِنْهُمْ إِلَى الباب دخل إِلَى صاحبه فأعلمه، فأذن لَهُ، فإن جاءه رجل من معروفيهم دخل ولم يستأذن، فلما انتهى إِلَيْهِ حجار لم يعرفه الرجل، فَقَالَ: من أنت رحمك اللَّه؟ وما تريد؟ قَالَ:
أردت لقاء صاحبي، قَالَ لَهُ: وما اسمك؟ قَالَ لَهُ: حجار بن أبجر، قَالَ:
فكما أنت حَتَّى أوذنهم بك ثُمَّ أخرج إليك فَقَالَ لَهُ حجار: ادخل راشدا! فدخل الرجل، واتبعه حجار مسرعا، فانتهى إِلَى باب صفة عظيمة هم فِيهَا، وَقَدْ دخل إِلَيْهِم الرجل فَقَالَ: هَذَا رجل يستأذن عَلَيْك أنكرته فقلت لَهُ: من أنت؟ فَقَالَ: أنا حجار بن أبجر، فسمعهم يتفزعون ويقولون:
حجار بن أبجر! وَاللَّهِ مَا جَاءَ حجار بن أبجر بخير فلما سمع القول مِنْهُمْ أراد أن ينصرف ويكتفي بِذَلِكَ من الاسترابة بأمرهم، ثُمَّ أبت نفسه أن ينصرف حَتَّى يعاينهم، فتقدم حَتَّى قام بين سجفي باب الصفة وَقَالَ: السلام عَلَيْكُمْ، فنظر فإذا هُوَ بجماعة كثيرة، وإذا سلاح ظاهر ودروع، فَقَالَ حجار:
اللَّهُمَّ اجمعهم عَلَى خير، من أنتم عافاكم اللَّه؟ فعرفه عَلِيّ بن ابى شمر ابن الحصين، من تيم الرباب- وَكَانَ أحد الثمانية الَّذِينَ انهزموا من الخوارج يوم النهر، وَكَانَ من فرسان العرب ونساكهم وخيارهم- فَقَالَ لَهُ: يا حجار ابن أبجر، إن كنت إنما جَاءَ بك التماس الخبر فقد وجدته، وإن كنت إنما جَاءَ بك أمر غير ذَلِكَ فادخل، وأخبرنا مَا أتى بك، فَقَالَ: لا حاجة لي فِي الدخول، فانصرف، فَقَالَ بعضهم لبعض: أدركوا هَذَا فاحبسوه، فإنه مؤذن بكم، فخرجت مِنْهُمْ جماعة فِي إثره- وَذَلِكَ عِنْدَ تطفيل الشمس للإياب- فانتهوا إِلَيْهِ وَقَدْ ركب فرسه، فَقَالُوا لَهُ: أَخْبِرْنَا خبرك، وما جَاءَ بك؟ قَالَ: لم آت لشيء يروعكم وَلا يهولكم، فَقَالُوا لَهُ: انتظر حَتَّى ندنو مِنْكَ ونكلمك، أو تدنو منا، أَخْبِرْنَا فنعلمك أمرنا، ونذكر حاجتنا، فَقَالَ لَهُمْ: مَا أنا بدان مِنْكُمْ، وَلا أريد أن يدنو مني مِنْكُمْ أحد، فَقَالَ لَهُ عَلِيّ بن أبي شمر بن الحصين: أفمؤمننا أنت من الإذن بنا هَذِهِ الليلة وأنت محسن، فإن لنا قرابة وحقا؟ قَالَ: نعم، أنتم آمنون من قبلي هَذِهِ الليلة وليالي الدهر كلها، ثُمَّ انطلق حَتَّى دخل الْكُوفَة وأدخل أهله مَعَهُ وَقَالَ الآخرون بعضهم لبعض: إنا لا نأمن أن يؤذن بنا هَذَا، فأخرجوا بنا من هَذَا الموضع ساعتنا هَذِهِ، قَالَ: فصلوا المغرب، ثُمَّ خرجوا من الحيرة متفرقين، فَقَالَ لَهُمْ صاحبهم: الحقوا بي فِي دار سليم بن محدوج العبدي من بني سلمة، فخرج من الحيرة، فمضى حَتَّى أتى عبد القيس، فأتى بني سلمة، فبعث إِلَى سليم بن محدوج- وَكَانَ لَهُ صهرا- فأتاه، فأدخله وأَصْحَابا لَهُ خمسة أو ستة، ورجع حجار بن أبجر إِلَى رحله، فأخذوا ينتظرون مِنْهُ أن يبلغهم مِنْهُ ذكر لَهُمْ عِنْدَ السلطان أو الناس، فما ذكرهم عِنْدَ أحد مِنْهُمْ، وَلا بلغهم عنه فِي ذَلِكَ شَيْء يكرهونه فبلغ الخبر الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ أن الخوارج خارجة عَلَيْهِ فِي أيامه تِلَكَ، وأنهم قَدِ اجتمعوا عَلَى رجل مِنْهُمْ، فقام الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ فِي الناس، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فقد علمتم أَيُّهَا النَّاسُ أني لم أزل أحب لجماعتكم العافية، وأكف عنكم الأذى، وإني وَاللَّهِ لقد خشيت أن يكون ذَلِكَ أدب سوء لسفهائكم، فأما الحلماء الأتقياء فلا، وايم اللَّه لقد خشيت الا أجد بدا من أن يعصب الحليم التقي بذنب السفيه الجاهل، فكفوا أَيُّهَا النَّاسُ سفهاءكم قبل أن يشمل البلاء عوامكم وَقَدْ ذكر لي أن رجالا مِنْكُمْ يريدون أن يظهروا فِي المصر بالشقاق والخلاف، وايم اللَّه لا يخرجون فِي حي من أحياء العرب فِي هَذَا المصر إلا أبدتهم وجعلتهم نكالا لمن بعدهم، فنظر قوم لأنفسهم قبل الندم، فقد قمت هَذَا المقام إرادة الحجة والإعذار.
فقام إِلَيْهِ معقل بن قيس الرياحي فَقَالَ: أيها الأمير، هل سمي لك أحد من هَؤُلاءِ القوم؟ فإن كَانُوا سموا لك فأعلمنا من هم؟ فإن كَانُوا منا كفيناكهم، وإن كَانُوا من غيرنا أمرت أهل الطاعة من أهل نريد أهل المغرب، وقالت طائفة: نريد عَبْد اللَّهِ بن وهب الراسبي، راسب الأزد، وقلتم أنتم: لا نريد إلا أهل البيت الَّذِينَ ابتدأنا اللَّه من قبلهم بالكرامة، تسديدا من اللَّه لكم وتوفيقا، فلم تزالوا عَلَى الحق لازمين لَهُ، آخذين بِهِ، حَتَّى أهلك اللَّه بكم وبمن كَانَ عَلَى مثل هداكم ورأيكم الناكثين يوم الجمل، والمارقين يوم النهر- وسكت عن ذكر أهل الشام، لأن السلطان كَانَ حينئذ سلطانهم- وَلا قوم أعدى لِلَّهِ ولكم ولأهل بيت نبيكم ولجماعة الْمُسْلِمِينَ من هَذِهِ المارقة الخاطئة، الَّذِينَ فارقوا إمامنا، واستحلوا دماءنا، وشهدوا علينا بالكفر، فإياكم ان تووهم فِي دوركم، أو تكتموا عَلَيْهِم، فإنه ليس ينبغي لحي من أحياء العرب أن يكون أعدى لهذه المارقة مِنْكُمْ، وَقَدْ وَاللَّهِ ذكر لي أن بعضهم فِي جانب من الحي، وأنا باحث عن ذَلِكَ وسائل، فإن كَانَ حكي لي ذَلِكَ حقا تقربت إِلَى اللَّهِ تعالى بدمائهم، فإن دماءهم حلال ثُمَّ قَالَ: يَا معشر عبد القيس، إن ولاتنا هَؤُلاءِ هم أعرف شَيْء بكم وبرأيكم، فلا تجعلوا لَهُمْ عَلَيْكُمْ سبيلا، فإنهم أسرع شَيْء إليكم وإلى أمثالكم ثُمَّ تنحى فجلس، فكل قومه قَالَ: لعنهم اللَّه! وَقَالَ: برئ اللَّه مِنْهُمْ، فلا وَاللَّهِ فلا نؤويهم، ولئن علمنا بمكانهم لنطلعنك عَلَيْهِم، غير سليم بن محدوج، فإنه لم يقل شَيْئًا، فرجع إِلَى قومه كئيبا واجما، يكره أن يخرج أَصْحَابه من منزله فيلوموه، وَقَدْ كَانَتْ بينهم مصاهرة، وَكَانَ لَهُمْ ثقة، ويكره أن يطلبوا فِي داره فيهلكوا ويهلك وجاء فدخل رحله، وأقبل أَصْحَاب المستورد يأتونه، فليس مِنْهُمْ رجل إلا يخبره بِمَا قام بِهِ الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ فِي الناس وبما جاءهم رؤساؤهم، وقاموا فِيهِمْ، وَقَالُوا لَهُ:
اخرج بنا، فو الله مَا نأمن أن نؤخذ فِي عشائرنا قَالَ: فَقَالَ لَهُمْ: أما ترون رأس عبد القيس قام فِيهِمْ كما قامت رؤساء العشائر فِي عشائرهم؟ قالوا: بلى وَاللَّهِ نرى قَالَ: فإن صاحب منزلي لم يذكر لي شَيْئًا، قَالُوا: نرى وَاللَّهِ انه استحياء منك، فدعاه فأتاه، فقال: يا بن محدوج، إنه قَدْ بلغني أن رؤساء العشائر قاموا اليهم، وتقدموا إِلَيْهِم فِيَّ وفي أَصْحَابي، فهل قام فيكم أحد يذكر لكم شَيْئًا من ذَلِكَ؟ قَالَ: فَقَالَ: نعم، قَدْ قام فينا صعصعة ابن صوحان، فتقدم إلينا في الا نؤوي أحدا من طلبتهم، وَقَالُوا أقاويل كثيرة كرهت أن أذكرها لكم فتحسبوا أنه ثقل علي شَيْء من أمركم، فَقَالَ لَهُ المستورد: قَدْ أكرمت المثوى، وأحسنت الفعل، ونحن إِنْ شَاءَ اللَّهُ مرتحلون عنك، ثُمَّ قَالَ: أما وَاللَّهِ لو أرادوك فِي رحلي مَا وصلوا إليك وَلا إِلَى أحد من أَصْحَابك حَتَّى أموت دونكم، قَالَ: أعاذك اللَّه من ذَلِكَ! وبلغ الَّذِينَ فِي محبس الْمُغِيرَة مَا أجمع عَلَيْهِ أهل المصر من الرأي فِي نفي من كَانَ بينهم من الخوارج وأخذهم، فَقَالَ معاذ بن جوين بن حصين فِي ذَلِكَ:

أَلا أيها الشارون قَدْ حان لامرئ *** شرى نفسه لِلَّهِ أن يترحلا
أقمتم بدار الخاطئين جهالة *** وكل امرئ مِنْكُمْ يصاد ليقتلا
فشدوا على القوم العداه فإنما *** أقامتكمُ للذبح رأيا مضللا
أَلا فاقصدوا يَا قوم للغاية الَّتِي *** إذا ذكرت كَانَتْ أبر وأعدلا
فيا ليتني فيكم عَلَى ظهر سابح *** شديد القصيرى دارعا غير أعزلا
ويا ليتني فيكم أعادي عدوكم *** فيسقيَني كأس المنية أولا
يعز علي أن تخافوا وتطردوا *** ولما أجردْ فِي المحلين منصلا
ولما يفرقْ جمعهم كل ماجد *** إذا قلت قَدْ ولى وأدبر أقبلا
مشيحا بنصل السيف فِي حمس الوغى *** يرى الصبر فِي بعض المواطن أمثلا
وعز علي أن تضاموا وتنقصوا *** وأصبح ذا بث أسيرا مكبلا
ولو أنني فيكم وَقَدْ قصدوا لكم *** أثرت إذًا بين الفريقين قسطلا
فيا رُبّ جمع قَدْ فللتُ وغارة *** شهدتُ وقرن قَدْ تركت مجدلا

فبعث المستورد إِلَى أَصْحَابه فَقَالَ لَهُمُ: اخرجوا من هَذِهِ القبيلة لا يصب امرأ مسلما فِي سببنا بغير علم معرة وَكَانَ فِيهِمْ بعض من يرى رأيهم، فاتعدوا سورا، فخرجوا إِلَيْهَا متقطعين من أربعة وخمسة وعشرة، فتتاموا بها ثلاثمائة رجل، ثُمَّ ساروا إِلَى الصراة، فباتوا بِهَا ليله.
ثم إن الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ أخبر خبرهم، فدعا رؤساء الناس، فَقَالَ:
إن هَؤُلاءِ الأشقياء قَدْ أخرجهم الحين وسوء الرأي، فمن ترون أبعث إِلَيْهِم؟
قَالَ: فقام إِلَيْهِ عدي بن حاتم، فَقَالَ: كلنا لَهُمْ عدو، ولرأيهم مسفه، وبطاعتك مستمسك، فأينا شئت سار إِلَيْهِم.
فقام معقل بن قيس، فَقَالَ: إنك لا تبعث إِلَيْهِم أحدا ممن ترى حولك من أشراف المصر إلا وجدته سامعا مطيعا، ولهم مفارقا، ولهلاكهم محبا، وَلا أَرَى أصلحك اللَّه أن تبعث إِلَيْهِم أحدا مِنَ النَّاسِ أعدى لَهُمْ وَلا أشد عَلَيْهِم مني، فابعثني إِلَيْهِم فإني أكفيكهم بإذن اللَّه، فَقَالَ اخرج عَلَى اسم اللَّه، فجهز مَعَهُ ثلاثة آلاف رجل.
وَقَالَ الْمُغِيرَة لقبيصة بن الدمون: الصق لي بشيعة علي، فأخرجهم مع معقل بن قيس، فإنه كَانَ من رءوس أَصْحَابه، فإذا بعثت بشيعته الَّذِينَ كَانُوا يعرفون فاجتمعوا جميعا، استأنس بعضهم ببعض وتناصحوا، وهم أشد استحلالا لدماء هَذِهِ المارقة، وأجرأ عَلَيْهِم من غيرهم، وَقَدْ قاتلوا قبل هَذِهِ المرة.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي الأسود بن قيس، عن مرة بن منقذ بن النُّعْمَانِ، قَالَ: كنت أنا فيمن ندب مَعَهُ يومئذ، قال: لقد كان صعصعة ابن صُوحَانَ قام بعد معقل بن قيس وَقَالَ: ابعثني إِلَيْهِم أيها الأمير، فأنا وَاللَّهِ لدمائهم مستحل، وبحملها مستقل، فَقَالَ: اجلس، فإنما أنت خطيب، فكان أحفظه ذَلِكَ، وإنما قَالَ ذَلِكَ لأنه بلغه أنه يعيب عُثْمَان بن عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ويكثر ذكر علي ويفضله، وَقَدْ كَانَ دعاه، فَقَالَ:
إياك أن يبلغني عنك أنك تعيب عُثْمَان عِنْدَ أحد مِنَ النَّاسِ، وإياك أن يبلغني عنك أنك تظهر شَيْئًا من فضل علي علانية، فإنك لست بذاكر من فضل علي شَيْئًا أجهله، بل أنا أعلم بِذَلِكَ، ولكن هَذَا السلطان قَدْ ظهر، وَقَدْ أخذنا بإظهار عيبه لِلنَّاسِ، فنحن ندع كثيرا مما أمرنا بِهِ، ونذكر الشيء الَّذِي لا نجد مِنْهُ بدا، ندفع بِهِ هَؤُلاءِ القوم عن أنفسنا تقية، فإن كنت ذاكرا فضله فاذكره بينك وبين أَصْحَابك وفي منازلكم سرا، وأما علانية فِي المسجد فإن هَذَا لا يحتمله الخليفة لنا، ولا يعذرنا به، فكان يقول لَهُ:
نعم أفعل، ثُمَّ يبلغه أنه قَدْ عاد إِلَى مَا نهاه عنه، فلما قام إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ:
ابعثني إِلَيْهِم، وجد الْمُغِيرَة قَدْ حقد عَلَيْهِ خلافه إِيَّاهُ، فَقَالَ: اجلس فإنما أنت خطيب، فأحفظه، فَقَالَ لَهُ: أوما أنا إلا خطيب فقط! أجل وَاللَّهِ، إني للخطيب الصليب الرئيس، أما وَاللَّهِ لو شهدتني تحت راية عبد القيس يوم الجمل حَيْثُ اختلفت القنا، فشئون تفرى، وهامة تختلى، لعلمت أني أنا الليث الهزبر، فَقَالَ: حسبك الآن، لعمري لقد أوتيت لسانا فصيحا، ولم يلبث قبيصة بن الدمون أن أخرج الجيش مع معقل، وهم ثلاثة آلاف نقاوة الشيعة وفرسانهم.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي النضر بن صالح، عن سَالم بن رَبِيعَة، قَالَ: إني جالس عِنْدَ الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ حين أتاه معقل بن قيس يسلم عَلَيْهِ ويودعه، فَقَالَ لَهُ الْمُغِيرَة: يَا معقل بن قيس، إني قَدْ بعثت معك فرسان أهل المصر، أمرت بهم فانتخبوا انتخابا، فسر إِلَى هَذِهِ العصابة المارقة الذين فارقوا جماعتنا، وشهدوا عليها بالكفر، فادعهم إِلَى التوبة، وإلى الدخول فِي الجماعة، فإن فعلوا فاقبل مِنْهُمْ، واكفف عَنْهُمْ، وإن هم لم يفعلوا فناجزهم، واستعن بِاللَّهِ عليهم فَقَالَ معقل بن قيس: سندعوهم ونعذر، وايم اللَّه مَا أَرَى أن يقبلوا، ولئن لم يقبلوا الحق لا نقبل مِنْهُمُ الباطل، هل بلغك- أصلحك اللَّه- أين منزل القوم؟ قَالَ: نعم، كتب إلي سماك بن عبيد العبسي- وَكَانَ عاملا لَهُ عَلَى المدائن- يخبرني أَنَّهُمُ ارتحلوا من الصراة، فأقبلوا حَتَّى نزلوا بهرسير، وأنهم أرادوا أن يعبروا إِلَى الْمَدِينَة العتيقة الَّتِي بِهَا منازل كسرى وأبيض المدائن، فمنعهم سماك أن يجوزوا، فنزلوا بمدينة بهرسير مقيمين، فاخرج إِلَيْهِم، وانكمش فِي آثارهم حَتَّى تلحقهم، وَلا تدعهم والإقامة فِي بلد ينتهي إِلَيْهِم فِيهِ أكثر من الساعة الَّتِي تدعوهم فِيهَا، فإن قبلوا وإلا فناهضهم، فإنهم لن يقيموا ببلد يومين إلا أفسدوا كل من خالطهم.
فخرج من يومه فبات بسورا، فأمر الْمُغِيرَة مولاه ورادا، فخرج إِلَى النَّاسِ فِي مسجد الجماعة، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إن معقل بن قيس قَدْ سار إِلَى هَذِهِ المارقة، وَقَدْ بات الليلة بسورا، فلا يتخلفن عنه أحد من أَصْحَابه.
أَلا وأن الأمير يخرج عَلَى كل رجل مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ، ويعزم عَلَيْهِم أن يبيتوا بالكوفة، أَلا وأيما رجل من هَذَا البعث وجدناه بعد يومنا بالكوفة فقد أحل بنفسه.
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي عبد الرَّحْمَن بن جندب، عن عَبْد اللَّهِ بن عُقْبَةَ الغنوي، قَالَ: كنت فيمن خرج مع المستورد بن علفة، وكنت أحدث رجل فِيهِمْ قَالَ: فخرجنا حَتَّى أتينا الصراة، فأقمنا بِهَا حَتَّى تتامت جماعتنا، ثُمَّ خرجنا حَتَّى انتهينا إِلَى بهرسير، فدخلناها ونذر بنا سماك بن عبيد العبسي، وَكَانَ فِي الْمَدِينَة العتيقة، فلما ذهبنا لنعبر الجسر إِلَيْهِم قاتلنا عَلَيْهِ، ثُمَّ قطعه علينا، فأقمنا ببهرسير قَالَ: فدعاني المستورد بن علفه، فقال: اتكتب يا بن أخي؟ قلت: نعم، فدعا لي برق ودواة، وَقَالَ: اكتب: من عَبْد اللَّهِ المستورد أَمِير الْمُؤْمِنِينَ إِلَى سماك بن عبيد، أَمَّا بَعْدُ، فقد نقمنا عَلَى قومنا الجور فِي الأحكام، وتعطيل الحدود، والاستئثار بالفيء، وإنا ندعوك إِلَى كتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وسنة نبيه ص، وولاية أبي بكر وعمر رضوان اللَّه عليهما، والبراءة من عُثْمَان وعلي، لإحداثهما فِي الدين، وتركهما حكم الكتاب، فإن تقبل فقد أدركت رشدك، والا تقبل فقد بالغنا فِي الإعذار إليك، وَقَدْ آذناك بحرب، فنبذنا إليك عَلَى سواء، إن اللَّه لا يحب الخائنين قَالَ: فَقَالَ المستورد: انطلق إِلَى سماك بهذا الكتاب فادفعه إِلَيْهِ، واحفظ مَا يقول لك، والقَني قَالَ: وكنت فتى حدثا حين أدركت، لم أجرب الأمور، وَلا علم لي بكثير منها، فقلت: أصلحك اللَّه! لو أمرتني أن أستعرض دجلة فألقي نفسي فِيهَا مَا عصيتك، ولكن تأمن علي سماكا أن يتعلق بي، فيحبسني عنك، فإذا أنا قَدْ فاتني ما اترجاه من الجهاد! فتبسم وقال: يا بن أخي، إنما أنت رسول، والرسول لا يعرض لَهُ، ولو خشيت ذَلِكَ عَلَيْك لم أبعثك، وما أنت عَلَى نفسك بأشفق مني عَلَيْك قَالَ: فخرجت حَتَّى عبرت إِلَيْهِم فِي معبر، فأتيت سماك بن عبيد، وإذا الناس حوله كثير قَالَ: فلما أقبلت نحوهم أبدوني أبصارهم، فلما دنوت مِنْهُمُ ابتدرني نحو من عشرة، وظننت وَاللَّهِ أن القوم يريدون أخذي، وأن الأمر عندهم ليس كما ذكر لي صاحبي، فانتضيت سيفي، وقلت: كلا، والذي نفسي بيده، لا تصلون إلي حَتَّى أعذر إِلَى اللَّهِ فيكم، قَالُوا لي: يَا عَبْد اللَّهِ، من أنت؟ قلت:
أنا رسول أَمِير الْمُؤْمِنِينَ المستورد بن علفة،، قَالُوا: فلم انتضيت سيفك؟
قلت: لابتداركم إلي، فخفت أن توثقوني وتغدروا بي قَالُوا: فأنت آمن، وإنما أتيناك لنقوم إِلَى جنبك، ونمسك بقائم سيفك، وننظر مَا جئت له، وما تسال، قال: فقلت لهم: لست آمنا حَتَّى تردوني إِلَى أَصْحَابي؟ قَالُوا:
بلى، فشِمْتُ سيفي، ثُمَّ أتيت حَتَّى قمت عَلَى راس سماك بن عبيد واصحابه قد ائتشبوا بي، فمنهم ممسك بقائم سيفي، ومنهم ممسك بعضدي، فدفعت إِلَيْهِ كتاب صاحبي، فلما قرأه رفع رأسه إلي، فَقَالَ: مَا كَانَ المستورد عندي خليقا لما كنت أَرَى من إخباته وتواضعه أن يخرج عَلَى الْمُسْلِمِينَ بسيفه، يعرض عَلَيَّ المستورد البراءة من علي وعثمان، ويدعوني إِلَى ولايته! فبئس وَاللَّهِ الشيخ أنا إذا! قَالَ: ثُمَّ نظر إلي فَقَالَ: يَا بني، اذهب إِلَى صاحبك فقل لَهُ: اتق اللَّه وارجع عن رأيك، وادخل فِي جماعة الْمُسْلِمِينَ، فإن أردت أن أكتب لك فِي طلب الأمان إِلَى الْمُغِيرَة فعلت، فإنك ستجده سريعا إِلَى الإصلاح، محبا للعافية: قَالَ: قلت لَهُ، وإن لي فِيهِمْ يَوْمَئِذٍ بصيرة، هيهات! إنما طلبنا بهذا الأمر الَّذِي أخافنا فيكم فِي عاجل الدُّنْيَا الأمن عِنْدَ اللَّه يوم الْقِيَامَة، فَقَالَ لي: بؤسا لك! كيف أرحمك! ثُمَّ قَالَ لأَصْحَابه:
إِنَّهُمْ خلوا بهذا ثُمَّ جعلوا يقرءون عَلَيْهِ القرآن ويتخضعون ويتباكون، فظن بهذا أَنَّهُمْ عَلَى شَيْء من الحق، إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا، وَاللَّهِ مَا رأيت قوما كَانُوا أظهر ضلالة، وَلا أبين شؤما، من هَؤُلاءِ الَّذِينَ ترون! قلت: يَا هَذَا إنني لم آتك لأشاتمك وَلا أسمع حديثك وحديث أَصْحَابك، حَدّثني، أنت تجيبني إِلَى مَا فِي هَذَا الكتاب أم لا تفعل فارجع إِلَى صاحبي؟ فنظر إلي ثُمَّ قَالَ لأَصْحَابه: أَلا تعجبون إِلَى هَذَا الصبي! وَاللَّهِ إني لأراني أكبر من أَبِيهِ، وَهُوَ يقول لي: أتجيبني إِلَى مَا فِي هَذَا الكتاب! انطلق يَا بني إِلَى صاحبك، إنما تندم لو قَدِ اكتنفتكم الخيل، وأشرعت فِي صدوركم الرماح، هُنَاكَ تمنى لو كنت فِي بيت أمك! قَالَ: فانصرفت من عنده فعبرت إِلَى أَصْحَابي، فلما دنوت من صاحبي قَالَ: مَا رد عَلَيْك؟
قلت: مَا رد خيرا، قلت لَهُ: كذا وَقَالَ لي: كذا، فقصصت عَلَيْهِ القصة، قَالَ: فَقَالَ المستورد: {إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} [البقرة: 6-7] قَالَ: فلبثنا بمكاننا ذاك يومين أو ثلاثة ايام، ثم استبان لنا مسير معقل ابن قيس إلينا قَالَ: فجمعنا المستورد، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإن هذا الخرق معقل بن قيس قَدْ وجه إليكم وَهُوَ من السبئيه المفترين الكاذبين، وَهُوَ لِلَّهِ ولكم عدو، فأشيروا علي برأيكم قَالَ: فَقَالَ لَهُ بعضنا: وَاللَّهِ مَا خرجنا نريد إلا اللَّه، وجهاد من عادى اللَّه، وَقَدْ جاءونا فأين نذهب عَنْهُمْ! بل نقيم حَتَّى يحكم اللَّه بيننا وبينهم وَهُوَ خير الحاكمين وقالت طائفة أخرى: بل نعتزل ونتنحى، ندعو الناس ونحتج عَلَيْهِم بالدعاء.
فَقَالَ: يَا معشر الْمُسْلِمِينَ، إني وَاللَّهِ مَا خرجت ألتمس الدُّنْيَا وَلا ذكرها وَلا فخرها وَلا البقاء، وما أحب أنها لي بحذافيرها، وأضعاف مَا يتنافس فِيهِ منها بقبال نعلي! وما خرجت إلا التماس الشهادة، وأن يهديني اللَّه إِلَى الكرامة بهوان بعض أهل الضلالة، وإني قَدْ نظرت فِيمَا استشرتكم فِيهِ فرأيت الا اقيم لهم حتى يقدموا على وهم جامون متوافرون، ولكن رأيت أن أسير حَتَّى أمعن، فإنهم إذا بلغهم ذَلِكَ خرجوا فِي طلبنا، فتقطعوا وتبددوا، فعلى تِلَكَ الحال ينبغي لنا قتالهم، فاخرجوا بنا عَلَى اسم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ: فخرجنا فمضينا عَلَى شاطئ دجلة حَتَّى انتهينا إِلَى جرجرايا، فعبرنا دجلة، فمضينا كما نحن فِي أرض جوخى حَتَّى بلغنا المذار، فأقمنا فِيهَا، وبلغ عَبْد اللَّهِ بن عَامِر مكاننا الَّذِي كنا فِيهِ، فسأل عن الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ، كيف صنع فِي الجيش الَّذِي بعث إِلَى الخوارج؟ وكم عدتهم؟
فأخبر بعدتهم، وقيل لَهُ: إن الْمُغِيرَة نظر إِلَى رجل شريف رئيس قَدْ كَانَ قاتل الخوارج مع على ع، وَكَانَ من أَصْحَابه، فبعثه وبعث مَعَهُ شيعة علي لعداوتهم لَهُمْ، فَقَالَ: أصاب الرأي، فبعث إِلَى شريك بن الأعور الحارثي- وَكَانَ يرى راى على ع- فَقَالَ لَهُ: اخرج إِلَى هَذِهِ المارقة فانتخب ثلاثة آلاف رجل مِنَ النَّاسِ، ثُمَّ أتبعهم حتى تخرجهم من أرض الْبَصْرَة أو تقتلهم وَقَالَ لَهُ بينه وبينه: اخرج إِلَى أعداء اللَّه بمن يستحل قتالهم من أهل الْبَصْرَة، فظن شريك به انما يعنى شيعه على ع، ولكنه يكره أن يسميهم، فانتخب الناس، وألح عَلَى فرسان رَبِيعَة الَّذِينَ كَانَ رأيهم فِي الشيعة، وَكَانَ تجيبه العظماء مِنْهُمْ ثُمَّ إنه خرج فِيهِمْ مقبلا إِلَى المستورد بن علفة بالمذار.
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي حصيرة بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِث، عَنْ أَبِيهِ عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث، قَالَ: كنت فِي الَّذِينَ خرجوا مع معقل بن قيس، فأقبلت مَعَهُ، فو الله مَا فارقته ساعة من نهار منذ خرجت، فكان أول منزل نزلناه سورا.
قَالَ: فمكثنا يَوْمًا حَتَّى اجتمع إِلَيْهِ جل أَصْحَابه، ثُمَّ خرجنا مسرعين مبادرين لعدونا أن يفوتنا، فبعثنا طليعة، فارتحلنا فنزلنا كوثى، فأقمنا بِهَا يَوْمًا حَتَّى لحق بنا من تخلف، ثُمَّ أدلج بنا من كوثى، وَقَدْ مضى من الليل هزيع، فأقبلنا حَتَّى دنونا من المدائن، فاستقبلنا الناس فأخبرونا أَنَّهُمْ قَدِ ارتحلوا، فشق علينا وَاللَّهِ ذَلِكَ، وأيقنا بالعناء وطول الطلب.
قَالَ: وجاء معقل بن قيس حَتَّى نزل باب مدينة بهرسير، ولم يدخلها، فخرج إِلَيْهِ سماك بن عبيد، فسلم عَلَيْهِ، وأمر غلمانه ومواليه فأتوه بالجزر والشعير وألقت، فجاءوه من ذَلِكَ بكل مَا كفاه وكفى الجند الَّذِينَ كَانُوا معه.
ثُمَّ إن معقل بن قيس بعد أن أقام بالمدائن ثلاثا جمع أَصْحَابه فَقَالَ:
إن هَؤُلاءِ المارقة الضلال إنما خرجوا فذهبوا عَلَى وجوههم إرادة أن تتعجلوا فِي آثارهم، فتقطعوا وتبددوا، وَلا تلحقوا بهم إلا وَقَدْ تعبتم ونصبتم، وأنه ليس شَيْء يدخل عَلَيْكُمْ من ذَلِكَ إلا وَقَدْ يدخل عَلَيْهِم مثله، فخرج بنا من المدائن، فقدم بين يديه ابو الرواغ الشاكري في ثلاثمائة فارس، فاتبع آثارهم، فخرج معقل فِي أثره، فاخذ ابو الرواع يسأل عَنْهُمْ، ويركب الوجه الَّذِي أخذوا فِيهِ، حَتَّى عبروا جرجرايا فِي آثارهم، ثُمَّ سلك الوجه الَّذِي أخذوا فِيهِ، فاتبعهم، فلم يزل ذَلِكَ دأبه حَتَّى لحقهم بالمذار مقيمين، فلما دنا مِنْهُمُ استشار أَصْحَابه فِي لقائهم وقتالهم قبل قدوم معقل عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ بعضهم: أقدم بنا عَلَيْهِم فلنقاتلهم، وَقَالَ بعضهم: وَاللَّهِ مَا نرى أن تعجل إِلَى قتالهم حَتَّى يأتينا أميرنا، ونلقاهم بجماعتنا.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي تليد بن زَيْد بن راشد الفائشي أن أباه كَانَ مَعَهُ يَوْمَئِذٍ قَالَ: فَقَالَ لنا أَبُو الرواغ: إن معقل بن قيس حين سرحني أمامه أمرني أن أتبع آثارهم، فإذا لحقتهم لم أعجل إِلَى قتالهم حَتَّى يأتيني.
قَالَ: فَقَالَ لَهُ جميع أَصْحَابه: فالرأي الآن بيّن، تنح بنا فلنكن قريبا مِنْهُمْ حَتَّى يقدم علينا صاحبنا، فتنحينا- وَذَلِكَ عِنْدَ المساء- قَالَ: فبتنا ليلتنا كلها متحارسين حَتَّى أصبحنا، فارتفع الضحى، وخرجوا علينا، قَالَ:
فخرجنا إِلَيْهِم وعدتهم ثلاثمائة ونحن ثلاثمائة، فلما اقتربوا شدوا علينا، فلا وَاللَّهِ مَا ثبت لَهُمْ منا إنسان، قَالَ: فانهزمنا ساعة، ثُمَّ إن أبا الرواغ صاح بنا وَقَالَ: يَا فرسان السوء، قبحكم اللَّه سائر الْيَوْم! الكرة الكرة! قَالَ:
فحمل وحملنا مَعَهُ، حَتَّى إذا دنونا من القوم كر بنا، فانصرفنا وكروا علينا، وكشفونا طويلا، ونحن عَلَى خيل معلمة جياد، ولم يصب منا أحد، وَقَدْ كَانَتْ جراحات يسيرة، فَقَالَ لنا أَبُو الرواغ: ثكلتكم أمهاتكم! انصرفوا بنا فلنكر قريبا مِنْهُمْ، لا نزايلهم حَتَّى يقدم علينا أميرنا، فما أقبح بنا أن نرجع إِلَى الجيش، وَقَدِ انهزمنا من عدونا ولم نصبر لَهُمْ حَتَّى يشتد القتال وتكر القتلى قَالَ: فَقَالَ رجل منا يجيبه: إن اللَّه لا يستحيي من الحق، قَدْ وَاللَّهِ هزمونا، قَالَ أَبُو الرواغ: لا أكثر اللَّه فينا ضربك! إنا مَا لم ندع المعركة فلم نهزم، وإنا متى عطفنا عَلَيْهِم وكنا قريبا مِنْهُمْ فنحن عَلَى حال حسنة حَتَّى يقدم علينا الجيش، ولم نرجع عن وجهنا، إنه وَاللَّهِ لو كَانَ يقال: انهزم أَبُو حمران حمير بن بجير الهمداني، مَا باليت، أنما يقال: انهزم أَبُو الرواغ، فقفوا قريبا، فإن أتوكم فعجزتم عن قتالهم فانحازوا، فإن حملوا عَلَيْكُمْ فعجزتم عن قتالهم فتأخروا وانحازوا إِلَى حامية، فإذا رجعوا عنكم فاعطفوا عَلَيْهِم، وكونوا قريبا مِنْهُمْ، فإن الجيش آتيكم إِلَى ساعة قَالَ: فأخذت الخوارج كلما حملت عَلَيْهِم انحازوا وهم كَانُوا حامية، وإذا أخذوا فِي الكرة عَلَيْهِم فتفرق جماعتهم قرب أَبُو الرواغ وأَصْحَابه عَلَى خيلهم فِي آثارهم، فلما رأوا أَنَّهُمْ لا يفارقونهم، وَقَدْ طاردوهم هكذا من ارتفاع الضحى إِلَى الأولى فلما حضرت صلاة الظهر نزل المستورد للصلاة، واعتزل أَبُو الرواغ وأَصْحَابه عَلَى رأس ميل مِنْهُمْ أو ميلين، ونزل أَصْحَابه فصلوا الظهر، وأقاموا رجلين ربيئة، وأقاموا مكانهم حَتَّى صلوا العصر ثُمَّ إن فتى جاءهم بكتاب معقل بن قيس الى ابن الرواغ، وكان اهل القرى وعابر والسبيل يمرون عَلَيْهِم ويرونهم يقتتلون، فمن مضى مِنْهُمْ عَلَى الطريق نحو الوجه الَّذِي يأتي من قبله معقل استقبل معقلا فأخبره بالتقاء أَصْحَابه والخوارج، فيقول: كيف رأيتموهم يصنعون؟
فيقولون: رأينا الحرورية تطرد أَصْحَابك، فيقول: أما رأيتم أَصْحَابي يعطفون عَلَيْهِم ويقاتلونهم؟ فيقولون: بلى، يعطفون عَلَيْهِم وينهزمون: فَقَالَ: إن كَانَ ظني بأبي الرواغ صادقا لا يقدم عَلَيْكُمْ منهزما أبدا ثُمَّ وقف عَلَيْهِم، فدعا محرز بن شهاب بن بجير بن سُفْيَان بن خَالِد بن منقر التميمي فَقَالَ لَهُ: تخلف فِي ضعفة الناس، ثُمَّ سر بهم عَلَى مهل، حَتَّى تقدم بهم علي، ثُمَّ ناد فِي أهل القوة: ليتعجل كل ذي قوة معي، اعجلوا إِلَى إخوانكم، فإنهم قَدْ لاقوا عدوهم، وإني لأرجو أن يهلكهم اللَّه قبل أن تصلوا إِلَيْهِم.
قَالَ: فاستجمع من أهل القوة والشجاعة وأهل الخيل الجياد نحو من سبعمائة، وسار فأسرع، فلما دنا من أبي الرواغ قَالَ أَبُو الرواغ: هَذِهِ غبرة الخيل، تقدموا بنا إِلَى عدونا حَتَّى يقدم علينا الجند، ونحن مِنْهُمْ قريب، فلا يرون اننا تنحينا عنهم ولاهبناهم قَالَ: فاستقدم أَبُو الرواغ حَتَّى وقف مقابل المستورد وأَصْحَابه، وغشيهم معقل فِي أَصْحَابه، فلما دنا مِنْهُمْ غربت الشمس، فنزل فصلى بأَصْحَابه، ونزل أَبُو الرواغ فصلى بأَصْحَابه فِي جانب آخر، وصلى الخوارج أَيْضًا ثُمَّ إن معقل بن قيس أقبل بأَصْحَابه حَتَّى إذا دنا من أبي الرواغ دعاه فأتاه، فَقَالَ لَهُ: أحسنت أبا الرواغ! هكذا الظن بك، الصبر والمحافظة فَقَالَ: أصلحك اللَّه! إن لَهُمْ شدات منكرات، فلا تكن أنت تليها بنفسك، ولكن قدم بين يديك من يقاتلهم، وكن أنت من وراء الناس ردءا لَهُمْ، فَقَالَ: نعم ما رايت! فو الله مَا كَانَ إلا ريثما قالها حَتَّى شدوا عَلَيْهِ وعلى أَصْحَابه، فلما غشوه انجفل عنه عامة أَصْحَابه، وثبت ونزل، وَقَالَ: الأرض الأرض يَا أهل الإِسْلام! ونزل مَعَهُ أَبُو الرواغ الشاكري وناس كثير من الفرسان وأهل الحفاظ نحو مائتي رجل، فلما غشيهم المستورد وأَصْحَابه استقبلوهم بالرماح والسيوف، وانجفلت خيل معقل عنه ساعة، ثُمَّ ناداهم مسكين بن عَامِر بن أنيف بن شريح بن عَمْرو بن عدس- وَكَانَ يَوْمَئِذٍ من أشجع الناس وأشدهم بأسا- فَقَالَ:
يَا أهل الإِسْلام، أين الفرار، وَقَدْ نزل أميركم! ألا تستحيون! أن الفرار مخزاة وعار ولؤم، ثُمَّ كر راجعا، ورجعت مَعَهُ خيل عظيمة، فشدوا عَلَيْهِم ومعقل بن قيس يضاربهم تحت رايته مع ناس نزلوا مَعَهُ من أهل الصبر، فضربوهم حَتَّى اضطروهم إِلَى البيوت، ثُمَّ لم يلبثوا إلا قليلا حَتَّى جاءهم محرز بن شهاب فيمن تخلف مِنَ النَّاسِ، فلما أتوهم أنزلهم ثُمَّ صف لَهُمْ، وجعل ميمنة وميسرة، فجعل أبا الرواغ عَلَى ميمنته ومحرز بن بجير بن سُفْيَان عَلَى ميسرته ومسكين بن عَامِر عَلَى الخيل، ثُمَّ قَالَ لهم:
لا تبرحوا مصافكم حَتَّى تصبحوا، فإذا أصبحتم ثرنا إِلَيْهِم فناجزناهم، فوقف الناس مواقفهم عَلَى مصافهم.
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي عبد الرَّحْمَن بن جندب، عن عَبْد اللَّهِ بن عُقْبَةَ الغنوي، قَالَ: لما انتهى إلينا معقل بن قيس قَالَ لنا المستورد: لا تدعوا معقلا حَتَّى يعبي لكم الخيل والرجل، شدوا عَلَيْهِم شدة صادقة، لعل اللَّه يصرعه فِيهَا قَالَ: فشددنا عَلَيْهِم شدة صادقة، فانكشفوا فانفضوا ثُمَّ انجفلوا ووثب معقل عن فرسه حين رَأَى إدبار أَصْحَابه عنه، فرفع رايته، ونزل مَعَهُ ناس من أَصْحَابه، فقاتلوا طويلا، فصبروا لنا، ثُمَّ إِنَّهُمْ تداعوا علينا، فعطفوا علينا من كل جانب، فانحزنا حَتَّى جعلنا البيوت فِي ظهورنا، وَقَدْ قاتلناهم طويلا، وكانت بيننا جراحة وقتل يسير قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي حصيرة بن عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ أن عمير بن أبي أشاءة الأَزْدِيّ قتل يَوْمَئِذٍ، وَكَانَ فيمن نزل مع معقل بن قيس، وَكَانَ رئيسا.
قَالَ: وكنت أنا فيمن نزل معه، فو الله مَا أنسى قول عمير بن أبي أشاءة ونحن نقتتل وَهُوَ يضاربهم بسيفه قدما:

قَدْ علمت أني إذا مَا أقشعوا *** عني والتاث اللئام الوضع
أحوس عِنْدَ الروع ندب أروع.

وقاتل قتالا شديدا مَا رأيت أحدا قاتل مثله، فجرح رجالا كثيرا، وقتل وما أدري أنه قتل، مَا عدا واحدا وَقَدْ علمت أنه اعتنقه، فخر عَلَى صدره فذبحه، فما حز رأسه حَتَّى حمل عَلَيْهِ رجل مِنْهُمْ فطعنه بالرمح فِي ثغرة نحره، فخر عن صدره، وانجدل ميتا، وشددنا عَلَيْهِم، وحزناهم إِلَى القرية، ثُمَّ انصرفنا إِلَى معركتنا، فأتيته وأنا أرجو أن يكون بِهِ رمق، فإذا هُوَ قَدْ فاظ، فرجعت إِلَى أَصْحَابي فوقفت فِيهِمْ قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي عبد الرَّحْمَن بن جندب، عن عَبْد اللَّهِ بن عُقْبَةَ الغنوي، قَالَ: إنا لمتواقفون أول الليل إذ أتانا رجل كنا بعثناه أول الليل، وَكَانَ بعض من يمر الطريق قَدْ أَخْبَرَنَا أن جيشا قَدْ أقبل إلينا مِنَ الْبَصْرَةِ، فلم نكترث، وقلنا لرجل من أهل الأرض وجعلنا لَهُ جعلا: اذهب فاعلم هل أتانا من قبل الْبَصْرَة جيش؟ فَجَاءَ ونحن مواقفو أهل الْكُوفَة، وَقَالَ لنا: نعم، قَدْ جاءكم شريك بن الأعور، وَقَدِ استقبلت طائفة عَلَى رأس فرسخ عِنْدَ الأولى، وَلا أَرَى القوم إلا نازلين بكم الليلة، او مصبحيكم غدوه فأسقط فِي أيدينا.
وَقَالَ المستورد لأَصْحَابه: ماذا ترون؟
قلنا: نرى مَا رأيت، قَالَ: فإني لا أَرَى أن أقيم لهؤلاء جميعا، ولكن نرجع إِلَى الوجه الَّذِي جئنا مِنْهُ، فإن أهل الْبَصْرَة لا يتبعونا إِلَى أرض الْكُوفَة، وَلا يتبعنا حينئذ إلا أهل مصرنا، فقلنا لَهُ: ولم ذاك؟ فَقَالَ:
قتال أهل مصر واحد أهون علينا من قتال أهل المصرين، قَالُوا: سر بنا حَيْثُ أحببت، قَالَ: فانزلوا عن ظهور دوابكم فأريحوا ساعة، وأقضموها، ثُمَّ انظروا مَا آمركم بِهِ، قَالَ: فنزلنا عنها، فأقضمناها، قَالَ: وبيننا وبينهم حينئذ ساعة قَدِ ارتفعوا عن القرية مخافة أن نبيتهم، قَالَ: فلما أرحناها وأقضمناها أمرنا فاستوينا عَلَى متونها، ثُمَّ قَالَ: ادخلوا القرية، ثُمَّ اخرجوا من ورائها، وانطلقوا معكم بعلج يأخذ بكم من ورائها، ثُمَّ يعود بكم حَتَّى يردكم إِلَى الطريق الَّذِي مِنْهُ أقبلتم، ودعوا هَؤُلاءِ مكانهم، فإنهم لم يشعروا بكم عامة الليل، أو حَتَّى تصبحوا قَالَ: فدخلنا القرية وأخذنا علجا، ثُمَّ خرجنا بِهِ أمامنا، فقلنا: خذ بنا من وراء هَذَا الصف حَتَّى نعود إِلَى الطريق الَّذِي مِنْهُ أقبلنا ففعل ذَلِكَ، فَجَاءَ بنا حَتَّى أقامنا عَلَى الطريق الَّذِي مِنْهُ أقبلنا، فلزمناه راجعين، ثُمَّ أقبلنا حَتَّى نزلنا جرجرايا.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي حصيرة بن عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ عَبْد اللَّهِ بن الحارث، قَالَ: إني أول من فطن لذهابهم، قَالَ: فقلت: أصلحك اللَّه! لقد رابني أمر هَذَا العدو منذ ساعة طويلة، إِنَّهُمْ كَانُوا مواقفين نرى سوادهم، ثُمَّ لقد خفي علي ذَلِكَ السواد منذ ساعة، وإني لخائف أن يكونوا زالوا من مكانهم ليكيدوا الناس، فَقَالَ: وما تخاف أن يكون من كيدهم؟
قلت: أخاف أن يبيتوا الناس، قَالَ، وَاللَّهِ مَا آمن ذَلِكَ، قَالَ: فقلت لَهُ: فاستعد لذلك، قَالَ: كما أنت حَتَّى أنظر يَا عتاب، انطلق فيمن أحببت حَتَّى تدنو من القرية فتنظر هل ترى منهم أحدا او تسمع لهم ركزا! وسل أهل القرية عَنْهُمْ.
فخرج فِي خمس الغزاة يركض حَتَّى نظر القرية فأخذ لا يرى أحدا يكلمه، وصاح بأهل القرية، فخرج إِلَيْهِ مِنْهُمْ ناس، فسألهم عَنْهُمْ، فَقَالُوا:
خرجوا فلا ندري كيف ذهبوا! فرجع إِلَيْهِ عتاب فأخبره الخبر، فَقَالَ معقل:
لا آمن البيات، فأين مضر؟ فجاءت مضر فقال: قفوا هاهنا، وَقَالَ:
أين رَبِيعَة؟ فجعل رَبِيعَة فِي وجه وتميما فِي وجه وهمدان فِي وجه، وبقية أهل اليمن فِي وجه آخر، وَكَانَ كل ربع من هَؤُلاءِ فِي وجه وظهره مما يلي ظهر الربع الآخر، وجال فِيهِمْ معقل حَتَّى لم يدع ربعا إلا وقف عَلَيْهِ، وقال: ايها الناس، لو أتوكم فبدءوا بغيركم فقاتلوهم فلا تبرحوا أنتم مكانكم أبدا حَتَّى يأتيكم أمري، وليغن كل رجل مِنْكُمُ الوجه الَّذِي هُوَ فِيهِ، حَتَّى نصبح فنرى رأينا فمكثوا متحارسين يخافون بياتهم حَتَّى أصبحوا، فلما أصبحوا نزلوا فصلوا، وأتوا فأخبروا أن القوم قَدْ رجعوا فِي الطريق الَّذِي أقبلوا مِنْهُ عودهم عَلَى بدئهم، وجاء شريك بن الأعور فِي جيش من أهل الْبَصْرَة حَتَّى نزلوا بمعقل بن قيس فلقيه، فتساءلا ساعة، ثُمَّ إن معقلا قَالَ لشريك: أنا متبع آثارهم حَتَّى ألحقهم لعل اللَّه أن يهلكهم، فإني لا آمن إن قصرت فِي طلبهم أن يكثروا فقام شريك فجمع رجالا من وجوه أَصْحَابه، فِيهِمْ خَالِد بن مَعْدَانَ الطَّائِيّ وبيهس بن صهيب الجرمي، فَقَالَ لَهُمْ: يَا هَؤُلاءِ، هل لكم فِي خير؟ هل لكم فِي أن تسيروا مع إخواننا من أهل الْكُوفَة فِي طلب هَذَا العدو الَّذِي هُوَ عدو لنا ولهم حَتَّى يستأصلهم اللَّه ثُمَّ نرجع؟ فَقَالَ خَالِد بن مَعْدَانَ وبيهس الجرمي: لا وَاللَّهِ، لا نفعل، إنما أقبلنا نحوهم لننفيهم عن أرضنا، ونمنعهم من دخولها، فان كفانا الله مئونتهم فإنا منصرفون إِلَى مصرنا، وفي أهل الْكُوفَة من يمنعون بلادهم من هَؤُلاءِ الأكلب، فَقَالَ لَهُمْ: ويحكم! أطيعوني فِيهِمْ، فإنهم قوم سوء، لكم فِي قتالهم أجر وحظوة عِنْدَ السلطان، فقال له بيهس الجرمي:
نحن وَاللَّهِ إذا كما قَالَ أخو بني كنانة:

كمرضعة أولاد أخرى وضيعت *** بنيها فلم ترقع بِذَلِكَ مرقعا

أما بلغك أن الأكراد قَدْ كفروا بجبال فارس! قَالَ: قَدْ بلغني، قَالَ:
فتأمرنا أن ننطلق معك نحمي بلاد أهل الْكُوفَة، ونقاتل عدوهم، ونترك بلادنا، فَقَالَ لَهُ: وما الأكراد! إنما يكفيهم طائفة مِنْكُمْ، فَقَالَ لَهُ: وهذا العدو الَّذِي تندبنا إِلَيْهِ إنما يكفيه طائفة من أهل الْكُوفَة، إِنَّهُمْ لعمري لو اضطروا إِلَى نصرتنا لكان علينا نصرتهم، ولكنهم لم يحتاجوا إلينا بعد، وفي بلادنا فتق مثل الفتق الَّذِي فِي بلادهم، فليغنوا مَا قبلهم، وعلينا أن نغني مَا قبلنا، ولعمري لو أنا أطعناك فِي اتباعهم فاتبعتهم كنت قَدِ اجترأت عَلَى أميرك، وفعلت مَا كَانَ ينبغي لك أن تطلع فِيهِ رأيه، مَا كَانَ ليحتملها لك فلما رَأَى ذَلِكَ قَالَ لأَصْحَابه: سيروا فارتحلوا، وجاء حَتَّى لقي معقلا- وكانا متحابين عَلَى رأي الشيعة متوادين عَلَيْهِ- فَقَالَ: أما وَاللَّهِ لقد جهدت بمن معي أن يتبعوني حَتَّى أسير معكم إِلَى عدوكم فغلبوني، فَقَالَ لَهُ معقل:
جزاك اللَّه من أخ خيرا! إنا لم نحتج إِلَى ذَلِكَ، أما وَاللَّهِ إني أرجو أن لو قَدْ جهدوا لا يفلت مِنْهُمْ مخبر.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الصقعب بن زهير، عن ابى امامه عبيد الله ابن جُنَادَة، عن شريك بن الأعور، قَالَ: حَدَّثَنَا بهذا الحديث شريك ابن الأعور قَالَ: فلما قَالَ: وَاللَّهِ إني لأرجو أن لو جهدوا لا يفلت مِنْهُمْ مخبر، كرهتها وَاللَّهِ لَهُ، وأشفقت عَلَيْهِ، وحسبت أن يكون شبه كلام البغي، قَالَ: وايم اللَّه مَا كَانَ من أهل البغي.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي حصيرة بن عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث الأَزْدِيّ، قَالَ: لما أتانا أن المستورد بن علفة وأَصْحَابه قَدْ رجعوا عن طريقهم سررنا بِذَلِكَ، وقلنا: نتبعهم ونستقبلهم بالمدائن، وإن دنوا من الْكُوفَة كَانَ أهلك لَهُمْ، ودعا معقل بن قيس أبا الرواغ فَقَالَ لَهُ:
اتبعه فِي أَصْحَابك الَّذِينَ كَانُوا معك حَتَّى تحبسه علي حَتَّى ألحقك، فَقَالَ لَهُ: زدني مِنْهُمْ فإنه أقوى لي عَلَيْهِم إن هم أرادوا مناجزتي قبل قدومك، فإنا كنا قَدْ لقينا مِنْهُمْ برحا، فزاده ثلاثمائة، فاتبعهم في سمائه، وأقبلوا سراعا حَتَّى نزلوا جرجرايا، وأقبل أَبُو الرواغ فِي إثرهم مسرعا حَتَّى لحقهم بجرجرايا، وَقَدْ نزلوا، فنزل بهم عِنْدَ طلوع الشمس، فلما نظروا إذا هم بأبي الرواغ فِي المقدمة، فَقَالَ بعضهم لبعض: إن قتالكم هَؤُلاءِ أهون من قتال من يأتي بعدهم.
قَالَ: فخرجوا إلينا، فأخذوا يخرجون لنا العشرة فرسان مِنْهُمْ والعشرين فارسا، فنخرج لَهُمْ مثلهم، فتطارد الخيلان ساعة ينتصف بعضنا من بعض، فلما رأوا ذَلِكَ اجتمعوا فشدوا علينا شدة واحدة صدقوا فِيهَا الحملة.
قَالَ: فصرفونا حَتَّى تركنا لَهُمُ العرصة ثُمَّ إن أبا الرواغ نادى فِيهِمْ، فَقَالَ: يَا فرسان السوء، يَا حماة السوء، بئس مَا قاتلتم القوم! إليّ إليّ!
فعالج نحوا من مائة فارس، فعطف عَلَيْهِم، وَهُوَ يقول:

إن الفتى كل الفتى من لم يهل *** إذا الجبان حاد عن وقع الأسل.
قَدْ علمت أني إذا البأس نزل *** أروع يوم الهيج مقدام بطل

ثُمَّ عطف عَلَيْهِم فقاتلهم طويلا، ثُمَّ عطف أَصْحَابه من كل جانب، فصدقوهم القتال حَتَّى ردوهم إِلَى مكانهم الَّذِي كَانُوا فِيهِ، فلما رَأَى ذَلِكَ المستورد وأَصْحَابه ظنوا أن معقلا إن جاءهم على تفئه ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ دون قتله لَهُمْ شَيْء، فمضى هُوَ وأَصْحَابه حَتَّى قطعوا دجلة، ووقعوا فِي أرض بهرسير، وقطع أَبُو الرواغ فِي آثارهم فاتبعهم، وجاء معقل بن قيس فاتبع إثر أبي الرواغ، فقطع فِي أثره دجلة، ومضى المستورد نحو الْمَدِينَة العتيقة، وبلغ ذَلِكَ سماك بن عبيد، فخرج حَتَّى عبر إِلَيْهَا، ثُمَّ خرج بأَصْحَابه وبأهل المدائن، فصف عَلَى بابها، وأجلس رجالا رماة عَلَى السور، فبلغهم ذَلِكَ، فانصرفوا حَتَّى نزلوا ساباط، وأقبل أَبُو الرواغ فِي طلب القوم حَتَّى مر بسماك ابن عبيد بالمدائن، فخبره بوجههم الَّذِي أخذوا فِيهِ، فاتبعهم حَتَّى نزل بهم ساباط.
قَالَ أَبُو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جندب، عن عَبْد اللَّهِ بن عُقْبَةَ الغنوي، قَالَ: لما نزل بنا أَبُو الرواغ دعا المستورد أَصْحَابه، فَقَالَ:
إن هَؤُلاءِ الَّذِينَ نزلوا بكم مع أبي الرواغ هم حر أَصْحَاب معقل، وَلا وَاللَّهِ مَا قدم إليكم إلا حماته وفرسانه، والله لو اعلم انى إذا بادرت أَصْحَابه هَؤُلاءِ إِلَيْهِ أدركته قبل أن يفارقوه بساعة لبادرتهم إِلَيْهِ، فليخرج مِنْكُمْ خارج فيسأل عن معقل أين هُوَ؟ وأين بلغ؟ قَالَ: فخرجت أنا فاستقبلت علوجا أقبلوا من المدائن، فقلت لَهُمْ: مَا بلغكم عن معقل بن قيس؟ قَالُوا: جَاءَ فيج لسماك بن عبيد من قبله كَانَ سرحه ليستقبل معقلا فينظر أين انتهى؟
وأين يريد أن ينزل؟ فجاءه فَقَالَ: تركته نزل ديلمايا- وَهِيَ قرية من قرى إستان بهرسير إِلَى جانب دجلة، كَانَتْ لقدامة بن العجلان الأزدي- قال: لَهُ:: كم بيننا وبينهم من هَذَا المكان؟ قَالُوا: ثلاثة فراسخ، أو نحو ذَلِكَ.
قَالَ: فرجعت إِلَى صاحبي فأخبرته الخبر، فَقَالَ لأَصْحَابه: اركبوا، فركبوا، فأقبل حَتَّى انتهى بهم إِلَى جسر ساباط- وَهُوَ جسر نهر الملك، وَهُوَ من جانبه الَّذِي يلي الْكُوفَة- وأبو الرواغ وأَصْحَابه مما يلي المدائن، قَالَ:
فجئنا حَتَّى وقفنا عَلَى الجسر، قَالَ: ثُمَّ قَالَ لنا: لتنزل طائفة مِنْكُمْ: قَالَ:
فنزل منا نحو من خمسين رجلا، فَقَالَ: اقطعوا هَذَا الجسر، فنزلنا فقطعناه، قَالَ:
فلما رأونا وقوفا عَلَى الخيل ظنوا أنا نريد أن نعبر إِلَيْهِم، قَالَ: فصفوا لنا، وتعبوا، واشتغلوا بِذَلِكَ عنا فِي قطعنا الجسر ثُمَّ إنا أخذنا من أهل ساباط دليلا فقلنا لَهُ: احضر بين أيدينا حَتَّى ننتهي إِلَى ديلمايا، فخرج بين أيدينا يسعى، وخرجنا تلمع بنا خيلنا، فكان الخبب والوجيف، فما كَانَ إلا ساعة حَتَّى أطللنا عَلَى معقل وأَصْحَابه وهم يتحملون، فما هو الا أن بصر بنا وَقَدْ تفرق أَصْحَابه عنه، ومقدمته ليست عنده، وأَصْحَابه قَدِ استقدم طائفة مِنْهُمْ، وطائفة تزحل، وهم غارون لا يشعرون فلما رآنا نصب رايته، ونزل ونادى: يَا عباد اللَّه، الأرض الأرض! فنزل مَعَهُ نحو من مائتي رجل، قَالَ: فأخذنا نحمل عَلَيْهِم فيستقبلونا بأطراف الرماح جثاة عَلَى الركب فلا نقدر عَلَيْهِم فَقَالَ لنا: المستورد: دعوا هَؤُلاءِ إذا نزلوا وشدوا عَلَى خيلهم حَتَّى تحولوا بينها وبينهم، فإنكم إن أصبتم خيلهم فإنهم لكم عن ساعة جزر، قَالَ: فشددنا عَلَى خيلهم، فحلنا بينهم وبينها، وقطعنا أعنتها، وَقَدْ كَانُوا قرنوها، فذهبت فِي كل جانب، قَالَ:
ثُمَّ ملنا عَلَى الناس المتزحلين والمتقدمين، فحملنا عَلَيْهِم حَتَّى فرقنا بينهم، ثُمَّ أقبلنا إِلَى معقل بن قيس وأَصْحَابه جثاة عَلَى الركب عَلَى حالهم الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا، فحملنا عَلَيْهِم، فلم يتحلحلوا، ثُمَّ حملنا عَلَيْهِم أخرى، ففعلوا مثلها، فَقَالَ لنا المستورد: نازلوهم، لينزل إِلَيْهِم نصفكم، فنزل نصفنا، وبقي نصفنا مَعَهُ عَلَى الخيل، وكنت فِي أَصْحَاب الخيل.
قَالَ: فلما نزل إِلَيْهِم رجالتنا قاتلتهم، وأخذنا نحمل عَلَيْهِم بالخيل، وطمعنا وَاللَّهِ فيهم قال: فو الله إنا لنقاتلهم ونحن نرى أن قَدْ علوناهم إذ طلعت علينا مقدمة أَصْحَاب أبي الرواغ، وهم حر أَصْحَابه وفرسانهم، فلما دنوا منا حملوا علينا، فعند ذَلِكَ نزلنا بأجمعنا فقاتلناهم حَتَّى أصيب صاحبنا وصاحبهم قَالَ: فما علمته نجا مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ أحد غيري قَالَ: وإني أحدثهم رجلا فِيمَا أَرَى.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي عبد الرَّحْمَن بن جندب، عن عَبْد اللَّهِ بن عُقْبَةَ الغنوي، قَالَ: وَحَدَّثَنَا بهذا الحديث مرتين من الزمن، مرة فِي إمارة مصعب ابن الزُّبَيْرِ بباجميرا، ومرة ونحن مع عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّدِ بْنِ الأشعث بدير الجماجم قَالَ: فقتل وَاللَّهِ يَوْمَئِذٍ بدير الجماجم يوم الهزيمة، وإنه لمقبل عَلَيْهِم يضاربهم بسيفه وأنا أراه، قَالَ: فقلت لَهُ بدير الجماجم:
إنك قَدْ حدثتني بهذا الحديث بباجميرا مع مُصْعَب بن الزُّبَيْرِ، فلم أسألك كيف نجوت من بين أَصْحَابك؟ قَالَ: أحدثك، وَاللَّهِ إن صاحبنا لما أصيب قتل أَصْحَابه إلا خمسة نفر أو ستة، قَالَ: فشددنا عَلَى جماعة من أَصْحَابه نحو من عشرين رجلا، فانكشفوا.
قَالَ: وانتهيت إِلَى فرس واقف عَلَيْهِ سرجه ولجامه، وما أدري مَا قصة صاحبه أقتل أم نزل عنه صاحبه يقاتل وتركه! قَالَ: فأقبلت حَتَّى أخذت بلجامه، وأضع رجلي فِي الركاب وأستوي عَلَيْهِ قَالَ: وشد وَاللَّهِ أَصْحَابه علي، فانتهوا إلي، وغمزت فِي جنب الفرس، فإذا هُوَ وَاللَّهِ أجود مَا سخر، وركض مِنْهُمْ ناس فِي أثري فلم يعلقوا بي، فأقبلت أركض الفرس، وَذَلِكَ عِنْدَ المساء، فلما علمت أني قَدْ فتهم وأمنت، أخذت أسير عَلَيْهِ خببا وتقريبا ثُمَّ إني سرت عَلَيْهِ بِذَلِكَ من سيره، ولقيت علجا فقلت لَهُ: اسع بين يدي حَتَّى تخرجني الطريق الأعظم، طريق الْكُوفَة، ففعل، فو الله مَا كَانَتْ إلا ساعة حَتَّى انتهيت إِلَى كوثى، فجئت حَتَّى انتهيت إِلَى مكان من النهر واسع عريض، فأقحمت الفرس فِيهِ، فعبرته، ثُمَّ أقبلت عَلَيْهِ حَتَّى آتى دير كعب، فنزلت فعقلت فرسي وأرحته وهومت تهويمة، ثُمَّ انى هببت سريعا، فخلت فِي ظهر الفرس، ثُمَّ سرت فِي قطع من الليل فاتخذت بقية الليل جملا، فصليت الغداة بالمزاحمية عَلَى رأس فرسخين من قبين، ثُمَّ أقبلت حَتَّى أدخل الْكُوفَة حين متع الضحى، فآتى من ساعتي شريك بن نملة المحاربي، فأخبرته خبري وخبر أَصْحَابه، وسألته أن يلقى الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ فيأخذ لي مِنْهُ أمانا، فَقَالَ لي: قَدْ أصبت الأمان إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَقَدْ جئت ببشارة، وَاللَّهِ لقد بت الليلة وإن أمر الناس ليهمني قَالَ: فخرج شريك بن نملة المحاربي حَتَّى أتى الْمُغِيرَة مسرعا فاستأذن عَلَيْهِ، فأذن لَهُ، فَقَالَ: إن عندي بشرى، ولي حاجة، فاقض حاجتي حَتَّى أبشرك ببشارتي، فَقَالَ لَهُ: قضيت حاجتك، فهات بشراك، قَالَ: تؤمن عَبْد اللَّهِ بن عُقْبَةَ الغنوي، فإنه كَانَ مع القوم، قَالَ: قَدْ آمنته، وَاللَّهِ لوددت أنك أتيتني بهم كلهم فآمنتهم قَالَ: فأبشر، فإن القوم كلهم قَدْ قتلوا، كَانَ صاحبي مع القوم، ولم ينج مِنْهُمْ فِيمَا حَدَّثَنِي غيره قَالَ:
فما فعل معقل بن قيس؟ قَالَ: أصلحك اللَّه! ليس لَهُ بأَصْحَابنا علم قَالَ: فما فرغ من منطقه حَتَّى قدم عَلَيْهِ أَبُو الرواغ ومسكين بن عَامِر بن أنيف مبشرين بالفتح، فأخبروا أن معقل بن قيس والمستورد بن علفة مشى كل واحد منهما إِلَى صاحبه، بيد المستورد الرمح وبيد معقل السيف، فالتقيا، فأشرع المستورد الرمح فِي صدر معقل حَتَّى خرج السنان من ظهره، فضربه معقل بالسيف عَلَى رأسه حَتَّى خالط السيف أم الدماغ، فخرا ميتين.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي حصيرة بن عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لما رأينا المستورد بن علفة وَقَدْ نزلنا بِهِ ساباط أقبل إِلَى الجسر فقطعه، كنا نظن أنه يريد أن يعبر إلينا قَالَ: فارتفعنا عن مظلم ساباط إِلَى الصحراء الَّتِي بين المدائن وساباط فتعبأنا وتهيأنا، فطال علينا أن نراهم يخرجون إلينا.
قَالَ: فَقَالَ أَبُو الرواغ: إن لهؤلاء لشأنا، أَلا رجل يعلم لنا علم هَؤُلاءِ؟
فقلت: أنا ووهيب بن أبي أشاءة الأَزْدِيّ: نحن نعلم لك علم ذَلِكَ، ونأتيك بخبرهم، فقربنا عَلَى فرسينا إِلَى الجسر فوجدناه مقطوعا، فظننا القوم لم يقطعوه إلا هيبة لنا ورعبا منا، فرجعنا نركض سراعا حَتَّى انتهينا إِلَى صاحبنا، فأخبرناه بِمَا رأينا، فَقَالَ: مَا ظنكم؟ قَالَ: فقلنا: لم يقطعوا الجسر إلا لهيبتنا ولما أدخل اللَّه فِي قلوبهم من الرعب منا.
قَالَ: لعمري مَا خرج القوم وهم يريدون الفرار، ولكن القوم قَدْ كادوكم، أتسمعون! وَاللَّهِ مَا أراهم إلا قَالُوا: إن معقلا لم يبعث إليكم أبا الرواغ إلا فِي حر أَصْحَابه، فإن استطعتم فاتركوا هَؤُلاءِ بمكانهم هذا، ووجدوا في السير نحو معقل وأَصْحَابه، فإنكم تجدونهم غارين آمنين إن تأتوهم، فقطعوا الجسر لكيما يشغلوكم بِهِ عن لحاقكم إياهم حَتَّى يأتوا أميركم على غره، النجاء النجاء فِي الطلب! قَالَ: فوقع فِي أنفسنا أن الَّذِي قَالَ لنا كما قَالَ قَالَ: فصحنا باهل القرية، قال: فجاءوا سراعا: فقلنا لَهُمْ: عجلوا عقد الجسر، واستحثثناهم فما لبثوا أن فرغوا مِنْهُ، ثُمَّ عبرنا عَلَيْهِ، فاتبعناهم سراعا مَا نلوي عَلَى شَيْء، فلزمنا آثارهم، فو الله ما زلنا نسأل عنهم، فيقال: هم الآن أمامكم، لحقتموهم، مَا أقربكم منهم، فو الله مَا زلنا فِي طلبهم حرصا عَلَى لحاقهم حَتَّى كَانَ أول من استقبلنا مِنَ النَّاسِ فلهم وهم منهزمون لا يلوي أحد عَلَى أحد فاستقبلهم أَبُو الرواغ، ثُمَّ صاح بِالنَّاسِ: إلي إلي، فأقبل الناس إِلَيْهِ، فلاذوا بِهِ، فَقَالَ: ويلكم! مَا وراءكم؟ فَقَالُوا: لا ندري، لم يرعنا إلا والقوم معنا فِي عسكرنا ونحن متفرقون، فشدوا علينا، ففرقوا بيننا، قَالَ: فما فعل الأمير؟ فقائل يقول: نزل وَهُوَ يقاتل، وقائل يقول: مَا نراه إلا قتل، فَقَالَ لَهُمْ: أَيُّهَا النَّاسُ، ارجعوا معي، فإن ندرك أميرنا حيا نقاتل مَعَهُ، وإن نجده قَدْ هلك قاتلناهم، فنحن فرسان أهل المصر المنتخبون لهذا العدو، فلا يفسدن فيكم رأي أميركم بالمصر، وَلا رأي أهل المصر، وايم اللَّه لا ينبغي لكم إن عاينتموه وَقَدْ قتلوا معقلا أن تفارقوهم حتى تبيروهم أو تباروا، سيروا عَلَى بركة اللَّه فساروا وسرنا، فأخذ لا يستقبل أحدا مِنَ النَّاسِ إلا صاح بِهِ ورده، ونادى وجوه أَصْحَابه وَقَالَ: اضربوا وجوه الناس وردوهم قَالَ: فأقبلنا نرد الناس حَتَّى انتهينا إِلَى العسكر، فإذا نحن براية معقل بن قيس منصوبة، فإذا مَعَهُ مائتا رجل أو أكثر فرسان الناس ووجوههم ليس فِيهِمْ إلا راجل، وإذا هم يقتتلون أشد قتال سمع الناس بِهِ، فلما طلعنا عَلَيْهِم إذا نحن بالخوارج قَدْ كادوا يعلون أَصْحَابنا، وإذا أَصْحَابنا عَلَى ذَلِكَ صابرون يجالدونهم، فلما رأونا كروا ثُمَّ شدوا عَلَى الخوارج، فارتفعت الخوارج عَنْهُمْ غير بعيد، وانتهينا إِلَيْهِم، فنظر أَبُو الرواغ إِلَى معقل فإذا هو مستقدم يذمر أَصْحَابه ويحرضهم، فَقَالَ لَهُ: أحي أنت فداك عمي وخالي! قَالَ: نعم، فشد القوم، فنادى أَبُو الرواغ أَصْحَابه: أَلا ترون أميركم حيا،! شدوا عَلَى القوم، قَالَ: فحمل وحملنا عَلَى القوم بأجمعنا، قَالَ: فصدمنا خيلهم صدمة منكرة، وشد عَلَيْهِم معقل وأَصْحَابه، فنزل المستورد، وصاح بأَصْحَابه: يَا معشر الشراة، الأرض الأرض، فإنها وَاللَّهِ الجنة! والذي لا إله غيره لمن قتل صادق النية فِي جهاد هَؤُلاءِ الظلمة وجلاحهم، فتنازلوا من عِنْدَ آخرهم، فنزلنا من عِنْدَ آخرنا، ثُمَّ مضينا إِلَيْهِ منصلتين بالسيوف، فاضطربنا بِهَا طويلا من النهار كأشد قتال اقتتله الناس قط، غير أن المستورد نادى معقلا فَقَالَ: يَا معقل، ابرز لي، فخرج إِلَيْهِ معقل، فقلنا لَهُ: ننشدك أن تخرج إِلَى هَذَا الكلب الَّذِي قَدْ آيسه اللَّه من نفسه! قَالَ: لا وَاللَّهِ لا يدعوني رجل إِلَى مبارزة أبدا فأكون أنا الناكل، فمشى إِلَيْهِ بالسيف، وخرج الآخر إِلَيْهِ بالرمح، فناديناه أن ألقه برمح مثل رمحه، فأبى، وأقبل عَلَيْهِ المستورد فطعنه حَتَّى خرج سنان الرمح من ظهره، وضربه معقل بالسيف حَتَّى خالط سيفه أم الدماغ، فوقع ميتا، وقتل معقل، وَقَالَ لنا حين برز إِلَيْهِ:
إن هلكت فأميركم عَمْرو بن محرز بن شهاب السعدي ثُمَّ المنقري: قَالَ:
فلما هلك معقل أخذ الراية عَمْرو بن محرز، وَقَالَ عَمْرو: إن قتلت فعَلَيْكُمْ أَبُو الرواغ، فإن قتل أَبُو الرواغ فأميركم مسكين بن عَامِر بن أنيف، وإنه يَوْمَئِذٍ لفتى حدث، ثُمَّ شد برايته، وأمر الناس أن يشدوا عَلَيْهِم، فما لبثوهم ان قتلوهم

ذكر ولايه عبد الله بن خازم خراسان
ومما كَانَ فِي هَذِهِ السنة تولية عَبْد اللَّهِ بن عَامِر عَبْد اللَّهِ بن خازم بن ظبيان خُرَاسَان وانصراف قيس بن الهيثم عنه، وَكَانَ السبب فِي ذَلِكَ- فِيمَا ذكر أَبُو مخنف عن مقاتل بن حيان- أن ابن عَامِر استبطأ قيس بن الهيثم بالخراج، فأراد أن يعزله، فَقَالَ لَهُ ابن خازم: ولني خُرَاسَان فأكفيكها وأكفيك قيس بن الهيثم فكتب لَهُ عهده أو هم بِذَلِكَ، فبلغ قيسا أن ابن عَامِر وجد عَلَيْهِ لاستخفافه بِهِ، وإمساكه عن الهدية، وأنه قَدْ ولى ابن خازم، فخاف ابن خازم أن يشاغبه ويحاسبه، فترك خُرَاسَان، وأقبل فازداد عَلَيْهِ ابن عَامِر غضبا، وَقَالَ: ضيعت الثغر! فضربه وحبسه، وبعث رجلا من بني يشكر عَلَى خُرَاسَان.
قَالَ أَبُو مخنف: بعث ابن عَامِر أسلم بن زرعه الكلابى حين عزل قيس ابن الهيثم، قَالَ عَلِيّ بن مُحَمَّد: أَخْبَرَنَا أَبُو عبد الرَّحْمَن الثقفي، عن أشياخه، أن ابن عَامِر استعمل قيس بن الهيثم عَلَى خُرَاسَان أيام مُعَاوِيَة، فَقَالَ لَهُ ابن خازم: إنك وجهت إِلَى خُرَاسَان رجلا ضعيفا، وإني أخاف إن لقي حربا أن ينهزم بِالنَّاسِ، فتهلك خُرَاسَان، وتفتضح أخوالك.
قَالَ ابن عَامِر: فما الرأي؟ قَالَ: تكتب لي عهدا: إن هُوَ انصرف عن عدوك قمت مقامه فكتب لَهُ، فجاشت جماعه من طخارستان، فشاور قيس ابن الهيثم فأشار عَلَيْهِ ابن خازم أن ينصرف حَتَّى يجتمع إِلَيْهِ أطرافه، فانصرف، فلما سار من مكانه مرحلة أو مرحلتين أخرج ابن خازم عهده، وقام بأمر الناس، ولقي العدو فهزمهم، وبلغ الخبر المصرين والشام فغضب القيسية وَقَالُوا: خدع قيسا وابن عَامِر، فأكثروا فِي ذَلِكَ حَتَّى شكوا إِلَى مُعَاوِيَةَ، فبعث إِلَيْهِ فقدم، فاعتذر مما قيل فِيهِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة: قم فاعتذر إِلَى النَّاسِ غدا، فرجع ابن خازم إِلَى أَصْحَابه فَقَالَ: إني قَدْ أمرت بالخطبة، ولست بصاحب كلام، فاجلسوا حول الْمِنْبَر، فإذا تكلمت فصدقوني، فقام من الغد، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إنما يتكلف الخطبة إمام لا يجد منها بدا، أو أحمق يهمر من رأسه لا يبالي مَا خرج مِنْهُ، ولست بواحد منهما، وَقَدْ علم من عرفني أني بصير بالفرص، وثاب عَلَيْهَا، وقاف عِنْدَ المهالك، أنفذ بالسرية، وأقسم بالسوية، أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ من كَانَ يعرف ذَلِكَ مني لما صدقني! قَالَ أَصْحَابه حول الْمِنْبَر: صدقت، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنك ممن نشدت فقل بِمَا تعلم، قَالَ: صدقت.
قَالَ علي: أَخْبَرَنَا شيخ من بني تميم يقال لَهُ معمر، عن بعض أهل العلم أن قيس بن الهيثم قدم عَلَى ابن عَامِر من خُرَاسَان مراغما لابن خازم، قَالَ: فضربه ابن عَامِر مائة وحلقه وحبسه، قَالَ: فطلبت اليه أمه، فاخرجه وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة- فِيمَا قيل- مَرْوَان بن الحكم، وَكَانَ عَلَى الْمَدِينَة، وَكَانَ عَلَى مكة خَالِد بن الْعَاصِ بن هِشَام، وعلى الْكُوفَة الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ، وعلى قضائها شريح، وعلى الْبَصْرَة وفارس وسجستان وخراسان عَبْد اللَّهِ بن عَامِر، وعلى قضائها عمير بن يثربي.