129 هـ
746 م
سنة تسع وعشرين ومائة (ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث)

خبر هلاك شيبان بن عبد العزيز الحروري
فمن ذلك ما كان من هلاك شيبان بْن عبد العزيز اليشكري أبي الدلفاء …

ذكر الخبر عن سبب مهلكه:
وكان سبب ذلك أن الخوارج الذين كانوا بإزاء مروان بْن محمد يحاربونه لما قتل الضحاك بْن قيس الشيباني رئيس الخوارج والخيبري بعده، ولوا عليهم شيبان وبايعوه، فقاتلهم مروان، فذكر هشام بْن محمد والهيثم بْن عدي أن الخيبري لما قتل قَالَ سليمان بْن هشام بْن عبد الملك للخوارج- وكان معهم في عسكرهم: إن الذى تفعلون ليس براى، فان أخذتم برأيي، وإلا انصرفت عنكم قالوا: فما الرأي؟ قَالَ: إن أحدكم يظفر ثم يستقتل فيقتل، فإني أرى أن ننصرف على حاميتنا حتى ننزل الموصل، فنخندق ففعل وأتبعه مروان والخوارج في شرقي دجلة ومروان بإزائهم، فاقتتلوا تسعة أشهر، ويزيد بْن عمر بْن هبيرة بقرقيسيا في جند كثيف من أهل الشام وأهل الجزيرة، فأمره مروان أن يسير إلى الكوفة، وعليها يومئذ المثنى بْن عمران، من عائذة قريش من الخوارج.
وحدثني أحمد بْن زهير، قَالَ: حدثنا عبد الوهاب بْن إبراهيم، قَالَ:
حدثني أبو هاشم مخلد بْن محمد، قَالَ: كان مروان بْن محمد يقاتل الخوارج بالصف، فلما قتل الخيبري وبويع شيبان، قاتلهم مروان بعد ذلك بالكراديس، وأبطل الصف منذ يومئذ، وجعل الآخرون يكردسون بكراديس مروان كراديس تكافئهم وتقاتلهم، وتفرق كثير من أصحاب الطمع عنهم وخذلوهم، وحصلوا في نحو من أربعين ألفا، فأشار عليهم سليمان بْن هشام أن ينصرفوا إلى مدينة الموصل، فيصيروها ظهرا وملجأ وميرة لهم، فقبلوا رأيه، وارتحلوا ليلا، وأصبح مروان فأتبعهم، ليس يرحلون عن منزل إلا نزله، حتى انتهوا إلى مدينة الموصل، فعسكروا على شاطئ دجلة، وخندقوا على أنفسهم، وعقدوا جسورا على دجلة من عسكرهم إلى المدينة، فكانت ميرتهم ومرافقهم منها، وخندق مروان بإزائهم، فأقام ستة أشهر يقاتلهم بكرة وعشية.
قَالَ: وأتي مروان بابن أخ لسليمان بْن هشام، يقال له أمية بْن معاوية بْن هشام، وكان مع عمه سليمان بْن هشام في عسكر شيبان بالموصل، فهو مبارز رجلا من فرسان مروان، فأسره الرجل فأتي به أسيرا، فقال له: أنشدك الله والرحم يا عم! فقال: ما بيني وبينك اليوم من رحم، فأمر به- وعمه سليمان وإخوته ينظرون- فقطعت يداه وضربت عنقه.
قَالَ: وكتب مروان إلى يزيد بْن عمر بْن هبيرة يأمره بالمسير من قرقيسيا بجميع من معه إلى عبيدة بْن سوار خليفة الضحاك بالعراق، فلقي خيوله بعين التمر، فقاتلهم فهزمهم، وعليهم يومئذ المثنى بْن عمران من عائذة قريش والحسن بْن يزيد، ثم تجمعوا له بالكوفة بالنخيلة، فهزمهم، ثم اجتمعوا بالصراة ومعهم عبيدة، فقاتلهم فقتل عبيدة، وهزم أصحابه، واستباح ابن هبيرة عسكرهم، فلم يكن لهم بقية بالعراق، واستولى ابن هبيرة عليها، وكتب إليه مروان بْن محمد من الخنادق يأمره أن يمده بعامر بْن ضبارة المري، فوجهه في نحو من ستة آلاف أو ثمانية، وبلغ شيبان خبرهم ومن معه من الحرورية، فوجهوا إليه قائدين في أربعة آلاف، يقال لهما ابن غوث والجون، فلقوا ابن ضبارة بالسن دون الموصل، فقاتلوه قتالا شديدا، فهزمهم ابن ضبارة، فلما قدم فلهم أشار عليهم سليمان بالارتحال عن الموصل، واعلمهم انه لا مقام لهم إذ جاءهم ابن ضبارة من خلفهم، وركبهم مروان من بين أيديهم، فارتحلوا فأخذوا على حلوان إلى الأهواز وفارس، ووجه مروان إلى ابن ضبارة ثلاثة نفر من قواده في ثلاثين ألفا من روابطه، أحدهم مصعب بْن الصحصح الأسدي وشقيق وعطيف السليماني، وشقيق الذي يقول فيه الخوارج:

قد علمت أختاك يا شقيق *** أنك من سكرك ما تفيق

وكتب إليه يأمره أن يتبعهم، ولا يقلع عنهم حتى يبيرهم ويستأصلهم، فلم يزل يتبعهم حتى وردوا فارس، وخرجوا منها وهو في ذلك يستسقط من لحق من أخرياتهم، فتفرقوا، وأخذ شيبان في فرقته إلى ناحية البحرين، فقتل بها، وركب سليمان فيمن معه من مواليه وأهل بيته السفن إلى السند، وانصرف مروان إلى منزله من حران، فأقام بها حتى شخص إلى الزاب وأما أبو مخنف فإنه قَالَ- فِيمَا ذكر هِشَام بْن مُحَمَّد عنه – قَالَ: أمر مروان يزيد بْن عمر بْن هبيرة – وكان في جنود كثيرة من الشام وأهل الجزيرة بقرقيسيا – أن يسير إلى الكوفة، وعلى الكوفة يومئذ رجل من الخوارج يقال له المثنى بْن عمران العائذي، عائذة قريش، فسار إليه ابن هبيرة على الفرات حتى انتهى إلى عين التمر، ثم سار فلقي المثنى بالروحاء، فوافى الكوفة في شهر رمضان من سنة تسع وعشرين ومائة، فهزم الخوارج، ودخل ابن هبيرة الكوفة ثم سار إلى الصراة، وبعث شيبان عبيدة بْن سوار في خيل كثيرة، فعسكر في شرقي الصراة، وابن هبيرة في غربيها، فالتقوا، فقتل عبيدة وعدة من أصحابه، وكان منصور بْن جمهور معهم في دور الصراة، فمضى حتى غلب على الماهين وعلى الجبل أجمع، وسار ابن هبيرة إلى واسط، فأخذ ابن عمر فحبسه، ووجه نباتة بْن حنظلة إلى سليمان بْن حبيب وهو على كور الأهواز، وبعث إليه سليمان داود بْن حاتم، فالتقوا بالمريان على شاطئ دجيل، فانهزم الناس، وقتل داود بْن حاتم وفي ذلك يقول خلف بن خليفه:

نفسي لداود الفدا والحمى *** إذ أسلم الجيش أبا حاتم
مهلبي مشرق وجهه *** ليس على المعروف بالنادم
سألت من يعلم لي علمه *** حقا وما الجاهل كالعالم
قالوا عهدناه على مرقب *** يحمل كالضرغامة الصارم
ثم أنثى منجدلا في دم *** يسفح فوق البدن الناعم
وأقبل القبط على رأسه *** واختصموا في السيف والخاتم

وسار سليمان حتى لحق بابن معاوية الجعفري بفارس وأقام ابن هبيرة شهرا ثم وجه عامر بْن ضبارة في أهل الشام إلى الموصل، فسار حتى انتهى إلى السن فلقيه بها الجون بْن كلاب الخارجي، فهزم عامر بْن ضبارة حتى أدخله السن فتحصن فيها، وجعل مروان يمده بالجنود يأخذون طريق البر، حتى انتهوا إلى دجلة، فقطعوها إلى ابن ضبارة حتى كثروا وكان منصور بْن جمهور يمد شيبان بالأموال من كور الجبل، فلما كثر من يتبع ابن ضبارة من الجنود، نهض إلى الجون بْن كلاب فقتل الجون، ومضى ابن ضبارة مصعدا إلى الموصل، فلما انتهى خبر الجون وقتله إلى شيبان ومسير عامر بْن ضبارة نحوه، كره أن يقيم بين العسكرين، فارتحل بمن معه وفرسان الشام من اليمانية.
وقدم عامر بْن ضبارة بمن معه على مروان بالموصل، فضم إليه جنودا من جنوده كثيرة، وأمره أن يسير إلى شيبان، فإن أقام أقام، وإن سار سار، والا يبدأه بقتال، فإن قاتله شيبان قاتله، وإن أمسك أمسك عنه، وإن ارتحل اتبعه، فكان على ذلك حتى مر على الجبل، وخرج على بيضاء اصطخر، وبها عبد الله بْن معاوية في جموع كثيرة، فلم يتهيأ الأمر بينه وبين ابن معاوية، فسار حتى نزل جيرفت من كرمان، وأقبل عامر بْن ضبارة حتى نزل بإزاء ابن معاوية أياما، ثم ناهضه القتال، فانهزم ابن معاوية، فلحق بهراة وسار ابن ضبارة بمن معه، فلقي شيبان بجيرفت من كرمان، فاقتتلوا قتالا شديدا وانهزمت الخوارج، واستبيح عسكرهم، ومضى شيبان إلى سجستان، فهلك بها، وذلك في سنة ثلاثين ومائة.
وأما أبو عبيدة فإنه قَالَ: لما قتل الخيبري قام بأمر الخوارج شيبان بْن عبد العزيز اليشكري، فحارب مروان، وطالت الحرب بينهما، وابن هبيرة بواسط قد قتل عبيدة بْن سوار ونفى الخوارج ومعه رءوس قواد أهل الشام وأهل الجزيرة فوجه عامر بْن ضبارة في أربعة آلاف مددا لمروان، فأخذ على باب المدائن، وبلغ مسيره شيبان، فخاف أن يأتيهم مروان، فوجه إليه الجون بْن كلاب الشيباني ليشغله، فالتقيا بالسن، فحصر الجون عامرا أياما.
قال ابو عبيده: قال ابو سعيد: فاحرجناهم والله، واضطررناهم إلى قتالنا، وقد كانوا خافونا وأرادوا الهرب منا، فلم ندع لهم مسلكا فقال لهم عامر:
أنتم ميتون لا محالة، فموتوا كراما، فصدمونا صدمه لم يقم لها شيء، وقتلوا رئيسنا الجون بْن كلاب، وانكشفنا حتى لحقنا بشيبان، وابن ضبارة في آثارنا، حتى نزل منا قريبا، وكنا نقاتل من وجهين، نزل ابن ضبارة من ورائنا مما يلي العراق، ومروان أمامنا مما يلي الشام، فقطع عنا المادة والميرة، فغلت أسعارنا، حتى بلغ الرغيف درهما، ثم ذهب الرغيف فلا شيء يشتري بغال ولا رخيص فقال حبيب بن خدره لشيبان: يا أمير المؤمنين، إنك في ضيق من المعاش، فلو انتقلت إلى غير هذا الموضع! ففعل ومضى شهرزور من أرض الموصل، فعاب ذلك عليه أصحابه، فاختلفت كلمتهم.
وقال بعضهم: لما ولى شيبان امر الخوارج رجع باصحابه إلى الموصل فاتبعه مروان ينزل معه حيث نزل فقاتله شهرا ثم انهزم شيبان حتى لحق بأرض فارس، فوجه مروان في اثره عامر بن ضباره فقطع إلى جزيرة ابن كاوان، ومضى شيبان بمن معه حتى صار إلى عمان، فقتله جلندى بن مسعود ابن جيفر بن جلندى الأزدي.

ذكر اظهار الدعوة العباسية بخراسان
وفي هذه السنة أمر إبراهيم بْن محمد بْن علي بْن عبد الله بْن العباس أبا مسلم، وقد شخص من خراسان يريده حتى بلغ قومس بالانصراف إلى شيعته بخراسان، وأمرهم بإظهار الدعوة والتسويد.

ذكر الخبر عن ذلك وكيف كان الأمر فيه:
قَالَ علي بْن محمد عن شيوخه: لم يزل أبو مسلم يختلف إلى خراسان، حتى وقعت العصبية بها، فلما اضطرب الحبل، كتب سليمان بْن كثير إلى أبي سلمة الخلال يسأله أن يكتب إلى إبراهيم، يسأله أن يوجه رجلا من أهل بيته فكتب أبو سلمة إلى إبراهيم، فبعث أبا مسلم فلما كان في سنة تسع وعشرين ومائة، كتب إبراهيم إلى أبي مسلم يأمره بالقدوم عليه ليسأله عن أخبار الناس، فخرج في النصف من جمادى الآخرة مع سبعين نفسا من النقباء، فلما صار بالدندانقان من أرض خراسان عرض له كامل- أو أبو كامل- قَالَ: أين تريدون؟ قالوا: الحج، ثم خلا به أبو مسلم، فدعاه فأجابهم، وكف عنهم، ومضى أبو مسلم إلى بيورد، فأقام بها أياما، ثم سار إلى نسا، وكان بها عاصم بْن قيس السلمي عاملا لنصر بْن سيار الليثي، فلما قرب منها أرسل الفضل بْن سليمان الطوسي إلى أسيد بْن عبد الله الخزاعي ليعلمه قدومه، فمضى الفضل فدخل قرية من قرى نسا، فلقي رجلا من الشيعة يعرفه، فسأله عن أسيد، فانتهره، فقال:
يا عبد الله، ما أنكرت من مسألتي عن منزل رجل؟ قَالَ: إنه كان في هذه القرية شر، سعي برجلين قدما إلى العامل، وقيل إنهما داعيان، فأخذهما، وأخذ الأحجم بْن عبد الله وغيلان بْن فضالة وغالب بْن سعيد والمهاجر بْن عثمان، فانصرف الفضل إلى أبي مسلم وأخبره، فتنكب الطريق، وأخذ في أسفل القرى، وأرسل طرخان الجمال إلى أسيد، فقال: أدعه لي ومن قدرت عليه من الشيعة، وإياك أن تكلم أحدا لم تعرفه، فأتى طرخان أسيدا فدعاه، وأعلمه بمكان أبي مسلم، فأتاه فسأله عن الأخبار، قَالَ: نعم، قدم الأزهر بْن شعيب وعبد الملك بْن سعد بكتب من الإمام إليك، فخلفا الكتب عندي وخرجا، فأخذا فلا أدري من سعي بهما! فبعث بهما العامل إلى عاصم بْن قيس، فضرب المهاجرين عثمان وناسا من الشيعة قَالَ: فأين الكتب؟ قَالَ: عندي، قَالَ: فاتنى بها فأتاه بالكتب فقرأها.
قَالَ: ثم سار حتى أتى قومس، وعليها بيهس بْن بديل العجلي، فأتاهم بيهس، فقال: أين تريدون؟ قالوا: الحج، قَالَ: أفمعكم فضل برذون تبيعونه؟ قَالَ أبو مسلم: أما بيعا فلا، ولكن خذ أي دوابنا شئت، قَالَ: اعرضوها علي، فعرضوها، فأعجبه برذون منها سمند، فقال أبو مسلم: هو لك، قَالَ: لا اقبله الا بثمن، قال: احتكم، قال: سبعمائة، قال: هو لك وأتاه وهو بقومس كتاب من الإمام إليه وكتاب إلى سليمان بْن كثير، وكان في كتاب أبي مسلم: إني قد بعثت إليك براية النصر فارجع من حيث ألفاك كتابي، ووجه إلي قحطبة بما معك يوافني به في الموسم فانصرف أبو مسلم إلى خراسان، ووجه قحطبة إلى الإمام، فلما كانوا بنسا عرض لهم صاحب مسلحه في قرية من قرى نسا، فقال لهم: من أنتم؟ قالوا: أردنا الحج، فبلغنا عن الطريق شيء خفناه، فأوصلهم إلى عاصم بْن قيس السلمي، فسألهم فأخبروه، فقال: ارتحلوا وامر المفضل بن الشرقى السلمى- وكان على شرطته- ان يزعجهم، فخلا به أبو مسلم وعرض عليه أمرهم، فأجابه، وقال: ارتحلوا.
على مهل، ولا تعجلوا وأقام عندهم حتى ارتحلوا فقدم أبو مسلم مرو في أول يوم من شهر رمضان سنة تسع وعشرين ومائة، ودفع كتاب الإمام إلى سليمان بْن كثير، وكان فيه أن اظهر دعوتك ولا تريص، فقد آن ذلك فنصبوا أبا مسلم، وقالوا: رجل من أهل البيت، ودعوا إلى طاعة بني العباس، وأرسلوا إلى من قرب منهم أو بعد ممن أجابهم، فأمروه بإظهار أمرهم والدعاء إليهم ونزل أبو مسلم قرية من قرى خزاعة يقال لها سفيذنج، وشيبان والكرماني يقاتلان نصر بْن سيار، فبث أبو مسلم دعاته في الناس، وظهر أمره، وقال الناس: قدم رجل من بني هاشم، فأتوه من كل وجه، فظهر يوم الفطر في قرية خالد بْن إبراهيم فصلى بالناس يوم الفطر القاسم بْن مجاشع المرائي، ثم ارتحل فنزل بالين- ويقال قرية اللين- لخزاعة، فوافاه في يوم واحد أهل ستين قرية، فأقام اثنين وأربعين يوما، فكان أول فتح أبي مسلم من قبل موسى بْن كعب في بيورد، وتشاغل بقتل عاصم بْن قيس، ثم جاء فتح من قبل مروروذ.
قَالَ أبو جعفر: وأما أبو الخطاب فإنه قَالَ: كان مقدم أبي مسلم أرض مرو منصرفا من قومس، وقد أنفذ من قومس قحطبة بْن شبيب بالأموال التي كانت معه والعروض إلى الإمام إبراهيم بْن محمد، وانصرف إلى مرو، فقدمها في شعبان سنة تسع وعشرين ومائة لتسع خلون منه يوم الثلاثاء، فنزل قرية تدعى فنين على أبي الحكم عيسى بْن أعين النقيب، وهي قرية أبي داود النقيب، فوجه منها أبا داود ومعه عمرو بْن أعين إلى طخارستان فما دون بلخ بإظهار الدعوة في شهر رمضان من عامهم، ووجه النضر بْن صبيح التميمي ومعه شريك بْن غضي التميمي إلى مرو الروذ بإظهار الدعوة في شهر رمضان، ووجه أبا عاصم عبد الرحمن بْن سليم إلى الطالقان، ووجه أبا الجهم بْن عطية إلى العلاء بْن حريث بخوارزم بإظهار الدعوة في شهر رمضان لخمس بقين من الشهر، فإن أعجلهم عدوهم دون الوقت، فعرض لهم بالأذى والمكروه فقد حل لهم أن يدفعوا عن أنفسهم، وأن يظهروا السيوف ويجردوها من أغمادها، ويجاهدوا أعداء الله ومن شغلهم عدوهم عن الوقت.
فلا حرج عليهم أن يظهروا بعد الوقت ثم تحول أبو مسلم عن منزل أبي الحكم عيسى بن اعين، فنزل على سليمان ابن كثير الخزاعي في قريته التي تدعى سفيذنج من ربع خرقان لليلتين خلتا من شهر رمضان من سنة تسع وعشرين ومائة، فلما كانت ليلة الخميس لخمس بقين من شهر رمضان سنه تسع وعشرين ومائه اعتقدوا اللواء الذي بعث به الإمام إليه الذي يدعى الظل، على رمح طوله أربعة عشر ذراعا، وعقد الراية التي بعث بها الإمام التي تدعى السحاب على رمح طوله ثلاثة عشر ذراعا، وهو يتلو: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]، ولبس السواد هو وسليمان بْن كثير وأخوة سليمان ومواليه ومن كان أجاب الدعوة من أهل سفيذنج، منهم غيلان بْن عبد الله الخزاعي- وكان صهر سليمان على أخته أم عمرو بنت كثير- ومنهم حميد بْن رزين وأخوه عثمان بن رزين، فأوقدوا النيران ليلتهم أجمع للشيعة من سكان ربع خرقان- وكانت العلامة بين الشيعة- فتجمعوا له حين أصبحوا مغذين، وتاويل هذين الاسمين: الظل والسحاب، أن السحاب يطبق الأرض، وكذلك دعوة بني العباس، وتأويل الظل أن الأرض لا تخلو من الظل أبدا، وكذلك لا تخلو من خليفة عباسي أبد الدهر.
وقدم على أبي مسلم الدعاة من أهل مرو بمن أجاب الدعوة، وكان أول من قدم عليه أهل السقادم مع أبي الوضاح الهرمز فرى عيسى بن شبيل في تسعمائة رجل واربعه فرسان، ومن اهل هرمز فره سليمان بْن حسان وأخوه يزدان بْن حسان والهيثم بْن يزيد بْن كيسان، وبويع مولى نصر بْن معاوية وأبو خالد الحسن وجردي ومحمد بْن علوان، وقدم أهل السقادم مع أبي القاسم محرز بْن إبراهيم الجوباني في الف وثلاثمائة راجل وستة عشر فارسا، ومنهم من الدعاة أبو العباس المروزي وخذام بْن عمار وحمزة بْن زنيم، فجعل أهل السقادم يكبرون من ناحيتهم وأهل السقادم مع محرز بْن إبراهيم يجيبونهم بالتكبير، فلم يزالوا كذلك حتى دخلوا عسكر أبي مسلم بسفيذنج، وذلك يوم السبت من بعد ظهور أبي مسلم بيومين، وأمر أبو مسلم أن يرم حصن سفيذنج ويحصن ويدرب، فلما حضر العيد يوم الفطر بسفيذنج أمر أبو مسلم سليمان بْن كثير أن يصلي به وبالشيعة، ونصب له منبرا في العسكر، وأمره أن يبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة- وكانت بنو أمية تبدأ بالخطبة والأذان، ثم الصلاة بالإقامة على صلاة يوم الجمعة، فيخطبون على المنابر جلوسا في الجمعة والأعياد- وأمر أبو مسلم سليمان بن كثير ان يكبر الركعة الاولى ست تكبيرات تباعا، ثم يقرأ ويركع بالسابعة، ويكبر في الركعة الثانية خمس تكبيرات تباعا، ثم يقرا ويركع بالسادسه، ويفتتح الخطبة بالتكبير ويختمها بالقرآن، وكانت بنو أمية تكبر في الركعة الأولى أربع تكبيرات يوم العيد، وفي الثانية ثلاث تكبيرات فلما قضى سليمان بْن كثير الصلاة والخطبة انصرف أبو مسلم والشيعة إلى طعام قد أعده لهم أبو مسلم الخراساني، فطعموا مستبشرين وكان أبو مسلم وهو في الخندق إذا كتب إلى نصر بْن سيار يكتب: للأمير نصر، فلما قوي أبو مسلم بمن اجتمع إليه في خندقه من الشيعة بدأ بنفسه، فكتب إلى نصر: اما بعد، فان الله تبارك أسماؤه وتعالى ذكره عير أقواما في القرآن فقال: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 43].
فتعاظم نصر الكتاب وأنه بدأ بنفسه، وكسر له احدى عينيه واطال الفكره وقال: هذا كتاب له جواب فلما استقر بابى مسلم معسكره بالماخوان امر محرز ابن إبراهيم أن يخندق خندقا بجيرنج، ويجتمع إليه أصحابه ومن نزع إليه من الشيعة، فيقطع مادة نصر بْن سيار من مروروذ وبلخ وكور طخارستان.
ففعل ذلك محرز بْن إبراهيم، واجتمع له في خندق نحو من ألف رجل، فأمر أبو مسلم أبا صالح كامل بْن مظفر أن يوجه رجلا إلى خندق محرز بْن إبراهيم لعرض من فيه وإحصائهم في دفتر بأسمائهم وأسماء آبائهم وقراهم، فوجه ابو صالح حميدا الأزرق لذلك، وكان كاتبا، فأحصى في خندق محرز ثمانمائه رجل وأربعة رجال من أهل الكف، وكان فيهم من القواد المعروفين زياد بْن سيار الأزدي من قرية تدعى اسبوادق من ربع خرقان، وخذام بْن عمار الكندي من ربع السقادم ومن قرية تدعى بالأوايق، وحنيفة بْن قيس من ربع السقادم، ومن قرية تدعى الشنج، وعبدويه الجردامذ بْن عبد الكريم من أهل هراة، وكان يجلب الغنم إلى مرو، وحمزة بْن زنيم الباهلي من ربع خرقان من قريه تدعى ميلاذجرد، وأبو هاشم خليفة بْن مهران من ربع السقادم من قرية تدعى جوبان وأبو خديجة جيلان بْن السغدي وأبو نعيم موسى بْن صبيح فلم يزل محرز بْن إبراهيم مقيما في خندقه حتى دخل أبو مسلم حائط مرو، وعطل الخندق بماخوان وإلى أن عسكر بمار سرجس يريد نيسابور، فضم إليه محرز بْن إبراهيم اصحابه، وكان من الاحداث، وابو مسلم بسفيدنج أن نصر بْن سيار وجه مولى له يقال له يزيد في خيل عظيمة لمحاربة أبي مسلم بعد ثمانية عشر شهرا من ظهوره، فوجه اليه ابو مسلم مالك ابن الهيثم الخزاعي ومعه مصعب بْن قيس، فالتقوا بقرية تدعى آلين، فدعاهم مالك إلى الرضا من آل رسول الله ص، فاستكبروا عن ذلك، فصافهم مالك وهو في نحو من مائتين من أول النهار إلى وقت العصر وقدم على أبي مسلم صالح بْن سليمان الضبي وإبراهيم بْن يزيد وزياد بْن عيسى فوجههم إلى مالك بْن الهيثم، فقدموا عليه مع العصر، فقوي بهم أبو نصر، فقال يزيد مولى نصر بْن سيار لأصحابه: إن تركنا هؤلاء الليلة أتتهم الإمداد، فاحملوا على القوم، ففعلوا، وترجل أبو نصر وحض أصحابه، وقال: إني لأرجو أن يقطع الله من الكافرين طرفا، فاجتلدوا جلادا صادقا، وصبر الفريقان، فقتل من شيعة بني مروان أربعة وثلاثون رجلا، وأسر منهم ثمانية نفر، وحمل عبد الله الطائي على يزيد مولى نصر عميد القوم فأسره، وانهزم أصحابه، فوجه أبو نصر عبد الله الطائي بأسيره في رجال من الشيعة، ومعهم الأسرى والرءوس، وأقام أبو نصر في معسكره بسفيذنج، وفي الوفد أبو حماد المروزي وأبو عمرو الأعجمي، فأمر أبو مسلم بالرءوس فنصبت على باب الحائط الذي في معسكره، ودفع يزيد الأسلمي إلى أبي إسحاق خالد بْن عثمان، وأمره أن يعالج يزيد مولى نصر من جراحات كانت به، ويحسن تعاهده، وكتب إلى أبي نصر بالقدوم عليه، فلما اندمل يزيد مولى نصر من جراحاته دعاه أبو مسلم، فقال: إن شئت أن تقيم معنا وتدخل في دعوتنا فقد أرشدك الله، وإن كرهت فارجع إلى مولاك سالما، وأعطنا عهد الله الا تحاربنا والا تكذب علينا، وأن تقول فينا ما رأيت، فاختار الرجوع إلى مولاه، فخلى له الطريق وقال أبو مسلم: إن هذا سيرد عنكم اهل الورع والصلاح، فانا عندهم على غير الإسلام.
وقدم يزيد على نصر بْن سيار، فقال: لا مرحبا بك، والله ما ظننت استبقاك القوم الا ليتخذوك حجة علينا، فقال يزيد: فهو والله ما ظننت، وقد استحلفوني ألا أكذب عليهم، وأنا أقول: إنهم يصلون الصلوات لمواقيتها بأذان وإقامة، ويتلون الكتاب، ويذكرون الله كثيرا، ويدعون إلى ولايه رسول الله ص، وما أحسب أمرهم إلا سيعلو، ولولا إنك مولاي أعتقتني من الرق ما رجعت إليك، ولأقمت معهم فهذه أول حرب كانت بين الشيعة وشيعة بني مروان وفي هذه السنة غلب خازم بْن خزيمة على مروروذ، وقتل عامل نصر بْن سيار الذي كان عليها، وكتب بالفتح إلى أبي مسلم مع خزيمة بْن خازم.

ذكر الخبر عن ذَلِكَ:
ذكر عَلِيّ بن محمد أن أبا الحسن الجشمى وزهير بن هنيد والحسن ابن رشيد أخبروه أن خازم بْن خزيمة لما اراد الخروج بمرو روذ أراد ناس من تميم أن يمنعوه، فقال: إنما أنا رجل منكم، أريد مرو لعلي أن أغلب عليها، فإن ظفرت فهي لكم، وإن قتلت فقد كفيتكم أمري فكفوا عنه، فخرج فعسكر في قرية يقال لها كنج رستاه، وقدم عليهم من قبل أبي مسلم النضر بْن صبيح وبسام بْن إبراهيم فلما أمسى خازم بيت أهل مروروذ، فقتل بشر بْن جعفر السعدي- وكان عاملا لنصر بْن سيار على مروروذ- في أول ذي القعدة، وبعث بالفتح إلى أبي مسلم مع خزيمة بن خازم عبد الله بْن سعيد وشبيب بْن واج قَالَ أبو جعفر: وقال غير الذين ذكرنا قولهم في أمر أبي مسلم وإظهاره الدعوة ومصيره إلى خراسان وشخوصه عنها وعوده إليها بعد الشخوص قولا خلاف قولهم، والذي قَالَ في ذلك: ان إبراهيم الإمام زوج أبا مسلم لما توجه إلى خراسان ابنة أبي النجم، وساق عنه صداقها، وكتب بذلك إلى النقباء، وأمرهم بالسمع والطاعة لأبي مسلم، وكان أبو مسلم- فيما زعم- من أهل خطرنية، من سواد الكوفة، وكان قهرمانا لإدريس بْن معقل العجلي، فآل أمره ومنتهى ولائه لمحمد بْن علي، ثم لإبراهيم بْن محمد، ثم للأئمة من أولاد محمد ابن علي فقدم خراسان وهو حديث السن، فلم يقبله سليمان بْن كثير وتخوف ألا يقوى على أمرهم، وخاف على نفسه وأصحابه، فردوه- وأبو داود خالد بْن إبراهيم غائب خلف نهر بلخ- فلما انصرف أبو داود، وقدم مرو أقرأه كتاب الإمام إبراهيم، فسأل عن الرجل الذي وجهه، فأخبروه أن سليمان بْن كثير رده، فأرسل إلى جميع النقباء، فاجتمعوا في منزل عمران بْن إسماعيل، فقال لهم أبو داود: أتاكم كتاب الإمام فيمن وجهه إليكم وأنا غائب فرددتموه، فما حجتكم في رده؟ فقال سليمان بْن كثير: لحداثة سنه، وتخوفا ألا يقدر على القيام بهذا الأمر، فأشفقنا على من دعونا إليه وعلى أنفسنا وعلى المجيبين لنا، فقال: هل فيكم أحد ينكر أن الله تبارك وتعالى اختار محمدا ص وانتخبه واصطفاه، وبعثه برسالته إلى جميع خلقه؟
فهل فيكم أحد ينكر ذلك؟ قالوا: لا، قَالَ: أفتشكون أن الله تعالى نزل عليه كتابه فأتاه به جبريل الروح الأمين، أحل فيه حلاله، وحرم فيه حرامه، وشرع فيه شرائعه، وسن فيه سننه، وأنبأه فيه بما كان قبله، وما هو كائن بعده إلى يوم القيامة؟ قالوا: لا، قَالَ: أفتشكون أن الله عز وجل قبضه إليه بعد ما أدى ما عليه من رسالة ربه؟ قالوا: لا، قَالَ:
أفتظنون أن ذلك العلم الذي أنزل عليه رفع معه أو خلفه؟ قالوا: بل خلفه، قَالَ: أفتظنونه خلفه عند غير عترته وأهل بيته، الأقرب فالأقرب؟ قالوا: لا، قَالَ: فهل أحد منكم إذا رأى من هذا الأمر إقبالا، وراى الناس له مجيبين بدا له أن يصرف ذلك إلى نفسه؟ قالوا: اللهم لا، وكيف يكون ذلك! قَالَ:
لست أقول لكم فعلتم، ولكن الشيطان ربما نزع النزعة فيما يكون.
وفيما لا يكون قَالَ: فهل فيكم أحد بدا له أن يصرف هذا الأمر عن أهل البيت إلى غيرهم من عتره النبي ص؟ قالوا: لا، قَالَ: أفتشكون أنهم معدن العلم واصحاب ميراث رسول الله ص؟ قالوا: لا، قَالَ:
فأراكم شككتم في أمرهم ورددتم عليهم علمهم، ولو لم يعلموا أن هذا الرجل هو الذى ينبغى له ان يقوم بامرهم، لما بعثوه إليكم، وهو لا يتهم في موالاتهم ونصرتهم والقيام بحقهم.
فبعثوا إلى أبي مسلم فردوه من قومس بقول أبي داود، وولوه أمرهم وسمعوا له وأطاعوا ولم تزل في نفس أبي مسلم على سليمان بْن كثير، ولم يزل يعرفها لأبي داود وسمعت الشيعة من النقباء وغيرهم لأبي مسلم، وأطاعوه وتنازعوا، وقبلوا ما جاء به، وبث الدعاة في أقطار خراسان، فدخل الناس أفواجا، وكثروا، وفشت الدعاة بخراسان كلها وكتب إليه إبراهيم الإمام يأمره أن يوافيه بالموسم في هذه السنة- وهي سنة تسع وعشرين ومائة-، ليأمره بأمره في إظهار دعوته، وأن يقدم معه بقحطبة بْن شبيب، ويحمل إليه ما اجتمع عنده من الأموال، وقد كان اجتمع عنده ثلاثمائة ألف وستون ألف درهم، فاشترى بعامتها عروضا من متاع التجار، من القوهي والمروي والحرير والفرند، وصير بقيته سبائك ذهب وفضة وصيرها في الأقبية المحشوة، واشترى البغال وخرج في النصف من جمادى الآخرة، ومعه من النقباء قحطبة بْن شبيب والقاسم بْن مجاشع وطلحة بْن رزيق، ومن الشيعة واحد وأربعون رجلا، وتحمل من قرى خزاعة، وحمل أثقاله على واحد وعشرين بغلا، وحمل على كل بغل رجلا من الشيعة بسلاحه، وأخذ المفازة وعدا عن مسلحة نصر بْن سيار حتى انتهوا الى ابيورد.
فكتب أبو مسلم إلى عثمان بْن نهيك وأصحابه يأمرهم بالقدوم عليه، وبينه وبينهم خمسة فراسخ، فقدم عليه منهم خمسون رجلا، ثم ارتحلوا من أبيورد، حتى انتهوا إلى قرية يقال لها قافس، من قرى نسا، فبعث الفضل ابن سليمان إلى أندومان- قرية أسيد- فلقي بها رجلا من الشيعة، فسأله عن أسيد، فقال له الرجل: وما سؤالك عنه! فقد كان اليوم شر طويل من العامل أخذ، فأخذ معه الأحجم بْن عبد الله وغيلان بْن فضالة وغالب ابن سعيد والمهاجرين بْن عثمان، فحملوا إلى العامل عاصم بْن قيس بْن الحروري، فحبسهم وارتحل أبو مسلم وأصحابه حتى انتهوا إلى أندومان، فأتاه أبو مالك والشيعة من اهل نسا، فاخبره أبو مالك أن الكتاب الذي كان مع رسول الإمام عنده، فأمره أن يأتيه به، فأتاه بالكتاب وبلواء وراية، فإذا في الكتاب اليه يأمره بالانصراف حيثما يلقاه كتابه، وأن يظهر الدعوة فعقد اللواء الذي أتاه من الإمام على رمح، وعقد الراية، واجتمع إليه شيعة أهل نسا والدعاة والرءوس، ومعه أهل أبيورد الذين قدموا معه.
وبلغ ذلك عاصم بْن قيس الحروري، فبعث إلى أبي مسلم يسأله عن حاله، فأخبره أنه من الحاج الذين يريدون بيت الله، ومعه عدة من أصحابه من التجار، وسأله أن يخلي سبيل من أحتبس من أصحابه حتى يخرج من بلاده، فسألوا أبا مسلم أن يكتب لهم شرطا على نفسه، ان يصرف من معه من العبيد وما معه من الدواب والسلاح، على أن يخلوا سبيل أصحابه الذين قدموا من بلاد الإمام وغيرهم فأجابهم أبو مسلم إلى ذلك، وخلى سبيل أصحابه، فأمر أبو مسلم الشيعة من أصحابه أن ينصرفوا، وقرأ عليهم كتاب الإمام، وأمرهم بإظهار الدعوة، فانصرف منهم طائفة وسار معه أبو مالك أسيد بْن عبد الله الخزاعي وزريق بْن شوذب ومن قدم عليه من أبيورد، وأمر من انصرف بالاستعداد ثم سار فيمن بقي من اصحابه ومعه قحطبه ابن شبيب، حتى نزلوا تخوم جرجان، وبعث إلى خالد بْن برمك وأبي عون يأمرهما بالقدوم عليه بما قبلهما من مال الشيعة، فقدما عليه، فأقام أياما حتى اجتمعت القوافل وجهز قحطبة بْن شبيب، ودفع إليه المال الذي كان معه، والأحمال بما فيها، ثم وجهه إلى إبراهيم بْن محمد، وسار أبو مسلم بمن معه حتى انتهى إلى نسا، ثم ارتحل منها إلى أبيورد حتى قدمها، ثم سار حتى أتى مرو متنكرا، فنزل قرية تدعى فنين من قرى خزاعة لسبع ليال بقين من شهر رمضان، وقد كان واعد أصحابه أن يوافوه بمرو يوم الفطر.
ووجه أبا داود وعمرو بْن أعين إلى طخارستان، والنضر بْن صبيح إلى آمل وبخارى ومعه شريك بْن عيسى، وموسى بْن كعب إلى أبيورد ونسا، وخازم بْن خزيمة إلى مروروذ، وقدموا عليه، فصلى بهم القاسم بْن مجاشع التميمي يوم العيد، في مصلى آل قنبر، في قرية أبي داود خالد بْن إبراهيم.

ذكر تعاقد اهل خراسان على قتال ابى مسلم
وفي هذه السنة تحالفت وتعاقدت عامة من كان بخراسان من قبائل العرب على قتال ابى مسلم، وذلك حين كثر تباع أبي مسلم وقوي أمره وفيها تحول أبو مسلم من معسكره بإسفيذنج إلى الماخوان.
ذكر الخبر عن ذلك والسبب فيه:
قَالَ علي: أخبرنا الصباح مولى جبريل، عن مسلمة بْن يحيى، قال: لما ظهر أبو مسلم، تسارع إليه الناس، وجعل أهل مرو يأتونه، لا يعرض لهم نصر ولا يمنعهم، وكان الكرماني وشيبان لا يكرهان أمر أبي مسلم، لأنه دعا إلى خلع مروان بْن محمد، وأبو مسلم في قرية يقال لها بالين في خباء ليس له حرس ولا حجاب، وعظم أمره عند الناس، وقالوا: ظهر رجل من بني هاشم، له حلم ووقار وسكينة، فانطلق فتية من أهل مرو، نساك كانوا يطلبون الفقه، فأتوا أبا مسلم في معسكره، فسألوه عن نسبه، فقال: خبري خير لكم من نسبي، وسألوه عن أشياء من الفقه، فقال: أمركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر خير لكم من هذا، ونحن في شغل، ونحن إلى عونكم أحوج منا إلى مسألتكم، فاعفونا قالوا: والله ما نعرف لك نسبا، ولا نظنك تبقى إلا قليلا حتى تقتل، وما بينك وبين ذلك إلا أن يتفرغ أحد هذين، قَالَ أبو مسلم: بل أنا أقتلهما إن شاء الله.
فرجع الفتية فأتوا نصر بْن سيار فحدثوه، فقال: جزاكم الله خيرا، مثلكم تفقد هذا وعرفه وأتوا شيبان فأعلموه، فأرسل: إنا قد أشجى بعضنا بعضا، فأرسل إليه نصر: إن شئت فكف عني حتى أقاتله، وإن شئت فجامعني على حربه حتى أقتله أو أنفيه، ثم نعود إلى أمرنا الذي نحن عليه فهم شيبان أن يفعل، فظهر ذلك في العسكر، فأتت عيون أبي مسلم فأخبروه، فقال سليمان: ما هذا الأمر الذي بلغهم! تكلمت عند أحد بشيء؟ فأخبره خبر الفتية الذين أتوه، فقال: هذا لذاك إذا فكتبوا إلى علي بْن الكرماني: إنك موتور، قتل أبوك ونحن نعلم أنك لست على رأي شيبان، وإنما تقاتل لثأرك فامنع شيبان من صلح نصر، فدخل على شيبان، فكلمه فثناه عن رأيه، فأرسل نصر إلى شيبان: إنك لمغرور، وايم الله ليتفاقمن هذا الأمر حتى تستصغرني في جنبه فبينا هم في أمرهم إذ بعث أبو مسلم النضر بْن نعيم الضبي إلى هراة وعليها عيسى بْن عقيل الليثي، فطرده عن هراة، فقدم عيسى على نصر منهزما، وغلب النضر على هراة قَالَ: فقال يحيى بْن نعيم بْن هبيرة: اختاروا إما أن تهلكوا أنتم قبل مضر أو مضر قبلكم، قالوا: وكيف ذاك؟ قَالَ: إن هذا الرجل إنما ظهر أمره منذ شهر، وقد صار في عسكره مثل عسكركم، قالوا:
فما الرأي؟ قَالَ: صالحوا نصرا، فإنكم إن صالحتموه قاتلوا نصرا وتركوكم، لأن الأمر في مضر، وإن لم تصالحوا نصرا صالحوه وقاتلوكم، ثم عادوا عليكم.
قالوا: فما الرأي؟ قَالَ: قدموهم قبلكم ولو ساعة، فتقر أعينكم بقتلهم.
فأرسل شيبان إلى نصر يدعوه إلى الموادعة فأجابه، فأرسل إلى سلم بْن أحوز، فكتب بينهم كتابا، فأتى شيبان وعن يمينه ابن الكرماني، وعن يساره يحيى ابن نعيم، فقال سلم لابن الكرماني: يا أعور، ما أخلقك أن تكون الأعور الذي بلغنا أن يكون هلاك مضر على يديه! ثم توادعوا سنة، وكتبوا بينهم كتابا فبلغ أبا مسلم، فأرسل إلى شيبان: إنا نوادعك أشهرا، فتوادعنا ثلاثة أشهر، فقال ابن الكرماني: فإني ما صالحت نصرا، وإنما صالحه شيبان، وأنا لذلك كاره، وأنا موتور، ولا أدع قتاله فعاوده القتال، وأبى شيبان أن يعينه، وقال: لا يحل الغدر فأرسل ابن الكرماني إلى أبي مسلم يستنصره على نصر بْن سيار، فأقبل أبو مسلم حتى أتى الماخوان، وأرسل إلى ابن الكرماني شبل بْن طهمان: إني معك على نصر، فقال ابن الكرماني: إني أحب أن يلقاني أبو مسلم، فأبلغه ذلك شبل، فأقام أبو مسلم أربعة عشر يوما، ثم سار إلى ابن الكرماني، وخلف عسكره بالماخوان، فتلقاه عثمان بْن الكرماني في خيل، وسار معه حتى دخل العسكر، وأتى لحجرة علي فوقف، فاذن له فدخل، فسلم على علي بالإمرة، وقد اتخذ له على منزلا في قصر لمخلد بْن الحسن الأزدي، فأقام يومين، ثم انصرف إلى عسكره بالماخوان، وذلك لخمس خلون من المحرم من سنة ثلاثين ومائة.
وأما أبو الخطاب، فإنه قَالَ: لما كثرت الشيعة في عسكر أبي مسلم، ضاقت به سفيذنج، فارتاد معسكرا فسيحا، فأصاب حاجته بالماخوان، – وهي قرية العلاء بْن حريث وأبي إسحاق خالد بن عثمان، وفيها ابو الجهم ابن عطية وإخوته- وكان مقامه بسفيذنج اثنين وأربعين يوما، وارتحل من سفيذنج إلى الماخوان، فنزل منزل أبي إسحاق خالد بْن عثمان يوم الأربعاء، لتسع ليال خلون من ذي القعدة من سنة تسع وعشرين ومائة، فاحتفر بها خندقا، وجعل للخندق بابين، فعسكر فيه والشيعة، ووكل بأحد بابي الخندق مصعب بْن قيس الحنفي وبهدل بْن إياس الضبي، ووكل بالباب الآخر أبا شراحيل وأبا عمرو الأعجمي، واستعمل على الشرط أبا نصر مالك ابن الهيثم، وعلى الحرس أبا إسحاق خالد بْن عثمان، وعلى ديوان الجند كامل ابن مظفر أبا صالح، وعلى الرسائل أسلم بْن صبيح، والقاسم بْن مجاشع النقيب التميمي على القضاء، وضم أبا الوضاح وعدة من أهل السقادم إلى مالك بْن الهيثم، وجعل أهل نوشان- وهم ثلاثة وثمانون رجلا- إلى أبي إسحاق في الحرس وكان القاسم بْن مجاشع يصلي بأبي مسلم الصلوات في الخندق، ويقص القصص بعد العصر، فيذكر فضل بني هاشم ومعايب بني أمية فنزل أبو مسلم خندق الماخوان، وهو كرجل من الشيعة في هيئته، حتى أتاه عبد الله بْن بسطام، فأتاه بالأروقة والفساطيط والمطابخ والمعالف للدواب وحياض الأدم للماء، فأول عامل استعمله أبو مسلم على شيء من العمل داود بْن كراز، فرد ابو مسلم العبيد عن أن يضاموا في خندقه، واحتفر لهم خندقا في قرية شوال، وولى الخندق داود بْن كراز فلما اجتمعت للعبيد جماعة، وجههم إلى موسى بْن كعب بأبيورد، وأمر أبو مسلم كامل بْن مظفر أن يعرض أهل الخندق باسمائهم وأسماء آبائهم فينسبهم الى القوى، ويجعل ذلك في دفتر، ففعل ذلك كامل أبو صالح، فبلغت عدتهم سبعة آلاف رجل، فأعطاهم ثلاثة دراهم لكل رجل، ثم اعطاهم أربعة على يدي أبي صالح كامل.
ثم إن أهل القبائل من مضر وربيعة وقحطان توادعوا على وضع الحرب، وعلى أن تجتمع كلمتهم على محاربة أبي مسلم، فإذا نفوه عن مرو نظروا في أمر أنفسهم وعلى ما يجتمعون عليه فكتبوا على أنفسهم بذلك كتابا وثيقا.
وبلغ أبا مسلم الخبر، فافظعه ذلك وأعظمه، فنظر أبو مسلم في أمره، فإذا ماخوان سافلة الماء، فتخوف أن يقطع عنه نصر بْن سيار الماء، فتحول إلى آلين- قرية أبي منصور طلحة بْن رزيق النقيب- وذلك بعد مقامه أربعة أشهر بخندق الماخوان، فنزل آلين في ذي الحجة من سنة تسع وعشرين ومائة، يوم الخميس لست خلون من ذي الحجة فخندق بآلين خندقا أمام القرية، فيما بينها وبين بلاش جرد، فصارت القرية من خلف الخندق، وجعل وجه دار المحتفز بن عثمان ابن بشر المزني في الخندق، وشرب أهل آلين من نهر يدعى الخرقان، لا يمكن نصر ابن سيار قطع الشرب عن آلين وحضر العيد يوم النحر، وأمر القاسم بْن مجاشع التميمي فصلى بأبي مسلم والشيعة في مصلى آلين، وعسكر نصر بْن سيار على نهر عياض، ووضع عاصم بْن عمرو ببلاش جرد، ووضع أبا الذيال بطوسان، ووضع بشر بْن أنيف اليربوعى بجلفر، ووضع حاتم بن الحارث ابن سريج بخرق، وهو يلتمس مواقعه أبي مسلم فأما أبو الذيال فأنزل جنده على أهلها مع أبي مسلم في الخندق، فآذوا أهل طوسان وعسفوهم وذبحوا الدجاج والبقر والحمام، وكلفوهم الطعام والعلف، فشكت الشيعة ذلك إلى أبي مسلم، فوجه معهم خيلا، فلقوا أبا الذيال فهزموه، وأسروا من أصحابه ميمونا الأعسر الخوارزمي في نحو من ثلاثين رجلا، فكساهم أبو مسلم، وداوى جراحاتهم وخلى لهم الطريق

ذكر خبر مقتل الكرماني
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة قتل جديع بْن علي الكرماني وصلب ذكر الخبر عن مقتله: قد مضى قبل ذكرنا مقتل الحارث بْن سريج، وأن الكرماني هو الذي قتله ولما قتل الكرماني الحارث، خلصت له مرو بقتله إياه، وتنحى نصر ابن سيار عنها إلى أبرشهر، وقوي أمر الكرماني، فوجه نصر إليه- فيما قيل- سلم بْن أحوز، فسار في رابطة نصر وفرسانه، حتى لقي أصحاب الكرماني، فوجد يحيى بْن نعيم أبا الميلاء واقفا في ألف رجل من ربيعة، ومحمد بن المثنى في سبعمائة من فرسان الأزد، وابن الحسن بْن الشيخ الأزدي في ألف من فتيانهم، والحزمي السغدي في ألف رجل من أبناء اليمن، فلما تواقفوا قَالَ سلم بْن أحوز لمحمد بْن المثنى: يا محمد بْن المثنى، مر هذا الملاح بالخروج إلينا، فقال محمد لسلم: يا بن الفاعلة، لأبي علي تقول هذا! ودلف القوم بعضهم إلى بعض، فاجتلدوا بالسيوف، فانهزم سلم بْن أحوز، وقتل من أصحابه زيادة على مائة، وقتل من أصحاب محمد زيادة على عشرين، وقدم أصحاب نصر عليه فلولا، فقال له عقيل بْن معقل: يا نصر شأمت العرب، فأما إذ صنعت ما صنعت فجد وشمر عن ساق، فوجه عصمة بْن عبد الله الأسدي فوقف موقف سلم بْن أحوز، فنادى: يا محمد، لتعلمن أن السمك لا يغلب اللخم، فقال له محمد: يا بن الفاعلة، قف لنا إذا وأمر محمد السغدي فخرج إليه في أهل اليمن، فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم عصمة حتى أتى نصر بْن سيار، وقد قتل من اصحابه أربعمائة.
ثم أرسل نصر بْن سيار مالك بْن عمرو التميمي فأقبل في أصحابه، ثم نادى: يا بن المثنى، ابرز لي إن كنت رجلا! فبرز له، فضربه التميمي على حبل العاتق فلم يصنع شيئا، وضربه محمد بْن المثنى بعمود فشدخ رأسه، فالتحم القتال، فاقتتلوا قتالا شديدا كأعظم ما يكون من القتال، فانهزم أصحاب نصر، وقد قتل منهم سبعمائة رجل، وقتل من اصحاب الكرماني ثلاثمائة رجل، ولم يزل الشر بينهم حتى خرجوا جميعا إلى الخندقين، فاقتتلوا قتالا شديدا، فلما استيقن أبو مسلم أن كلا الفريقين قد أثخن صاحبه، وأنه لا مدد لهم، جعل يكتب الكتب إلى شيبان، ثم يقول للرسول: اجعل طريقك على المضرية، فإنهم سيعرضون لك، ويأخذون كتبك، فكانوا يأخذونها فيقرءون فيها: إني رأيت أهل اليمن لا وفاء لهم ولا خير فيهم، فلا تثقن بهم ولا تطمئن إليهم، فإني أرجو أن يريك الله ما تحب، ولئن بقيت لا أدع لهم شعرا ولا ظفرا.
ويرسل رسولا آخر في طريق آخر بكتاب فيه ذكر المضرية وإطراء اليمن بمثل ذلك، حتى صار هوى الفريقين جميعا معه، وجعل يكتب إلى نصر بْن سيار وإلى الكرماني: إن الإمام قد أوصاني بكم، ولست أعدو رأيه فيكم.
وكتب إلى الكور بإظهار الأمر، فكان أول من سود- فيما ذكر- اسيد ابن عبد الله بنسا، ونادى: يا محمد، يا منصور وسود معه مقاتل بْن حكيم وابن غزوان، وسود أهل أبيورد وأهل مرو الروذ، وقرى مرو.
وأقبل أبو مسلم حتى نزل بين خندق نصر بْن سيار وخندق جديع الكرماني، وهابه الفريقان، وكثر أصحابه، فكتب نصر بن سيار الى مروان ابن محمد يعلمه حال أبي مسلم وخروجه وكثرة من معه ومن تبعه، وأنه يدعو إلى إبراهيم بْن محمد، وكتب بأبيات شعر:

أرى بين الرماد وميض جمر *** فأحج بأن يكون له ضرام
فإن النار بالعودين تذكى *** وإن الحرب مبدؤها الكلام
فقلت من التعجب: ليت شعري *** أأيقاظ أمية أم نيام!

فكتب إليه الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، فاحسم الثؤلول قبلك، فقال نصر: أما صاحبكم فقد أعلمكم ألا نصر عنده فكتب إلى يزيد بْن عمر بْن هبيرة يستمده، وكتب إليه بأبيات شعر:

أبلغ يزيد وخير القول أصدقه *** وقد تبينت الأخير في الكذب
إن خراسان أرض قد رأيت بها *** بيضا لو أفرخ قد حدثت بالعجب
فراخ عامين إلا أنها كبرت *** لما يطرن وقد سربلن بالزغب
فإن يطرن ولم يحتل لهن بها *** يلهبن نيران حرب أيما لهب

فقال يزيد: لا غلبة إلا بكثرة، وليس عندي رجل وكتب نصر إلى مروان يخبره خبر أبي مسلم وظهوره وقوته، وأنه يدعو إلى إبراهيم بْن محمد، فألفى الكتاب مروان وقد أتاه رسول لأبي مسلم إلى إبراهيم، كان قد عاد من عند إبراهيم، ومعه كتاب إبراهيم إلى أبي مسلم جواب كتابه، يلعن فيه أبا مسلم ويسبه، حيث لم ينتهز الفرصة من نصر والكرماني إذ امكناه، ويأمره الا يدع بخراسان عربيا إلا قتله فدفع الرسول الكتاب إلى مروان، فكتب مروان إلى الوليد بْن معاوية بْن عبد الملك وهو على دمشق، يأمره أن يكتب إلى عامل البلقاء، فيسير إلى كرار الحميمة، فليأخذ إبراهيم بْن محمد ويشده وثاقا، وليبعث به إليه في خيل، فوجه الوليد إلى عامل البلقاء فأتى إبراهيم وهو في مسجد القرية، فأخذه وكتفه وحمله إلى الوليد، فحمله إلى مروان فحبسه مروان في السجن.
رجع الحديث إلى حديث نصر والكرماني وبعث أبو مسلم حين عظم الأمر بين الكرماني ونصر إلى الكرماني: إني معك، فقبل ذلك الكرماني وانضم إليه أبو مسلم، فاشتد ذلك على نصر، فأرسل إلى الكرماني: ويلك لا تغترر! فو الله إني لخائف عليك وعلى أصحابك منه، ولكن هلم الى الموادعة، فتدخل مرو، فنكتب بيننا كتابا بصلح- وهو يريد أن يفرق بينه وبين أبي مسلم- فدخل الكرماني منزله، وأقام أبو مسلم في المعسكر، وخرج الكرماني حتى وقف في الرحبة في مائة فارس، وعليه قرطق خشكشونة ثم أرسل إلى نصر: اخرج لنكتب بيننا ذلك الكتاب، فأبصر نصر منه غرة، فوجه إليه ابن الحارث بْن سريج في نحو من ثلاثمائة فارس، فالتقوا في الرحبة، فاقتتلوا بها طويلا.
ثم إن الكرماني طعن في خاصرته فخر عن دابته، وحماه أصحابه حتى جاءهم ما لا قبل لهم به، فقتل نصر الكرماني وصلبه، ومعه سمكة، فأقبل ابنه علي- وقد كان صار إلى أبي مسلم، وقد جمع جمعا كثيرا- فسار بهم إلى نصر بْن سيار فقاتله حتى أخرجه من دار الإمارة، فمال إلى بعض دور مرو، وأقبل أبو مسلم حتى دخل مرو، فأتاه علي بْن جديع الكرماني فسلم عليه بالإمرة، وأعلمه أنه معه على مساعدته، وقال: مرني بأمرك، فقال:
أقم على ما أنت عليه حتى آمرك بأمري.

غلبه عبد الله بن معاويه على فارس
وفي هذه السنة غلب عبد الله بْن معاوية بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ على فارس ذكر الخبر عن ذلك وعن السبب الذي وصل به إلى الغلبة عليها:
ذكر علي بْن محمد أن عاصم بْن حفص التميمي وغيره حدثوه أن عبد الله ابن معاوية لما هزم بالكوفة، شخص إلى المدائن، فبايعه أهل المدائن، فأتاه قوم من أهل الكوفة، فخرج إلى الجبال فغلب عليها، وعلى حلوان وقومس وأصبهان والري، وخرج إليه عبيد أهل الكوفة، فلما غلب على ذلك أقام بأصبهان، وقد كان محارب بْن موسى مولى بني يشكر عظيم القدر بفارس، فجاء يمشي في نعلين إلى دار الإمارة بإصطخر، فطرد العامل، عامل ابْن عمر عنها، وقال لرجل يقال له عماره: بايع الناس، فقال له اهل اصطخر: علام نبايع؟
قَالَ: على ما أحببتم وكرهتم فبايعوه لابن معاوية، وخرج محارب إلى كرمان فأغار عليهم، وأصاب في غارته إبلا لثعلبة بْن حسان المازني فاستاقها ورجع.
فخرج ثعلبة يطلب إبله في قرية له تدعى أشهر- قَالَ: ومع ثعلبة مولى له- فقال له مولاه: هل لك ان نفتك بمحارب، فإن شئت ضربته وكفيتني الناس، وإن شئت ضربته وكفيتك الناس؟ قَالَ: ويحك! أردت ان تفتك وتذهب الإبل ولم نلق الرجل! ثم دخل على محارب فرحب به ثم قال:
حاجتك! قال: ابلى، قال: نعم، لقد أخذت، وما أعرفها، وقد عرفتها، فدونك إبلك فأخذها، وقال لمولاه: هذا خير، وما اردت؟
قال: ذلك لو أخذناها كان أشفى وانضم إلى محارب القواد والأمراء من أهل الشام: فسار إلى مسلم بْن المسيب وهو بشيراز، عامل لابن عمر، فقتله في سنة ثمان وعشرين ومائة، ثم خرج محارب إلى أصبهان، فحول عبد الله بْن معاوية إلى إصطخر، واستعمل عبد الله أخاه الحسن على الجبال، فأقبل فنزل في دير على ميل من اصطخر، واستعمل أخاه يزيد على فارس فأقام، فأتاه الناس، بنو هاشم وغيرهم، وجبى المال، وبعث العمال، وكان معه منصور بْن جمهور وسليمان بْن هشام بْن عبد الملك وشيبان بْن الحلس بْن عبد العزيز الشيباني الخارجي، وأتاه أبو جعفر عبد الله، وعبد الله وعيسى ابنا علي وقدم يزيد بْن عمر بْن هبيرة على العراق، فأرسل نباتة بْن حنظلة الكلابي إلى عبد الله بْن معاوية، وبلغ سليمان بْن حبيب أن ابن هبيرة ولى نباتة الأهواز، فسرح داود بْن حاتم، فأقام بكربج دينار ليمنع نباتة من الأهواز، فقدم نباتة، فقاتله، فقتل داود، وهرب سليمان إلى سابور، وفيها الأكراد قد غلبوا عليها، وأخرجوا المسيح بن الحمارى، فقاتلهم سليمان، فطرد الأكراد عن سابور، وكتب إلى عبد الله بْن معاوية بالبيعة، فقال: عبد الرحمن ابن يزيد بْن المهلب: لا يفي لك، وإنما أراد أن يدفعك عنه، ويأكل سابور، فاكتب إليه فليقدم عليك إن كان صادقا فكتب إليه فقدم، وقال لأصحابه: ادخلوا معي، فإن منعكم أحد فقاتلوه، فدخلوا فقال لابن معاوية:
أنا أطوع الناس لك، قَالَ: ارجع إلى عملك، فرجع ثم إن محارب بْن موسى نافر ابن معاوية، وجمع جمعا، فأتى سابور- وكان ابنه مخلد بْن محارب محبوسا بسابور، أخذه يزيد بْن معاوية فحبسه- فقال لمحارب: ابنك في يديه وتحاربه! أما تخاف أن يقتل ابنك! قَالَ:
أبعده الله! فقاتله يزيد، فانهزم محارب، فأتى كرمان، فأقام بها حتى قدم محمد بْن الأشعث، فصار معه، ثم نافر ابن الأشعث فقتله وأربعة وعشرين ابنا له ولم يزل عبد الله بْن معاوية بإصطخر حتى أتاه ابن ضبارة مع داود ابن يزيد بْن عمر بْن هبيرة، فأمر ابن معاوية فكسروا قنطرة الكوفة، فوجه ابن هبيرة معن بْن زائدة من وجه آخر، فقال سليمان لأبان بْن معاوية بْن هشام: قد أتاك القوم، قَالَ: لم أومر بقتالهم، قَالَ: ولا تؤمر والله بهم أبدا، وأتاهم فقاتلهم عند مرو الشاذان، ومعن يرتجز:

ليس أمير القوم بالخب الخدع *** فر من الموت وفي الموت وقع

قال ابن المقفع او غيره: فر من الموت وفيه قد وقع.
قَالَ: عمدا، قلت: قد عملت، فانهزم ابن معاوية، وكف معن عنهم، فقتل في المعركة رجل من آل أبي لهب، وكان يقال: يقتل رجل من بني هاشم بمرو الشاذان وأسروا أسراء كثيرة، فقتل ابن ضبارة عدة كثيرة، فيقال كان فيمن قتل يومئذ حكيم الفرد أبو المجد، ويقال: قتل بالأهواز، قتله نباتة.
ولما انهزم ابن معاوية هرب شيبان إلى جزيرة ابن كاوان ومنصور بْن جمهور إلى السند، وعبد الرحمن بْن يزيد إلى عمان، وعمرو بْن سهل بْن عبد العزيز إلى مصر، وبعث ببقية الأسراء إلى ابن هبيرة.
قَالَ حميد الطويل: أطلق أولئك الأسراء فلم يقتل منهم غير حصين بْن وعلة السدوسي، ولما أمر بقتله قَالَ: أقتل من بين الأسراء! قَالَ: نعم، أنت مشرك، أنت الذي تقول:

ولو آمر الشمس لم تشرق

ومضى ابن معاوية من وجهه إلى سجستان ثم أتى خراسان ومنصور بْن جمهور إلى السند، فسار في طلبه معن بْن زائدة وعطية الثعلبي وغيره من بني ثعلبة، فلم يدركوه، فرجعوا وكان حصين بْن وعلة السدوسي مع يزيد بْن معاويه، فتركه معن بن زائده فبعث به معن إلى ابن ضبارة، فبعث به ابن ضبارة إلى واسط، وسار ابن ضبارة إلى عبد الله بْن معاوية بإصطخر، فنزل بإزائه على نهر إصطخر، فعبر ابن الصحصح في ألف، فلقيه من أصحاب عبد الله بْن معاوية أبان بْن معاوية بْن هشام فيمن كان معه من أهل الشام، ممن كان مع سليمان بْن هشام فاقتتلوا، فمال ابن نباتة إلى القنطرة، فلقيهم من كان مع ابن معاوية من الخوارج، فانهزم أبان والخوارج، فأسر منهم ألفا، فأتوا بهم ابن ضبارة، فخلى عنهم، وأخذ يومئذ عبد الله بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس في الأسراء، فنسبه ابن ضبارة، فقال: ما جاء بك إلى ابن معاوية، وقد عرفت خلافه أمير المؤمنين! قَالَ: كان علي دين فأديته فقام إليه حرب بْن قطن الكناني، فقال: ابن أختنا، فوهبه له، وقال: ما كنت لأقدم على رجل من قريش وقال له ابن ضبارة: إن الذي قد كنت معه قد عيب بأشياء، فعندك منها علم؟ قَالَ: نعم، وعابه ورمى أصحابه باللواط، فأتوا ابن ضبارة بغلمان عليهم أقبية قوهية مصبغة ألوانا، فأقامهم للناس وهم أكثر من مائة غلام، لينظروا إليهم وحمل ابن ضبارة عبد الله بْن علي على البريد إلى ابن هبيرة ليخبره أخباره، فحمله ابن هبيرة إلى مروان في أجناد أهل الشام، وكان يعيبه، وابن ضبارة يومئذ في مفازة كرمان في طلب عبد الله ابن معاوية، وقد أتى ابن هبيرة مقتل نباتة، فوجه ابن هبيرة كرب بْن مصقلة والحكم بْن أبي الأبيض العبسي وابن محمد السكوني، كلهم خطيب، فتكلموا في تقريظ ابن ضبارة، فكتب إليه أن سر بالناس إلى فارس، ثم جاءه كتاب ابن هبيرة: سر الى أصبهان
. مجيء ابى حمزه الخارجي الموسم
وفي هذه السنة وافى الموسم أبو حمزة الخارجي، من قبل عبد الله ابن يحيى طالب الحق، محكما مظهرا للخلاف على مروان بْن محمد.

ذكر الخبر عن ذلك من أمره:
حدثني العباس بْن عيسى العقيلي، قَالَ: حدثنا هارون بْن موسى الفروي قَالَ: حدثنا موسى بْن كثير مولى الساعديين، قَالَ: لما كان تمام سنة تسع وعشرين ومائة، لم يدر الناس بعرفة إلا وقد طلعت أعلام عمائم سود حرقانيه في رءوس الرماح وهم في سبعمائة، ففزع الناس حين رأوهم، وقالوا:
ما لكم! وما حالكم؟ فأخبروهم بخلافهم مروان وآل مروان والتبرؤ منه.
فراسلهم عبد الواحد بْن سليمان- وهو يومئذ على المدينة ومكة- فراسلهم في الهدنة، فقالوا: نحن بحجنا أضن، ونحن عليه أشح وصالحهم على أنهم جميعا آمنون، بعضهم من بعض، حتى ينفر الناس النفر الأخير، وأصبحوا من الغد فوقفوا على حدة بعرفة، ودفع بالناس عبد الواحد بْن سليمان بْن عبد الملك بْن مروان، فلما كانوا بمنى ندموا عبد الواحد، وقالوا: قد أخطأت فيهم، ولو حملت الحاج عليهم ما كانوا إلا أكلة رأس فنزل أبو حمزة بقرين الثعالب، ونزل عبد الواحد منزل السلطان، فبعث عبد الواحد إلى أبي حمزة عبد الله بْن الحسن بْن الحسن بْن علي، ومحمد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، وعبد الرحمن بْن القاسم بْن محمد بْن أبي بكر، وعبيد الله بْن عمر بْن حفص بْن عاصم بْن عمر بْن الخطاب، وربيعة بْن أبي عبد الرحمن، في رجال أمثالهم، فدخلوا على أبي حمزة وعليه إزار قطن غليظ، فتقدمهم إليه عبد الله بْن الحسن ومحمد بْن عبد الله فنسبهما فانتسبا له، فعبس في وجوههما، وأظهر الكراهة لهما، ثم سأل عبد الرحمن بْن القاسم وعبيد الله بْن عمر فانتسبا له، فهش إليهما، وتبسم في وجوههما، وقال: والله ما خرجنا إلا لنسير بسيرة أبويكما، فقال له عبد الله بْن حسن: والله ما جئنا لتفضل بين آبائنا، ولكنا بعثنا إليك الأمير برسالة- وهذا ربيعة يخبركها- فلما ذكر ربيعة نقض العهد، قَالَ بلج وأبرهة- وكانا قائدين له: الساعة الساعة! فأقبل عليهم أبو حمزة، فقال: معاذ الله أن ننقض العهد أو نحبس، والله لا أفعل ولو قطعت رقبتي هذه، ولكن تنقضي الهدنة بيننا وبينكم فلما أبى عليهم خرجوا، فأبلغوا عبد الواحد، فلما كان النفر نفر عبد الواحد في النفر الأول، وخلى مكة لأبي حمزة، فدخلها بغير قتال قَالَ العباس: قَالَ هارون: فأنشدني يعقوب بْن طلحة الليثي أبياتا هجي بها عبد الواحد- قَالَ: وهي لبعض الشعراء لم احفظ اسمه:

زار الحجيج عصابة قد خالفوا *** دين الإله ففر عبد الواحد
ترك الحلائل والإمارة هاربا *** ومضى يخبط كالبعير الشارد
لو كان والده تنصل عرقه *** لصفت مضاربه بعرق الوالد

ثم مضى عبد الواحد حتى دخل المدينة، فدعا بالديوان، فضرب على الناس البعث، وزادهم في العطاء عشرة عشرة قَالَ العباس: قَالَ هارون:
أخبرني بذلك أبو ضمرة أنس بْن عياض، قَالَ: كنت فيمن اكتتب، ثم محوت اسمي.
قَالَ العباس: قَالَ هارون: وحدثني غير واحد من أصحابنا أن عبد الواحد استعمل عبد العزيز بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ على الناس فخرجوا، فلما كانوا بالحرة لقيتهم جزر منحورة فمضوا.
وحج بالناس في هذه السنة عبد الواحد بْن سليمان بْن عبد الملك بن مروان حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر وكذلك قال محمد بْن عمر وغيره.
وكان العامل على مكة والمدينة عبد الواحد بن سليمان، وعلى العراق يزيد ابن عمر بن هبيرة، وعلى قضاء الكوفة الحجاج بن عاصم المحاربي- فيما ذكر- وعلى قضاء البصرة عباد بن منصور، وعلى خراسان نصر بن سيار، والفتنة بها.