59 هـ
679 م
سنة تسع وخمسين (ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ففيها كَانَ مشتى عَمْرو بن مُرَّةَ الجهني أرض الروم فِي البر، قَالَ الْوَاقِدِيّ: لَمْ يَكُنْ عامئذ غزو فِي البحر وَقَالَ غيره: بل غزا فِي البحر  جُنَادَة بن أبي أمية …


وفيها عزل عبد الرحمن بن أم الحكم عن الْكُوفَة، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا النُّعْمَان بن بشير الأَنْصَارِيّ، وَقَدْ ذكرنا قبل سبب عزل ابن أم الحكم عن الكوفه.

ذكر ولايه عبد الرحمن بن زياد خراسان
وفي هَذِهِ السنة ولى مُعَاوِيَة عبد الرَّحْمَن بن زياد بن سمية خُرَاسَان.
ذكر سبب استعمال مُعَاوِيَة إِيَّاهُ عَلَى خُرَاسَان:
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو، قَالَ: سَمِعْتُ أَشْيَاخَنَا يَقُولُونَ: قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ وَافِدًا عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَمَا لَنَا حَقٌّ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ:
فَمَاذَا تُوَلِّيَنِي؟ قَالَ: بِالْكُوفَةِ النُّعْمَانُ رشيد، وهو رجل من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ عَلَى الْبَصْرَةِ وَخُرَاسَانَ، وَعَبَّادُ بْنُ زِيَادٍ عَلَى سِجِسْتَانَ، وَلَسْتُ أَرَى عَمَلا يُشْبِهُكَ إِلا أَنْ أُشْرِكَكَ فِي عَمَلِ أَخِيكَ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ أَشْرِكْنِي، فَإِنَّ عَمَلَهُ وَاسِعٌ يَحْتَمِلُ الشِّرْكَةَ، فَوَلاهُ خُرَاسَانَ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَذَكَرَ أَبُو حَفْصٍ الأَزْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا قَيْسُ بْنُ الْهَيْثَمِ السُّلَمِيُّ، وَقَدْ وَجَّهَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ، فَأَخَذَ اسلم بن زُرْعَةَ فَحَبَسَهُ، ثُمَّ قَدِمَ عَبْدُ الرَّحَمْنِ، فَأَغْرَمَ اسلم بن زرعه ثلاثمائة أَلْفِ دِرْهَمٍ.
قَالَ: وَذَكَرَ مُصْعَبُ بْنُ حَيَّانَ، عَنْ أَخِيهِ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، قَالَ:
قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ خُرَاسَانَ، فَقَدِمَ رَجُلٌ سَخِيٌّ حَرِيصٌ ضَعِيفٌ لَمْ يَغْزُ غَزْوَةً وَاحِدَةً، وَقَدْ أَقَامَ بِخُرَاسَانَ سَنَتَيْنِ.
قَالَ عَلِيٌّ: قَالَ عَوَانَةَ: قَدِمَ عَبْدُ الرَّحَمْنِ بْنُ زِيَادٍ عَلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ مِنْ خُرَاسَانَ بَعْدَ قَتْلِ الحسين ع، واستخلف على خراسان قيس ابن الهيثم.
قال: وحدثنى مسلمه بْنُ مُحَارِبٍ وَأَبُو حَفْصٍ، قَالا: قَالَ يَزِيدُ لعبد الرحمن ابن زِيَادٍ: كَمْ قَدِمْتُ بِهِ مَعَكَ مِنَ الْمَالِ مِنْ خُرَاسَانَ؟ قَالَ: عِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، قَالَ: إِنْ شِئْتَ حَاسَبْنَاكَ وَقَبَضْنَاهَا مِنْكَ، وَرَدَدْنَاكَ عَلَى عَمَلِكَ، وَإِنْ شِئْتَ سَوَّغْنَاكَ وَعَزَلْنَاكَ، وَتُعْطِي عبد الله بن جعفر خمسمائة أَلْفِ دِرْهَمٍ، قَالَ: بَلْ تُسَوِّغُنِي مَا قُلْتَ، وَيُسْتَعْمَلُ عَلَيْهَا غَيْرِي وَبَعَثَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ بِأَلْفِ الف درهم، وقال: خمسمائة الف من قبل امير المؤمنين، وخمسمائة الف من قبلي

ذكر وفود عبيد الله بن زياد على معاويه
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَفَدَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ عَلَى مُعَاوِيَةَ فِي أَشْرَافِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَعَزَلَهُ عَنِ الْبَصْرَةِ، ثُمَّ رَدَّهُ عَلَيْهَا وَجَدَّدَ له الولاية.
ذكر من قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: وفد عُبَيْد اللَّهِ بن زياد فِي أهل العراق إِلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ لَهُ: ائذن لوفدك عَلَى منازلهم وشرفهم، فأذن لهم، ودخل الأحنف فِي آخرهم، وَكَانَ سيئ المنزلة من عُبَيْد اللَّهِ، فلما نظر إِلَيْهِ مُعَاوِيَة رحب بِهِ، وأجلسه مَعَهُ عَلَى سريرة، ثُمَّ تكلم القوم فأحسنوا الثناء عَلَى عُبَيْد اللَّهِ، والأحنف ساكت، فَقَالَ: ما لك يَا أَبَا بحر لا تتكلم! قَالَ: إن تكلمت خالفت القوم فَقَالَ: انهضوا فقد عزلته عنكم، واطلبوا واليا ترضونه، فلم يبق فِي القوم أحد إلا أتى رجلا من بني أُمَيَّة أو من أشراف أهل الشام، كلهم يطلب، وقعد الأحنف فِي منزله، فلم يأت أحدا، فلبثوا أياما، ثُمَّ بعث إِلَيْهِم مُعَاوِيَة فجمعهم، فلما دخلوا عَلَيْهِ قَالَ: من اخترتم؟
فاختلفت كلمتهم، وسمى كل فريق مِنْهُمْ رجلا والأحنف ساكت، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة: ما لك يَا أَبَا بحر لا تتكلم! قَالَ: إن وليت علينا أحدا من أهل بيتك لم نعدل بعبيد اللَّه أحدا، وإن وليت من غيرهم فانظر فِي ذَلِكَ، قَالَ مُعَاوِيَة: فإني قَدْ أعدته عَلَيْكُمْ، ثُمَّ أوصاه بالأحنف، وقبح رأيه فِي مباعدته، فلما هاجت الْفِتْنَة لم يف لعبيد الله غير الأحنف.

ذكر هجاء يزيد بن مفرغ الحميرى بنى زياد
وفي هَذِهِ السنة كَانَ مَا كَانَ من أمر يَزِيد بن مفرغ الحميري وعباد بن زياد وهجاء يزيد بنى زياد.
ذكر سبب ذَلِكَ:
حدثت عن أبي عبيدة معمر بْن المثنى أن يَزِيد بن رَبِيعَة بن مفرغ الحميري كَانَ مع عباد بن زياد بسجستان، فاشتغل عنه بحرب الترك، فاستبطأه، فأصاب الجند مع عباد ضيق فِي إعلاف دوابهم، فَقَالَ ابن مفرغ:

أَلا ليت اللحى عادت حشيشا *** فنعلفها خيول المسلمينا!

وَكَانَ عباد بن زياد عظيم اللحية، فأنهي شعره إِلَى عباد، وقيل:
مَا أراد غيرك، فطلبه عباد، فهرب مِنْهُ، وهجاه بقصائد كثيرة، فكان مما هجاه بِهِ قوله:

إذا أودى مُعَاوِيَة بن حرب *** فبشر شعب قعبك بانصداع
فأشهد أن أمك لم تباشر *** أبا سُفْيَان واضعة القناع
ولكن كَانَ أمرا فِيهِ لبس *** عَلَى وجل شديد وارتياع

وقوله:

أَلا أبلغ مُعَاوِيَة بن حرب *** مغلغلة من الرجل اليماني
أتغضب أن يقال أبوك عف *** وترضى ان يقال ابوك زان!
فأشهد أن رحمك من زياد *** كرحم الفيل من ولد الأتان

فَحَدَّثَنِي أَبُو زَيْد، قَالَ: لما هجا ابن المفرغ عبادا فارقه مقبلا إِلَى الْبَصْرَة، وعبيد اللَّه يَوْمَئِذٍ وافد عَلَى مُعَاوِيَة، فكتب عباد إِلَى عُبَيْد اللَّهِ ببعض مَا هجاه بِهِ، فلما قرأ عُبَيْد اللَّهِ الشعر دخل عَلَى مُعَاوِيَة فأنشده إِيَّاهُ، واستأذنه فِي قتل ابن مفرغ، فأبى عَلَيْهِ أن يقتله، وَقَالَ: أدبه وَلا تبلغ بِهِ القتل، وقدم ابن مفرغ الْبَصْرَة، فاستجار بالأحنف بن قيس، فَقَالَ: إنا لا نجير عَلَى ابن سمية، فإن شئت كفيتك شعراء بني تميم، قَالَ: ذاك مَا لا أبالي أن أكفاه، فأتى خَالِد بن عَبْدِ اللَّهِ فوعده، وأتى أُمَيَّة فوعده، ثُمَّ أتى عُمَر بن عُبَيْد اللَّهِ بن معمر فوعده، ثُمَّ أتى المنذر بن الجارود فأجاره، وأدخله داره، وكانت بحرية بنت المنذر عِنْدَ عُبَيْد اللَّهِ، فلما قدم عُبَيْد اللَّهِ الْبَصْرَة أخبر بمكان ابن مفرغ عِنْدَ المنذر، وأتى المنذر عُبَيْد اللَّهِ مسلما، فأرسل عُبَيْد اللَّهِ الشرط إِلَى دار المنذر، فأخذوا ابن مفرغ، فلم يشعر المنذر وَهُوَ عِنْدَ عُبَيْد اللَّهِ إلا بابن مفرغ قَدْ أقيم عَلَى رأسه، فقام إِلَى عُبَيْد اللَّهِ وَقَالَ: أيها الأمير، إني قَدْ أجرته، قَالَ: وَاللَّهِ يَا منذر ليمدحنك وأباك ويهجوني أنا وأبي، ثُمَّ تجيره علي! فأمر بِهِ فسقي دواء، ثُمَّ حمل عَلَى حمار عَلَيْهِ إكاف فجعل يطاف بِهِ وَهُوَ يسلح فِي ثيابه، فيمر بِهِ فِي الأسواق، فمر بِهِ فارسي فرآه، فسأل عنه، فَقَالَ: اين جيست؟ ففهمها ابن مفرغ، فقال:

آب است نبيذ است *** عصارات زبيب است
سميه رو سپيد است

ثم هجا المنذر بن الجارود:

تركت قريشا أن أجاور فِيهِمُ *** وجاورت عبد القيس أهل المشقر
أناس أجارونا فكان جوارهم *** أعاصير من فسو العراق المبذر
فأصبح جاري من جذيمة نائما *** وَلا يمنع الجيران غير المشمر

وَقَالَ لعبيد اللَّه:

يغسل الماء مَا صنعت وقولي *** راسخ مِنْكَ فِي العظام البوالي

ثُمَّ حمله عُبَيْد اللَّهِ إِلَى عباد بسجستان، فكلمت اليمانية فِيهِ بِالشَّامِ مُعَاوِيَة، فأرسل رسولا إِلَى عباد، فحمل ابن مفرغ من عنده حَتَّى قدم عَلَى مُعَاوِيَة، فَقَالَ فِي طريقه:

عدسْ مَا لعبّاد عَلَيْك إمارة *** نجوت وهذا تحملين طليق
لعمري لقد نجاك من هوة الردى *** إمام وحبل للأنام وثيق
سأشكر مَا أوليت من حسن نعمة *** ومثلي بشكر المنعمين حقيق

فلما دخل عَلَى مُعَاوِيَة بكى، وَقَالَ: ركب مني مَا لم يركب من مسلم عَلَى غير حدث وَلا جريرة! قَالَ: أولست القائل:

أَلا أبلغ مُعَاوِيَة بن حرب *** مغلغلة من الرجل اليماني!

القصيدة- قَالَ: لا والذي عظم حق أَمِير الْمُؤْمِنِينَ مَا قلت هَذَا، قَالَ:
أفلم تقل:

فأشهد أن أمك لم تباشر *** أبا سُفْيَان واضعة القناع

فِي أشعار كثيرة هجوت بِهَا ابن زياد! اذهب فقد عفونا لك عن جرمك، أما لو إيانا تعامل لَمْ يَكُنْ مما كَانَ شَيْء، فانطلق، وفي أي أرض شئت فانزل.
فنزل الموصل، ثُمَّ إنه ارتاح إِلَى الْبَصْرَة، فقدمها، ودخل عَلَى عُبَيْد اللَّهِ فآمنه.
وأما أَبُو عبيدة فإنه قَالَ فِي نزول ابن مفرغ الموصل عن الَّذِي أَخْبَرَنِي بِهِ أَبُو زَيْد، قَالَ: ذكر أن مُعَاوِيَة لما قَالَ لَهُ: ألست القائل:

أَلا أبلغ مُعَاوِيَة بن حرب *** مغلغلة من الرجل اليماني

الأبيات، حلف ابن مفرغ أنه لم يقله، وأنه إنما قاله عبد الرحمن بن أم الحكم أخو مَرْوَان، واتخذني ذريعة إِلَى هجاء زياد، وَكَانَ عتب عَلَيْهِ قبل ذَلِكَ، فغضب معاويه على عبد الرحمن بن أم الحكم وحرمه عطاءه، حتى اضربه، فكلم فِيهِ، فَقَالَ: لا أرضى عنه حَتَّى يرضى عُبَيْد اللَّهِ، فقدم العراق عَلَى عُبَيْد اللَّهِ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لَهُ:

لأنت زيادة فِي آل حرب *** أحب إلي من إحدى بناني
أراك أخا وعما وابن عم *** وَلا أدري بغيب مَا تراني

فَقَالَ: أراك وَاللَّهِ شاعر سوء! فرضي عنه، فَقَالَ مُعَاوِيَة لابن مفرغ:
ألست القائل:

فأشهد أن أمك لم تباشر *** أبا سُفْيَان واضعة القناع

الأبيات! لا تعودن إِلَى مثلها، عفونا عنك فأقبل حَتَّى نزل الموصل، فتزوج امرأة، فلما كَانَ فِي ليلة بنائها خرج حين أصبح إِلَى الصيد، فلقي دهانا أو عطارا عَلَى حمار لَهُ، فَقَالَ لَهُ ابن مفرغ: من أين أقبلت؟ قَالَ:
من الأهواز، قَالَ: وما فعل ماء مسرقان؟ قَالَ: عَلَى حاله، قَالَ: فخرج ابن مفرغ فتوجه قبل الْبَصْرَة، ولم يعلم أهله بمسيره، ومضى حَتَّى قدم عَلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد بِالْبَصْرَةِ، فدخل عَلَيْهِ فآمنه، ومكث عنده حَتَّى استأذنه فِي الخروج إِلَى كَرْمَان، فأذن لَهُ فِي ذَلِكَ، وكتب الى عامله هنالك بالوصاية والإكرام لَهُ، فخرج إِلَيْهَا وَكَانَ عامل عُبَيْد الله يومئذ على كرمان شريك ابن الأعور الحارثي.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عُثْمَان بن مُحَمَّدِ بْن أَبِي سُفْيَانَ، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن حدثه، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر، وكذلك قَالَ الْوَاقِدِيُّ وغيره.
وَكَانَ الوالي عَلَى الْمَدِينَة الْوَلِيد بن عتبة بن أَبِي سُفْيَانَ، وعلى الْكُوفَة النُّعْمَان بن بشير، وعلى قضائها شريح، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى قضائها هشام بن هبيرة، وعلى خراسان عبد الرحمن بن زياد، وعلى سجستان عباياد بن زياد، وعلى كَرْمَان شريك بن الأعور من قبل عُبَيْد اللَّهِ بن زياد.