232 هـ
846 م
سنة اثنتين وثلاثين ومائتين (ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث)

ذكر الخبر عن مسير بغا الكبير الى حرب بنى نمير.
فمن ذلك ما كان من مسير بغا الكبير إلى بني نمير حتى أوقع بهم …


ذكر الخبر عن سبب مسيره إليهم وكيف كان الأمر بينه وبينهم:
حدثني أحمد بن محمد بن مخلد بمعظم خبرهم، وذكر أنه كان مع بغا في ذلك السفر، وأما سياق الكلام فلغيره ذكر أن سبب شخوص بغا إلى بني نمير كان أن عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير بن الخطفى امتدح الواثق بقصيدة، فدخل عليه فأنشده إياها، فامر له بثلاثين الف درهم، وبنزل فكلم عمارة الواثق في بني نمير، وأخبره بعبثهم وفسادهم في الأرض، وإغارتهم على الناس وعلى اليمامة وما قرب منها، فكتب الواثق إلى بغا يأمره بحربهم.
فذكر أحمد بن محمد أن بغا لما أراد الشخوص من المدينة إليهم حمل معه محمد بن يوسف الجعفري دليلا له على الطريق، فمضى نحو اليمامة يريدهم، فلقي منهم جماعة بموضع يقال له الشريف، فحاربوه، فقتل بغا منهم نيفا وخمسين رجلا، وأسر نحوا من أربعين، ثم سار إلى حظيان، ثم سار إلى قرية لبني تميم من عمل اليمامة تدعى مرأة، فنزل بها، ثم تابع إليهم رسله، يعرض عليهم الأمان، ودعاهم إلى السمع والطاعة، وهم في ذلك يمتنعون عليه، ويشتمون رسله، ويتفلتون إلى حربه، حتى كان آخر من وجه إليهم رجلين، أحدهما من بني عدي من تميم والآخر من بني نمير، فقتلوا التميمي وأثبتوا النميري جراحا، فسار بغا إليهم من مرأة وكان مسيره إليهم في أول صفر من سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، فورد بطن نخل، وسار حتى دخل نخيلة، وأرسل إليهم أن ائتوني، فاحتملت بنو ضبة من نمير، فركبت جبالها مياسر جبال السود- وهو جبل خلف اليمامة أكثر أهله باهلة- فأرسل إليهم فأبوا أن يأتوه، فأرسل إليهم سرية فلم تدركهم، فوجه سرايا، فأصابت فيهم وأسرت منهم.
ثم إنه أتبعهم بجماعة من معه وهم نحو من ألف رجل سوى من تخلف في العسكر من الضعفاء والأتباع، فلقيهم وقد جمعوا له، وحشدوا لحربه، وهم يومئذ نحو من ثلاثة آلاف، بموضع يقال له روضة الأبان وبطن السر من القرنين على مرحلتين، ومن أضاخ على مرحلة، فهزموا مقدمته، وكشفوا ميسرته، وقتلوا من أصحابه نحوا من مائة وعشرين أو مائة وثلاثين رجلا، وعقروا من ابل عسكره نحوا من سبعمائة بعير ومائة دابة، وانتهبوا الأثقال وبعض ما كان مع بغا من الأموال.
قال لي أحمد: لقيهم بغا وهجم عليهم، وغلبه الليل، فجعل بغا يناشدهم، ويدعوهم إلى الرجوع وإلى طاعه امير المؤمنين، ويكلمهم بذلك محمد ابن يوسف الجعفري، فجعلوا يقولون له: يا محمد بن يوسف، قد والله ولدناك فما رعيت حرمه الرحيم، ثم جئتنا بهؤلاء العبيد والعلوج تقاتلنا بهم! والله لنرينك العبر، ونحو ذلك من القول فلما دنا الصبح قال محمد بن يوسف لبغا: أوقع بهم من قبل أن يضيء الصبح، فيروا قلة عددنا، فيجترئوا علينا، فأبى بغا عليه، فلما أضاء الصبح ونظروا إلى عدد من مع بغا- وكانوا قد جعلوا رجالتهم أمامهم وفرسانهم وراءهم ونعمهم ومواشيهم من ورائهم- حملوا علينا، فهزمونا حتى بلغت هزيمتنا معسكرنا، وأيقنا بالهلكة.
قال: وكان قد بلغ بغا أن خيلا لهم بمكان من بلادهم، فوجه من أصحابه نحوا من مائتي فارس إليها قال: فبينا نحن فيما نحن فيه من الإشراف على العطب، وقد هزم بغا ومن معه إذ خرجت الجماعة التي كان بغا وجهها من الليل إلى تلك الخيل، وقد أقبلت منصرفة من الموضع الذي وجهت إليه من العسكر في ظهور بني نمير، وقد فعلوا ما فعلوا ببغا وأصحابه، فنفخوا في صفاراتهم، فلما سمعوا نفخ الصفارات، ونظروا إلى من خرج عليهم في أدبارهم، قالوا: غدر والله العبد، وولوا هاربين، وأسلم فرسانهم رجالتهم بعد أن كانوا على غاية المحاماة عليهم.
قال لي أحمد بن محمد: فلم يفلت من رجالتهم كثير احد، حتى قتلوا عن آخرهم، وأما الفرسان فطاروا هرابا على ظهور الخيل.
وأما غير أحمد بن محمد فإنه قال: لم تزل الهزيمة على بغا وأصحابه منذ غدوة إلى انتصاف النهار، وذلك يوم الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من جمادى الآخرة سنة ثنتين وثلاثين ومائتين، ثم تشاغلوا بالنهب وعقر الإبل والدواب حتى ثاب إلى بغا من كان انكشف من أصحابه، واجتمع إليه من كان تفرق عنه، فكروا على بني نمير، فهزمهم وقتل منهم منذ زوال الشمس إلى وقت العصر زهاء ألف وخمسمائة رجل وأقام بغا بموضع الوقعة على الماء المعروف ببطن السر، حتى جمعت له رءوس من قتل من بني نمير، واستراح هو وأصحابه ثلاثة أيام.
فحدثني أحمد بن محمد أن من هرب من فرسان بني نمير من الوقعة أرسلوا إلى بغا يطلبون منه الأمان، فأعطاهم الأمان، فصاروا إليه، فقيدهم وأشخصهم معه.
وأما غيره فإنه قال: سار بغا من موضع الوقعة في طلب من شذ عنه منهم، فلم يدرك إلا الضعيف ممن لم يكن له نهوض منهم وبعض المواشي والنعم، ورجع إلى حصن باهلة قال: وإنما قاتل بغا من بني نمير بنو عبد الله بن نمير وبنو بسره وبلحجاج وبنو قطن وبنو سلاه وبنو شريح وبطون من الخوالف- وهم من بني عبد الله بن نمير، ولم يكن في القتال من بني عامر بن نمير إلا القليل- وبنو عامر بن نمير أصحاب نخل وشاء، وليسوا أصحاب خيل، وعبد الله بن نمير هي التي تحارب العرب- فقال عماره ابن عقيل لبغا:

تركت الأعقفين وبطن قو *** وملأت السجون من القماش

فحدثني أحمد بن محمد أن الذين دخلوا إلى بغا بالأمان من بني نمير لما قيدهم وحبسهم وأشخصهم معه شغبوا في الطريق، وحاولوا كسر قيودهم والهرب، فأمر بإحضارهم واحدا بعد واحد، فكان إذا حضر الواحد يضربه ما بين الاربعمائه الى الخمسمائة وأقل من ذلك وأكثر، فزعم أحمد أنه حضر ضربهم ولم ينطق منهم ناطق يتوجع من الضرب، وأنه أحضر منهم شيخ قد علق في عنقه مصحفا، ومحمد بن يوسف جالس إلى جنب بغا، فضحك منه محمد بن يوسف، وقال لبغا: هذا أخبث ما كان- أصلحك الله- حين علق المصحف في عنقه! فضربه أربعمائة او خمسمائة، فما توجع وما استغاث.
وذكر أن فارسا من بني نمير لقي بغا في وقعتهم التي ذكرت امرها يدعى المجنون، فطعن بغا ورمى المجنون رجل من الأتراك فأفلت، وعاش أياما ثلاثة، ثم مات من رميته.
قال: ثم قدم عليه واجن الاشروسنى الصغدي في سبعمائة رجل مددا له من الأشروسنية الإشتيخنية، فوجهه بغا ومحمد بن يوسف الجعفري في أثرهم، فلم يزل يتبعهم حتى وغلوا في البلاد، وصاروا بتبالة وما يليها من حد عمل اليمن وفاتوه، فانصرف ولم يصر في يديه منهم إلا ستة نفر أو سبعة، وأقام بحصن باهلة، ووجه إلى جبال بني نمير وسهلها من هلان والسود وغيرها من عمل اليمامة سرايا في محاربه من امتنع ممن قبل الامان منهم، فقتلوا جماعة وأسروا جماعة، وأقبل عدة من ساداتهم، كلهم يطلب الامان لنفسه والبطن الذي هو منه، فقبل ذلك منهم وبسطهم وآنسهم، ولم يزل مقيما إلى أن جمع إليه كل من ظن أنه كان في هذه النواحي منهم، وأخذ منهم زهاء ثمانمائه رجل، فأثقلهم بالحديد وحملهم إلى البصرة، في ذي القعدة من سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وكتب إلى صالح العباسي بالمسير بمن قبله في المدينة من بني كلاب وفزارة ومرة وثعلبة وغيرهم واللحاق به، فوافاه صالح العباسي ببغداد، وصاروا جميعا في المحرم إلى سامرا سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، وكانت عدة من قدم به بغا وصالح العباسي من الأعراب سوى من مات منهم وهرب وقتل في هذه الوقائع التي وصفناها الفى رجل ومائتي رجل من بني نمير ومن بني كلاب ومن مرة وفزارة ومن ثعلبة وطيئ وفي هذه السنة أصاب الحاج في المرجع عطش شديد في اربعه منازل الى الربذة، فبلغت الشربة عدة دنانير ومات خلق كثير من العطش.
وفيها ولي محمد بن إبراهيم بن مصعب فارس.
وفيها أمر الواثق بترك جباية أعشار سفن البحر.
وفيها اشتد البرد في نيسان حتى جمد الماء لخمس خلون منه.

ذكر خبر موت الواثق
وفيها مات الواثق.

ذكر الخبر عن العلة التي كانت بها وفاته:
ذكر لي جماعة من أصحابنا أن علته التي توفي منها كانت الاستسقاء، فعولج بالإقعاد في تنور مسخن، فوجد لذلك راحة وخفة مما كان به، فأمرهم من غد ذلك اليوم بزيادة في إسخان التنور، ففعل ذلك وقعد فيه أكثر من قعوده في اليوم الذي قبله، فحمي عليه، فأخرج منه، وصير في محفة، وحضره الفضل بن إسحاق الهاشمي وعمر بن فرج وغيرهم، ثم حضر ابن الزيات وابن أبي دواد، فلم يعلموا بموته حتى ضرب بوجهه المحفة، فعلموا أنه قد مات.
وقد قيل: إن احمد بن ابى دواد حضره وقد أغمي عليه، فقضي وهو عنده فأقبل يغمضه ويصلح من شأنه وكانت وفاته لست بقين من ذي الحجة ودفن في قصره بالهاروني وكان الذي صلى عليه وأدخله قبره وتولى أمره أحمد بن أبي دواد، وكان الواثق امر احمد بن ابى دواد أن يصلي بالناس يوم الأضحى في المصلى، فصلى بهم العيد، لأن الواثق كان شديد العلة فلم يقدر على الحضور إلى المصلى، ومات من علته تلك.

ذكر الخبر عن صفه الواثق وسنه وقدر مده خلافته
ذكر من رآه وشاهده انه كان أبيض مشربا حمرة، جميلا ربعة، حسن الجسم، قائم العين اليسرى، وفيها نكتة بياض.
وتوفي- فيما زعم بعضهم- وهو ابن ست وثلاثين سنة، وفي قول بعضهم: وهو ابن اثنتين وثلاثين سنة، فقال الذين زعموا أنه كان ابن ست وثلاثين: كان مولده سنة ست وتسعين ومائة، وكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وخمسة أيام وقال بعضهم: وسبعة أيام واثنتي عشرة ساعة.
وكان ولد بطريق مكة، وأمه أم ولد رومية، يقال لها قراطيس.
واسمه هارون وكنيته أبو جعفر.
وذكر أنه لما اعتل علته التي مات فيها وسقي بطنه أمر بإحضار المنجمين، فأحضروا، وكان ممن حضر الحسن بن سهل، أخو الفضل بن سهل، والفضل بن إسحاق الهاشمي وإسماعيل بن نوبخت ومحمد بن موسى الخوارزمي المجوسي القطربلي وسند صاحب محمد بن الهيثم وعامة من ينظر في النجوم، فنظروا في علته ونجمه ومولده، فقالوا: يعيش دهرا طويلا، وقدروا له خمسين سنة مستقبلة، فلم يلبث إلا عشرة أيام حتى مات.

ذكر بعض أخباره
ذكر الحسين بن الضحاك أنه شهد الواثق بعد أن مات المعتصم بأيام، وقد قعد مجلسا كان أول مجلس قعده، فكان أول ما تغني به من الغناء في ذلك المجلس، ان تغنت شاريه جارية إبراهيم بن المهدي:

ما درى الحاملون يوم استقلوا *** نعشه للثواء أم للفناء
فليقل فيك باكياتك ما شئن *** صباحا ووقت كل مساء

قال: فبكى والله وبكينا حتى شغلنا البكاء عن جميع ما كنا فيه، ثم اندفع بعض المغنيين فغنى:

ودع هريرة إن الركب مرتحل *** وهل تطيق وداعا أيها الرجل!

قال: فازداد والله في البكاء، وقال: ما سمعت كاليوم قط تعزيه باب ونعى نفس، ثم ارفض ذلك المجلس.
وذكر عن عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع أن علي بن الجهم قال في الواثق بعد أن ولي الخلافة:

قد فاز ذو الدنيا وذو الدين *** بدولة الواثق هارون
أفاض من عدل ومن نائل *** ما أحسن الدنيا مع الدين!
قد عم بالإحسان في فضله *** فالناس في خفض وفي لين
ما أكثر الداعي له بالبقا *** وأكثر التالي بآمين

وقال علي بن الجهم أيضا فيه:

وثقت بالملك الواثق *** بالله النفوس
ملك يشقى به المال *** ولا يشقى الجليس
أنس السيف به واستوحش *** العلق النفيس
أسد تضحك عن *** شداته الحرب العبوس

يا بني العباس يأبى الله إلا أن تسوسوا فغنت قلم جارية صالح بن عبد الوهاب في هذين الشعرين، وغنت في شعر محمد بن كناسة:

في انقباض وحشمة فإذا *** جالست أهل الوفاء والكرم
أرسلت نفسي على سجيتها *** وقلت ما شئت غير محتشم

فغنته الواثق، فاستحسنه، فبعث إلى ابن الزيات: ويحك من صالح ابن عبد الوهاب هذا! فابعث إليه فأشخصه، وليحمل جاريته، فغدا بها صالح إلى الواثق، فأدخلت عليه، فلما تغنت ارتضاها، فبعث إليه، فقال: قل، فقال: مائة ألف دينار يا أمير المؤمنين وولاية مصر، فردها، ثم قال أحمد بن عبد الوهاب أخو صالح في الواثق:

أبت دار الأحبة أن تبينا *** أجدك ما رأيت لها معينا
تقطع حسرة من حب ليلى *** نفوس ما أثبن ولا جزينا

فصنعت فيه قلم جارية صالح، فغناه زرزر الكبير للواثق، فقال: لمن ذا؟ فقال: لقلم، فبعث الى ابن الزيات، فاشخص صالحا ومعه قلم، فلما دخلت عليه، قال: هذا لك؟ قالت: نعم يا أمير المؤمنين، قال:
بارك الله عليك! وبعث إلى صالح: استم وقل قولا يتهيأ أن تعطاه، فبعث إليه: قد أهديتها إلى أمير المؤمنين، فبارك الله لأمير المؤمنين فيها.
قال: قد قبلتها، يا محمد، عوضه خمسة آلاف دينار، وسماها اغتباط فمطله ابن الزيات، فأعادت الصوت وهو:

أبت دار الأحبة ان تبينا *** اجدك هل رايت لها معينا

فقال لها: بارك الله عليك وعلى من رباك، فقالت: يا سيدي وما ينتفع من رباني، وقد أمرت له بشيء لم يصل اليه! فقال الواثق: يا سمانه، الدواة، فكتب إلى ابن الزيات: ادفع إلى صالح بن عبد الوهاب ما عوضناه من ثمن اغتباط خمسة آلاف دينار، وأضعفها قال صالح: فصرت إلى ابن الزيات فقربني، وقال: هذه الخمسة الأولى، خذها، والخمسة آلاف الأخرى أدفعها إليك بعد جمعة، فإن سئلت، فقل: إني قبضت المال قال: فكرهت أن أسأل فأقر بالقبض، فاختفيت في منزلي حتى دفع إلي المال، فقال لي سمانه: قبضت المال؟ قلت: نعم، وترك عمل السلطان، وتجر بها، حتى توفي.

خلافة جعفر المتوكل على الله
وفي هذه السنة بويع لجعفر المتوكل على الله بالخلافة، وهو جعفر بن محمد بن هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد ذي الثفنات بن علي السجاد ابن عَبْد اللَّهِ بْن العباس بْن عبد المطلب.

ذكر الخبر عن سبب خلافته ووقتها
حدثني غير واحد، أن الواثق لما توفي حضر الدار احمد بن ابى دواد وإيتاخ ووصيف وعمر بن فرج وابن الزيات وأحمد بن خالد أبو الوزير، فعزموا على البيعة لمحمد بن الواثق، وهو غلام أمرد، فألبسوه دراعة سوداء وقلنسوة رصافية، فإذا هو قصير، فقال لهم وصيف: أما تتقون الله! تولون مثل هذا الخلافة، وهو لا يجوز معه الصلاة! قال: فتناظروا فيمن يولونها، فذكروا عدة، فذكر عن بعض من حضر الدار مع هؤلاء، أنه قال: خرجت من الموضع الذي كنت فيه، فمررت بجعفر المتوكل، فإذا هو في قميص وسروال قاعد مع أبناء الأتراك، فقال لي: ما الخبر؟ فقلت: لم ينقطع أمرهم، ثم دعوا به، فأخبره بغا الشرابي الخبر، وجاء به، فقال: أخاف أن يكون الواثق لم يمت، قال: فمر به، فنظر إليه مسجى، فجاء فجلس، فألبسه أحمد بن ابى دواد الطويلة وعممه وقبله بين عينيه، وقال: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وبركاته! ثم غسل الواثق وصلي عليه ودفن، ثم صاروا من فورهم إلى دار العامة، ولم يكن لقب المتوكل وذكر أنه كان يوم بويع له ابن ست وعشرين سنة، ووضع العطاء للجند لثمانية أشهر، وكان الذي كتب البيعة له محمد بن عبد الملك الزيات، وهو إذ ذاك على ديوان الرسائل، واجتمعوا بعد ذلك على اختيار لقب له، فقال ابن الزيات: نسميه المنتصر بالله، وخاض الناس فيها حتى لم يشكوا فيها، فلما كان غداة يوم بكر أحمد بن ابى دواد إلى المتوكل، فقال: قد رويت في لقب أرجو أن يكون موافقا حسنا إن شاء الله، وهو المتوكل على الله، فأمر بإمضائه، وأحضر محمد بن عبد الملك، فأمر بالكتاب بذلك إلى الناس، فنفذت إليهم الكتب، نسخة ذلك: بسم الله الرحمن الرحيم، امر- ابقاك الله- أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، أن يكون الرسم الذي يجري به ذكره على أعواد منابره، وفي كتبه إلى قضاته وكتابه وعماله وأصحاب دواوينه وغيرهم من سائر من تجرى المكاتبة بينه وبينه: من عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين، فرأيك في العمل بذلك وإعلامي بوصول كتابي إليك موفقا إن شاء الله.
وذكر أنه لما أمر للأتراك برزق أربعة أشهر وللجند والشاكرية ومن يجري مجراهم من الهاشميين برزق ثمانية أشهر، أمر للمغاربة برزق ثلاثة أشهر، فأبوا أن يقبضوا، فأرسل اليهم: من كان منكم مملوكا، فليمض إلى أحمد بن ابى دواد حتى يبيعه، ومن كان حرا صيرناه أسوة الجند، فرضوا بذلك، وتكلم وصيف فيهم حتى رضي عنهم، فأعطوا ثلاثة، ثم أجروا بعد ذلك مجرى الأتراك وبويع للمتوكل ساعة مات الواثق بيعة الخاصة وبايعته العامة حين زالت الشمس من ذلك اليوم.
وذكر عن سعيد الصغير أن المتوكل قبل أن يستخلف ذكر له ولجماعة معه أنه رأى في المنام أن سكرا سليمانيا يسقط عليه من السماء، مكتوبا عليه جعفر المتوكل على الله، فعبرها علينا، فقلنا: هي والله أيها الأمير أعزك الله الخلافة، قال: وبلغ الواثق ذلك فحبسه، وحبس سعيدا معه، وضيق على جعفر بسبب ذلك.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود.