159 هـ
775 م
سنة تسع وخمسين ومائة (ذكر ما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

فمن ذَلِكَ غزوة العباس بْن محمد الصائفة فيها حتى بلغ أنقرة، وكان على مقدمة العباس الحسن الوصيف في الموالي، وكان المهدي ضم إليه …

جماعة من قواد أهل خراسان وغيرهم وخرج المهدي فعسكر بالبردان وأقام فيه حتى أنفذ العباس بْن محمد، ومن قطع عليه البعث معه، ولم يجعل للعباس على الحسن الوصيف ولاية في عزل ولا غيره، ففتح في غزاته هذه مدينة للروم ومطمورة معها، وانصرفوا سالمين لم يصب من المسلمين أحد.
وهلك في هذه السنة حميد بْن قحطبة، وهو عامل المهدي على خراسان، فولى المهدي مكانه أبا عون عبد الملك بْن يزيد.
وفيها ولي حمزة بْن مالك سجستان، وولي جبرئيل بْن يحيى سمرقند.
وفيها بنى المهدي مسجد الرصافة.
وفيها بنى حائطها، وحفر خندقها.
وفيها عزل المهدي عبد الصمد بن على عن المدينة، مدينه الرسول صلى الله عليه وسلم عن موجدة، واستعمل عليها مكانه محمد بْن عبد الله الكثيري ثم عزله، واستعمل عليها مكانه عبيد الله بْن محمد بْن عبد الرحمن بْن صفوان الجمحي.
وفيها وجه المهدي عبد الملك بْن شهاب المسمعي في البحر إلى بلاد الهند، وفرض معه لألفين من أهل البصرة من جميع الأجناد، وأشخصهم معه، وأشخص معه من المطوعة الذين كانوا يلزمون المرابطات ألفا وخمسمائة رجل، ووجه معه قائدا من أبناء أهل الشام يقال له ابن الحباب المذحجي في سبعمائة من أهل الشام، وخرج معه من مطوعة أهل البصرة بأموالهم ألف رجل، فيهم – فيما ذكر- الربيع بْن صبيح، ومن الأسواريين والسبابجة أربعة آلاف رجل، فولى عبد الملك بْن شهاب المنذر بْن محمد الجارودي الألف الرجل المطوعة من أهل البصرة، وولى ابنه غسان بْن عبد الملك الألفي الرجل الذين من فرض البصره، وولى عبد الواحد بن عبد الملك الالف والخمسمائة الرجل من مطوعة المرابطات، وأفرد يزيد بْن الحباب في أصحابه فخرجوا، وكان المهدي وجه لتجهيزهم حتى شخصوا أبا القاسم محرز بْن إبراهيم، فمضوا لوجههم، حتى أتوا مدينة باربد من بلاد الهند في سنة ستين ومائة.
وفيها توفي معبد بْن الخليل بالسند، وهو عامل المهدي عليها، فاستعمل مكانه روح بْن حاتم بمشورة أبي عبيد الله وزيره.
وفيها أمر المهدي بإطلاق من كان في سجن المنصور، إلا من كان قبله تباعة من دم أو قتل، ومن كان معروفا بالسعي في الأرض بالفساد، أو من كان لأحد قبله مظلمة أو حق، فأطلقوا، فكان ممن أطلق من المطبق يعقوب بْن داود مولى بني سليم، وكان معه في ذلك الحبس محبوسا الحسن بْن إبراهيم بْن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
وفيها حول المهدي الحسن بْن إبراهيم من المطبق الذي كان فيه محبوسا إلى نصير الوصيف فحبسه عنده.

ذكر الخبر عن سبب تحويل المهدي الحسن بْن إبراهيم من المطبق إلى نصير
ذكر أن السبب في ذلك، كان أن المهدي لما أمر بإطلاق أهل السجون.
على ما ذكرت، وكان يعقوب بْن داود محبوسا مع الحسن بْن إبراهيم في موضع واحد، فأطلق يعقوب بْن داود، ولم يطلق الحسن بْن إبراهيم، ساء ظنه، وخاف على نفسه، فالتمس مخرجا لنفسه وخلاصا، فدس إلى بعض ثقاته، فحفر له سربا من موضع مسامت للموضع الذي هو فيه محبوس، وكان يعقوب بْن داود بعد أن أطلق يطيف بابن علاثة- وهو قاضي المهدي بمدينة السلام- ويلزمه، حتى أنس به، وبلغ يعقوب ما عزم عليه الحسن ابن إبراهيم من الهرب، فأتى ابن علاثة، فأخبره أن عنده نصيحة للمهدي، وسأله إيصاله إلى أبي عبيد الله، فسأله عن تلك النصيحة، فأبى أن يخبره بها، وحذره فوتها، فانطلق ابن علاثة إلى أبي عبيد الله، فأخبره خبر يعقوب وما جاء به، فأمره بإدخاله عليه، فلما دخل عليه سأله إيصاله إلى المهدي، ليعلمه النصيحة التي له عنده، فأدخله عليه، فلما دخل على المهدي شكر له بلاءه عنده في إطلاقه إياه ومنه عليه، ثم أخبره أن له عنده نصيحة، فسأله عنها بمحضر من أبي عبيد الله وابن علاثة، فاستخلاه منهما، فأعلمه المهدي ثقته بهما، فأبى أن يبوح له بشيء حتى يقوما، فأقامهما وأخلاه، فأخبره خبر الحسن بْن إبراهيم وما أجمع عليه، وأن ذلك كائن من ليلته المستقبلة، فوجه المهدي من يثق به ليأتيه بخبره، فأتاه بتحقيق ما أخبره به يعقوب، فأمر بتحويله إلى نصير، فلم يزل في حبسه إلى أن احتال واحتيل له، فخرج هاربا، وافتقد، فشاع خبره، فطلب فلم يظفر به، وتذكر المهدي دلالة يعقوب إياه كانت عليه، فرجا عنده من الدلالة عليه مثل الذي كان منه في أمره، فسأل أبا عبيد الله عنه فأخبره أنه حاضر- وقد كان لزم أبا عبيد الله- فدعا به المهدي خاليا، فذكر له ما كان من فعله في الحسن ابن إبراهيم أولا، ونصحه له فيه، وأخبره بما حدث من أمره، فأخبره يعقوب أنه لا علم له بمكانه، وأنه إن أعطاه أمانا يثق به ضمن له أن يأتيه به، على أن يتم له على أمانه، ويصله ويحسن إليه فأعطاه المهدي ذلك في مجلسه وضمنه له فقال له يعقوب: فاله يا أمير المؤمنين عن ذكره، ودع طلبه، فإن ذلك يوحشه، ودعني وإياه حتى أحتال فآتيك به، فأعطاه المهدي ذلك.
وقال يعقوب: يا أمير المؤمنين، قد بسطت عدلك لرعيتك، وأنصفتهم، وعممتهم بخيرك وفضلك، فعظم رجاؤهم، وانفسحت آمالهم، وقد بقيت أشياء لو ذكرتها لك لم تدع النظر فيها بمثل ما فعلت في غيرها، وأشياء مع ذلك خلف بابك يعمل بها لا تعملها، فإن جعلت لي السبيل إلى الدخول عليك، وأذنت لي في رفعها إليك فعلت فأعطاه المهدى ذلك، وجعله اليه، وصير سليما الخادم الأسود خادم المنصور سببه في إعلام المهدي بمكانه كلما أراد الدخول، فكان يعقوب يدخل على المهدي ليلا، ويرفع إليه النصائح في الأمور الحسنة الجميلة من أمر الثغور وبناء الحصون وتقوية الغزاة وتزويج العزاب، وفكاك الأسارى والمحبسين والقضاء على الغارمين، والصدقة على المتعففين، فحظي بذلك عنده، وبما رجا أن يناله به من الظفر بالحسن بْن إبراهيم، واتخذه أخا في الله، وأخرج بذلك توقيعا، وأثبت في الدواوين، فتسبب مائة ألف درهم كانت أول صلة وصله بها، فلم تزل منزلته تنمى وتعلو صعدا، إلى أن صير الحسن بْن إبراهيم في يد المهدي بعد ذلك، وإلى أن سقطت منزلته، وأمر المهدي بحبسه، فقال علي بْن الخليل في ذلك:

عجبا لتصريف الأمور *** مسرة وكراهية
والدهر يلعب بالرجال *** له دوائر جاريه
رثت بيعقوب بْن داود *** حبال معاويه
وعدت على ابن علاثة القاضي *** بوائق عافيه
قل للوزير أبي عبيد الله: *** هل لك باقيه!
يعقوب ينظر في الأمور *** وأنت تنظر ناحيه
أدخلته فعلا عليك *** ، كذاك شؤم الناصيه

وفي هذه السنة عزل المهدي إسماعيل بْن أبي اسماعيل عن الكوفه واحداثها.
واختلف فيمن ولي مكانه، فقال بعضهم: ولي مكانه إسحاق بْن الصباح الكندي ثم الأشعثي بمشورة شريك بْن عبد الله قاضي الكوفة وقال عمر ابن شبة: ولى على الكوفة المهدي عيسى بْن لقمان بن محمد بن حاطب ابن الحارث بْن معمر بْن حبيب بْن وهب بْن حذافة بْن جمح، فولى على شرطه ابن أخيه عثمان بْن سعيد بْن لقمان ويقال: إن شريك بْن عبد الله كان على الصلاة والقضاء، وعيسى على الأحداث، ثم أفرد شريك بالولاية، فجعل على شرطه إسحاق بْن الصباح الكندي، فقال بعض الشعراء:

لست تعدو بأن تكون ولو نلت *** سهيلا صنيعة لشريك

قَالَ: ويزعمون أن إسحاق لم يشكر لشريك، وأن شريكا قَالَ له:

صلى وصام لدنيا كان يأملها *** فقد أصاب ولا صلى ولا صاما

وذكر عمر أن جعفر بْن محمد قاضي الكوفة، قَالَ: ضم المهدي إلى شريك الصلاة مع القضاء، وولى شرطه إسحاق بْن الصباح، ثم ولى إسحاق بْن الصباح الصلاة والأحداث بعد، ثم ولى إسحاق بْن الصباح بن عمران ابن إسماعيل بْن محمد بْن الأشعث الكوفة، فولى شرطه النعمان بْن جعفر الكندي، فمات النعمان، فولى على شرطه أخاه يزيد بْن جعفر.
وفيها عزل المهدي عن أحداث البصرة سعيد بْن دعلج، وعزل عن الصلاة والقضاء من أهلها عبيد الله بْن الحسن، وولى مكانهما عبد الملك بْن أيوب بْن ظبيان النميري، وكتب إلى عبد الملك يأمره بإنصاف من تظلم من أهل البصرة من سعيد بْن دعلج، ثم صرفت الأحداث في هذه السنة عن عبد الملك بْن أيوب إلى عمارة بْن حمزة، فولاها عمارة رجلا من أهل البصرة يقال له المسور بْن عبد الله بْن مسلم الباهلي، وأقر عبد الملك على الصلاة.
وفيها عزل قثم بْن العباس عن اليمامة عن سخطة، فوصل كتاب عزله إلى اليمامة، وقد توفي فاستعمل مكانه بشر بْن المنذر البجلي.
وفيها عزل يزيد بْن منصور عن اليمن، واستعمل مكانه رجاء بْن روح.
وفيها عزل الهيثم بْن سعيد عن الجزيرة، واستعمل عليها الفضل بْن صالح.
وفيها أعتق المهدي أم ولده الخيزران وتزوجها.
وفيها تزوج المهدي أيضا أم عبد الله بنت صالح بْن علي، أخت الفضل وعبد الله ابني صالح لأمهما.
وفيها وقع الحريق في ذي الحجة في السفن ببغداد عند قصر عيسى بْن علي، فاحترق ناس كثير، واحترقت السفن بما فيها.
وفيها عزل مطر مولى المنصور عن مصر، واستعمل مكانه أبو ضمرة محمد بْن سليمان.
وفيها كانت حركة من تحرك من بني هاشم وشيعتهم من أهل خراسان في خلع عيسى بْن موسى من ولاية العهد، وتصيير ذلك لموسى بْن المهدي، فلما تبين ذلك المهدى كتب- فيما ذكر- إلى عيسى بْن موسى في القدوم عليه وهو بالكوفة، فأحس بالذي يراد به، فامتنع من القدوم عليه.
وقال عمر: لما أفضى الأمر إلى المهدي سأل عيسى أن يخرج من الأمر فامتنع عليه، فأراد الإضرار به، فولى على الكوفة روح بن حاتم بن قبيصة ابن المهلب، فولى على شرطه خالد بْن يزيد بْن حاتم، وكان المهدي يحب أن يحمل روح على عيسى بعض الحمل فيما لا يكون عليه به حجة، وكان لا يجد إلى ذلك سبيلا، وكان عيسى قد خرج إلى ضيعة له بالرحبة، فكان لا يدخل الكوفة إلا في شهرين من السنة في شهر رمضان، فيشهد الجمع والعيد، ثم يرجع إلى ضيعته وفي أول ذي الحجة، فإذا شهد العيد رجع إلى ضيعته، وكان إذا شهد الجمعة أقبل من داره على دوابه حتى ينتهي إلى أبواب المسجد فينزل على عتبة الأبواب، ثم يصلي في موضعه، فكتب روح إلى المهدي أن عيسى بْن موسى لا يشهد الجمع، ولا يدخل الكوفة إلا في شهرين من السنة، فإذا حضر أقبل على دوابه حتى يدخل رحبة المسجد، وهو مصلى الناس، ثم يتجاوزها إلى أبواب المسجد، فتروث دوابه في مصلى الناس، وليس يفعل ذلك غيره، فكتب إليه المهدي أن اتخذ على أفواه السكك التي تلي المسجد خشبا ينزل عنده الناس، فاتخذ روح ذلك الخشب في أفواه السكك- فذلك الموضع يسمى الخشبة- وبلغ ذلك عيسى بْن موسى قبل يوم الجمعة، فأرسل إلى ورثة المختار بن ابى عبيده- وكانت دار المختار لزيقة المسجد، فابتاعها وأثمن بها، ثم أنه عمرها واتخذ فيها حماما، فكان إذا كان يوم الخميس أتاها فأقام بها، فإذا أراد الجمعة ركب حمارا فدب به إلى باب المسجد فصلى في ناحية، ثم رجع إلى داره ثم أوطن الكوفة وأقام بها، وألح المهدي على عيسى فقال: إنك إن لم تجبني إلى أن تنخلع منها حتى أبايع لموسى وهارون استحللت منك بمعصيتك ما يستحل من العاصي، وإن أجبتني عوضتك منها ما هو أجدى عليك وأعجل نفعا فأجابه، فبايع لهما وأمر له بعشرة آلاف ألف درهم- ويقال عشرين ألف ألف- وقطائع كثيره.
واما غير عمر فإنه قَالَ: كتب المهدي إلى عيسى بْن موسى لما هم بخلعه يأمره بالقدوم عليه، فأحس بما يراد به، فامتنع من القدوم عليه، حتى خيف انتقاضه، فأنفذ إليه المهدي عمه العباس بْن محمد، وكتب إليه كتابا، وأوصاه بما أحب أن يبلغه، فقدم العباس على عيسى بكتاب المهدي ورسالته إليه، فانصرف إلى المهدي بجوابه في ذلك، فوجه إليه بعد قدوم العباس عليه محمد بْن فروخ أبا هريرة القائد في ألف رجل من اصحابه من ذوي البصيرة في التشيع، وجعل مع كل رجل منهم طبلا، وأمرهم أن يضربوا جميعا بطبولهم عند قدومهم الكوفة، فدخلها ليلا في وجه الصبح، فضرب أصحابه بطبولهم، فراع ذلك عيسى بْن موسى روعا شديدا، ثم دخل عليه أبو هريرة، فأمره بالشخوص، فاعتل بالشكوى فلم يقبل ذلك منه، وأشخصه من ساعته إلى مدينة السلام.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة يَزِيد بْن منصور- خال المهدي- عند قدومه من اليمن، فحدثني بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن ابى معشر كذلك قَالَ محمد بْن عمر الواقدي وغيره وكان انصراف يزيد بْن منصور من اليمن بكتاب المهدي إليه يأمره بالانصراف إليه وتوليته إياه الموسم وإعلامه اشتياقه إليه وإلى قربه.
وكان أمير المدينة في هذه السنة عبيد الله بْن صفوان الجمحي، وعلى صلاة الكوفة وأحداثها إسحاق بْن الصباح الكندي، وعلى خراجها ثابت ابن موسى، وعلى قضائها شريك بْن عبد الله، وعلى صلاه البصره عبد الملك ابن أيوب بْن ظبيان النميري، وعلى أحداثها عمارة بْن حمزة، وخليفته على ذلك المسور بْن عبد الله بْن مسلم الباهلي، وعلى قضائها عبيد الله بْن الحسن.
وعلى كور دجلة وكور الأهواز وكور فارس عمارة بْن حمزة وعلى السند بسطام بْن عمرو، وعلى اليمن رجاء بْن روح وعلى اليمامة بشر بْن المنذر، وعلى خراسان أبو عون عبد الملك بْن يزيد، وعلى الجزيرة الفضل بْن صالح، وعلى إفريقية يزيد بن حاتم، وعلى مصر محمد بْن سليمان أبو ضمرة.