90 هـ
709 م
سنة تسعين (ذكر الخبر عن الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا)

ففي هذه السنة غزا مسلمة أرض الروم- فيما ذكر مُحَمَّد بن عمر- من ناحية سورية، ففتح الحصون الخمسة التي بسورية وغزا فيها …

العباس بن الوليد، قال بعضهم: حتى بلغ الأرزن، وقال بعضهم: حتى بلغ سورية وقال مُحَمَّد بن عمر: قول من قال: حتى بلغ سورية أصح.
وفيها قتل مُحَمَّد بن القاسم الثقفى داهر بن صصة ملك السند، وهو على جيش من قبل الحجاج بن يوسف.
وفيها استعمل الوليد قرة بن شريك على مصر موضع عبد الله بن عبد الملك.
وفيها أسرت الروم خالد بن كيسان صاحب البحر، فذهبوا به إلى ملكهم، فأهداه ملك الروم إلى الوليد بن عبد الملك.

خبر فتح بخارى
وفيها فتح قتيبة بخارى، وهزم جموع العدو بها.
ذكر الخبر عن ذَلِكَ:
ذكر عَلِيّ بن مُحَمَّد أن أبا الذيال أخبره عن المهلب بن إياس، وأبو العلاء، عن إدريس بن حنظلة، أن كتاب الحجاج لما ورد على قتيبة يأمره بالتوبة مما كان، من انصرافه عن وردان خذاه ملك بخارى قبل الظفر به والمصير إليه، ويعرفه الموضع الذي ينبغي له أن يأتي بلده منه، خرج قتيبة إلى بخارى في سنة تسعين غازيا، فأرسل وردان خذاه إلى السغد والترك ومن حولهم يستنصرونهم، فأتوهم وقد سبق إليها قتيبة فحصرهم، فلما جاءتهم أمدادهم خرجوا إليهم ليقاتلوهم، فقالت الأزد: اجعلونا على حدة، وخلوا بيننا وبين قتالهم فقال قتيبة: تقدموا، فتقدموا يقاتلونهم وقتيبة جالس، عليه رداء أصفر فوق سلاحه، فصبروا جميعا مليا، ثم جال المسلمون، وركبهم المشركون فحطموهم حتى دخلوا في عسكر قتيبة وجازوه حتى ضرب النساء وجوه الخيل وبكين، فكروا راجعين، وانطوت مجنبتا المسلمين على الترك، فقاتلوهم حتى ردوهم إلى مواقفهم، فوقف الترك على نشز، فقال قتيبة: من يزيلهم لنا عن هذا الموضع؟ فلم يقدم عليهم أحد، والأحياء كلها وقوف.
فمشى قتيبة إلى بني تميم، فقال: يا بني تميم، إنكم أنتم بمنزلة الحطمية، فيوم كأيامكم، أبي لكم الفداء! قال: فأخذ وكيع اللواء بيده، وقال:
يا بني تميم، أتسلمونني اليوم؟ قالوا: لا يا أبا مطرف- وهريم بن أبي طحمة المجاشعي على خيل بني تميم ووكيع رأسهم، والناس وقوف- فأحجموا جميعا، فقال وكيع: يا هريم، قدم، ودفع إليه الراية، وقال:
قدم خيلك فتقدم هريم، ودب وكيع في الرجال، فانتهى هريم إلى نهر بينه وبين العدو فوقف، فقال له وكيع: اقحم يا هريم، قال: فنظر هريم إلى وكيع نظر الجمل الصئول وقال: أنا أقحم خيلي هذا النهر، فإن انكشفت كان هلاكها! والله انك لاحمق، قال: يا بن اللخناء، ألا أراك ترد أمري! وحذفه بعمود كان معه، فضرب هريم فرسه فأقحمه، وقال:
ما بعد هذا أشد من هذا، وعبر هريم في الخيل، وانتهى وكيع إلى النهر، فدعا بخشب، فقنطر النهر وقال لأصحابه: من وطن منكم نفسه على الموت فليعبر، ومن لا فليثبت مكانه، فما عبر معه إلا ثمانمائه راجل، فدب فيهم حتى إذا أعيوا أقعدهم فأراحوا حتى دنا من العدو، فجعل الخيل مجنبتين، وقال لهريم: إني مطاعن القوم، فاشغلهم عنا بالخيل، وقال للناس: شدوا، فحملوا فما انثنوا حتى خالطوهم، وحمل هريم خيله عليهم فطاعنوهم بالرماح، فما كفوا عنهم حتى حدروهم عن موقفهم، ونادى قتيبة: أما ترون العدو منهزمين! فما عبر أحد ذلك النهر حتى ولى العدو منهزمين، فأتبعهم الناس، ونادى قتيبة: من جاء برأس فله مائة.
قال: فزعم موسى بن المتوكل القريعي، قال: جاء يومئذ أحد عشر رجلا من بني قريع، كل رجل يجيء برأس، فيقال له: من أنت؟
يقول: قريعي قال: فجاء رجل من الأزد برأس فألقاه، فقالوا له: من أنت؟ قال: قريعي، قال: وجهم بن زحر قاعد، فقال: كذب والله أصلحك الله! إنه لابن عمي، فقال له قتيبة: ويحك! ما دعاك إلى هذا؟
قال: رايت كل من جاء قريعي: فظننت أنه ينبغي لكل من جاء برأس أن يقول: قريعي قال: فضحك قتيبة.
قال: وجرح يومئذ خاقان وابنه، ورجع قتيبة إلى مرو، وكتب إلى الحجاج: أني بعثت عبد الرحمن بن مسلم، ففتح الله على يديه.
قال: وقد كان شهد الفتح مولى للحجاج، فقدم فأخبره الخبر، فغضب الحجاج على قتيبة، فاغتم لذلك، فقال له الناس ابعث وفدا من بني تميم وأعطهم وأرضهم يخبروا الأمير أن الأمر على ما كتبت، فبعث رجالا فيهم عرام بن شتير الضبي، فلما قدموا على الحجاج صاح بهم وعاتبهم ودعا بالحجام بيده مقراض فقال: لأقطعن ألسنتكم أو لتصدقنني، قالوا:
الأمير قتيبة، وبعث عليهم عبد الرحمن، فالفتح للأمير والرأس الذي يكون على الناس، وكلمه بهذا عرام بن شتير، فسكن الحجاج خبر صلح قتيبة مع السغد
وفي هذه السنة جدد قتيبة الصلح بينه وبين طرخون ملك السغد.
ذكر الخبر عن ذلك:
قال علي: ذكر أبو السري عن الجهم الباهلي، قال: لما أوقع قتيبة بأهل بخارى ففض جمعهم هابه أهل السغد، فرجع طرخون ملك السغد ومعه فارسان حتى وقف قريبا من عسكر قتيبة، وبينهما نهر بخارى، فسأل أن يبعث إليه رجلا يكلمه، فأمر قتيبة رجلا فدنا منه.
وأما الباهليون فيقولون: نادى طرخون حيان النبطي فأتاه، فسألهم الصلح على فدية يؤديها إليهم، فأجابه قتيبة إلى ما طلب، وصالحه، وأخذ منه رهنا حتى يبعث إليه بما صالحه عليه، وانصرف طرخون الى بلاده، ورجع قتيبة ومعه نيزك.

غدر نيزك
وفي هذه السنة غدر نيزك، فنقض الصلح الذي كان بينه وبين المسلمين وامتنع بقلعته، وعاد حربا، فغزاه قتيبة.
ذكر الخبر عن سبب غدره وسبب الظفر به:
قال علي: ذكر أبو الذيال، عن المهلب بن إياس والمفضل الضبي، عن أبيه، وعلي بن مجاهد وكليب بن خلف العمي، كل قد ذكر شيئا فألفته، وذكر الباهليون شيئا فألحقته في خبر هؤلاء وألفته، أن قتيبة فصل من بخارى ومعه نيزك وقد ذعره ما قد رأى من الفتوح، وخاف قتيبة، فقال: لأصحابه وخاصته: متهم أنا مع هذا، ولست آمنه، وذلك أن العربي بمنزلة الكلب، إذا ضربته نبح، وإذا أطعمته بصبص واتبعك، وإذا غزوته ثم أعطيته شيئا رضي، ونسي ما صنعت به، وقد قاتله طرخون مرارا، فلما أعطاه فدية قبلها ورضي، وهو شديد السطوة فاجر فلو استأذنت ورجعت كان الرأي، قالوا: استأذنه فلما كان قتيبة بآمل استأذنه في الرجوع الى تخارستان، فأذن له، فلما فارق عسكره متوجها إلى بلخ قال لأصحابه: أغذوا السير، فساروا سيرا شديدا حتى أتوا النوبهار، فنزل يصلي فيه وتبرك به وقال لأصحابه: إني لا أشك أن قتيبة قد ندم حين فارقنا عسكره على إذنه لي، وسيقدم الساعة رسوله على المغيرة بن عبد الله يأمره بحبسي، فأقيموا ربيئة تنظر، فإذا رأيتم الرسول قد جاوز المدينة وخرج من الباب فإنه لا يبلغ البروقان حتى نبلغ تخارستان، فيبعث المغيرة رجلا فلا يدركنا حتى ندخل شعب خلم، ففعلوا.
قال: وأقبل رسول من قبل قتيبة إلى المغيرة يأمره بحبس نيزك فلما مر الرسول إلى المغيرة وهو بالبروقان- ومدينة بلخ يومئذ خراب- ركب نيزك وأصحابه فمضوا، وقدم الرسول على المغيرة فركب بنفسه في طلبه، فوجده قد دخل شعب خلم، فانصرف المغيرة، وأظهر نيزك الخلع، وكتب إلى أصبهبذ بلخ وإلى باذام ملك مروروذ، وإلى سهرب ملك الطالقان، وإلى ترسل ملك الفارياب، وإلى الجوزجاني ملك الجوزجان يدعوهم إلى خلع قتيبة، فأجابوه، وواعدهم الربيع أن يجتمعوا ويغزوا قتيبة.
وكتب إلى كابل شاه يستظهر به، وبعث إليه بثقله.
وماله، وسأله أن يأذن له إن اضطر إليه أن يأتيه ويؤمنه في بلاده، فأجابه إلى ذلك وضم ثقله قال: وكان جبغويه ملك تخارستان ضعيفا، واسمه الشذ، فأخذه نيزك فقيده بقيد من ذهب مخافه ان يشغب عليه- وجبغويه ملك تخارستان ونيزك من عبيده- فلما استوثق منه وضع عليه الرقباء، وأخرج عامل قتيبة من بلاد جبغويه، وكان العامل مُحَمَّد بن سليم الناصح، وبلغ قتيبة خلعه قبل الشتاء، وقد تفرق الجند فلم يبق مع قتيبة إلا أهل مرو، فبعث عبد الرحمن أخاه إلى بلخ في اثني عشر ألفا إلى البروقان، وقال: أقم بها، ولا تحدث شيئا، فإذا حسر الشتاء فعسكر وسر نحو تخارستان، واعلم أني قريب منك، فسار عبد الرحمن فنزل البروقان، وأمهل قتيبة حتى إذا كان في آخر الشتاء كتب إلى أبرشهر وبيورد وسرخس واهل هراة ليقدموا قبل أوانهم الذي كانوا يقدمون عليه فيه.

خبر فتح الطالقان
وفي هذه السنة، أوقع قتيبة بأهل الطالقان بخراسان- فيما قال بعض أهل الأخبار- فقتل من أهلها مقتلة عظيمة، وصلب منهم سماطين أربعة فراسخ في نظام واحد.
ذكر الخبر عن سبب ذلك:
وكان السبب في ذلك- فيما ذكر- أن نيزك طرخان لما غدر وخلع قتيبة وعزم على حربه، طابقه على حربه ملك الطالقان، وواعده المصير اليه من استجاب للنهوض معه من الملوك لحرب قتيبة، فلما هرب نيزك من قتيبة ودخل شعب خلم الذي يأخذ إلى طخارستان علم أنه لا طاقة له بقتيبة، فهرب، وسار قتيبة إلى الطالقان فأوقع بأهلها، ففعل ما ذكرت فيما قبل.
وقد خولف قائل هذا القول فيما قال من ذلك، وأنا ذاكره في أحداث سنة إحدى وتسعين.
وحج بالناس في هذه السنة عمر بن عبد العزيز، كذلك حدثنى احمد ابن ثَابِت عمن ذكره، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر وكذلك قَالَ محمد بْن عمر.
وكان عمر بن عبد العزيز في هذه السنة عامل الوليد بن عبد الملك على مكة والمدينة والطائف وعلى العراق والمشرق الحجاج بن يوسف، وعامل الحجاج على البصرة الجراح بن عبد الله بن وعلى قضائها عبد الرحمن بن أذينة، وعلى الكوفة زياد بن جرير بن عبد الله وعلى قضائها أبو بكر بن أبي موسى.
وعلى خراسان قتيبة بن مسلم وعلى مصر قره بن قره بن شريك.

هرب يزيد بن المهلب واخوته من سجن الحجاج
وفي هذه السنة هرب يزيد بن المهلب وإخوته الذين كانوا معه في السجن مع آخرين غيرهم، فلحقوا بسُلَيْمَان بن عبد الملك مستجيرين به من الحجاج ابن يوسف، والوليد بن عبد الملك.
ذكر الخبر عن سبب تخلصهم من سجن الحجاج ومسيرهم إلى سُلَيْمَان:
قال هشام: حدثني أبو مخنف، عن ابى المخارق الراسبى، قال:
الحجاج إلى رستقباذ للبعث، لأن الأكراد كانوا قد غلبوا على عامة أرض فارس، فخرج بيزيد وبإخوته المفضل وعبد الملك حتى قدم بهم رستقباذ، فجعلهم في عسكره، وجعل عليهم كهيئة الخندق، وجعلهم في فسطاط قريبا من حجرته، وجعل عليهم حرسا من أهل الشام، وأغرمهم ستة آلاف ألف، وأخذ يعذبهم، وكان يزيد يصبر صبرا حسنا، وكان الحجاج يغيظه ذلك، فقيل له: إنه رمي بنشابة فثبت نصلها في ساقه، فهو لا يمسها شيء إلا صاح، فإن حركت أدنى شيء سمعت صوته، فأمر أن يعذب ويدهق ساقه، فلما فعل ذلك به صاح، وأخته هند بنت المهلب عند الحجاج، فلما سمعت صياح يزيد صاحت وناحت، فطلقها ثم إنه كف عنهم، وأقبل يستأديهم، فأخذوا يؤدون وهم يعملون في التخلص من مكانهم، فبعثوا إلى مروان بن المهلب وهو بالبصرة يأمرونه أن يضمر لهم الخيل، ويري الناس أنه إنما يريد بيعها ويعرضها على البيع، ويغلي بها لئلا تشترى فتكون لنا عدة إن نحن قدرنا على ان ننجو مما هاهنا ففعل ذلك مروان، وحبيب بالبصرة يعذب أيضا، وأمر يزيد بالحرس فصنع لهم طعام كثير فأكلوا، وأمر بشراب فسقوا، فكانوا متشاغلين به، ولبس يزيد ثياب طباخه، ووضع على لحيته لحيه بيضاء، وخرج فرآه بعض الحرس فقال: كأن هذه مشية يزيد! فجاء حتى استعرض وجهه ليلا، فرأى بياض اللحية، فانصرف عنه، فقال: هذا شيخ وخرج المفضل على أثره، ولم يفطن له، فجاءوا إلى سفنهم وقد هيئوها في البطائح، وبينهم وبين البصرة ثمانية عشر فرسخا، فلما انتهوا إلى السفن أبطأ عليهم عبد الملك وشغل عنهم، فقال يزيد للمفضل: اركب بنا فإنه لاحق، فقال المفضل- وعبد الملك أخوه لأمه- وهي بهلة، هندية:
لا والله، لا أبرح حتى يجيء ولو رجعت إلى السجن فأقام يزيد حتى جاءهم عبد الملك، وركبوا عند ذلك السفن، فساروا ليلتهم حتى أصبحوا، ولما أصبح الحرس علموا بذهابهم، فرفع ذلك إلى الحجاج، وقال الفرزدق في خروجهم:

فلم أر كالرهط الذين تتابعوا *** على الجذع والحراس غير نيام
مضوا وهم مستيقنون بأنهم *** إلى قدر آجالهم وحمام
وإن منهمُ إلا يسكّن جأشه *** بعضب صقيل صارم وحسام
فلما التقوا لم يلتقوا بمنفه *** كبير ولا رخص العظام غلام
بمثل أبيهم حين تمت لداتهم *** لخمسين قل في جرأة وتمام

ففزع له الحجاج، وذهب وهمه أنهم ذهبوا قبل خراسان، وبعث البريد إلى قتيبة بن مسلم يحذره قدومهم، ويأمره أن يستعد لهم، وبعث إلى أمراء الثغور والكور أن يرصدوهم، ويستعدوا لهم، وكتب إلى الوليد بن عبد الملك يخبره بهربهم، وأنه لا يراهم أرادوا إلا خراسان ولم يزل الحجاج يظن بيزيد ما صنع، كان يقول: إني لأظنه يحدث نفسه بمثل الذي صنع ابن الأشعث.
ولما دنا يزيد من البطائح، من موقوع استقبلته الخيل قد هيئت له ولإخوته، فخرجوا عليها ومعهم دليل لهم من كلب يقال له: عبد الجبار بن يزيد بن الربعة، فأخذ بهم على السماوة، وأتى الحجاج بعد يومين، فقيل له: إنما أخذ الرجل طريق الشام، وهذه الخيل حسرى في الطريق، وقد أتى من رآهم موجهين في البر، فبعث إلى الوليد يعلمه ذلك، ومضى يزيد حتى قدم فلسطين، فنزل على وهيب بن عبد الرحمن الأزدي- وكان كريما على سُلَيْمَان- وأنزل بعض ثقله وأهله على سفيان بن سُلَيْمَان الأزدي، وجاء وهيب بن عبد الرحمن حتى دخل على سُلَيْمَان، فقال: هذا يزيد بن المهلب، وإخوته في منزلي، وقد أتوك هرابا من الحجاج متعوذين بك، قال: فأتني بهم فهم آمنون لا يوصل إليهم أبدا وأنا حي فجاء بهم حتى أدخلهم عليه، فكانوا في مكان آمن، وقال الكلبي دليلهم في مسيرهم:

ألا جعل الله الأخلاء كلهم *** فداء على ما كان لابن المهلب
لنعم الفتى يا معشر الأزد أسعفت *** ركابكمُ بالوهب شرقي منقب
عدلن يمينا عنهمُ رمل عالج *** وذات يمين القوم أعلام غرب
فإلا تصبح بعد خمس ركابنا *** سُلَيْمَان من أهل اللوى تتأوب
تقر قرار الشمس مما وراءنا *** وتذهب في داج من الليل غيهب
بقوم همُ كانوا الملوك هديتهم *** بظلماء لم يبصر بها ضوء كوكب
ولا قمر إلا ضئيلا كأنه *** سوار حناه صائغ السور مذهب

قال هشام: فأخبرني الحسن بن ابان العليمي، قال: بينا عبد الجبار ابن يزيد بن الربعة يسري بهم فسقطت عمامة يزيد، ففقدها فقال:
يا عبد الجبار، ارجع فاطلبها لنا، قال: إن مثلي لا يؤمر بهذا، فأعاد، فأبى، فتناوله بالسوط، فانتسب له، فاستحيا منه، فذلك قوله:

ألا جعل الله الأخلاء كلهم *** فداء على ما كان لابن المهلب

وكتب الحجاج: أن آل المهلب خانوا مال الله وهربوا مني ولحقوا بسُلَيْمَان، وكان آل المهلب قدموا على سُلَيْمَان، وقد أمر الناس أن يحصلوا ليسرحوا إلى خراسان، لا يرون إلا أن يزيد توجه إلى خراسان ليفتن من بها فلما بلغ الوليد مكانه عند سُلَيْمَان هون عليه بعض ما كان في نفسه، وطار غضبا للمال الذي ذهب به وكتب سُلَيْمَان إلى الوليد: أن يزيد بن المهلب عندي وقد آمنته، وإنما عليه ثلاثة آلاف ألف، كان الحجاج أغرمهم ستة آلاف ألف فأدوا ثلاثة آلاف ألف، وبقي ثلاثة آلاف ألف، فهي علي فكتب إليه: لا والله لا اؤمنه حتى تبعث به إلي فكتب إليه: لئن أنا بعثت به إليك لأجيئن معه، فأنشدك الله ان تفضحني ولا ان تخفرني فكتب إليه: والله لئن جئتني لا أومنه فقال يزيد: ابعثني اليه، فو الله ما أحب أوقع بينك وبينه عداوة وحربا، ولا أن يتشاءم بي لكما الناس، ابعث إليه بي، وأرسل معي ابنك، واكتب إليه بألطف ما قدرت عليه فأرسل ابنه أيوب معه وكان الوليد أمره أن يبعث به إليه في وثاق، فبعث به إليه، وقال لابنه: إذا أردت أن تدخل عليه فادخل أنت ويزيد في سلسلة ثم ادخلا جميعا على الوليد، ففعل ذلك به حين انتهيا إلى الوليد، فدخلا عليه، فلما رأى الوليد ابن أخيه في سلسلة، قال: والله لقد بلغنا من سُلَيْمَان! ثم إن الغلام دفع كتاب أبيه إلى عمه وقال: يا أمير المؤمنين، نفسي فداؤك! لا تخفر ذمة أبي، وأنت أحق من منعها، ولا تقطع منا رجاء من رجا السلامة في جوارنا لمكاننا منك، ولا تذل من رجا العز في الانقطاع إلينا لعزنا بك وقرأ الكتاب:
لعبد الله الوليد أمير المؤمنين من سُلَيْمَان بن عبد الملك اما بعد يا امير المؤمنين، فو الله إن كنت لأظن لو استجار بي عدو قد نابذك وجاهدك فأنزلته وأجرته أنك لا تذل جارى، ولا تخفر جواري، بله لم أجر إلا سامعا مطيعا حسن البلاء والأثر في الإسلام هو وأبوه وأهل بيته، وقد بعثت به إليك، فإن كنت إنما تغزو قطيعتي والإخفار لذمتي، والإبلاغ في مساءتي، فقد قدرت إن أنت فعلت وأنا أعيذك بالله من احتراد قطيعتي، وانتهاك حرمتي وترك بري وصلتي، فو الله يا أمير المؤمنين ما تدري ما بقائي وبقاؤك، ولا متى يفرق الموت بيني وبينك! فإن استطاع أمير المؤمنين أدام الله سروره الا يأتي علينا أجل الوفاة إلا وهو لي واصل، ولحقي مؤد، وعن مساءتي نازع، فليفعل.
والله يا أمير المؤمنين ما أصبحت بشيء من أمر الدنيا بعد تقوى الله فيها بأسر مني برضاك وسرورك وإن رضاك مما ألتمس به رضوان الله، فإن كنت يا أمير المؤمنين تريد يوما من الدهر مسرتي وصلتي وكرامتي وإعظام حقي فتجاوز لي عن يزيد، وكل ما طلبته به فهو علي.
فلما قرأ كتابه، قال: لقد شققنا على سُلَيْمَان! ثم دعا ابن أخيه فأدناه منه وتكلم يزيد فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وصلى عَلَى نبيه صلى الله عليه وسلم ثم قال:
يا أمير المؤمنين، إن بلاءكم عندنا أحسن البلاء، فمن ينس ذلك فلسنا ناسيه، ومن يكفر فلسنا كافريه، وقد كان من بلائنا أهل البيت في طاعتكم والطعن في أعين أعدائكم في المواطن العظام في المشارق والمغارب ما إن المنة علينا فيها عظيمة.
فقال له: اجلس، فجلس فآمنه وكف عنه، ورجع إلى سُلَيْمَان وسعى إخوته في المال الذي عليه، وكتب إلى الحجاج:
أني لم أصل إلى يزيد وأهل بيته مع سُلَيْمَان، فاكفف عنهم، واله عن الكتاب إلي فيهم.
فلما رأى ذلك الحجاج كف عنهم وكان أبو عيينة بن المهلب عند الحجاج عليه ألف ألف درهم، فتركها له، وكف عن حبيب بن المهلب.
ورجع يزيد إلى سُلَيْمَان بن عبد الملك فأقام عنده يعلمه الهيئة، ويصنع له طيب الأطعمة، ويهدي له الهدايا العظام وكان من أحسن الناس عنده منزلة، وكان لا تأتي يزيد بن المهلب هدية إلا بعث بها إلى سُلَيْمَان، ولا تأتي سُلَيْمَان هدية ولا فائدة إلا بعث بنصفها إلى يزيد بن المهلب، وكان لا تعجبه جارية إلا بعث بها إلى يزيد إلا خطيئة الجارية فبلغ ذلك الوليد بن عبد الملك، فدعا الحارث بن مالك بن ربيعة الأشعري، فقال:
انطلق إلى سُلَيْمَان فقل له: يا خالفة أهل بيته، إن أمير المؤمنين قد بلغه أنه لا تأتيك هدية ولا فائدة إلا بعثت إلى يزيد بنصفها، وأنك تأتي الجارية من جواريك فلا ينقضي طهرها حتى تبعث بها إلى يزيد، وقبح ذلك عليه، وعيره به، أتراك مبلغا ما أمرتك به؟ قال: طاعتك طاعة، وإنما أنا رسول، قال: فأته فقل له ذلك، وأقم عنده، فإني باعث إليه بهدية فادفعها إليه، وخذ منه البراءة بما تدفع إليه ثم أقبل فمضى حتى قدم عليه وبين يديه المصحف، وهو يقرأ، فدخل عليه فسلم، فلم يرد ع حتى فرغ من قراءته، ثم رفع رأسه إليه فكلمه بكل شيء أمره به الوليد، فتمعر وجهه، ثم قال: أما والله لئن قدرت عليك يوما من الدهر لأقطعن منك طابقا! فقال له: إنما كانت علي الطاعة ثم خرج من عنده فلما أتى بذلك الذي بعث به الوليد إلى سُلَيْمَان دخل عليه الحارث بن ربيعة الأشعري وقال له: أعطني البراءة بهذا الذي دفعت إليك، فقال: كيف قلت لي؟ قال: لا اعيده عالما أبدا، إنما كان علي فيه الطاعة فسكن، وعلم أن قد صدقه الرجل، ثم خرج وخرجوا معه، فقال: خذوا نصف هذه الأعدال وهذه الأسفاط وابعثوا بها إلى يزيد قال: فعلم الرجل أنه لا يطيع في يزيد أحدا، ومكث يزيد بن المهلب عند سُلَيْمَان تسعة أشهر وتوفي الحجاج سنة خمس وتسعين في رمضان لتسع بقين منه في يوم الجمعه.