رجب 101 هـ
شباط 720 م
سنة إحدى ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

خبر هرب يزيد بن المهلب من سجنه، فمن ذلك ما كان من هرب يزيد بن المهلب من حبس عمر بن عبد العزيز …

ذكر الخبر عن سبب هربه منه وكيف كان هربه منه:
ذكر هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، أن عمر بن عبد العزيز لما كلم في يزيد بن المهلب حين أراد نفيه إلى دهلك، وقيل له: إنا نخشى أن ينتزعه قومه، رده إلى محبسه فلم يزل في محبسه ذلك حتى بلغه مرض عمر، فأخذ يعمل بعد في الهرب من محبسه مخافة يزيد بن عبد الملك، لأنه كان قد عذب أصهاره آل أبي عقيل- كانت أم الحجاج بنت مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ أَخِي الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ عند يزيد بن عبد الملك، فولدت له الوليد بن يزيد المقتول- فكان يزيد بن عبد الملك قد عاهد الله لئن أمكنه الله من يزيد بن المهلب ليقطعن منه طابقا فكان يخشى ذلك، فبعث يزيد بن المهلب إلى مواليه، فأعدوا له إبلا وكان مرض عمر في دير سمعان، فلما اشتد مرض عمر أمر بإبله فأتي بها، فلما تبين له أنه قد ثقل نزل من محبسه، فخرج حتى مضى إلى المكان الذي واعدهم فيه، فلم يجدهم جاءوا، فجزع اصحابه وضجروا، فقال لأصحابه: اترونني أرجع إلى السجن! لا والله لا أرجع إليه أبدا ثم إن الإبل جاءت، فاحتمل، فخرج ومعه عاتكه امراته ابنه الفرات ابن معاويه العامريه من بنى البكاء في شق المحمل، فمضى.
فلما جاز كتب إلى عمر بن عبد العزيز: أني والله لو علمت أنك تبقى ما خرجت من محبسي، ولكني لم آمن يزيد بن عبد الملك، فقال عمر: اللهم إن كان يزيد يريد بهذه الأمة شرا فاكفهم شره، واردد كيده في نحره ومضى يزيد بن المهلب حتى مر بحدث الزقاق، وفيه الهذيل بن زفر معه قيس، فأتبعوا يزيد بن المهلب حيث مر بهم، فأصابوا طرفا من ثقله وغلمة من وصفائه، فأرسل الهذيل بن زفر في آثارهم، فردهم فقال: ما تطلبون؟
أخبروني، أتطلبون يزيد بن المهلب أو أحدا من قومه بتبل؟ فقالوا: لا، قال: فما تريدون؟ إنما هو رجل كان في إسار، فخاف على نفسه فهرب.
وزعم الواقدي أن يزيد بن المهلب إنما هرب من سجن عمر بعد موت عمر

خبر وفاه عمر بن عبد العزيز
وفي هذه السنة توفي عمر بن عبد العزيز، فحدثني أحمد بْن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، قال: توفي عمر بن عبد العزيز لخمس ليال بقين من رجب سنة إحدى ومائة.
وكذلك قال مُحَمَّد بن عُمَرُ، حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني عمرو بن عثمان، قال: مات عمر بن عبد العزيز لعشر ليال بقين من رجب سنة إحدى ومائة.
وقال هشام عن أبي مخنف: مات عمر بن عبد العزيز يوم الجمعة لخمس بقين من رجب بدير سمعان في سنة إحدى ومائة، وهو ابن تسع وثلاثين سنة وأشهر، وكانت خلافته سنتين وخمسه اشهر، ومات بدير سمعان.
حدثني الحارث، قال: حدثنا مُحَمَّد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني عمي الهيثم بن واقد، قال: ولدت سنة سبع وتسعين، واستخلف عمر بن عبد العزيز بدابق يوم الجمعة لعشر بقين من صفر سنة تسع وتسعين، فأصابني من قسمه ثلاثة دنانير، وتوفي بخناصرة يوم الأربعاء لخمس ليال بقين من رجب سنة إحدى ومائة، وكان شكوه عشرين يوما، وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام، ومات وهو ابن تسع وثلاثين سنة وأشهر، ودفن بدير سمعان.
وقد قال بعضهم: كان له يوم توفي تسع وثلاثون سنة، وخمسة أشهر وقال بعضهم: كان له أربعون سنة.
وقال هشام: توفي عمر وهو ابن أربعين سنة وأشهر، وكان يكنى أبا حفص وله يقول عويف القوافي، وقد حضره في جنازة شهدها معه:

أجبني أبا حفص لقيت مُحَمَّدا *** على حوضه مستبشرا وراكا
فأنت امرؤ كلتا يديك مفيدة *** شمالك خير من يمين سواكا

وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وكان يقال له: اشج بنى اميه، وذلك أن دابة من دواب أبيه كانت شجته فقيل له: اشج بنى اميه.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا سُلَيْمَان بن حرب، قال: حدثنا المبارك بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، قال: كنت أسمع ابن عمر كثيرا يقول: ليت شعري من هذا الذي من ولد عمر، في وجهه علامة، يملأ الأرض عدلا! وحدثت عن منصور بن أبي مزاحم، قال: حدثنا مروان بن شجاع.
عن سالم الأفطس، أن عمر بن عبد العزيز رمحته دابة وهو غلام بدمشق، فأتيت به أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، فضمته إليها، وجعلت تمسح الدم عن وجهه ودخل أبوه عليها على تلك الحال، فأقبلت عليه تعذله وتلومه، وتقول: ضيعت ابني، ولم تضم إليه خادما ولا حاضنا يحطه من مثل هذا! فقال لها: اسكتي يا أم عاصم، فطوباك إذ كان أشج بني أمية!

ذكر بعض سيره
ذكر علي بن مُحَمَّد أن كليب بن خلف حدثهم عن إدريس بن حنظلة، والمفضل، عن جده وعلي بن مجاهد عن خالد: أن عمر بن عبد العزيز كتب حين ولي الخلافة إلى يزيد بن الهلب:
أما بعد، فإن سُلَيْمَان كان عبدا من عبيد الله أنعم الله عليه، ثم قبضه واستخلفني، ويزيد بن عبد الملك من بعدي إن كان، وإن الذي ولاني الله من ذلك وقدر لي ليس علي بهين، ولو كانت رغبتي في اتخاذ أزواج واعتقاد أموال، كان في الذي أعطاني من ذلك ما قد بلغ بي أفضل ما بلغ بأحد من خلقه، وأنا أخاف فيما ابتليت به حسابا شديدا، ومساله غليظه، اما ما عافى الله ورحم، وقد بايع من قبلنا فبايع من قبلك.
فلما قدم الكتاب على يزيد بن المهلب، ألقاه إلى أبي عيينة، فلما قرأه قال: لست من عماله، قال: ولم؟ قال: ليس هذا كلام من مضى من أهل بيته، وليس يريد أن يسلك مسلكهم فدعا الناس إلى البيعة فبايعوا.
قال: ثم كتب عمر إلى يزيد استخلف على خراسان، وأقبل، فاستخلف ابنه مخلدا.
قال علي: وحدثنا علي بن مجاهد، عن عبد الأعلى بن منصور، عن ميمون بن مهران، قال: كتب عمر إلى عبد الرحمن بن نعيم أن العمل والعلم قريبان، فكن عالما بالله عاملا له، فإن أقواما علموا ولم يعلموا، فكان علمهم عليهم وبالا.
قال وأخبرنا مصعب بن حيان عن مقاتل بن حيان، قال: كتب عمر إلى عبد الرحمن.
أما بعد، فاعمل عمل رجل يعلم أن الله لا يصلح عمل المفسدين.
قال علي: أخبرنا كليب بن خلف، عن طفيل بن مرداس، قال: كتب عمر إلى سُلَيْمَان بن أبي السري، أن اعمل خانات في بلادك فمن مر بك من المسلمين فأقروهم يوما وليلة، وتعهدوا دوابهم، فمن كانت به علة فأقروه يومين وليلتين، فإن كان منقطعا به فقووه بما يصل به إلى بلده.
فلما أتاه كتاب عمر قال أهل سمرقند لسُلَيْمَان: إن قتيبة غد ربنا، وظلمنا وأخذ بلادنا، وقد أظهر الله العدل والإنصاف، فائذن لنا فليفد منا وفد إلى أمير المؤمنين يشكون ظلامتنا، فإن كان لنا حق أعطيناه، فإن بنا إلى ذلك حاجة فأذن لهم، فوجهوا منهم قوما، فقدموا على عمر، فكتب لهم عمر إلى سُلَيْمَان ابن أبي السري:
أن أهل سمرقند قد شكوا إلي ظلما أصابهم وتحاملا من قتيبة عليهم حتى أخرجهم من أرضهم، فإذا أتاك كتابي فأجلس لهم القاضي، فلينظر في أمرهم، فإن قضى لهم فأخرجهم إلى معسكرهم كما كانوا وكنتم قبل أن ظهر عليهم قتيبة.
قال: فأجلس لهم سُلَيْمَان جميع بن حاضر القاضي الناجي، فقضى أن يخرج عرب سمرقند إلى معسكرهم وينابذوهم على سواء، فيكون صلحا جديدا أو ظفرا عنوة، فقال أهل السغد: بل نرضى بما كان، ولا نجدد حربا.
وتراضوا بذلك، فقال أهل الرأي: قد خالطنا هؤلاء القوم وأقمنا معهم، وأمنونا وأمناهم، فإن حكم لنا عندنا إلى الحرب ولا ندري لمن يكون الظفر، وإن لم يكن لنا كنا قد اجتلبنا عداوة في المنازعة فتركوا الأمر على ما كان، ورضوا ولم ينازعوا.
قال: وكتب عمر إلى عبد الرحمن بن نعيم يأمره بإقفال من وراء النهر من المسلمين بذراريهم قال: فأبوا وقالوا: لا يسعنا مرو فكتب إلى عمر بذلك، فكتب إليه عمر: اللهم إني قد قضيت الذي علي، فلا تغز بالمسلمين، فحسبهم الذي قد فتح الله عليهم.
قال: وكتب إلى عقبة بن زرعة الطائي- وكان قد ولاه الخراج بعد القشيري.
إن للسلطان أركانا لا يثبت إلا بها، فالوالي ركن، والقاضي ركن، وصاحب بيت المال ركن، والركن الرابع انا، وليس من ثغور المسلمين ثغر أهم إلي، ولا أعظم عندي من ثغر خراسان، فاستوعب الخراج وأحرزه في غير ظلم، فإن يك كفافا لأعطياتهم فسبيل ذلك، وإلا فاكتب إلي حتى أحمل إليك الأموال فتوفر لهم أعطياتهم قال: فقدم عقبة فوجد خراجهم يفضل عن أعطياتهم، فكتب إلى عمر فأعلمه، فكتب إليه عمر: أن اقسم الفضل في أهل الحاجة.
وحدثني عبد اللَّه بْن أحمد بْن شبويه، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ:
حَدَّثَنِي سُلَيْمَان، قَالَ: سمعت عبد الله يقول عن محمد بن طلحه، عن داود ابن سُلَيْمَان الجعفي، قال: كتب عمر بن عبد العزيز: من عبد اللَّه عمر أمير المؤمنين إلى عبد الحميد، سلام عليك، أما بعد، فإن أهل الكوفة قد أصابهم بلاء وشدة وجور في احكام الله وسنه خبيثة استنها عليهم عمال السوء، وإن قوام الدين العدل والإحسان، فلا يكونن شيء أهم إليك من نفسك، فإنه لا قليل من الإثم، ولا تحمل خرابا على عامر، ولا عامرا على خراب، انظر الخراب فخذ منه ما أطاق، وأصلحه حتى يعمر، ولا يؤخذ من العامر إلا وظيفة الخراج في رفق وتسكين لأهل الأرض، ولا تأخذن في الخراج إلا وزن سبعة ليس لها آيين ولا أجور الضرابين، ولا هدية النيروز والمهرجان، ولا ثمن الصحف، ولا أجور الفيوج، ولا أجور البيوت، ولا دراهم النكاح، ولا خراج على من أسلم من أهل الأرض، فاتبع في ذلك أمري، فإني قد وليتك من ذلك ما ولاني الله، ولا تعجل دوني بقطع ولا صلب، حتى تراجعني فيه، وانظر من أراد من الذرية ان يحج، فعجل له مائه يحج بها، والسلام.
حدثنا عبد الله بن أحمد بن شبويه، قال: حدثني أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الله، عن شهاب بن شريعة المجاشعي، قال:
ألحق عمر بن عبد العزيز ذراري الرجال الذين في العطايا أقرع بينهم، فمن أصابته القرعة جعله في المائة، ومن لم تصبه القرعة جعله في الأربعين، وقسم في فقراء أهل البصرة كل إنسان ثلاثة دراهم، فأعطى الزمني خمسين خمسين قال: وأراه رزق الفطم. حدثني عبد الله، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا الفضيل، عن عبد الله قال: بلغني أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أهل الشام.
سلام عليكم ورحمة الله، أما بعد، فإنه من أكثر ذكر الموت قل كلامه، ومن علم أن الموت حق رضى باليسير، والسلام قال علي بن مُحَمَّد: وقال أبو مجلز لعمر: إنك وضعتنا بمنقطع التراب، فاحمل إلينا الأموال قال: يا أبا مجلز: قلبت الأمر، قال: يا أمير المؤمنين أهو لنا أم لك؟ قال: بل هو لكم إذا قصر خراجكم عن أعطياتكم، قال: فلا أنت تحمله إلينا، ولا نحمله إليك، وقد وضعت بعضه على بعض.
قال: أحمله إليكم إن شاء الله.
ومرض من ليلته فمات من مرضه وكانت ولاية عبد الرحمن بن نعيم خراسان ستة عشر شهرا.
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة توفي عمارة بن أكيمة الليثي، ويكنى أبا الوليد، وهو ابن تسع وسبعين.
زياده في سيره عمر بن عبد العزيز ليست من كتاب أبي جعفر إلى أول خلافة يزيد بن عبد الملك بن مروان.
روى عبد الله بن بكر بن حبيب السهمي، قال: حدثنا رجل في مسجد الجنابذ، أن عمر بن عبد العزيز خطب الناس بخناصرة، فقال: أيها الناس، إنكم لم تخلقوا عبثا، ولن تتركوا سدى، وإن لكم معادا ينزل الله فيه للحكم فيكم، والفصل بينكم، وقد خاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم الجنة التي عرضها السموات والأرض ألا واعلموا أنما الأمان غدا لمن حذر الله وخافه، وباع نافدا بباق، وقليلا بكثير وخوفا بأمان ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيخلفها بعدكم الباقون كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين! وفي كل يوم تشيعون غاديا ورائحا إلى الله قد قضى نحبه، وانقضى أجله، فتغيبونه في صدع من الأرض، ثم تدعونه غير موسد ولا ممهد، قد فارق الأحبة، وخلع الأسباب، فسكن التراب وواجه الحساب فهو مرتهن بعمله، فقير إلى ما قدم، غني عما ترك.
فاتقوا الله قبل نزول الموت وانقضاء مواقعه وايم الله إني لأقول لكم هذه المقالة، وما أعلم عند أحد منكم من الذنوب أكثر مما عندي، فأستغفر الله وأتوب إليه.
وما منكم من أحد تبلغنا عنه حاجة إلا أحببت أن أسد من حاجته ما قدرت عليه، وما منكم أحد يسعه ما عندنا الا وددت انه سداى ولحمتي، حتى يكون عيشنا وعيشه سواء وايم الله إن لو أردت غير هذا من الغضارة والعيش، لكان اللسان مني به ذلولا عالما بأسبابه، ولكنه مضى من الله كتاب ناطق وسنة عادلة، يدل فيها على طاعته، وينهى عن معصيته.
ثم رفع طرف ردائه فبكى حتى شهق وأبكى الناس حوله، ثم نزل فكانت إياها لم يخطب بعدها حتى مات رحمه الله.
روى خلف بن تميم، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سعد، قال:
بلغني أن عمر بن عبد العزيز مات ابن له، فكتب عامل له يعزيه عن ابنه، فقال لكاتبه: أجبه عني، قال: فأخذ الكاتب يبري القلم، قال: فقال للكاتب: أدق القلم، فإنه أبقى للقرطاس، وأوجز للحروف، واكتب:
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإن هذا الأمر أمر قد كنا وطنا أنفسنا عليه، فلما نزل لم ننكره، والسلام.
روى منصور بن مزاحم، قال: حدثنا شعيب- يعني ابن صفوان- عن ابن عبد الحميد، قال: قال عمر بن عبد العزيز: من وصل أخاه بنصيحة له في دينه، ونظر له في صلاح دنياه، فقد أحسن صلته، وأدى واجب حقه، فاتقوا الله، فإنها نصيحة لكم في دينكم، فاقبلوها، وموعظة منجية في العواقب فالزموها الرزق مقسوم فلن يغدر المؤمن ما قسم له، فأجملوا في الطلب، فإن في القنوع سعة وبلغة وكفافا، إن أجل الدنيا في أعناقكم، وجهنم أمامكم، وما ترون ذاهب، وما مضى فكأن لم يكن، وكل أموات عن قريب، وقد رأيتم حالات الميت وهو يسوق، وبعد فراغه وقد ذاق الموت، والقوم حوله يقولون: قد فرغ رحمه الله! وعاينتم تعجيل إخراجه، وقسمة تراثه ووجهه مفقود، وذكره منسي، وبابه مهجور، وكأن لم يخالط إخوان الحفاظ، ولم يعمر الديار، فاتقوا هول يوم لا تحقر فيه مثقال ذرة في الموازين.
روى سهل بن محمود، قال: حدثنا حرملة بن عبد العزيز، قال:
حدثني أبي، عن ابن لعمر بن عبد العزيز، قال: أمرنا عمر أن نشتري موضع قبره، فاشتريناه من الراهب، قال: فقال بعض الشعراء:

أقول لما نعى الناعون لي عمرا *** لا يبعدن قوام العدل والدين
قد غادر القوم باللحد الذي لحدوا *** بدير سمعان قسطاس الموازين

روى عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، قال: قال عمر بن عبد العزيز:
من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح، ومن لم يعد كلامه من عمله كثرت ذنوبه، والرضا قليل، ومعول المؤمن الصبر، وما أنعم الله على عبد نعمة ثم انتزعها منه فأعاضه مما انتزع منه الصبر إلا كان ما أعاضه خيرا مما انتزع منه، ثم قرأ هذه الآية: {إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] وقدم كتابه على عبد الرحمن بن نعيم:
لا تهدموا كنيسة ولا بيعة ولا بيت نار صولحتم عليه، ولا تحدثن كنيسة ولا بيت نار، ولا تجر الشاة إلى مذبحها، ولا تحدوا الشفرة على رأس الذبيحة، ولا تجمعوا بين الصلاتين إلا من عذر.
روى عفان بن مسلم، عن عثمان بن عبد الحميد، قال: حدثنا أبي، قال: بلغنا أن فاطمة امرأة عمر بن عبد العزيز قالت: اشتد علزه ليلة، فسهر وسهرنا معه، فلما أصبحنا امرت وصيفا له يقال له مرثد، فقلت له:
يا مرثد، كن عند أمير المؤمنين، فإن كانت له حاجة كنت قريبا منه ثم انطلقنا فضربنا برءوسنا لطول سهرنا، فلما انفتح النهار استيقظت فتوجهت إليه، فوجدت مرثدا خارجا من البيت نائما، فأيقظته فقلت: يا مرثد ما أخرجك؟
قال: هو أخرجني، قال: يا مرثد، اخرج عنى! فو الله إني لأرى شيئا ما هو بالإنس ولا جان، فخرجت فسمعته يتلو هذه الآية: {تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] ، قال: فدخلت عليه فوجدته قد وجه نفسه وأغمض عينيه.
وإنه لميت رحمه الله خلافة يزيد بن عبد الملك بن مروان
وفيها ولي يزيد بن عبد الملك بن مروان، وكنيته أبو خالد، وهو ابن تسع وعشرين سنة في قول هشام بن مُحَمَّد، ولما ولي الخلافة نزع عن المدينة أبا بكر ابن مُحَمَّد بن عمرو بن حزم، وولاها عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري، فقدمها- فيما زعم الواقدي- يوم الأربعاء لليال بقين من شهر رمضان فاستقضى عبد الرحمن سلمة بن عبد الله بن عبد الأسد المخزومي.
وذكر مُحَمَّد بن عمر، أن عبد الجبار بن عمارة حدثه عن أبي بكر بن حزم، أنه قال: لما قدم عبد الرحمن بن الضحاك المدينة وعزلني، دخلت عليه، فسلمت فلم يقبل علي، فقلت: هذا شيء لا تملكه قريش للأنصار، فرجعت إلى منزلي وخفته- وكان شابا مقداما- فإذا هو يبلغني عنه أنه يقول: ما يمنع ابن حزم أن يأتيني إلا الكبر، وإني لعالم بخيانته، فجاءني ما كنت أحذر وما أستيقن من كلامه، فقلت للذي جاءني بهذا: قل له: ما الخيانة لي بعادة، وما أحب أهلها، والأمير يحدث نفسه بالخلود في سلطانه، كم نزل هذه الدار من أمير وخليفة قبل الأمير فخرجوا منها وبقيت آثارهم أحاديث إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا! فاتق الله ولا تسمع قول ظالم او حاسد على نعمه.
فلم يزل الأمر يترقى بينهما، حتى خاصم إليه رجل من بني فهر وآخر من بني النجار- وكان أبو بكر قضى للنجاري على الفهري في أرض كانت بينهما نصفين، فدفع أبو بكر الأرض إلى النجاري- فأرسل الفهري إلى النجاري وإلى أبي بكر بن حزم، فأحضرهما ابن الضحاك، فتظلم الفهري من أبي بكر بن حزم، وقال: أخرج مالي من يدي، فدفعه إلى هذا النجاري، فقال أبو بكر: اللهم غفرا! أما رأيتني سألت أياما في أمرك وأمر صاحبك، فاجتمع لي على إخراجها من يدك، وأرسلتك إلى من أفتاني بذلك: سعيد بن المسيب وابى بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فسألتهما؟ فقال الفهري: بلى، وليس يلزمني قولهما فانكسر ابن الضحاك فقال: قوموا، فقاموا، فقال للفهري: تقر له أنك سألت من أفتاه بهذا، ثم تقول ردها علي! أنت أرعن، اذهب فلا حق لك، فكان أبو بكر يتقيه ويخافه، حتى كلم ابن حيان يزيد أن يقيده من أبي بكر، فإنه ضربه حدين، فقال يزيد: لا افعل، رجل اصطنعه اهل بيتى، ولكنى أولئك المدينة قال: لا أريد ذلك، لو ضربته بسلطاني لم يكن لي قودا فكتب يزيد إلى عبد الرحمن بن الضحاك كتابا:
أما بعد، فانظر فيما ضرب ابن حزم ابن حيان، فإن كان ضربه في أمر بين فلا تلتفت إليه، وإن كان ضربه في أمر يختلف فيه فلا تلتفت إليه، فإن كان ضربه في أمر غير ذلك فأقده منه.
فقدم بالكتاب على عبد الرحمن بن الضحاك، فقال عبد الرحمن:
ما جئت بشيء، أترى ابن حزم ضربك في أمر لا يختلف فيه! فقال عثمان لعبد الرحمن: إن أردت أن تحسن أحسنت، قال: الآن أصبت المطلب، فأرسل عبد الرحمن إلى ابن حزم فضربه حدين في مقام واحد، ولم يسأله عن شيء، فرجع أبو المغراء بن حيان وهو يقول: أنا أبو المغراء بن الحيان، والله ما قربت النساء من يوم صنع بي ابن أبي حزم ما صنع حتى يومى هذا، واليوم اقرب النساء!.

مقتل شوذب الخارجي
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة قتل شوذب الخارجي.

ذكر الخبر عن مقتله:
قد ذكرنا قبل الخبر عما كان من مراسلة شوذب عمر بن عبد العزيز لمناظرته في خلافه عليه، فلما مات عمر أحب- فيما ذكر معمر بن المثنى- عبد الحميد بن عبد الرحمن أن يحظى عند يزيد بن عبد الملك، فكتب إلى مُحَمَّد بن جرير يأمره بمحاربة شوذب وأصحابه، ولم يرجع رسولا شوذب، ولم يعلم بموت عمر، فلما رأوا مُحَمَّد بن جرير يستعد للحرب، أرسل إليه شوذب: ما أعجلك قبل انقضاء المدة فيما بيننا وبينكم! أليس قد تواعدنا إلى أن يرجع رسولا شوذب! فأرسل إليهم مُحَمَّد: أنه لا يسعنا ترككم على هذه الحالة- قال غير أبي عبيدة: فقالت الخوارج: ما فعل هؤلاء هذا إلا وقد مات الرجل الصالح قال معمر بن المثنى: فبرز لهم شوذب، فاقتتلوا، فأصيب من الخوارج نفر، وأكثروا في اهل القبله القتل، وتولوا منهزمين، والخوارج في أعقابهم تقتل حتى بلغوا أخصاص الكوفة، ولجئوا إلى عبد الحميد، وجرح مُحَمَّد بن جرير في استه، ورجع شوذب إلى موضع فأقام ينتظر صاحبيه، فجاءاه فأخبراه بما صادرا عليه عمر، وان قد مات فأقر يزيد عبد الحميد على الكوفة، ووجه من قبله تميم بن الحباب في ألفين، فراسلهم وأخبرهم أن يزيد لا يفارقهم على ما فارقهم عليه عمر، فلعنوه ولعنوا يزيد، فحاربهم فقتلوه وهزموا أصحابه، فلجأ بعضهم إلى الكوفة ورجع الآخرون إلى يزيد، فوجه إليهم نجدة بن الحكم الأزدي في جمع فقتلوه، وهزموا أصحابه، فوجه إليهم الشحاج بن وداع في ألفين، فراسلهم وراسلوه، فقتلوه، وقتل منهم نفرا فيهم هدبة اليشكري، ابن عم بسطام- وكان عابدا- وفيهم أبو شبيل مقاتل ابن شيبان- وكان فاضلا عندهم- فقال أبو ثعلبة أيوب بن خولي يرثيهم:

تركنا تميما في الغبار ملحبا *** تبكى عليه عرسه وقرائبه
وقد أسلمت قيس تميما ومالكا *** كما أسلم الشحاج أمس أقاربه
وأقبل من حران يحمل راية *** يغالب أمر الله والله غالبه
فيا هدب للهيجا، ويا هدب للندى، *** ويا هدب للخصم الألد يحاربه!
ويا هدب كم من ملحم قد اجنته *** وقد أسلمته للرماح جوالبه
وكان أبو شيبان خير مقاتل *** يرجى ويخشى بأسه من يحاربه
ففاز ولاقى الله بالخير كله *** وخذمه بالسيف في الله ضاربه
تزود من دنياه درعا ومغفرا *** وعضبا حساما لم تخنه مضاربه
واجرد محبوك السراة كأنه *** إذا انقض وافي الريش حجن مخالبه

فلما دخل مسلمة الكوفة شكا إليه أهلها مكان شوذب، وخوفهم منه وما قد قتل منهم، فدعا مسلمة سعيد بن عمرو الحرشي- وكان فارسا- فعقد له على عشرة آلاف، ووجهه إليه وهو مقيم بموضعه، فأتاه ما لا طاقة له به، فقال شوذب لأصحابه: من كان يريد الله فقد جاءته الشهادة، ومن كان إنما خرج للدنيا فقد ذهبت الدنيا، وإنما البقاء في الدار الآخرة، فكسروا أغماد السيوف وحملوا، فكشفوا سعيدا وأصحابه مرارا، حتى خاف الفضيحة فذمر أصحابه، وقال لهم: أمن هذه الشرذمة لا أبا لكم تفرون! يا أهل الشام يوما كأيامكم! قال: فحملوا عليهم، فطحنوهم طحنا لم يبقوا منهم أحدا، وقتلوا بسطاما وهو شوذب وفرسانه، منهم الريان بن عبد الله اليشكري، وكان من المخبتين، فقال أخوه شمر بن عبد الله يرثيه:

ولقد فجعت بسادة وفوارس *** للحرب سعر من بنى شيبان
اعتاقهم ريب الرمان فغالهم *** وتركت فردا غير ذي اخوان
كمدا تجلجل في فؤادي حسرة *** كالنار من وجد على الريان
وفوارس باعوا الإله نفوسهم *** من يشكر عند الوغى فرسان

وقال حسان بن جعدة يرثيهم:

يا عين أذري دموعا منك تسجاما *** وابكي صحابة بسطام وبسطاما
فلن تري أبدا ما عشت مثلهمُ *** أتقى وأكمل في الأحلام أحلاما
بسيهم قد تأسوا عند شدتهم *** ولم يريدوا عن الأعداء إحجاما
حتى مضوا للذي كانوا له خرجوا *** فأورثونا منارات وأعلاما
إني لأعلم أن قد أنزلوا غرفا *** من الجنان ونالوا ثم خداما
أسقى الإله بلادا كان مصرعهم *** فيها سحابا من الوسمي سجاما.

خبر خلع يزيد بن المهلب يزيد بن عبد الملك
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة لحق يزيد بن المهلب بالبصرة، فغلب عليها، وأخذ عامل يزيد بن عبد الملك عليها عدي بن أرطاة الفزاري، فحبسه وخلع يزيد بن عبد الملك.

ذكر الخبر عن سبب خلعه يزيد بن عبد الملك وما كان من أمره وأمر يزيد في هذه السنة:
قد مضى ذكرى خبر هرب يزيد بن المهلب من محبسه الذي كان عمر بن عبد العزيز حبسه فيه، ونذكر الآن ما كان من صنيعه بعد هربه في هذه السنة- أعني سنة إحدى ومائة.
ولما مات عمر بن عبد العزيز بويع يزيد بن عبد الملك في اليوم الذي مات فيه عمر، وبلغه هرب يزيد بن المهلب، فكتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن يأمره أن يطلبه ويستقبله، وكتب إلى عدي بن أرطاة يعلمه هربه، ويأمره أن يتهيأ لاستقباله، وأن يأخذ من كان بالبصرة من أهل بيته.
فذكر هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، أن عدي بن أرطاة أخذهم وحبسهم، وفيهم المفضل وحبيب ومروان بنو المهلب، وأقبل يزيد بن المهلب حتى مر بسعيد بن عبد الملك بن مروان، فقال يزيد لأصحابه: ألا نعرض لهذا فنأخذه فنذهب به معنا! فقال أصحابه: لا بل امض بنا ودعه وأقبل يسير حتى ارتفع فوق القطقطانة، وبعث عبد الحميد بن عبد الرحمن هشام ابن مساحق بن عبد الله بن مخرمة بن عبد العزيز بْنِ أَبِي قَيْسِ بْنِ عُبْدُودِ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ بن لؤي القرشي، في ناس من أهل الكوفة من الشرط ووجوه الناس وأهل القوة، فقال له: انطلق حتى تستقبله فإنه اليوم يمر بجانب العذيب فمشى هشام قليلا، ثم رجع إلى عبد الحميد فقال:
آجيئك به أسيرا أم آتيك برأسه؟ فقال: أي ذلك ما شئت، فكان يعجب لقوله ذلك من سمعه، وجاء هشام حتى نزل العذيب، ومر يزيد منهم غير بعيد، فاتقوا الإقدام عليه، ومضى يزيد نحو البصرة، ففيه يقول الشاعر:

وسار ابن المهلب لم يعرج *** وعرس ذو القطيفة من كنانه
وياسر والتياسر كان حزما *** ولم يقرب قصور القطقطانه

ذو القطيفة هو مُحَمَّد بن عمرو، وهو أبو قطيفة بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وهو أبو قطيفة، وإنما سمي ذا القطيفة، لأنه كان كثير شعر اللحية والوجه والصدر ومُحَمَّد يقال له ذو الشامة.
فلما جاء يزيد بن المهلب انصرف هشام بن مساحق إلى عبد الحميد، ومضى يزيد إلى البصرة، وقد جمع عدي بن أرطاة إليه أهل البصرة وخندق عليها، وبعث على خيل البصرة المغيرة بن عبد الله بن أبي عقيل الثقفي وكان عدي بن أرطاة رجلا من بني فزارة وقال عبد الملك بن المهلب لعدي بن أرطاة: خذ ابني حميدا فاحبسه مكاني، وأنا أضمن لك أن أرد يزيد عن البصرة حتى يأتي فارس، ويطلب لنفسه الأمان ولا يقربك فأبى عليه، وجاء يزيد ومعه أصحابه الذين أقبل فيهم، والبصرة محفوفة بالرجال، وقد جمع مُحَمَّد بن المهلب- ولم يكن ممن حبس- رجالا وفتية من أهل بيته وناسا من مواليه، فخرج حتى استقبله، فأقبل في كتيبة تهول من رآها، وقد دعا عدي أهل البصرة، فبعث على كل خمس من أخماسها رجلا، فبعث على خمس الأزد المغيرة بن زياد بن عمرو العتكي، وبعث على خمس بني تميم محرز بن حمران السعدي من بني منقر، وعلى خمس بكر بن وائل عمران بن عامر ابن مسمع من بني قيس بن ثعلبة فقال أبو منقر، – رجل من قيس بن ثعلبة-: إن الراية لا تصلح إلا في بني مالك بن مسمع، فدعا عدي نوح بن شيبان ابن مالك بن مسمع، فعقد له على بكر بن وائل، ودعا مالك بن المنذر بن الجارود، فعقد له على عبد القيس، ودعا عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر القرشي، فعقد له على أهل العالية- والعالية قريش وكنانة والأزد وبجيلة وخثعم وقيس عيلان كلها ومزينة- وأهل العالية بالكوفة يقال لهم ربع أهل المدينة وبالبصرة خمس أهل العالية، وكانوا بالكوفة أخماسا، فجعلهم زياد بن عبيد أرباعا.
قال هشام عن أبي مخنف: وأقبل يزيد بن المهلب لا يمر بخيل من خيلهم ولا قبيلة من قبائلهم إلا تنحوا له عن السبيل حتى يمضي، واستقبله المغيرة ابن عبد الله الثقفي في الخيل، فحمل عليه مُحَمَّد بن المهلب في الخيل، فأفرج له عن الطريق هو وأصحابه، وأقبل يزيد حتى نزل داره، واختلف الناس إليه، وأخذ يبعث إلى عدي بن أرطاة أن ادفع إلي إخوتي وأنا أصالحك على البصرة، وأخليك وإياها حتى آخذ لنفسي ما أحب من يزيد بن عبد الملك، فلم يقبل منه، وخرج إلى يزيد بن عبد الملك حميد بن عبد الملك بن المهلب، فبعث معه يزيد بن عبد الملك خالد بن عبد الله القسري وعمر بن يزيد الحكمي بأمان يزيد بن المهلب وأهل بيته، وأخذ يزيد بن المهلب يعطي من أتاه من الناس، فكان يقطع لهم قطع الذهب وقطع الفضة، فمال الناس إليه، ولحق به عمران بن عامر بن مسمع ساخطا على عدي بن أرطاة حين نزع منه رايته، راية بكر بن وائل، وأعطاها ابن عمه، ومالت إلى يزيد ربيعة وبقية تميم وقيس وناس بعد ناس، فيهم عبد الملك ومالك ابنا مسمع ومعه ناس من أهل الشام، وكان عدي لا يعطي إلا درهمين درهمين، ويقول:
لا يحل لي أن أعطيكم من بيت المال درهما إلا بأمر يزيد بن عبد الملك، ولكن تبلغوا بهذا حتى يأتي الأمر في ذلك، فقال الفرزدق في ذلك:

أظن رجال الدرهمين يسوقهم *** إلى الموت آجال لهم ومصارع
فأحزمهم من كان في قعر بيته *** وأيقن أن الأمر لا شك واقع

وخرجت بنو عمرو بن تميم من أصحاب عدي، فنزلوا المربد، فبعث إليهم يزيد بن المهلب مولى له يقال له دارس، فحمل عليهم فهزمهم، فقال الفرزدق في ذلك:

تفرقت الحمراء إذ صاح دارس *** ولم يصبروا تحت السيوف الصوارم
جزى الله قيسا عن عدي ملامة *** ألا صبروا حتى تكون ملاحم

وخرج يزيد بن المهلب حين اجتمع له الناس، حتى نزل جبانة بني يشكر- وهو المنصف فيما بينه وبين القصر- وجاءته بنو تميم وقيس وأهل الشام، فاقتتلوا هنيهة، فحمل عليهم مُحَمَّد بن المهلب، فضرب مسور بن عباد الحبطي بالسيف فقطع أنف البيضة، ثم أسرع السيف إلى أنفه، وحمل على هريم بن أبي طلحة بن أبي نهشل بن دارم، فأخذ بمنطقته، فحذفه عن فرسه، فوقع فيما بينه وبين الفرس، وقال: هيهات هيهات! عمك أثقل من ذلك وانهزموا وأقبل يزيد بن المهلب إثر القوم يتلوهم حتى دنا من القصر، فقاتلوهم وخرج إليه عدي بنفسه فقتل من أصحابه الحارث بن مصرف الأودي- وكان من أشراف أهل الشام وفرسان الحجاج- وقتل موسى بن الوجيه الحميري ثم الكلاعي، وقتل راشد المؤذن، وانهزم أصحاب عدي، وسمع إخوة يزيد وهم في محبس عدي الأصوات تدنو، والنشاب تقع في القصر، فقال لهم عبد الملك إني أرى النشاب تقع في القصر، وأرى الأصوات تدنو، ولا أرى يزيد إلا قد ظهر، وإني لا آمن من مع عدي من مضر ومن أهل الشام أن يأتونا فيقتلونا قبل أن يصل إلينا يزيد إلى الدار، فأغلقوا الباب ثم ألقوا عليه ثيابا ففعلوا فلم يلبثوا إلا ساعة حتى جاءهم عبد الله بن دينار مولى ابن عمر، وكان على حرس عدي- فجاء يشتد إلى الباب هو وأصحابه، وقد وضع بنو المهلب متاعا على الباب، ثم اتكوا عليه، فأخذ الآخرون يعالجون الباب، فلم يستطيعوا الدخول، وأعجلهم الناس فخلوا عنهم.
وجاء يزيد بن المهلب حتى نزل دار سلم بن زياد بن أبي سفيان إلى جانب القصر، وأتي بالسلاليم، فلم يلبث عثمان أن فتح القصر، واتى بعدي ابن أرطاة، فجيء به وهو يتبسم، فقال له يزيد: لم تضحك؟ فو الله إنه لينبغي أن يمنعك من الضحك خصلتان: إحداهما الفرار من القتلة الكريمة حتى أعطيت بيدك إعطاء المرأة بيدها، فهذه واحدة، والأخرى إني أتيت بك تتل كما يتل العبد الآبق إلى أربابه، وليس معك مني عهد ولا عقد، فما يؤمنك أن أضرب عنقك! فقال عدي: أما أنت فقد قدرت علي، ولكني أعلم أن بقائي بقاؤك، وأن هلاكي مطلوب به من جرته يده، إنك قد رأيت جنود الله بالمغرب، وعلمت بلاء الله عندهم في كل موطن من مواطن الغدر والنكث، فتدارك فلتتك وزلتك بالتوبة واستقالة العثرة، قبل أن يرمي إليك البحر بأمواجه، فإن طلبت الاستقالة حينئذ لم تقل، وإن أردت الصلح وقد أشخصت القوم إليك وجدتهم لك مباعدين، وما لم يشخص القوم إليك فلم يمنعوك شيئا طلبت فيه الأمان على نفسك وأهلك ومالك.
فقال له يزيد: أما قولك: إن بقاءك بقائي، فلا أبقاني الله حسوة طائر مذعور إن كنت لا يبقيني إلا بقاؤك، وأما قولك: إن هلاكك مطلوب به من جرته يده، فو الله لو كان في يدي من أهل الشام عشرة آلاف إنسان ليس فيهم رجل إلا أعظم منزلة منك فيهم، ثم ضربت أعناقهم في صعيد واحد، لكان فراقي إياهم وخلافي عليهم أهول عندهم وأعظم في صدورهم من قتل أولئك، ثم لو شئت أن تهدر لي دماؤهم، وأن أحكم في بيوت أموالهم، وأن يجوزوا لي عظيما من سلطانهم، على أن أضع الحرب فيما بيني وبينهم لفعلوا، فلا يخفين عليك أن القوم ناسوك لو قد وقعت أخيارنا إليهم، وأن أعمالهم وكيدهم لا يكون إلا لأنفسهم، لا يذكرونك ولا يحلفون بك وأما قولك: تدارك أمرك واستقله وافعل وافعل، فو الله ما استشرتك، ولا أنت عندي بواد ولا نصيح، فما كان ذلك منك إلا عجزا وفضلا، انطلقوا به، فلما ذهبوا به ساعة قال: ردوه، فلما رد قال: أما إن حبسي إياك ليس إلا لحبسك بني المهلب وتضييقك عليهم فيما كنا نسألك التسهيل فيه عليهم، فلم تكن تألو ما عسرت وضيقت وخالفت، فكأنه لهذا القول حين سمعه أمن على نفسه، وأخذ عدي يحدث به كل من دخل عليه.
وكان رجل يقال له السميدع الكندي من بني مالك بن ربيعة من ساكني عمان يرى رأي الخوارج، وكان خرج وأصحاب يزيد وأصحاب عدي مصطفون فاعتزل ومعه ناس من القراء، فقال طائفة من أصحاب يزيد وطائفة من أصحاب عدي: قد رضينا بحكم السميدع ثم إن يزيد بعث إلى السميدع فدعاه إلى نفسه، فأجابه، فاستعملوا يزيد على الأبلة، فأقبل على الطيب والتخلق والنعيم، فلما ظهر يزيد بن المهلب هرب رءوس أهل البصرة من قيس وتميم ومالك بن المنذر، فلحقوا بعبد الحميد بن عبد الرحمن بالكوفة، ولحق بعضهم بالشام، فقال الفرزدق:

فداء لقوم من تميم تتابعوا *** إلى الشام لم يرضوا بحكم السميدع
أحكم حروري من الدين مارق *** أضل وأغوى من حمار مجدع

فأجابه خليفة الأقطع:

وما وجهوها نحوه عن وفادة *** ولا نهزة يرجى بها خير مطمع
ولكنهم راحوا إليها وأدلجوا *** بأقرع أستاه ترى يوم مقرع
وهم من حذار القوم أن يلحقوا بهم *** لهم نزلة في كل خمس وأربع

وخرج الحواري بن زياد بن عمرو العتكي يريد يزيد بن عبد الملك هاربا من يزيد بن المهلب، فلقي خالد بن عبد الله القسري وعمرو بن يزيد الحكمي ومعهما حميد بن عبد الملك بن المهلب قد أقبلوا من عند يزيد بن عبد الملك بأمان يزيد بن المهلب، وكل شيء اراده فاستقبلهما، فسألاه عن الخبر، فخلا بهما حين راى معهما حميد بن عبد الملك، فقال: أين تريدان؟
فقالا: يزيد بن المهلب، قد جئناه بكل شيء أراده، فقال: ما تصنعان بيزيد شيئا، ولا يصنعه بكما، قد ظهر على عدوه عدي بن أرطاة، وقتل القتلى وحبس عديا، فارجعا أيها الرجلان ويمر رجل من باهلة يقال له مسلم بن عبد الملك، فلم يقف عليهما، فصايحاه وساءلاه، فلم يقف عليهما، فقال القسري: ألا ترده فتجلده مائة جلدة! فقال له صاحبه: عز به عنك، وامليا لينصرف.
ومضى الحواري بن زياد إلى يزيد بن عبد الملك، وأقبلا بحميد بن عبد الملك معهما، فقال لهما حميد: أنشدكما الله أن تخالفا أمر يزيد ما بعثتما به! فإن يزيد قابل منكما، وإن هذا وأهل بيته لم يزالوا لنا أعداء، فأنشدكما الله أن تقبلا مقالته، فلم يقبلا قوله، وأقبلا به حتى دفعاه إلى عبد الرحمن بن سليم الكلبي، وقد كان يزيد بن عبد الملك بعثه إلى خراسان عاملا عليها فلما بلغه خلع يزيد بن عبد الملك كتب إليه: أن جهاد من خالفك أحب إلي من عملي على خراسان، فلا حاجة لي فيها، فاجعلني ممن توجهني إلى يزيد بن المهلب، وبعث بحميد بن عبد الملك إلى يزيد، ووثب عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بن الخطاب على خالد بن يزيد بن المهلب، وهو بالكوفة وعلى حمال بن زحر الجعفي، وليسا ممن كان ينطق بشيء إلا أنهم عرفوا ما كان بينه وبين بني المهلب، فأوثقهما وسرحهما إلى يزيد بن عبد الملك، فحبسهما جميعا، فلم يفارقوا السجن حتى هلكوا فيه وبعث يزيد بن عبد الملك رجالا من أهل الشام إلى الكوفة يسكنونهم، ويثنون عليهم بطاعتهم، ويمنونهم الزيادات منهم القطامي بن الحصين، وهو أبو الشرقي، واسم الشرقي الوليد، وقد قال القطامي حين بلغه ما كان من يزيد بن المهلب:

لعل عيني أن ترى يزيدا *** يقود جيشا جحفلا شديدا
تسمع للأرض به وئيدا *** لا برما هدا ولا حسودا
ولا جبانا في الوغى رعديدا *** ترى ذوي التاج له سجودا
مكفرين خاشعين قودا *** وآخرين رحبوا وفودا
لا ينقض العهد ولا المعهودا *** من نفر كانوا هجانا صيدا
ترى لهم في كل يوم عيدا *** من الأعادي جزرا مقصودا

ثم إن القطامي سار بعد ذلك إلى العقر حتى شهد قتال يزيد بن المهلب مع مسلمة بن عبد الملك، فقال يزيد بن المهلب: ما أبعد شعر القطامي من فعله! ثم إن يزيد بن عبد الملك بعث العباس بن الوليد في أربعة آلاف فارس، جريدة خيل، حتى وافوا الحيرة يبادر إليها يزيد بن المهلب، ثم أقبل بعد ذلك مسلمة بن عبد الملك وجنود أهل الشام، وأخذ على الجزيرة وعلى شاطئ الفرات، فاستوثق أهل البصرة ليزيد بن المهلب، وبعث عماله على الأهواز وفارس وكرمان، عليها الجراح بن عبد الملك الحكمي حتى انصرف إلى عمر بن عبد العزيز، وعبد الرحمن بن نعيم الأزدي فكان على الصلاة واستخلف يزيد بن عبد الملك عبد الرحمن القشيري على الخراج، وجاء مدرك بن المهلب حتى انتهى إلى رأس المفازة، فدس عبد الرحمن بن نعيم إلى بني تميم أن هذا مدرك بن المهلب يريد أن يلقي بينكم الحرب، وأنتم في بلاد عافية وطاعة وعلى جماعة، فخرجوا ليلا يستقبلونه، وبلغ ذلك الأزد، فخرج منهم نحو من ألفي فارس حتى لحقوهم قبل أن ينتهوا إلى رأس المفازة، فقالوا لهم: ما جاء بكم؟
وما أخرجكم إلى هذا المكان؟ فاعتلوا عليهم بأشياء، ولم يقروا لهم أنهم خرجوا ليتلفوا مدرك بن المهلب، فكان لهم الآخرون، بل قد علمنا أن تخرجوا لتلقى صاحبنا، وها هو ذا قريب، فما شئتم ثم انطلقت الأزد حتى تلقوا مدرك بن المهلب على رأس المفازة، فقالوا له: إنك أحب الناس إلينا، وأعزهم علينا، وقد خرج أخوك ونابذه، فإن يظهره الله فإنما ذلك لنا، ونحن أسرع الناس إليكم أهل البيت واحقه بذلك، وان تكن الاخرى فو الله مالك في أن يغشانا ما يعرنا فيه من البلاء راحة فعزم له رأيه على الانصراف، فقال ثابت قطنة، وهو ثابت بن كعب، من الأزد من العتيك:

ألم تر دوسرا منعت أخاها *** وقد حشدت لتقتله تميم
رأوا من دونه الزرق العوالي *** وحيا ما يباح لهم حريم
شنوءتها وعمران بن حزم *** هناك المجد والحسب الصميم
فما حملوا ولكن نهنهتهم *** رماح الأزد والعز القديم
رددنا مدركا بمرد صدق *** ليس بوجهه منكم كلوم
وخيل كالقداح مسومات *** لدى أرض مغانيها الجميم
عليها كل أصيد دوسري *** عزيز لا يفر ولا يريم
بهم تستعتب السفهاء حتى *** ترى السفهاء تردعها الحلوم

قال هشام: قال أبو مخنف: فحدثني معاذ بن سعد أن يزيد لما استجمع له البصرة، قام فيهم فحمد الله وأثنى عليه، ثم أخبرهم أنه يدعوهم إلى كتاب الله وسنه نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ويحث على الجهاد، ويزعم أن جهاد أهل الشام أعظم ثوابا من جهاد الترك والديلم.
قال: فدخلت أنا والحسن البصري وهو واضع يده على عاتقي، وهو يقول: انظر هل ترى وجه رجل تعرفه؟ قلت: لا والله، ما أرى وجه رجل أعرفه، قال: فهؤلاء والله الغثاء، قال: فمضينا حتى دنونا من المنبر قال:
فسمعته يذكر كتاب الله وسنه نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم رفع صوته، فقال: والله لقد رأيناك واليا ومولى عليك، فما ينبغي لك ذلك قال: فوثبنا عليه، فأخذنا بيده وفمه واجلسناه، فو الله ما نشك أنه سمعه، ولكنه لم يلتفت إليه ومضى في خطبته.
قال: ثم إنا خرجنا إلى باب المسجد، فإذا على باب المسجد النضر بن انس ابن مالك يقول: يا عباد الله، ما تنقمون من أن تجيبوا إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم! فو الله ما رأينا ذلك ولا رأيتموه منذ ولدتم إلا هذه الأيام من إمارة عمر بن عبد العزيز، فقال الحسن: سبحان الله! وهذا النضر بن أنس قد شهد أيضا.
قال هشام: قال أبو مخنف: وحدثني المثنى بن عبد الله أن الحسن البصري مر على الناس وقد اصطفوا صفين، وقد نصبوا الرايات والرماح، وهم ينتظرون خروج يزيد، وهم يقولون: يدعونا يزيد إلى سنة العمرين، فقال الحسن: إنما كان يزيد بالأمس يضرب أعناق هؤلاء الذين ترون، ثم يسرح بها إلى بني مروان، يريد بهلاك هؤلاء رضاهم فلما غضب غضبة نصب قصبا، ثم وضع عليها خرقا، ثم قال: إني قد خالفتهم فخالفوهم قال هؤلاء:
نعم وقال: إني أدعوكم إلى سنة العمرين، وإن من سنة العمرين أن يوضع قيد في رجله، ثم يرد إلى محبس عمر الذي فيه حبسه، فقال له ناس من اصحابه ممن سمع قوله: والله لكأنك يا أبا سعيد راض عن أهل الشام، فقال: أنا راض عن أهل الشام قبحهم الله وبرحهم! أليس هم الذين أحلوا حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقتلون أهله ثلاثة أيام وثلاث ليال! قد أباحوهم لأنباطهم وأقباطهم، يحملون الحرائر ذوات الدين، لا يتناهون عن انتهاك حرمة.
ثم خرجوا إلى بيت الله الحرام، فهدموا الكعبة، وأوقدوا النيران بين أحجارها وأستارها، عليهم لعنة الله وسوء الدار! قال: ثم إن يزيد خرج من البصرة، واستعمل عليها مروان بن المهلب، وخرج معه بالسلاح وبيت المال، فأقبل حتى نزل واسطا، وقد استشار أصحابه حين توجه نحو واسط، فقال: هاتوا الرأي، فإن أهل الشام قد نهضوا إليكم، فقال له حبيب، وقد أشار عليه غير حبيب أيضا فقالوا: نرى أن تخرج وتنزل بفارس، فتأخذ بالشعاب وبالعقاب، وتدنو من خراسان، وتطاول القوم، فإن أهل الجبال ينقضون إليك وفي يديك القلاع والحصون فقال:
ليس هذا برأيي، ليس يوافقني هذا، إنما تريدون أن تجعلوني طائرا على رأس جبل فقال له حبيب: فإن الرأي الذي كان ينبغي أن يكون في أول الأمر قد فات، قد أمرتك حيث ظهرت على البصرة أن توجه خيلا عليها أهل بيتك حتى ترد الكوفة، فإنما هو عبد الحميد بن عبد الرحمن، مررت به في سبعين رجلا فعجز عنك، فهو عن خيلك أعجز في العدة، فنسبق إليها أهل الشام وعظماء أهلها يرون رأيك، وأن تلي عليهم أحب إلى جلهم من أن يلي عليهم أهل الشام، فلم تطعني، وأنا أشير الآن برأي، سرح مع أهل بيتك خيلا من خيلك عظيمة فتأتي الجزيرة، وتبادر إليها حتى ينزلوا حصنا من حصونها، وتسير في أثرهم، فإذا أقبل أهل الشام يريدونك لم يدعوا جندا من جنودك بالجزيرة، ويقبلون إليك فيقيمون عليهم، فكأنهم حابستهم عليك حتى تأتيهم فيأتيك من بالموصل من قومك، وينفض إليك أهل العراق وأهل الثغور، وتقاتلهم في ارض رفيغه السعر، وقد جعلت العراق كله وراء ظهرك، فقال: إني أكره أن أقطع جيشي وجندي فلما نزل واسطا أقام بها أياما يسيرة.
قال أبو جعفر: وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الضحاك ابن قيس الفهري، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق ابن عيسى، عن أبي معشر وكذلك قَالَ محمد بن عمر.
وكان عبد الرحمن عامل يزيد بن عبد الملك على المدينة، وعلى مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد وكان على الكوفة عبد الحميد ابن عبد الرحمن، وعلى قضائها الشعبي، وكانت البصرة قد غلب عليها يزيد ابن المهلب، وكان على خراسان عبد الرحمن بن نعيم.