169 هـ
785 م
سنة تسع وستين ومائة (ذكر الخبر عن الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا)

ذكر الخبر عن خروج المهدى الى ماسبذان
فمما كان فيها من ذلك خروج المهدي في المحرم إلى ماسبذان …

ذكر الخبر عن خروجه إليها:
ذكر أن المهدي كان في آخر أمره قد عزم على تقديم هارون ابنه على ابنه موسى الهادي، وبعث إليه وهو بجرجان بعض أهل بيته ليقطع أمر البيعة، ويقدم الرشيد فلم يفعل، فبعث إليه المهدي بعض الموالي، فامتنع عليه موسى من القدوم، وضرب الرسول، فخرج المهدي بسبب موسى وهو يريده بجرجان فأصابه ما أصابه.
وذكر الباهلي أن أبا شاكر أخبره- وكان من كتاب المهدي على بعض دواوينه- قَالَ: سأل علي بْن يقطين المهدي أن يتغدى عنده، فوعده أن يفعل، ثم اعتزم على إتيان ماسبذان، فو الله لقد أمر بالرحيل كأنه يساق إليها سوقا، فقال له علي: يا أمير المؤمنين، إنك قد وعدتني أن تتغدى عندي غدا، قَالَ: فاحمل غداءك إلى النهروان قَالَ: فحمله فتغدى بالنهروان، ثم انطلق.
وفيها توفي المهدي

 ذكر الخبر عن موت المهدي
ذكر الخبر عن سبب وفاته:
اختلف في ذلك، فذكر عن واضح قهرمان المهدي، قَالَ: خرج المهدي يتصيد بقرية يقال لها الرذ بماسبذان، فلم أزل معه إلى بعد العصر، وانصرفت إلى مضربي- وكان بعيدا من مضربه- فلما كان في السحر الاكبر ركبت لإقامة الوظائف، فإني لأسير في برية، وقد انفردت عمن كان معي من غلماني وأصحابي، إذ لقيني اسود عريان على قتد رحل، فدنا مني، ثم قَالَ لي: أبا سهل، عظم الله أجرك في مولاك أمير المؤمنين! فهممت أن أعلوه بالسوط، فغاب من بين يدي، فلما انتهيت إلى الرواق لقيني مسرور، فقال لي: أبا سهل، عظم الله أجرك في مولاك أمير المؤمنين! فدخلت فإذا أنا به مسجى في قبة، فقلت: فارقتكم بعد صلاة العصر، وهو أسر ما كان حالا وأصحه بدنا، فما كان الخبر؟ قَالَ: طردت الكلاب ظبيا، فلم يزل يتبعها، فاقتحم الظبي باب خربة، فاقتحمت الكلاب خلفه، واقتحم الفرس خلف الكلاب، فدق ظهره في باب الخربة، فمات من ساعته.
وذكر أن علي بْن أبي نعيم المروزي، قَالَ: بعثت جارية من جواري المهدي إلى ضرة لها بلبأ فيه سم، وهو قاعد في البستان، بعد خروجه من عيساباذ، فدعا به فأكل منه، ففرقت الجارية أن تقول له: إنه مسموم.
وحدثني أحمد بْن محمد الرازي، أن المهدي كان جالسا في علية في قصر بماسبذان، يشرف من منظرة فيها على سفله، وكانت جاريته حسنة، قد عمدت إلى كمثراتين كبيرتين، فجعلتهما في صينية، وسمت واحدة منهما وهي أحسنهما وأنضجهما في أسفلها، وردت القمع فيها، ووضعتها في أعلى الصينية- وكان المهدي يعجبه الكمثرى- وأرسلت بذلك مع وصيفة لها إلى جاريه للمهدي- وكان يتحظاها- تريد بذلك قتلها، فمرت الوصيفة بالصينية التي فيها تلك الكمثرى، تريد دفعها إلى الجارية التي أرسلتها حسنة إليها، بحيث يراها المهدي من المنظرة، فلما رآها ورأى معها الكمثرى، دعا بها، فمد يده إلى الكمثراة التي في أعلى الصينية وهي المسمومة، فأكلها، فلما وصلت إلى جوفه صرخ: جوفي! وسمعت حسنة الصوت، وأخبرت الخبر، فجاءت تلطم وجهها وتبكي، وتقول: أردت أن أنفرد بك، فقتلتك يا سيدي! فهلك من يومه.
وذكر عبد الله بْن إسماعيل صاحب المراكب، قَالَ: لما صرنا إلى ماسبذان دنوت إلى عنانه، فامسكت به وما به عله، فو الله ما أصبح إلا ميتا، فرأيت حسنة وقد رجعت، وإن على قبتها المسوح، فقال أبو العتاهية في ذلك:

رحن في الوشي وأصبحن *** عليهن المسوح
كل نطاح من الدهر *** له يوم نطوح
لست بالباقي ولو عمرت *** ما عمر نوح
فعلى نفسك نح إن *** كنت لا بد تنوح

وذكر صالح القارئ أن علي بْن يقطين، قَالَ: كنا مع المهدي بماسبذان فأصبح يوما فقال: إني أصبحت جائعا، فأتي بأرغفة ولحم بارد مطبوخ بالخل، فأكل منه ثم قَالَ: إني داخل إلى البهو ونائم فيه، فلا تنبهوني حتى أكون أنا الذي أنتبه، ودخل البهو فنام، ونمنا نحن في الدار في الرواق، فانتبهنا ببكائه، فقمنا إليه مسرعين، فقال: أما رأيتم ما رأيت؟ قلنا: ما رأينا شيئا، قَالَ: وقف على الباب رجل، لو كان في ألف أو في مائة ألف رجل ما خفي علي، فأنشد يقول:

كأني بهذا القصر قد باد أهله *** وأوحش منه ربعه ومنازله
وصار عميد القوم من بعد بهجة وملك إلى قبر عليه جنادله
فلم يبق إلا ذكره وحديثه تنادي عليه معولات حلائله

قَالَ: فما أتت عليه عاشرة حتى مات.
وكانت وفاته- فيما قَالَ أبو معشر والواقدي- في سنة تسع وستين ومائة، ليلة الخميس لثمان بقين من المحرم، وكانت خلافته عشر سنين وشهرا ونصف شهر.
قال بعضهم: كانت خلافته عشر سنين وتسعة وأربعين يوما، وتوفي وهو ابن ثلاث وأربعين سنة.
وقال هشام بْن محمد: ملك أبو عبد الله المهدي محمد بْن عبد الله سنة ثمان وخمسين ومائة، في ذي الحجة لست ليال خلون منه، فملك عشر سنين وشهرا واثنين وعشرين يوما، ثم توفي سنة تسع وستين ومائة، وهو ابن ثلاث وأربعين سنة.

ذكر الخبر عن الموضع الَّذِي دفن فِيهِ ومن صلى عليه.
ذكر أن المهدي توفي بقرية من قرى ماسبذان، يقال لها الرذ، وفي ذلك يقول بكار بْن رباح:

ألا رحمة الرحمن في كل ساعة *** على رمة رمت بماسبذان
لقد غيب القبر الذي تم سوددا *** وكفين بالمعروف تبتدران

وصلى عليه ابنه هارون، ولم توجد له جنازة يحمل عليها، فحمل على باب، ودفن تحت شجرة جوز كان يجلس تحتها.
وكان طويلا مضمر الخلق، جعدا واختلف في لونه، فقال بعضهم: كان أسمر، وقال بعضهم: كان أبيض.
وكان في عينه اليمنى- في قول بعضهم- نكتة بياض وقال بعضهم:
كان ذلك بعينه اليسرى، وكان ولد بايذج.

ذكر بعض سير المهدي وأخباره
ذكر عن هارون بْن أبي عبيد الله، قَالَ: كان المهدي إذا جلس للمظالم، قَالَ: أدخلوا علي القضاة، فلو لم يكن ردي للمظالم إلا للحياء منهم لكفى.
وذكر الحسن بْن أبي سعيد، قَالَ: حدثني علي بْن صالح، قَالَ: جلس المهدي ذات يوم يعطي جوائز تقسم بحضرته في خاصته من أهل بيته والقواد، وكان يقرأ عليه الأسماء، فيأمر بالزيادة، العشرة الآلاف والعشرين الألف، وما أشبه ذلك، فعرض عليه بعض القواد، فقال: يحط هذا خمسمائة، قَالَ: لم حططتني يا أمير المؤمنين؟ قَالَ: لأني وجهتك إلى عدو لنا فانهزمت قَالَ: كان يسرك أن أقتل؟ قَالَ: لا، قَالَ: فو الذى أكرمك بما أكرمك به من الخلافة لو ثبت لقتلت، فاستحيا المهدي منه، وقال: زده خمسة آلاف.
قَالَ الحسن: وحدثني علي بْن صالح، قَالَ: غضب المهدي على بعض القواد- وكان عتب عليه غير مرة- فقال له: إلى متى تذنب إلي وأعفو؟
قَالَ: إلى أبد نسيء، ويبقيك الله فتعفو عنا، فكررها عليه مرات، فاستحيا منه ورضي عنه.
وذكر محمد بْن عمر، عن حفص مولى مزينة، عن أبيه، قَالَ: كان هشام الكلبي صديقا لي، فكنا نتلاقى فنتحدث ونتناشد، فكنت أراه في حال رثة وفي أخلاق على بغلة هزيل، والضر فيه بين وعلى بغلته، فما راعني إلا وقد لقيني يوما على بغلة شقراء من بغال الخلافة، وسرج ولجام من سروج الخلافة ولجمها، في ثياب جياد ورائحة طيبة، فأظهرت السرور، ثم قلت له: أرى نعمة ظاهرة، قَالَ لي: نعم، اخبرك عنها، فاكتم، فبينما أنا في منزلي منذ أيام بين الظهر والعصر، إذ أتاني رسول المهدي فسرت إليه، ودخلت عليه وهو جالس خال ليس عنده أحد، وبين يديه كتاب، فقال: ادن يا هشام، فدنوت فجلست بين يديه، فقال: خذ هذا الكتاب فاقرأه ولا يمنعك ما فيه مما تستفظعه أن تقرأه قَالَ: فنظرت في الكتاب، فلما قرأت بعضه استفظعته، فألقيته من يدي، ولعنت كاتبه، فقال لي: قد قلت لك: إن استفظعته فلا تلقه، اقرأه بحقي عليك حتى تأتي على آخره! قَالَ: فقرأته فإذا كتاب قد ثلبه فيه كاتبه ثلبا عجيبا، لم يبق له فيه شيئا، فقلت: يا أمير المؤمنين، من هذا الملعون الكذاب؟ قَالَ: هذا صاحب الأندلس، قَالَ: قلت: فالثلب والله يا أمير المؤمنين فيه وفي آبائه وفي أمهاته.
قَالَ: ثم اندرأت أذكر مثالبهم، قَالَ: فسر بذلك، وقال: أقسمت عليك لما أمللت مثالبهم كلها على كاتب قَالَ: ودعا بكاتب من كتاب السر، فأمره فجلس ناحية، وأمرني فصرت إليه، فصدر الكاتب من المهدي جوابا، وأمللت عليه مثالبهم فأكثرت، فلم أبق شيئا حتى فرغت من الكتاب، ثم عرضته عليه، فأظهر السرور، ثم لم أبرح حتى أمر بالكتاب فختم، وجعل في خريطة، ودفع إلى صاحب البريد، وأمر بتعجيله إلى الأندلس قال: ثم دعا بمنديل فيه عشرة أثواب من جياد الثياب وعشرة آلاف درهم، وهذه البغلة بسرجها ولجامها، فأعطاني ذلك، وقال لي: اكتم ما سمعت.
قَالَ الحسن: وحدثني مسور بْن مساور، قَالَ: ظلمني وكيل للمهدي، وغصبني ضيعة لي، فأتيت سلاما صاحب المظالم، فتظلمت منه وأعطيته رقعة مكتوبة، فأوصل الرقعة إلى المهدي، وعنده عمه العباس بْن محمد وابن علاثة وعافية القاضي قَالَ: فقال لي المهدي: ادنه، فدنوت، فقال:
ما تقول؟ قلت: ظلمتني، قَالَ: فترضى بأحد هذين؟ قَالَ: قلت: نعم، قَالَ: فادن مني، فدنوت منه حتى التزقت بالفراش، قَالَ: تكلم، قلت: أصلح الله القاضي! أنه ظلمني في ضيعتي هذا، فقال القاضي: ما تقول يا أمير المؤمنين؟ قَالَ: ضيعتي وفي يدي، قَالَ: قلت: أصلح الله القاضي! سله، صارت الضيعة إليه قبل الخلافة أو بعدها؟ قَالَ: فسأله: ما تقول يا أمير المؤمنين؟ قَالَ: صارت إلي بعد الخلافة قَالَ: فأطلقها له، قَالَ: قد فعلت، فقال العباس بن محمد: والله يا امير المؤمنين لذا المجلس أحب إلي من عشرين ألف ألف درهم.
قَالَ: وحدثني عبد الله بْن الربيع، قَالَ: سمعت مجاهدا الشاعر يقول: خرج المهدي متنزها، ومعه عمر بْن بزيع مولاه، قَالَ: فانقطعنا عن العسكر، والناس في الصيد، فأصاب المهدي جوع، فقال: ويحك! هل من شيء؟
قَالَ: ما من شيء، قَالَ: أرى كوخًا وأظنها مبقلة، فقصدنا قصده، فإذا نبطي في كوخ ومبقلة، فسلمنا عليه، فرد السلام، فقلنا له: هل عندك شيء نأكل؟ قَالَ: نعم عندي ربيثاء وخبز شعير، فقال المهدي: إن كان عندك زيت فقد أكملت، قَالَ: نعم، قال: وكراث؟ قَالَ: نعم، ما شئت وتمر قَالَ: فعدا نحو المبقلة، فأتاهم ببقل وكراث وبصل، فأكلا أكلا كثيرا، وشبعا، فقال المهدي لعمر بْن بزيع: قل في هذا شعرا، فقال:

إن من يطعم الربيثاء بالزيت *** وخبز الشعير بالكراث
لحقيق بصفعة أو بثنتين *** لسوء الصنيع أو بثلاث

فقال المهدي: بئس ما قلت، ليس هكذا.

لحقيق ببدرة أو بثنتين لحسن الصنيع أو بثلاث

قال: ووافى العسكر والخزائن والخدم فأمر للنبطي بثلاث بدر وانصرف.
وذكر محمد بْن عبد الله، قَالَ: أخبرني أبو غانم، قَالَ: كان زيد الهلالي رجلًا شريفًا سخيا مشهورا من بني هلال، وكان نقش خاتمه:
أفلح يا زيد من زكا عمله، فبلغ ذلك المهدي، فقال زيد الهلالي:

زيد الهلالي نقش خاتمه *** أفلح يا زيد من زكا عمله

قَالَ: وقال الحسن الوصيف: أصابتنا ريح في أيام المهدي حتى ظننا أنها تسوقنا إلى المحشر، فخرجت أطلب أمير المؤمنين، فوجدته واضعا خده على الأرض، يقول: اللهم احفظ محمدا في أمته، اللهم لا تشمت بنا أعداءنا من الأمم، اللهم إن كنت أخذت هذا العالم بذنبي فهذه ناصيتي بين يديك، قَالَ: فما لبثنا إلا يسيرا حتى انكشفت الريح وانجلى ما كنا فيه.
وقَالَ الموصلي: قَالَ عبد الصمد بْن علي: قلت للمهدي: يا أمير المؤمنين، أنا أهل بيت قد أشرب قلوبنا حب موالينا وتقديمهم، وإنك قد صنعت من ذلك ما أفرطت فيه، قد وليتهم أمورك كلها، وخصصتهم في ليلك ونهارك، ولا آمن تغيير قلوب جندك وقوادك من أهل خراسان، قَالَ: يا أبا محمد، ان الموالي يستحقون ذلك، وليس أحد يجتمع لي فيه أن أجلس للعامة فأدعو به فأرفعه حتى تحك ركبته ركبتي، ثم يقوم من ذلك المجلس، فأستكفيه سياسة دابتي، فيكفيها، لا يرفع نفسه عن ذلك الا موالي هؤلاء، فإنهم لا يتعاظمهم ذلك، ولو أردت هذا من غيرهم لقال: ابن دولتك والمتقدم في دعوتك، وأين من سبق إلى بيعتك، لا أدفعه عن ذلك.
قَالَ علي بْن محمد: قَالَ الفضل بْن الربيع: قَالَ المهدي لعبد الله بْن مالك: صارع مولاي هذا، فصارعه، فأخذ بعنقه، فقال المهدي: شد، فلما رأى ذلك عبد الله أخذ برجله فسقط على رأسه فصرعه فقال عبد الله للمهدي: يا أمير المؤمنين، قمت من عندك وأنا أحب الناس إليك، فلم تزل علي مع مولاك قَالَ: أما سمعت قول الشاعر:

ومولاك لا يهضم لديك فإنما *** هضيمة مولى القوم جدع المناخر

قال أبو الخطاب: لما حضرت القاسم بْن مجاشع التميمي- من أهل مرو بقرية يقال لها باران- الوفاة أوصى إلى المهدي، فكتب: {شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ (18) إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ} [آل عمران: 18-19] ، إلى آخر الآية ثم كتب: والقاسم بْن مجاشع يشهد بذلك، ويشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وان علي بْن أبي طالب وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم  ووارث الأمامة بعده قَالَ: فعرضت الوصية على المهدي، فلما بلغ هذا الموضع رمى بها ولم ينظر فيها قَالَ أبو الخطاب: فلم يزل ذلك في قلب أبي عبيد الله الوزير، فلما حضرته الوفاة كتب في وصيته هذه الآية.
قَالَ: وقال الهيثم بْن عدي: دخل على المهدي رجل، فقال: يا أمير المؤمنين، إن المنصور شتمني وقذف أمي، فإما أمرتني ان احله، والا عوضتني واستغفرت الله له قَالَ: ولم شتمك؟ قَالَ: شتمت عدوه بحضرته، فغضب، قَالَ: ومن عدوه الذي غضب لشتمه؟ قَالَ: إبراهيم بْن عبد الله ابن حسن، قَالَ: إن إبراهيم أمس به رحما وأوجب عليه حقا، فإن كان شتمك كما زعمت، فعن رحمه ذب، وعن عرضه دفع، وما أساء من انتصر لابن عمه قَالَ: انه كان عدوا له، قال: فلم ينتصر للعداوة، وإنما انتصر للرحم، فأسكت الرجل، فلما ذهب ليولي، قَالَ: لعلك أردت أمرا فلم تجد له ذريعة عندك أبلغ من هذه الدعوى! قَالَ: نعم، قَالَ: فتبسم وأمر له بخمسة آلاف درهم.
قَالَ: وأتى المهدي برجل قد تنبأ، فلما رآه، قَالَ: أنت نبي؟ قَالَ: نعم، قَالَ: وإلى من بعثت؟ قَالَ: وتركتموني أذهب إلى من بعثت إليه! وجهت بالغداة فأخذتموني بالعشي، ووضعتموني في الحبس! قَالَ: فضحك المهدي منه، وخلى سبيله.
وذكر أبو الأشعث الكندي، قَالَ: حدثني سليمان بْن عبد الله، قَالَ: قَالَ الربيع: رأيت المهدي يصلي في بهو له في ليلة مقمرة، فما أدري أهو أحسن، أم البهو، أم القمر، أم ثيابه! قَالَ: فقرأ هذه الآية: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَتُقَطِّعُوۤاْ أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22] ، قَالَ: فتم صلاته والتفت إلي فقال: يا ربيع، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قَالَ: علي بموسى، وقام إلى صلاته، قَالَ: فقلت: من موسى؟ ابنه موسى، أو موسى بْن جعفر، وكان محبوسا عندي! قَالَ: فجعلت أفكر، قَالَ: فقلت: ما هو إلا موسى بْن جعفر، قَالَ: فأحضرته، قَالَ: فقطع صلاته، وقال: يا موسى، إني قرأت هذه الآية: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَتُقَطِّعُوۤاْ أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22] ، فخفت أن أكون قد قطعت رحمك، فوثق لي أنك لا تخرج علي قَالَ: فقال: نعم، فوثق له وخلاه.
وذكر إبراهيم بْن أبي علي، قَالَ: سمعت سليمان بْن داود، يقول: سمعت المهدى يحدثنا في محراب المسجد على اللحن اليتيم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ يُؤْمِنُونَ بِٱلْجِبْتِ وَٱلطَّٰغُوتِ} [النساء: 51] ، في سوره النساء.
وذكر علي بْن محمد بْن سليمان، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: حضرت المهدي وقد جلس للمظالم، فتقدم إليه رجل من آل الزبير، فذكر ضيعة اصطفاها عن أبيه بعض ملوك بني أمية، ولا أدري: الوليد، أم سليمان! فأمر أبا عبيد الله أن يخرج ذكرها من الديوان العتيق، ففعل، فقرأ ذكرها على المهدي، وكان ذلك أنها عرضت على عدة منهم لم يروا ردها، منهم عمر ابن عبد العزيز، فقال المهدي: يا زبيري، هذا عمر بْن عبد العزيز، وهو منكم معشر قريش كما علمتم لم ير ردها، قَالَ: وكل أفعال عمر ترضى؟ قَالَ: وأي أفعاله لا ترضى؟ قَالَ: منها أنه كان يفرض للسقط من بني أمية في خرقة في الشرف من العطاء، ويفرض للشيخ من بني هاشم في ستين.
قَالَ: يا معاوية أكذلك كان يفعل عمر؟ قَالَ: نعم، قَالَ: اردد على الزبيري ضيعته.
وذكر عمر بْن شبة أن أبا سلمة الغفاري حدثه، قَالَ: كتب المهدي إلى جعفر بْن سليمان وهو عامل المدينة أن يحمل إليه جماعة اتهموا بالقدر، فحمل إليه رجالا، منهم عبد الله بْن أبي عُبَيْدَةَ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وعبد الله بْن يزيد بْن قيس الهذلي، وعيسى بْن يزيد بن داب الليثى، وابراهيم ابن محمد بْن أبي بكر الأسامي، فأدخلوا على المهدى، فانبرى له عبد الله ابن أبي عبيدة من بينهم، فقال: هذا دين أبيك ورأيه؟ قَالَ: لا، ذاك عمي داود قَالَ: لا، إلا أبوك، على هذا فارقنا وبه كان يدين فأطلقهم.
وذكر علي بْن محمد بْن سليمان النوفلي، قال: حدثنى ابى، عن محمد ابن عبد الله بن محمد بن علي بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ:
رأيت فيما يرى النائم في آخر سلطان بني أمية، كأني دخلت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفعت رأسي، فنظرت في الكتاب الذي في المسجد بالفسيفساء فإذا فيه: مما أمر به أمير المؤمنين الوليد بْن عبد الملك، وإذا قائل يقول: يمحو هذا الكتاب ويكتب مكانه اسمه رجل من بني هاشم يقال له محمد قال: قلت: أنا محمد، وأنا من بني هاشم، فابن من؟ قَالَ: ابن عبد الله، قلت: فأنا ابن عبد الله، فابن من؟ قَالَ: ابن محمد، قلت: فأنا ابن محمد، فابن من؟ قَالَ: ابن علي، قلت: فأنا ابن علي، فابن من؟ قَالَ: ابن عبد الله، قلت: فأنا ابن عبد الله، فابن من؟ قَالَ: عباس، فلو لم أكن بلغت العباس ما شككت أني صاحب الأمر قَالَ: فتحدثت بهذه الرؤيا في ذلك الدهر ونحن لا نعرف المهدى، فتحدث الناس بها حتى ولى المهدى، فدخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع راسه فنظر فرأى اسم الوليد، فقال: وإني لأرى اسم الوليد في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم، فدعا بكرسي فألقي له في صحن المسجد وقال: ما أنا ببارح حتى يمحى ويكتب اسمي مكانه وأمر أن يحضر العمال والسلاليم وما يحتاج إليه، فلم يبرح حتى غير وكتب اسمه.
وذكر أحمد بْن الهيثم القرشي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عطاء، قَالَ: خرج المهدي بعد هدأة من الليل يطوف بالبيت، فسمع أعرابية من جانب المسجد وهي تقول: قومي مقترون، نبت عنهم العيون، وفدحتهم الديون، وعضتهم السنون، بادت رجالهم، وذهبت أموالهم، وكثر عيالهم، أبناء سبيل، وأنضاء طريق، وصية الله ووصية الرسول، فهل من آمر لي بخير، كلأه الله في سفره، وخلفه في أهله! قَالَ: فأمر نصيرا الخادم، فدفع إليها خمسمائة درهم.
وذكر علي بْن محمد بْن سليمان، قَالَ: سمعت أبي يقول: كان أول من افترش الطبري المهدي، وذلك أن أباه كان أمره بالمقام بالري، فأهدي إليه الطبري من طبرستان، فافترشه، وجعل الثلج والخلاف حوله، حتى فتح لهم الخيش، فطاب لهم الطبري فيه.
وذكر محمد بْن زياد، قَالَ: قَالَ المفضل: قَالَ لي المهدي: اجمع لي الأمثال مما سمعتها من البدو، وما صح عندك قَالَ: فكتبت له الأمثال وحروب العرب مما كان فيها، فوصلني وأحسن إلي.
قَالَ علي بْن محمد: كان رجل من ولد عبد الرحمن بْن سمرة أراد الوثوب بالشام، فحمل إلى المهدي فخلى سبيله وأكرمه، وقرب مجلسه فقال له يوما: أنشدني قصيدة زهير التي هي على الراء، وهي:

لمن الديار بقنة الحجر 

فأنشده، فقال السمري: ذهب والله من يقال فيه مثل هذا الشعر، فغضب المهدي واستجهله، ونحاه ولم يعاقبه، واستحمقه الناس.
وذكر أن أبا عون عبد الملك بْن يزيد مرض، فعاده المهدي، فإذا منزل رث وبناء سوء، وإذا طاق صفته التي هو فيها لبن قَالَ: وإذا مضربة ناعمة في مجلسه، فجلس المهدي على وسادة، وجلس أبو عون بين يديه، فبره المهدي، وتوجع لعلته وقال أبو عون: أرجو عافية الله يا أمير المؤمنين، وألا يميتني على فراشي حتى أقتل في طاعتك، وانى لواثق بالا أموت حتى أبلي الله في طاعتك ما هو اهله، فانا قد روينا قَالَ: فأظهر له المهدي رأيا جميلا، وقال: أوصني بحاجتك، وسلني ما أردت، واحتكم في حياتك ومماتك، فو الله لئن عجز مالك عن شيء توصي به لأحتملنه كائنا ما كان، فقل وأوص قَالَ: فشكر أبو عون ودعا، وقال: يا أمير المؤمنين، حاجتي أن ترضى عن عبد الله بْن أبي عون، وتدعو به، فقد طالت موجدتك عليه قَالَ: فقال: يا أبا عون، إنه على غير الطريق، وعلى خلاف رأينا ورأيك، إنه يقع في الشيخين أبي بكر وعمر، ويسيء القول فيهما.
قَالَ: فقال أبو عون: هو والله يا أمير المؤمنين على الأمر الذي خرجنا عليه، ودعونا إليه، فإن كان قد بدا لكم فمرونا بما أحببتم حتى نطيعكم قال: وانصرف المهدي، فلما كان في الطريق قَالَ لبعض من كان معه من ولده وأهله: ما لكم لا تكونون مثل أبي عون! والله ما كنت أظن منزله إلا مبنيا بالذهب والفضة، وأنتم إذا وجدتم درهما بنيتم بالساج والذهب.
وذكر أبو عبد الله، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: خطب المهدي يوما، فقال: عباد الله، اتقوا الله، فقام إليه رجل، فقال: وأنت فاتق الله، فإنك تعمل بغير الحق قَالَ: فأخذ فحمل، فجعلوا يتلقونه بنعال سيوفهم، فلما ادخل عليه قال: يا بن الفاعلة، تقول لي وأنا على المنبر: اتق الله! قَالَ: سوءة لك! لو كان هذا من غيرك كنت المستعدي بك عليه، قَالَ: ما أراك إلا نبطيا، قَالَ: ذاك أوكد للحجة عليك أن يكون نبطي يأمرك بتقوى الله قَالَ: فرئي الرجل بعد ذلك، فكان يحدث بما جرى بينه وبين المهدي.
قَالَ: فقال أبي: وأنا حاضره، إلا أني لم أسمع الكلام .
وقال هارون بْن ميمون الخزاعي: حدثنا أبو خزيمة البادغيسي، قَالَ: قَالَ المهدي: ما توسل إلي أحد بوسيلة، ولا تذرع بذريعة هي أقرب من تذكيره إياي يدا سلفت مني إليه أتبعها أختها، فأحسن ربها، لأن منع الأواخر يقطع شكر الأوائل.
قَالَ: وذكر خالد بْن يزيد بْن وهب بْن جرير، أن أباه حدثه، قَالَ: كان بشار بْن برد بْن يرجوخ هجا صالح بْن داود بْن طهمان- أخا يعقوب ابن داود- حين ولي البصرة، فقال:

هم حملوا فوق المنابر صالحا *** أخاك فضجت من أخيك المنابر

فبلغ يعقوب بْن داود هجاؤه، فدخل على المهدي، فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا الأعمى المشرك قد هجا أمير المؤمنين، قَالَ: ويلك! وما قَالَ؟ قَالَ: يعفيني أمير المؤمنين من إنشاده ذلك، قَالَ: فأبى عليه إلا أن ينشده، فأنشده:

خليفة يزني بعماته *** يلعب بالدبوق والصولجان
أبدلنا الله به غيره *** ودس موسى في حر الخيزران

قَالَ: فوجه في حمله، فخاف يعقوب بْن داود أن يقدم على المهدي، فيمتدحه فيعفو عنه، فوجه إليه من يلقيه في البطيحة في الخرارة.
وذكر عبد الله بْن عمر: حدثني جدي أبو الحي العبسي، قَالَ: لما دخل مروان بْن أبي حفصة على المهدي، فأنشده شعره الذي يقول فيه:

أنى يكون وليس ذاك بكائن *** لبني البنات وراثة الأعمام

فأجازه بسبعين ألف درهم، فقال مروان:

بسبعين ألفا راشني من حبائه *** وما نالها في الناس من شاعر قبلي

وذكر أحمد بْن سليمان، قَالَ: أخبرني أبو عدنان السلمي، قَالَ: قَالَ المهدي لعمارة بْن حمزة: من أرق الناس شعرا؟ قَالَ: والبة بْن الحباب الأسدي، وهو الذي يقول:

ولها ولا ذنب لها *** حب كأطراف الرماح
في القلب يقدح والحشا *** فالقلب مجروح النواحي

قَالَ: صدقت والله، قَالَ: فما يمنعك من منادمته يا أمير المؤمنين، وهو عربي شريف شاعر ظريف؟ قَالَ: يمنعني والله من منادمته، قوله:

قلت لساقينا على خلوة *** أدن كذا رأسك من رأسي
ونم على وجهك لي ساعة *** إني امرؤ أنكح جلاسي

افتريد ان يكون جلاسه على هذه الشريطة! وذكر محمد بْن سلام أنه كان في زمان المهدي إنسان ضعيف يقول الشعر إلى أن مدح المهدي قَالَ: فأدخل عليه فأنشده شعرا يقول فيه: وجوار زفرات، فقال له المهدي: أي شيء زفرات؟ قَالَ وما تعرفها أنت يا أمير المؤمنين؟ قَالَ: لا والله، قَالَ: فأنت أمير المؤمنين وسيد المسلمين وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تعرفها، أعرفها أنا! كلا والله.
قَالَ ابن سلام: أخبرني غير واحد أن طريح بْن إسماعيل الثقفي دخل على المهدي فانتسب له، وسأله أن يسمع منه، فقال: ألست الذي يقول للوليد بْن يزيد:

أنت ابن مسلنطح البطاح ولم *** تطرق عليك الحني والولج

والله لا تقول لي في مثل هذا أبدا، ولا أسمع منك شعرا، وإن شئت وصلتك.
وذكر أن المهدي أمر بالصوم سنة ست وستين ليستسقي للناس في اليوم الرابع، فلما كان في الليلة الثالثة أصابهم الثلج، فقال لقيط بْن بكير المحاربي في ذلك:

يا إمام الهدى سقينا بك الغيث *** وزالت عنا بك اللأواء
بت تعني بالحفظ والناس نوام *** عليهم من الظلام غطاء
رقدوا حيث طال ليلك فيهم *** لك خوف تضرع وبكاء
قد عنتك الأمور منهم على الغفلة *** من معشر عصوا وأساءوا
وسقينا وقد قحطنا وقلنا *** سنة قد تنكرت حمراء
بدعاء أخلصته في سواد الليل *** لله فاستجيب الدعاء
بثلوج تحيا بها الأرض حتى *** أصبحت وهي زهرة خضراء

وذكر أن الناس في أيام المهدي صاموا شهر رمضان في صميم الصيف، وكان أبو دلامة إذ ذاك يطالب بجائزة وعدها إياه المهدي، فكتب إلى المهدي رقعة يشكو إليه فيها ما لقي من الحر والصوم، فقال في ذلك:

أدعوك بالرحم التي جمعت لنا *** في القرب بين قريبنا والأبعد
ألا سمعت وأنت أكرم من مشى *** من منشد يرجو جزاء المنشد
حل الصيام فصمته متعبدا *** أرجو ثواب الصائم المتعبد
وسجدت حتى جبهتي مشجوجة *** مما أكلف من نطاح المسجد

قَالَ: فلما قرأ المهدي الرقعة دعا به، فقال: اى قرابه بيني وبينك يا بن اللخناء! قَالَ: رحم آدم وحواء فضحك منه وأمر له بجائزة.
وذكر علي بْن محمد، قَالَ: حدثني أبي، عن إبراهيم بْن خالد المعيطي قَالَ: دخلت على المهدي- وقد وصف له غنائي- فسألني عن الغناء وعن علمي به، وقال لي: تغني النواقيس؟ قلت: نعم والصليب يا أمير المؤمنين! فصرفني، وبلغني أنه قَالَ: معيطي، ولا حاجة لي إليه فيمن ادنيه من خلوتي ولا آنس به.
ولمعبد المغنى النواقيس في هذا الشعر:

سلا دار ليلى هل تجيب فتنطق *** وأنى ترد القول بيداء سملق
وأنى ترد القول دار كأنها *** لطول بلاها والتقادم مهرق

وذكر قعنب بْن محرز أبو عمرو الباهلي أن الأصمعي حدثه، قَالَ: رأيت حكما الوادي حين مضى المهدي إلى بيت المقدس، فعرض له في الطريق، وكان له شعيرات، وأخرج دفا له يضربه، وقال: أنا القائل:

فمتى تخرج العروس *** فقد طال حبسها
قد دنا الصبح أو بدا *** وهي لم تقض لبسها

فتسرع إليه الحرس فصيح بهم: كفوا، وسأل عنه فقيل: حكم الوادي، فأدخله إليه ووصله.
وذكر علي بْن محمد أنه سمع أباه يقول: دخل المهدي بعض دوره يوما فإذا جارية له نصرانية، وإذا جيبها واسع وقد انكشف عما بين ثدييها، وإذا صليب من ذهب معلق في ذلك الموضع، فاستحسنه، فمد يده إليه فجذبه، فأخذه، فولولت على الصليب، فقال المهدي في ذلك:

يوم نازعتها الصليب فقالت *** ويح نفسي أما تحل الصليبا!

قَالَ: وأرسل إلى بعض الشعراء فأجازه، وأمر به فغنى فيه، وكان معجبا بهذا الصوت.
قَالَ: وسمعت أبي يقول: إن المهدي نظر إلى جارية له عليها تاج فيه نرجس من ذهب وفضة، فاستحسنه فقال:

يا حبذا النرجس في التاج.

فارتج عليه، فقال: من بالحضرة؟ قالوا: عبد الله بْن مالك، فدعاه، فقال: إني رأيت جارية لي فاستحسنت تاجا عليها فقلت:

يا حبذا النرجس في التاج.

فتستطيع أن تزيد فيه؟ قَالَ: نعم يا أمير المؤمنين، ولكن دعني أخرج فأفكر، قَالَ: شأنك، فخرج وأرسل إلى مؤدب لولده فسأله إجازته، فقال:

على جبين لاح كالعاج.

وأتمها أبياتا أربعة، فأرسل بها عبد الله إلى المهدي، فأرسل إليه المهدي بأربعين ألفا، فأعطى المؤدب منها أربعة آلاف، وأخذ الباقي لنفسه، وفيها غناء معروف.
وذكر أحمد بْن موسى بْن مضر أبو علي، قَالَ: أنشدني التوزي في حسنة جاريته:

أرى ماء وبي عطش شديد *** ولكن لا سبيل إلى الورود
أما يكفيك أنك تملكيني *** وإن الناس كلهم عبيدي
وأنك لو قطعت يدي ورجلي *** لقلت من الرضا أحسنت زيدي

وذكر علي بْن محمد، عن أبيه، قَالَ: رأيت المهدي وقد دخل البصرة من قبل سكة قريش، فرأيته يسير والبانوقة بين يديه، بينه وبين صاحب الشرطة، عليها قباء أسود، متقلدة سيفا في هيئة الغلمان قَالَ: وإني لأرى في صدرها شيئا من ثدييها.
قَالَ علي: وحدثني أبي، قَالَ: قدم المهدي إلى البصرة، فمر في سكة قريش، وفيها منزلنا، وكانت الولاة لا تمر فيها إذا قدم الوالي، كانوا يتشاءمون بها- قل وال مر فيها فأقام في ولايته إلا يسيرا حتى يعزل- ولم يمر فيها خليفة قط إلا المهدي، كانوا يمرون في سكة عبد الرحمن بْن سمرة، وهي تساوي سكة قريش، فرأيت المهدي يسير، وعبد الله بْن مالك على شرطه يسير أمامه، في يده الحربة، وابنته البانوقه تسير بينه وبين يديه وبين صاحب الشرطة في هيئة الفتيان، عليها قباء أسود ومنطقة وشاشية، متقلدة السيف، وإني لأرى ثدييها قد رفعا القباء لنهودهما.
قَالَ: وكانت البانوقة سمراء حسنة القد حلوة فلما ماتت- وذلك ببغداد- أظهر عليها المهدي جزعا لم يسمع بمثله، فجلس للناس يعزونه، وأمر ألا يحجب عنه أحد، فأكثر الناس في التعازي، واجتهدوا في البلاغة، وفي الناس من ينتقد هذا عليهم من أهل العلم والأدب، فأجمعوا على أنهم لم يسمعوا تعزية أوجز ولا أبلغ من تعزية شبيب بْن شيبة، فإنه قَالَ: يا أمير المؤمنين، الله خير لها منك، وثواب الله خير لك منها، وأنا أسأل الله ألا يحزنك ولا يفتنك.
وذكر صباح بْن عبد الرحمن، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: توفيت البانوقة بنت المهدي، فدخل عليه شبيب بْن شيبة، فقال: أعطاك الله يا أمير المؤمنين على ما رزئت أجرا، وأعقبك صبرا، لا أجهد الله بلاءك بنقمة، ولا نزع منك نعمة، ثواب الله خير لك منها، ورحمة الله خير لها منك، وأحق ما صبر عليه ما لا سبيل الى رده.

خلافة الهادي
وفي هذه السنة بويع لموسى بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بالخلافة، يوم توفي المهدي، وهو مقيم بجرجان يحارب أهل طبرستان، وكانت وفاة المهدي بماسبذان ومعه ابنه هارون، ومولاه الربيع ببغداد خلفه بها، فذكر أن الموالي والقواد لما توفي المهدي اجتمعوا إلى ابنه هارون، وقالوا له: إن علم الجند بوفاة المهدي لم تأمن الشغب، والرأي أن يحمل، وتنادي في الجند بالقفل حتى تواريه ببغداد فقال هارون: ادعوا إلي أبي يحيى بْن خالد البرمكي- وكان المهدي ولى هارون المغرب كله، من الأنبار إلى إفريقية، وأمر يحيى بْن خالد أن يتولى ذلك، فكانت إليه أعماله ودواوينه يقوم بها ويخلفه على ما يتولى منها الى ان توفى- قال: فصار يحيى بْن خالد إلى هارون، فقال له: يا أبت، ما تقول فيما يقول عمر بْن بزيع ونصير والمفضل؟ قال: وما قالوا؟ فأخبره، قَالَ: ما أرى ذلك، قَالَ: ولم؟ قَالَ: لأن هذا ما لا يخفى، ولا آمن إذا علم الجند أن يتعلقوا بمحمله، ويقولوا: لا نخليه حتى نعطى لثلاث سنين وأكثر، ويتحكموا ويشتطوا، ولكن أرى أن يوارى رحمه الله هاهنا، وتوجه نصيرا إلى أمير المؤمنين الهادي بالخاتم والقضيب والتهنئة والتعزية، فإن البريد إلى نصير، فلا ينكر خروجه أحد إذ كان على بريد الناحية، وأن تأمر لمن معك من الجند بجوائز، مائتين مائتين، وتنادي فيهم بالقفول، فإنهم إذا قبضوا الدراهم لم تكن لهم همة سوى أهاليهم وأوطانهم، ولا عرجة على شيء دون بغداد قال: نفعل ذلك وقال الجند لما قبضوا الدراهم: بغداد بغداد! يتبادرون إليها، ويبعثون على الخروج من ماسبذان، فلما وافوا بغداد، وعلموا خبر الخليفة، ساروا إلى باب الربيع فأحرقوه، وطالبوا بالأرزاق، وضجوا وقدم هارون بغداد، فبعثت الخيزران إلى الربيع وإلى يحيى بْن خالد تشاورهما في ذلك، فأما الربيع فدخل عليها، وأما يحيى فلم يفعل ذلك لعلمه بشدة غيرة موسى.
قَالَ: وجمعت الأموال حتى أعطي الجند لسنتين، فسكتوا، وبلغ الخبر الهادي، فكتب إلى الربيع كتابا يتوعده فيه بالقتل، وكتب إلى يحيى بْن خالد يجزيه الخير، ويأمره أن يقوم من أمر هارون بما لم يزل يقوم به، وأن يتولى أموره وأعماله على ما لم يزل يتولاه قَالَ: فبعث الربيع إلى يحيى بْن خالد- وكان يوده، ويثق به، ويعتمد على رأيه: يا أبا علي، ما ترى؟ فإنه لا صبر لي على جر الحديد قَالَ: أرى ألا تبرح موضعك، وأن توجه ابنك الفضل يستقبله ومعه من الهدايا والطرف ما أمكنك، فإني لأرجو الا يرجع إلا وقد كفيت ما تخاف إن شاء الله قَالَ: وكانت أم الفضل ابنه بحيث تسمع منهما مناجاتهما، فقالت له: نصحك والله قَالَ: فإني أحب أن أوصي إليك، فانى لا ادرى ما يحدث فقال: لست أنفرد لك بشيء، ولا أدع ما يجب، وعندي في هذا وغيره ما تحب، ولكن أشرك معي في ذلك الفضل ابنك وهذه المرأة، فإنها جزلة مستحقة لذلك منك ففعل الربيع ذلك، وأوصى إليهم.
قَالَ الفضل بْن سليمان: ولما شغب الجند على الربيع ببغداد وأخرجوا من كان في حبسه، وأحرقوا أبواب دوره في الميدان، حضر العباس بْن محمد وعبد الملك بْن صالح ومحرز بْن إبراهيم ذلك، فرأى العباس أن يرضوا، وتطيب أنفسهم، وتفرق جماعتهم بإعطائهم أرزاقهم، فبذل ذلك لهم فلم يرضوا، ولم يثقوا مما ضمن لهم من ذلك، حتى ضمنه محرز بْن إبراهيم، فقنعوا بضمانه وتفرقوا، فوفى لهم بذلك، وأعطوا رزق ثمانية عشر شهرا، وذلك قبل قدوم هارون فلما قدم- وكان هو خليفة موسى الهادي- ومعه الربيع وزيرا له، وجه الوفود إلى الأمصار، ونعى إليهم المهدي، وأخذ بيعتهم لموسى الهادي، وله بولاية العهد من بعده، وضبط أمر بغداد وقد كان نصير الوصيف شخص من ماسبذان من يومه إلى جرجان بوفاة المهدي والبيعة له، فلما صار إليه نادى بالرحيل، وخرج من فوره على البريد جوادا ومعه من أهل بيته إبراهيم وجعفر، ومن الوزراء عبيد الله بْن زياد الكاتب صاحب رسائله، ومحمد بْن جميل كاتب جنده فلما شارف مدينة السلام استقبله الناس من أهل بيته وغيرهم، وقد كان احتمل على الربيع ما كان منه وما صنع من توجيه الوفود وإعطائه الجنود قبل قدومه، وقد كان الربيع وجه ابنه الفضل، فتلقاه بما أعد له من الهدايا، فاستقبله بهمذان، فأدناه وقربه، وقال: كيف خلفت مولاي؟ فكتب بذلك إلى أبيه، فاستقبله الربيع، فعاتبه الهادي، فاعتذر إليه، وأعلمه السبب الذي دعاه إلى ذلك، فقبله، وولاه الوزارة مكان عبيد الله بْن زياد بْن أبي ليلى، وضم إليه ما كان عمر بْن بزيع يتولاه من الزمام، وولى محمد بْن جميل ديوان خراج العراقين، وولى عبيد الله بْن زياد خراج الشام وما يليه، وأقر على حرسه علي بْن عيسى بْن ماهان، وضم إليه ديوان الجند، وولى شرطه عبد الله بْن مالك مكان عبد الله بْن خازم، وأقر الخاتم في يد علي بْن يقطين.
وكانت موافاة موسى الهادي بغداد عند منصرفه من جرجان لعشر بقين من صفر من هذه السنة، سار- فيما ذكر عنه- من جرجان إلى بغداد في عشرين يوما، فلما قدمها نزل القصر الذي يسمى الخلد، فأقام به شهرا، ثم تحول إلى بستان أبي جعفر، ثم تحول الى عيساباذ.
وفي هذه السنة هلك الربيع مولى أبي جعفر المنصور.
وقد ذكر علي بْن محمد النوفلي أن أباه حدثه أنه كانت لموسى الهادي جارية، وكانت حظية عنده، وكانت تحبه وهو بجرجان حين وجهه إليها المهدي، فقالت أبياتا، وكتبت إليه وهو مقيم بجرجان، منها:

يا بعيد المحل أمسى *** بجرجان نازلا

قَالَ: فلما جاءته البيعة وانصرف إلى بغداد، لم تكن له همة غيرها، فدخل عليها وهي تغني بأبياتها، فأقام عندها يومه وليلته قبل أن يظهر لأحد من الناس.
وفي هذه السنة اشتد طلب موسى الزنادقة، فقتل منهم فيها جماعة، فكان ممن قتل منهم يزدان بْن باذان كاتب يقطين، وابنه علي بْن يقطين من أهل النهروان، ذكر عنه أنه حج فنظر إلى الناس في الطواف يهرولون، فقال:
ما أشبههم إلا ببقر تدوس في البيدر وله يقول العلاء بْن الحداد الأعمى:

أيا أمين الله في خلقه *** ووراث الكعبة والمنبر
ماذا ترى في رجل كافر *** يشبه الكعبة بالبيدر
ويجعل الناس إذا ما سعوا *** حمرا تدوس البر والدوسر!

فقتله موسى ثم صلبه، فسقطت خشبته على رجل من الحاج فقتلته وقتلت حماره وقتل من بني هاشم يعقوب بْن الفضل.
وذكر عن علي بْن محمد الهاشمي، قَالَ: كان المهدي أتي بابن لداود ابن علي زنديقا، وأتي بيعقوب بْن الفضل بْن عبد الرحمن بْن عباس بْن رَبِيعَة بْن الْحَارِث بْن عبد المطلب زنديقا، في مجلسين متفرقين، فقال لكل واحد منهما كلاما واحدا، وذلك بعد أن أقرا له بالزندقة، أما يعقوب بْن الفضل فقال له: أقر بها بيني وبينك، فأما إن أظهر ذلك عند الناس فلا أفعل ولو قرضتني بالمقاريض، فقال له: ويلك! لو كشفت لك السموات، وكان الأمر كما تقول، كنت حقيقا أن تغضب لمحمد، ولولا محمد صلى الله عليه وسلم من كنت! هل كنت إلا إنسانا من الناس! أما والله لولا أني كنت جعلت لله على عهدا إذا ولاني هذا الأمر ألا أقتل هاشميا لما ناظرتك ولقتلتك.
ثم التفت إلى موسى الهادي، فقال: يا موسى، أقسمت عليك بحقي إن وليت هذا الأمر بعدي ألا تناظرهما ساعة واحدة فمات ابن داود بْن علي في الحبس قبل وفاة المهدي، وأما يعقوب فبقي حتى مات المهدي وقدم موسى من جرجان فساعة دخل، ذكر وصية المهدي، فأرسل إلى يعقوب من ألقى عليه فراشا، وأقعدت الرجال عليه حتى مات ثم لها عنه ببيعته وتشديد خلافته، وكان ذلك في يوم شديد الحر، فبقي يعقوب حتى مضى من الليل هدء، فقيل لموسى: يا أمير المؤمنين، إن يعقوب قد انتفخ وأروح قَالَ: ابعثوا به الى أخيه إسحاق ابن الفضل، فخبروه أنه مات في السجن فجعل في زورق وأتي به إسحاق، فنظر فإذا ليس فيه موضع للغسل، فدفنه في بستان له من ساعته، وأصبح فأرسل إلى الهاشميين يخبرهم بموت يعقوب ويدعوهم إلى الجنازة، وأمر بخشبة فعملت في قد الإنسان فغشيت قطنا، وألبسها أكفانا، ثم حملها على السرير، فلم يشك من حضرها أنه شيء مصنوع.
وكان ليعقوب ولد من صلبه: عبد الرحمن والفضل وأروى وفاطمة، فأما فاطمة فوجدت حبلى منه، وأقرت بذلك قَالَ علي بْن محمد: قَالَ أبي: فأدخلت فاطمة وامرأة يعقوب بْن الفضل- وليست بهاشمية، يقال لها خديجة- على الهادي- أو على المهدي من قبل- فأقرتا بالزندقة، وأقرت فاطمة أنها حامل من أبيها، فأرسل بهما إلى ريطة بنت أبي العباس، فرأتهما مكتحلتين مختضبتين، فعذلتهما، وأكثرت على الابنة خاصة، فقالت: أكرهني، قالت: فما بال الخضاب والكحل والسرور، ان كنت مكرهة! ولعنتهما قَالَ: فخبرت أنهما فزعتا فماتتا فزعا، ضرب على راسيهما بشيء يقال له الرعبوب ففزعتا منه، فماتتا وأما أروى فبقيت فتزوجها ابن عمها الفضل بْن إسماعيل بْن الفضل، وكان رجلا لا باس به في دينه.
وفيها قدم وندا هرمز صاحب طبرستان إلى موسى بأمان، فأحسن صلته، ورده إلى طبرستان.

ذكر بقية الخبر عن الأحداث التي كانت سنه تسع وستين ومائه
خروج الحسين بن على بن الحسن بفخ
ومما كان فيها خروج الحسين بْن علي بْن الحسن بْن الحسن بْن الحسن بْن علي بْن أبي طالب المقتول بفخ.

ذكر الخبر عن خروجه ومقتله:
ذكر عن محمد بْن موسى الخوارزمي أنه قَالَ: كان بين موت المهدي وخلافة الهادي ثمانية أيام قَالَ: ووصل إليه الخبر وهو بجرجان، وإلى أن قدم مدينة السلام إلى خروج الحسين بْن علي بْن الحسن، وإلى أن قتل الحسين، تسعة أشهر وثمانية عشر يوما.
وذكر محمد بْن صالح، أن أبا حفص السلمي حدثه، قَالَ: كان إسحاق بْن عيسى بْن علي على المدينة، فلما مات المهدي، واستخلف موسى، شخص إسحاق وافدا إلى العراق إلى موسى، واستخلف على المدينة عمر بْن عبد العزيز بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن عمر بْن الخطاب.
وذكر الفضل بْن إسحاق الهاشمي أن إسحاق بْن عيسى بْن علي استعفى الهادي وهو على المدينة، واستأذنه في الشخوص إلى بغداد، فأعفاه، وولى مكانه عمر بْن عبد العزيز وأن سبب خروج الحسين بْن علي بْن الحسن كان أن عمر بْن عبد العزيز لما تولى المدينة- كما ذكر الحسين بْن محمد عن أبي حفص السلمي- أخذ أبا الزفت الحسن بْن محمد بْن عبد الله بْن الحسن ومسلم بْن جندب الشاعر الهذلي وعمر بْن سلام مولى آل عمر على شراب لهم، فأمر بهم فضربوا جميعا، ثم أمر بهم فجعل في أعناقهم حبال وطيف بهم في المدينة، فكلم فيهم، وصار إليه الحسين بْن علي فكلمه، وقال: ليس هذا عليهم وقد ضربتهم، ولم يكن لك أن تضربهم، لأن أهل العراق لا يرون به بأسا، فلم تطوف بهم! فبعث إليهم وقد بلغوا البلاط فردهم، وأمر بهم إلى الحبس، فحبسوا يوما وليلة، ثم كلم فيهم فأطلقهم جميعا، وكانوا يعرضون، ففقد الحسن بْن محمد، وكان الحسين بْن علي كفيله قَالَ محمد بْن صالح: وحدثني عبد الله بْن محمد الأنصاري أن العمري كان كفل بعضهم من بعض، فكان الحسين بْن علي بْن الحسن ويحيى بْن عبد الله بْن الحسن كفيلين بالحسن بْن محمد بْن عبد الله بْن الحسن، وكان قد تزوج مولاة لهم سوداء ابنة أبي ليث مولى عبد الله بْن الحسن، فكان يأتيها فيقيم عندها، فغاب عن العرض يوم الأربعاء والخميس والجمعة، وعرضهم خليفة العمري عشية الجمعة، فأخذ الحسين بْن علي ويحيى بْن عبد الله، فسألهما عن الحسن بْن محمد، فغلظ عليهم بعض التغليظ، ثم انصرف إلى العمري فأخبره خبرهم، وقال له: أصلحك الله! الحسن بْن محمد غائب مذ ثلاث، فقال: ائتني بالحسين ويحيى، فذهب فدعاهما، فلما دخلا عليه، قَالَ لهما: أين الحسن بْن محمد؟ قالا: والله ما ندري، إنما غاب عنا يوم الأربعاء، ثم كان يوم الخميس، فبلغنا أنه اعتل، فكنا نظن أن هذا اليوم لا يكون فيه عرض، فكلمهما بكلام أغلظ لهما فيه، فحلف يحيى بْن عبد الله ألا ينام حتى يأتيه به أو يضرب عليه باب داره، حتى يعلم أنه قد جاءه به.
فلما خرجا قَالَ له الحسين: سبحان الله! ما دعاك إلى هذا؟ ومن أين تجد حسنا! حلفت له بشيء لا تقدر عليه قَالَ: إنما حلفت على حسن، قَالَ:
سبحان الله! فعلى أي شيء حلفت! قَالَ: والله لا نمت حتى أضرب عليه باب داره بالسيف قال: فقال حسين: تكسر بهذا ما كان بيننا وبين أصحابنا من الصلة، قَالَ: قد كان الذي كان فلا بد منه.
وكانوا قد تواعدوا على أن يخرجوا بمنى أو بمكة في الموسم- فيما ذكروا- وقد كان قوم من أهل الكوفة من شيعتهم- وممن كان بايع الحسين- متكمنين في دار، فانطلقوا فعملوا في ذلك من عشيتهم ومن ليلتهم، حتى إذا كان في آخر الليل خرجوا وجاء يحيى بْن عبد الله حتى ضرب باب دار مروان على العمري، فلم يجده فيها، فجاء إلى منزله في دار عبد الله بْن عمر فلم يجده أيضا فيها، وتوارى منهم، فجاءوا حتى اقتحموا المسجد حين أذنوا بالصبح، فجلس الحسين على المنبر وعليه عمامة بيضاء، وجعل الناس يأتون المسجد، فإذا رأوهم رجعوا ولا يصلون، فلما صلى الغداة جعل الناس يأتونه، ويبايعونه على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم للمرتضى من آل محمد وأقبل خالد البربري، وهو يومئذ على الصوافي بالمدينة قائد على مائتين من الجند مقيمين بالمدينة، وأقبل فيمن معه، وجاء العمري ووزير ابن إسحاق الأزرق ومحمد بْن واقد الشروي، ومعهم ناس كثير، فيهم الحسين بْن جعفر بْن الحسين بْن الحسين على حمار، واقتحم خالد البربري الرحبة، وقد ظاهر بين درعين، وبيده السيف، وعمود في منطقته، مصلتا سيفه، وهو يصيح بحسين: أنا كسكاس، قتلني الله إن لم أقتلك! وحمل عليهم حتى دنا منهم، فقام إليه ابنا عبد الله بْن حسن: يحيى وإدريس، فضربه يحيى على أنف البيضة فقطعها وقطع أنفه، وشرقت عيناه بالدم فلم يبصر، فبرك يذبب عن نفسه بسيفه وهو لا يبصر، واستدار له إدريس من خلفه فضربه وصرعه، وعلواه بأسيافهما حتى قتلاه، وشد أصحابهما على درعيه فخلعوهما عنه، وانتزعوا سيفه وعموده، فجاءوا به ثم أمروا به فجر إلى البلاط، وحملوا على أصحابه فانهزموا قَالَ عبد الله بْن محمد: هذا كله بعيني.
وذكر عبد الله بْن محمد أن خالدا ضرب يحيى بن عبد الله، فقطع البرنس، ووصلت ضربته الى يد يحيى فأثرت فيها، وضربه يحيى على وجهه، واستدار رجل أعور من أهل الجزيرة فأتاه من خلفه، فضربه على رجليه، واعتوروه بأسيافهم فقتلوه.
قَالَ عبد الله بْن محمد: ودخل عليهم المسودة المسجد حين دخل الحسين ابن جعفر على حماره، وشدت المبيضة فأخرجوهم، وصاح بهم الحسين: ارفقوا بالشيخ- يعني الحسين بْن جعفر- وانتهب بيت المال، فأصيب فيه بضعة عشر ألف دينار، فضلت من العطاء- وقيل: أن ذلك كان سبعين ألف دينار كان بعث بها عبد الله بْن مالك، يفرض بها من خزاعة- قَالَ: وتفرق الناس، وأغلق أهل المدينة عليهم أبوابهم، فلما كان من الغد اجتمعوا واجتمعت شيعة ولد العباس، فقاتلوهم بالبلاط فيما بين رحبة دار الفضل والزوراء، وجعل المسودة يحملون على المبيضة حتى يبلغوا بهم رحبة دار الفضل، وتحمل المبيضة عليهم حتى يبلغ بهم الزوراء وفشت الجراحات بين الفريقين جميعا، فاقتتلوا إلى الظهر، ثم افترقوا، فلما كان في آخر النهار من اليوم الثاني يوم الأحد، جاء الخبر بأن مباركا التركي ينزل بئر المطلب، فنشط الناس، فخرجوا إليه فكلموه أن يجيء، فجاء من الغد حتى أتى الثنية، واجتمع إليه شيعة بني العباس ومن أراد القتال، فاقتتلوا بالبلاط أشد قتال إلى انتصاف النهار، ثم تفرقوا وجاء هؤلاء إلى المسجد، ومضى الآخرون إلى مبارك التركي، إلى دار عمر بْن عبد العزيز بالثنية يقيل فيها، وواعد الناس الرواح، فلما غفلوا عنه، جلس على رواحله فانطلق، وراح الناس فلم يجدوه، فناوشوهم شيئا من القتال إلى المغرب، ثم تفرقوا، وأقام حسين وأصحابه أياما يتجهزون.
وكان مقامهم بالمدينة أحد عشر يوما، ثم خرج يوم أربعة وعشرين لست بقين من ذي القعدة، فلما خرجوا من المدينة عاد المؤذنون فأذنوا، وعاد الناس إلى المسجد، فوجدوا فيه العظام التي كانوا يأكلون وآثارهم، فجعلوا يدعون الله عليهم، ففعل الله بهم وفعل.
قَالَ محمد بْن صالح: فحدثني نصير بْن عبد الله بْن إبراهيم الجمحي، أن حسينا لما انتهى إلى السوق متوجها إلى مكة التفت إلى أهل المدينة، وقال: لا خلف الله عليكم بخير! فقال الناس وأهل السوق: لا بل أنت، لا خلف الله عليك بخير، ولا ردك! وكان أصحابه يحدثون في المسجد، فملئوه قذرا وبولا، فلما خرجوا غسل الناس المسجد.
قَالَ: وحدثني ابن عبد الله بْن إبراهيم، قَالَ: أخذ أصحاب الحسين ستور المسجد، فجعلوها خفاتين لهم، قَالَ: ونادى أصحاب الحسين بمكة: أيما عبد أتانا فهو حر، فأتاه العبيد، وأتاه عبد كان لأبي، فكان معه، فلما أراد الحسين أن يخرج أتاه أبي فكلمه، وقال له: عمدت إلى مماليك لم تملكهم فأعتقتهم، بم تستحل ذلك! فقال حسين لأصحابه: اذهبوا به، فأي عبد عرفه فادفعوه إليه، فذهبوا معه، فأخذ غلامه وغلامين لجيران لنا وانتهى خبر الحسين إلى الهادي، وقد كان حج في تلك السنة رجال من أهل بيته، منهم محمد بْن سليمان بْن علي والعباس بْن محمد وموسى بْن عيسى، سوى من حج من الأحداث وكان على الموسم سليمان بْن أبي جعفر، فأمر الهادي بالكتاب بتولية محمد بْن سليمان على الحرب، فقيل له: عمك العباس بْن محمد! قَالَ: دعوني، لا والله لا أخدع عن ملكي، فنفذ الكتاب بولاية محمد بْن سليمان بْن علي على الحرب، فلقيهم الكتاب وقد انصرفوا عن الحج.
وكان محمد بْن سليمان قد خرج في عدة من السلاح والرجال، وذلك لأن الطريق كان مخوفا معورا من الإعراب، ولم يحتشد لهم حسين، فأتاه خبرهم، فهم بصوبه، فخرج بخدمه وإخوانه وكان موسى بْن علي بْن موسى قد صار ببطن نخل، على الثلاثين من المدينة، فانتهى إليه الخبر ومعه إخوانه وجواريه، وانتهى الخبر إلى العباس بْن محمد بْن سليمان وكاتبهم، وساروا إلى مكة فدخلوا، فأقبل محمد بْن سليمان، وكانوا أحرموا بعمرة ثم صاروا إلى ذي طوى، فعسكروا بها، ومعهم سليمان بْن أبي جعفر، فانضم إليهم من وافى في تلك السنة من شيعة ولد العباس ومواليهم وقوادهم وكان الناس قد اختلفوا في تلك السنة في الحج وكثروا جدا ثم قدم محمد بْن سليمان قدامه تسعين حافرا ما بين فرس إلى بغل، وهو على نجيب عظيم، وخلفه أربعون راكبا على النجائب عليها الرحال وخلفهم مائتا راكب على الحمير، سوى من كان معهم من الرجالة وغيرهم، وكثروا في أعين الناس جدا وملئوا صدورهم فظنوا أنهم أضعافهم، فطافوا بالبيت، وسعوا بين الصفا والمروة، وأحلوا من عمرتهم، ثم مضوا فأتوا ذا طوى ونزلوا، وذلك يوم الخميس فوجه محمد بْن سليمان أبا كامل- مولى لإسماعيل بْن علي- في نيف وعشرين فارسا، وذلك يوم الجمعة فلقيهم وكان في أصحابه رجل يقال له زيد، كان انقطع إلى العباس، فأخرجه معه حاجا لما رأى من عبادته، فلما رأى القوم قلب ترسه وسيفه، وانقلب إليهم، وذلك ببطن مر، ثم ظفروا به بعد ذلك مشدخا بالأعمدة، فلما كان ليلة السبت وجهوا خمسين فارسا، كان أول من ندبوا صباح أبو الذيال، ثم آخر ثم آخر، فكان أبو خلوة الخادم مولى محمد خامسا، فأتوا المفضل مولى المهدي، فأرادوا أن يصيروه عليهم، فأبى وقال: لا، ولكن صيروا عليهم غيري وأكون أنا معهم، فصيروا عليهم عبد الله بْن حميد بْن رزين السمرقندي- وهو يومئذ شاب ابن ثلاثين سنة- فذهبوا وهم خمسون فارسا، وذلك ليلة السبت فدنا القوم، وزحفت الخيل، وتعبأ الناس، فكان العباس بْن محمد وموسى بْن عيسى في الميسرة، ومحمد بْن سليمان في الميمنة، وكان معاذ بْن مسلم فيما بين محمد بْن سليمان والعباس بْن محمد، فلما كان قبل طلوع الفجر جاء حسين وأصحابه فشد ثلاثة من موالي سليمان بْن علي- أحدهم زنجويه غلام حسان- فجاءوا برأس فطرحوه قدام محمد بْن سليمان- وقد كانوا قالوا: من جاء برأس فله خمسمائة درهم- وجاء أصحاب محمد فعرقبوا الإبل، فسقطت محاملها فقتلوهم وهزموهم، وكانوا خرجوا من تلك الثنايا، فكان الذين خرجوا مما يلي محمد بْن سليمان أقلهم، وكان جلهم خرجوا مما يلي موسى بْن عيسى وأصحابه، فكانت الصدمة بهم، فلما فرغ محمد بْن سليمان ممن يليه واسفروا، نظروا إلى الذين يلون موسى بْن عيسى، فإذا هم مجتمعون كأنهم كبه غزل، والتفت الميمنه والقلب عليهم، وانصرفوا نحو مكة لا يدرون ما حال الحسين، فما شعروا وهم بذي طوى أو قريبا منها إلا برجل من أهل خراسان، يقول: البشرى البشرى! هذا رأس حسين، فأخرجه وبجبهته ضربة طولا، وعلى قفاه ضربة أخرى، وكان الناس نادوا بالأمان حين فرغوا، فجاء الحسن بْن محمد أبو الزفت مغمضا إحدى عينيه، قد أصابها شيء في الحرب، فوقف خلف محمد والعباس، واستدار به موسى بن عيسى وعبد الله ابن العباس فأمر به فقتل، فغضب محمد بْن سليمان من ذلك غضبا شديدا.
ودخل محمد بْن سليمان مكة من طريق والعباس بْن محمد من طريق، واحتزت الرءوس، فكانت مائة رأس ونيفا، فيها رأس سليمان بْن عبد الله بْن حسن وذلك يوم التروية، وأخذت أخت الحسين، وكانت معه فصيرت عند زينب بنت سليمان، واختلطت المنهزمة بالحجاج، فذهبوا، وكان سليمان بْن أبي جعفر شاكيا فلم يحضر القتال، ووافى عيسى بْن جعفر الحج تلك السنة، وكان مع أصحاب حسين رجل أعمى يقص عليهم فقتل، ولم يقتل أحد منهم صبرا قَالَ الحسين بْن محمد بْن عبد الله: وأسر موسى بْن عيسى أربعة نفر من أهل الكوفة، ومولى لبني عجل وآخر.
قَالَ محمد بْن صالح: حدثني محمد بْن داود بْن علي، قَالَ: حدثنا موسى بْن عيسى، قال: قدمت معى بسته أسارى فقال لي الهادي: هيه! تقتل أسيري! فقلت: يا أمير المؤمنين، إني فكرت فيه فقلت: تجيء عائشة وزينب إلى أم أمير المؤمنين، فتبكيان عندها وتكلمانها، فتكلم له أمير المؤمنين فيطلقه ثم قَالَ: هات الأسرى، فقلت: إني جعلت لهم العهد والمواثيق بالطلاق والعتاق، فقال: ائتني بهم، وأمر باثنين فقتلا، وكان الثالث منكرا، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا أعلم الناس بآل أبي طالب، فإن استبقيته دلك على كل بغية لك، فقال: نعم والله يا أمير المؤمنين، إني أرجو أن يكون بقائي صنعا لك فاطرق ثم قال: نعم والله لإفلاتك من يدي بعد أن وقعت في يدي لشديد، فلم يزل يكلمه حتى امر به ان يؤخر، وامره أن يكتب له طلبته، وأما الآخر فصفح عنه، وأمر بقتل عذافر الصيرفي وعلي بْن السابق القلاس الكوفى، وان يصلبا، فصلبوهما بباب الجسر، وكانا اسرا بفخ وغضب على مبارك التركي، وأمر بقبض أمواله وتصييره في ساسة الدواب، وغضب على موسى بْن عيسى لقتله الحسن بْن محمد، وأمر بقبض أمواله.
وقال عبد الله بْن عمرو الثلجي: حدثني محمد بْن يوسف بْن يعقوب الهاشمي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن عبد الرَّحْمَن بْن عيسى، قَالَ: أفلت إدريس بْن عبد الله بْن حسن بْن حسن بْن علي بْن أبي طالب من وقعة فخ في خلافة الهادي، فوقع إلى مصر، وعلى بريد مصر واضح مولى لصالح بْن أمير المؤمنين المنصور، وكان رافضيا خبيثا، فحمله على البريد إلى أرض المغرب، فوقع بأرض طنجة بمدينة يقال لها وليلة، فاستجاب له من بها وبأعراضها من البربر، فضرب الهادي عنق واضح وصلبه.
ويقال: إن الرشيد الذي ضرب عنقه، وانه دس الى ادريس الشيماخ اليمامي مولى المهدي، وكتب له كتابا إلى ابراهيم بن الاغلب عامله على إفريقية، خرج حتى وصل إلى وليلة وذكر أنه متطبب، وأنه من أوليائهم، ودخل على إدريس فأنس به واطمأن إليه، وأقبل الشماخ يريه الإعظام له والميل إليه والإيثار له فنزل عنده بكل منزلة ثم أنه شكا إليه علة في أسنانه، فأعطاه سنونا مسموما قاتلا، وأمره أن يستن به عند طلوع الفجر لليلته، فلما طلع الفجر استن إدريس بالسنون، وجعل يرده في فيه، ويكثر منه، فقتله وطلب الشماخ فلم يظفر به، وقدم على إبراهيم بْن الأغلب فأخبره بما كان منه، وجاءته بعد مقدمه الأخبار بموت إدريس، فكتب ابن الأغلب إلى الرشيد بذلك، فولى الشماخ بريد مصر واجاره، فقال في ذلك بعض الشعراء- أظنه الهنازي:

أتظن يا إدريس أنك مفلت *** كيد الخليفة أو يفيد فرار
فليدركنك أو تحل ببلدة *** لا يهتدي فيها إليك نهار
إن السيوف إذا انتضاها سخطه *** طالت وقصر دونها الأعمار
ملك كأن الموت يتبع أمره *** حتى يقال: تطيعه الأقدار

وذكر الفضل بْن إسحاق الهاشمي أن الحسين بْن علي لما خرج بالمدينة وعليها العمرى لم يزل العمرى متخفيا مقام الحسين بالمدينة، حتى خرج إلى مكة وكان الهادي وجه سليمان بْن أبي جعفر لولاية الموسم، وشخص معه من أهل بيته ممن أراد الحج العباس بْن محمد وموسى بن عيسى واسماعيل بن عيسى ابن موسى في طريق الكوفة، ومحمد بْن سليمان وعدة من ولد جعفر بْن سليمان على طريق البصرة، ومن الموالي مبارك التركي والمفضل الوصيف وصاعد مولى الهادي- وكان صاحب الأمر سليمان- ومن الوجوه المعروفين يقطين بْن موسى وعبيد ابن يقطين وابو الوزير عمر بْن مطرف، فاجتمعوا عند الذي بلغهم من توجه الحسين ومن معه إلى مكة، ورأسوا عليهم سليمان بْن أبي جعفر لولايته، وكان قد جعل أبو كامل مولى إسماعيل على الطلائع، فلقوه بفخ، وخلفوا عبيد الله بْن قثم بمكة للقيام بأمرها وأمر أهلها، وقد كان العباس بْن محمد أعطاهم الأمان على ما أحدثوا، وضمن لهم الإحسان إليهم والصلة لارحامهم، وكان رسولهم في ذلك المفضل الخادم، فأبوا قبول ذلك، فكانت الوقعة، فقتل من قتل، وانهزم الناس، ونودي فيهم بالأمان، ولم يتبع هارب، وكان فيمن هرب يحيى وإدريس ابنا عبد الله بْن حسن، فأما إدريس فلحق بتاهرت من بلاد المغرب، فلجأ إليهم فأعظموه، فلم يزل عندهم إلى أن تلطف له، واحتيل عليه، فهلك، وخلفه ابنه إدريس بْن إدريس، فهم إلى اليوم بتلك الناحية مالكين لها، وانقطعت عنهم البعوث قَالَ المفضل بْن سليمان: لما بلغ العمري وهو بالمدينة مقتل الحسين بفخ وثب على دار الحسين ودور جماعة من أهل بيته وغيرهم ممن خرج مع الحسين، فهدمها وحرق النخل، وقبض ما لم يحرقه، وجعله في الصوافي المقبوضة قَالَ: وغضب الهادي على مبارك التركي لما بلغه من صدوده عن لقاء الحسين بعد أن شارف المدينة، وأمر بقبض أمواله وتصييره في سياسة دوابه، فلم يزل كذلك إلى وفاة الهادي، وسخط على موسى بْن عيسى لقتله الحسن بْن محمد بْن عبد الله أبي الزفت، وتركه أن يقدم به أسيرا، فيكون المحكم في أمره، وأمر بقبض أمواله، فلم تزل مقبوضة إلى أن توفي موسى وقدم على موسى ممن أسر بفخ الجماعة، وكان فيهم عذافر الصيرفى وعلى بن سابق القلاس الكوفي، فأمر بضرب أعناقهما وصلبهما بباب الجسر ببغداد، ففعل ذلك قَالَ: ووجه مهرويه مولاه إلى الكوفة، وأمره بالتغليظ عليهم لخروج من خرج منهم مع الحسين.
وذكر علي بْن محمد بن سليمان بن عبد الله بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قَالَ: حدثني يوسف البرم مولى آل الحسن- وكانت أمه مولاة فاطمة بنت حسن- قَالَ: كنت مع حسين أيام قدم على المهدي، فأعطاه أربعين ألف دينار، ففرقها في الناس ببغداد والكوفه، وو الله ما خرج من الكوفة وهو يملك شيئا يلبسه إلا فروا ما تحته قميص وإزار الفراش، ولقد كان في طريقه إلى المدينة، إذا نزل استقرض من مواليه ما يقوم بمؤونتهم في يومهم.
قَالَ علي: وحدثني السري أبو بشر، وهو حليف بني زهرة، قَالَ: صليت الغداة في اليوم الذي خرج فيه الحسين بْن علي بْن الحسن صاحب فخ، فصلى بنا حسين، وصعد المنبر منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس وعليه قميص وعمامة بيضاء قد سدلها من بين يديه ومن خلفه، وسيفه مسلول قد وضعه بين رجليه، إذ أقبل خالد البربري في أصحابه، فلما أراد أن يدخل المسجد بدره يحيى بْن عبد الله، فشد عليه البربري، وإني لأنظر إليه، فبدره يحيى بْن عبد الله، فضربه على وجهه، فأصاب عينيه وانفه، فقطع البيضه والقلنسوة نظرت إلى قحفه طائرا عن موضعه، وحمل على أصحابه فانهزموا ثم رجع إلى حسين، فقام بين يديه وسيفه مسلول يقطر دما، فتكلم حسين، فحمد الله وأثنى عليه، وخطب الناس، فقال في آخر كلامه: يايها الناس، أنا ابن رسول الله في حرم رسول الله، وفي مسجد رسول الله، وعلى منبر نبي الله، أدعوكم إلى كتاب الله وسنه نبيه صلى الله عليه وسلم، فإن لم أف لكم بذلك فلا بيعة لي في أعناقكم.
قَالَ: وكان أهل الزيارة في عامهم ذلك كثيرا، فكانوا قد ملئوا المسجد، فإذا رجل قد نهض، حسن الوجه، طويل القامة، عليه رداء ممشق، أخذ بيد ابن له شاب جميل جلد، فتخطى رقاب الناس، حتى انتهى إلى المنبر، فدنا من حسين، وقال: يا بن رسول الله، خرجت من بلد بعيد وابني هذا معي، وأنا أريد حج بيت الله وزياره قبر نبيه صلى الله عليه وسلم، وما يخطر ببالي هذا الأمر الذي حدث منك، وقد سمعت ما قلت، فعندك وفاء بما جعلت على نفسك؟ قَالَ: نعم، قَالَ: ابسط يدك فأبايعك، قَالَ: فبايعه، ثم قَالَ لابنه: ادن فبايع قَالَ: فرأيت والله رءوسهما في الرءوس بمنى، وذلك أني حججت في ذلك العام.
قَالَ: وحدثني جماعة من أهل المدينة أن مباركا التركي أرسل إلى حسين ابن علي: والله لأن أسقط من السماء فتخطفني الطير، أو تهوي بي الريح في مكان سحيق، أيسر علي من أن أشوكك بشوكة، أو أقطع من رأسك شعرة، ولكن لا بد من الأعذار، فبيتني فإني منهزم عنك فأعطاه بذلك عهد الله وميثاقه قَالَ: فوجه إليه الحسين- أو خرج إليه- في نفر يسير، فلما دنوا من عسكره صاحوا وكبروا، فانهزم أصحابه حتى لحق بموسى بْن عيسى.
وذكر أبو المضرحي الكلابي، قَالَ: أخبرني المفضل بْن محمد بن المفضل ابن حسين بْن عبيد الله بْن العباس بْن علي بْن أبي طالب، أن الحسين بْن علي بْن حسن بْن حسن، قَالَ يومئذ في قوم لم يخرجوا معه- وكان قد وعدوه أن يوافوه، فتخلفوا عنه- متمثلا:

من عاذ بالسيف لاقى فرصة عجبا *** موتا على عجل أو عاش منتصفا
لا تقربوا السهل إن السهل يفسدكم *** لن تدركوا المجد حتى تضربوا عنفا

وذكر الفضل بْن العباس الهاشمي أن عبد الله بْن محمد المنقري حدثه عن أبيه، قَالَ: دخل عيسى بْن دأب على موسى بْن عيسى عند منصرفه من فخ، فوجده خائفا يلتمس عذرا من قتل من قتل، فقال له: أصلح الله الأمير! أنشدك شعرا كتب به يزيد بْن معاوية إلى أهل المدينة يعتذر فيه من قتل الْحُسَيْن بْن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؟ قَالَ: أنشدني، فأنشده، فقال:

يأيها الراكب الغادي لطيته *** على عذافرة في سيرها قحم
أبلغ قريشا على شحط المزار بها *** بيني وبين الحسين الله والرحم
وموقف بفناء البيت أنشده *** عهد الإله وما ترعى له الذمم
عنفتم قومكم فخرا بأمكم *** أم حصان لعمري برة كرم
هي التي لا يداني فضلها أحد *** بنت النبي وخير الناس قد علموا
وفضلها لكم فضل وغيركم *** من قومكم لهم من فضلها قسم
إني لأعلم أو ظنا كعالمه *** والظن يصدق أحيانا فينتظم
أن سوف يترككم ما تطلبون بها *** قتلى تهاداكم العقبان والرخم
يا قومنا لا تشبوا الحرب إذ خمدت *** ومسكوا بحبال السلم واعتصموا
لا تركبوا البغي إن البغي مصرعة *** وإن شارب كأس البغي يتخم
قد جرب الحرب من قد كان قبلكم *** من القرون وقد بادت بها الأمم
فأنصفوا قومكم لا تهلكوا بذخا *** فرب ذي بذخ زلت به القدم

قَالَ: فسري عن موسى بْن عيسى بعض ما كان فيه.
وذكر عبد الله بْن عبد الرحمن بْن عيسى بْن موسى أن العلاء حدثه أن الهادي أمير المؤمنين لما ورد عليه خلع أهل فخ خلا ليله يكتب كتابا بخطه، فاغتم بخلوته مواليه وخاصته، فدسوا غلاما له، فقالوا: اذهب حتى تنظر إلى أي شيء انتهى الخبر، قَالَ: فدنا من موسى، فلما رآه قَالَ: ما لك؟
فاعتل عليه قَالَ: فأطرق ثم رفع رأسه إليه، فقال:

رقد الألى ليس السرى من شأنهم *** وكفاهم الإدلاج من لم يرقد

وذكر أحمد بْن معاوية بْن بكر الباهلي، قَالَ: حدثنا الأصمعي، قَالَ: قَالَ محمد بْن سليمان ليلة فخ لعمرو بْن أبي عمرو المدني- وكان يرمي بين يديه بين الهدفين: ارم، قال: لا والله لا ارمى ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إني إنما صحبتك لأرمي بين يديك بين الهدفين، ولم أصحبك لأرمي المسلمين.
قَالَ: فقال المخزومي: ارم، فرمى فما مات إلا بالبرص.
قَالَ: ولما قتل الحسين بْن علي وجاء برأسه يقطين بْن موسى، فوضع بين يدي الهادي، قَالَ: كأنكم والله جئتم برأس طاغوت من الطواغيت! إن أقل ما أجزيكم به أن أحرمكم جوائزكم قَالَ: فحرمهم ولم يعطهم شيئا.
وقال موسى الهادي: لما قتل الحسين متمثلا:

قد أنصف القارة من راماها *** إنا إذا ما فئة نلقاها
نرد أولاها على أخراها.

وغزا الصائفة في هذه السنة معيوف بْن يحيى من درب الراهب، وقد كانت الروم أقبلت مع البطريق إلى الحدث، فهرب الوالي والجند وأهل الأسواق، فدخلها العدو، ودخل أرض العدو معيوف بْن يحيى، فبلغ مدينه أشنة، فأصابوا سبايا وأسارى وغنموا.
وحج بالناس في هذه السنة سليمان بْن أبي جعفر المنصور.
وكان على المدينة عمر بْن عبد العزيز العمري، وعلى مكة والطائف عبيد الله بْن قثم، وعلى اليمن إبراهيم بْن سلم بْن قتيبة، وعلى اليمامة والبحرين سويد بْن أبي سويد القائد الخراساني، وعلى عمان الحسن بْن تسنيم الحواري، وعلى صلاة الكوفة وأحداثها وصدقاتها وبهقباذ الأسفل موسى بْن عيسى، وعلى صلاة البصرة وأحداثها محمد بْن سليمان، وعلى قضائها عمر بْن عثمان، وعلى جرجان الحجاج مولى الهادي، وعلى قومس زياد بْن حسان، وعلى طبرستان والرويان صالح بْن شيخ بْن عميرة الأسدي، وعلى أصبهان طيفور مولى الهادي.