221 هـ
835 م
سنة إحدى وعشرين ومائتين (ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث)

فمن ذلك الوقعة التي كانت بين بابك وبغا الكبير من ناحيه هشتاد سر، فهزم بغا واستبيح عسكره …

ذكر الخبر عن وقعه الافشين مع بابك في هذه السنه
وفيها واقع الأفشين بابك وهزمه.

ذكر الخبر عن هذه الوقعة وكيف كان السبب فيها:
ذكر أن بغا الكبير قدم بالمال الذي قد مضى ذكره، وأن المعتصم وجهه معه إلى الأفشين عطاء للجند الذي كان معه ولنفقات الأفشين، على الأفشين، وبالرجال الذين توجهوا معه إليه، فأعطى الأفشين أصحابه، وتجهز بعد النيروز، ووجه بغا في عسكر ليدور حول هشتاد سر، وينزل في خندق محمد بن حميد ويحفره ويحكمه وينزله فتوجه بغا إلى خندق محمد بن حميد، وصار إليه، ورحل الأفشين من برزند، ورحل أبو سعيد من خش يريد بابك، فتوافوا بموضع يقال له دروذ، فاحتفر الأفشين بها خندقا، وبنى حوله سورا، ونزل هو وأبو سعيد في الخندق مع من كان صار إليه من المطوعة، فكان بينه وبين البذ ستة أميال ثم إن بغا تجهز، وحمل معه الزاد من غير أن يكون الأفشين كتب إليه ولا أمره بذلك، فدار حول هشتاد سر حتى دخل إلى قرية البذ، فنزل في وسطها، وأقام بها يوما واحدا، ثم وجه الف رجل في علافه له، فخرج عسكر من عساكر بابك، فاستباح العلافة، وقتل جميع من قاتله منهم، وأسر من قدر عليه، وأخذ بعض الأسرى، فأرسل منهم رجلين مما يلي الأفشين، وقال لهما: اذهبا إلى الأفشين، وأعلماه ما نزل بأصحابكم فأشرف الرجلان، فنظر إليهما صاحب الكوهبانية، فحرك العلم، فصاح أهل العسكر: السلاح السلاح! وركبوا يريدون البذ، فتلقاهم الرجلان عريانين، فأخذهما صاحب المقدمة، فمضى بهما إلى الأفشين، فأخبراه بقضيتهما، فقال: فعل شيئا من غير أن نأمره ورجع بغا إلى خندق محمد بن حميد شبيها بالمنهزم، وكتب إلى الأفشين يعلمه ذلك، ويسأله المدد، ويعلمه أن العسكر مفلول، فوجه إليه الأفشين أخاه الفضل بن كاوس وأحمد بن الخليل بن هشام وابن جوشن وجناحا الأعور السكري وصاحب شرطة الحسن بن سهل- وأحد الأخوين قرابة الفضل بن سهل- فداروا حول هشتاد سر، فسر أهل عسكره بهم، ثم كتب الأفشين إلى بغا يعلمه أنه يغزو بابك في يوم سماه له، ويأمره أن يغزوه في ذلك اليوم بعينه، ليحاربه من كلا الوجهين، فخرج الأفشين في ذلك اليوم من دروذ يريد بابك، وخرج بغا من خندق محمد بن حميد، فصعد الى هشتاد سر، فعسكر على دعوة بجنب قبر محمد بن حميد، فهاجت ريح باردة ومطر شديد، فلم يكن للناس عليها صبر لشدة البرد وشدة الريح، فانصرف بغا إلى عسكره، وواقعهم الأفشين من الغد، وقد رجع بغا إلى عسكره، فهزمه الأفشين، وأخذ عسكره وخيمته وامرأة كانت معه في العسكر ونزل الأفشين في معسكر بابك.
ثم تجهز بغا من الغد، وصعد هشتاد سر، فأصاب العسكر الذي كان مقيما بإزائه بهشتادسر، قد انصرف إلى بابك، ورحل بغا إلى موضعه، فأصاب خرثيا وقماشا، وانحدر من هشتاد سر يريد البذ، فأصاب رجلا وغلاما نائمين فأخذهما داود سياه- وكان على مقدمته- فساءلهما، فذكرا أن رسول بابك أتاهم في الليلة التي انهزم فيها بابك، فأمرهم أن يوافوه بالبذ، فكان الرجل والغلام سكرانين، فذهب بهما النوم، فلا يعرفان من الخبر غير هذا، وكان ذلك قبل صلاة العصر فبعث بغا الى داود سياه: قد توسطنا الموضع الذي نعرفه- يعني الذى كنا فيه في المرة الأولى- وهذا وقت المساء، وقد تعب الرجالة، فانظر جبلا حصينا يسع عسكرنا حتى نعسكر فيه ليلتنا هذه فالتمس داود سياه ذلك، فصعد إلى بعض الجبال، فالتمس أعلاه فأشرف، فراى اعلام الافشين ومعسكره شبه الخيال فقال: هذا موضعنا إلى غدوة، وننحدر من الغد إلى الكافر إن شاء الله فجاءهم في تلك الليلة سحاب وبرد ومطر وثلج كثير، فلم يقدر أحد حين أصبحوا أن ينزل من الجبل يأخذ ماء، ولا يسقي دابته من شدة البرد وكثرة الثلج، وكأنهم كانوا في ليل من شدة الظلمة والضباب فلما كان اليوم الثالث قال الناس لبغا:
قد فني ما معنا من الزاد، وقد اضربنا البرد، فانزل على أي حالة كانت، إما راجعين وإما إلى الكافر وكان في أيام الضباب فبيت بابك الافشين ونقض عسكره، وانصرف الأفشين عنه إلى معسكره، فضرب بغا بالطبل، وانحدر يريد البذ حتى صار إلى البطن، فنظر إلى السماء منجلية، والدنيا طيبة، غير رأس الجبل الذي كان عليه بغا، فعبى بغا أصحابه ميمنة وميسرة ومقدمة، وتقدم يريد البذ، وهو لا يشك أن الأفشين في موضع معسكره، فمضى حتى صار بلزق جبل البذ، ولم يبق بينه وبين ان يشرف على ابيات البذ إلا صعود قدر نصف ميل، وكان على مقدمته جماعة فيهم غلام لابن البعيث، له قرابة بالبذ، فلقيتهم طلائع لبابك، فعرف بعضهم الغلام، فقال له: فلان، فقال: من هذا هاهنا؟ فسمي له من كان معه من أهل بيته، فقال: ادن حتى أكلمك، فدنا الغلام منه، فقال له: ارجع وقل لمن تعني به يتنحى، فإنا قد بيتنا الأفشين، وانهزم إلى خندقه وقد هيأنا لكم عسكرين، فعجل الانصراف لعلك أن تفلت فرجع الغلام فأخبر ابن البعيث بذلك، وسمي له الرجل، فعرفه ابن البعيث، فأخبر ابن البعيث بغا بذلك، فوقف بغا شاور أصحابه، فقال بعضهم: هذا باطل، هذه خدعة ليس من هذا شيء، فقال بعض الكوهبانيين: إن هذا رأس جبل أعرفه، من صعد إلى رأسه نظر إلى عسكر الأفشين فصعد بغا والفضل بن كاوس وجماعة منهم ممن نشط، فأشرفوا على الموضع، فلم يروا فيه عسكر الأفشين فتيقنوا أنه قد مضى، وتشاوروا، فرأوا أن ينصرف الناس راجعين في صدر النهار قبل أن يجنهم الليل، فأمر بغا داود سياه بالانصراف، فتقدم داود وجد في السير، ولم يقصد الطريق الذي كان دخل منه الى هشتاد سر مخافة المضايق والعقاب، وأخذ الطريق الذي كان دخل منه في المرة الأولى، يدور حول هشتاد سر، وليس فيه مضيق إلا في موضع واحد فسار بالناس، وبعث بالرجالة، فطرحوا رماحهم وأسلحتهم في الطريق، ودخلتهم وحشة شديدة ورعب، وصار بغا والفضل بن كاوس وجماعة القواد في الساقة، وظهرت طلائع بابك، فكلما نزل هؤلاء جبلا صعدته طلائع بابك، يتراءون لهم مرة ويغيبون عنهم مرة، وهم في ذلك يقفون آثارهم، وهم قدر عشرة فرسان، حتى كان بين الصلاتين: الظهر والعصر، فنزل بغا ليتوضأ ويصلي، فتدانت منهم طلائع بابك، فبرزوا لهم، وصلى بغا، ووقف في وجوههم، فوقفوا حين رأوه، فتخوف بغا على عسكره أن يواقعه الطلائع من ناحية، ويدور عليهم في بعض الجبال والمضايق.
قوم آخرون، فشاور من حضره وقال: لست آمن أن يكونوا جعلوا هؤلاء مشغلة، يحبسوننا عن المسير، ويقدمون أصحابهم ليأخذوا على أصحابنا المضايق فقال له الفضل بن كاوس: ليس هؤلاء أصحاب نهار، وإنما هم أصحاب ليل، وإنما يتخوف على أصحابنا من الليل، فوجه إلى داود سياه ليسرع السير ولا ينزل، ولو صار إلى نصف الليل حتى يجاوز المضيق، ونقف نحن هاهنا، فإن هؤلاء ما داموا يروننا في وجوههم لا يسيرون، فنماطلهم وندافعهم قليلا قليلا حتى تجيء الظلمة، فإذا جاءت الظلمة لم يعرفوا لنا موضعا، وأصحابنا يسيرون فينفذون أولا فأولا، فإن أخذ علينا نحن المضيق تخلصنا من طريق هشتاد سر أو من طريق آخر وأشار غيره على بغا فقال: إن العسكر قد تقطع، وليس يدرك أوله آخره، والناس قد رموا بسلاحهم، وقد بقي المال والسلاح على البغال، وليس معه أحد، ولا نأمن أن يخرج عليه من يأخذ المال والأسير- وكان ابن جويدان معهم أسيرا أرادوا أن يفادوا به كاتبا لعبد الرحمن بن حبيب، أسره بابك- فعزم بغا على أن يعسكر بالناس حين ذكر له المال والسلاح والأسير، فوجه الى داود سياه: حيثما رأيت جبلا حصينا، فعسكر عليه.
فعدل داود إلى جبل مؤرب، لم يكن للناس موضع يقعدون فيه من شدة هبوطه، فعسكر عليه، فضرب مضربا لبغا على طرف الجبل في موضع شبيه بالحائط، ليس فيه مسلك، وجاء بغا فنزل، وأنزل الناس وقد تعبوا وكلوا، وفنيت أزوادهم، فباتوا على تعبئة وتحارس من ناحية المصعد، فجاءهم العدو من الناحية الأخرى، فتعلقوا بالجبل حتى صاروا إلى مضرب بغا، فكبسوا المضرب، وبيتوا العسكر، وخرج بغا راجلا حتى نجا، وجرح الفضل بن كاوس، وقتل جناح السكري، وقتل ابن جوشن، وقتل أحد الأخوين قرابه الفضل ابن سهل، وخرج بغا من العسكر راجلا، فوجد دابة فركبها، ومر بابن البعيث فأصعده على هشتاد سر، حتى انحدر به على عسكر محمد بن حميد، فوافاه في جوف الليل، وأخذ الخرمية المال والسلاح والأسير ابن جويدان، ولم يتبعوا الناس، ومر الناس منهزمين منقطعين حتى وافوا بغا، وهو في خندق محمد بن حميد، فأقام بغا في خندق محمد بن حميد خمسة عشر يوما، فأتاه كتاب الأفشين يأمره بالرجوع إلى المراغة، وأن يرد إليه المدد الذي كان امده به، فمضى بغا إلى المراغة، وانصرف الفضل بن كاوس وجميع من كان جاء معه من معسكر الأفشين إلى الأفشين، وفرق الافشين الناس في مشاتيهم تلك السنة، حتى جاء الربيع من السنة المقبلة.

خبر مقتل طرخان قائد بابك
وفي هذه السنة قتل قائد لبابك كان يقال له طرخان.

ذكر سبب قتله:
ذكر أن طرخان هذا كان عظيم المنزلة عند بابك، وكان أحد قواده، فلما دخل الشتاء من هذه السنة، استأذن بابك في الإذن له أن يشتو في قرية له بناحية المراغة- وكان الأفشين يرصده، ويحب الظفر به، لمكانه من بابك- فأذن له بابك، فصار إلى قريته ليشتو بها بناحيه هشتاد سر، فكتب الأفشين إلى ترك مولى إسحاق بن ابراهيم بن مصعب وهو بالمراغة، أن يسري إلى تلك القرية- ووصفها له- حتى يقتل طر خان، أو يبعث به إليه أسيرا فأسرى ترك إلى طرخان، فصار إليه في جوف الليل، فقتل طرخان وبعث برأسه الى الافشين وفي هذه السنه قدم صول أرتكين وأهل بلاده في قيود فنزعت قيودهم، وحمل على الدواب منهم نحو من مائتي رجل.
وفيها غضب الأفشين على رجاء الحضاري وبعث به مقيدا.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود بْن عيسى بْن موسى بْن محمد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس، وهو والي مكة.