161 هـ
777 م
سنة إحدى وستين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

فمما كان من ذلك خروج حكيم المقنع بخراسان من قرية من قرى مرو، وكان- فيما ذكر- يقول بتناسخ الأرواح، يعود ذلك إلى نفسه، …

فاستغوى بشرا كثيرا، وقوي وصار إلى ما وراء النهر، فوجه المهدي لقتاله عدة من قواده، فيهم معاذ بْن مسلم، وهو يومئذ على خراسان، ومعه عقبة بْن مسلم وجبرئيل بْن يحيى وليث مولى المهدي، ثم أفرد المهدي لمحاربته سعيدا الحرشي، وضم إليه القواد، وابتدأ المقنع بجمع الطعام عدة للحصار في قلعة بكش.
وفيها ظفر نصر بْن محمد بْن الأشعث الخزاعي بعبد الله بْن مروان بالشام، فقدم به على المهدي قبل أن يوليه السند، فحبسه المهدي في المطبق، فذكر أبو الخطاب أن المهدي أتي بعبد الله بْن مروان بْن محمد- وكان يكنى أبا الحكم- فجلس المهدي مجلسا عاما في الرصافة، فقال: من يعرف هذا؟ فقام عبد العزيز بْن مسلم العقيلي، فصار معه قائما، ثم قَالَ له: أبو الحكم؟ قَالَ: نعم ابن أمير المؤمنين قَالَ: كيف كنت بعدي؟ ثم التفت إلى المهدي، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، هذا عبد الله بْن مروان فعجب الناس من جرأته، ولم يعرض له المهدي بشيء.
قَالَ: ولما حبس المهدي عبد الله بْن مروان احتيل عليه، فجاء عمرو بْن سهلة الأشعري فادعى أن عبد الله بْن مروان قتل أباه، فقدمه إلى عافية القاضي، فتوجه عليه الحكم أن يقاد به، واقام عليه البينه، فلما كاد الحكم يبرم جاء عبد العزيز بْن مسلم العقيلي إلى عافية القاضي يتخطى رقاب الناس، حتى صار إليه، فقال: يزعم عمرو بْن سهلة أن عبد الله بْن مروان قتل أباه، كذب والله ما قتل أباه غيري، أنا قتلته بأمر مروان، وعبد الله بْن مروان من دمه بريء فزالت عن عبد الله بْن مروان، ولم يعرض المهدي لعبد العزيز بْن مسلم لأنه قتله بأمر مروان.
وفيها غزا الصائفة ثمامة بْن الوليد، فنزل دابق، وجاشت الروم وهو مغتر، فأتت طلائعه وعيونه بذلك، فلم يحفل بما جاءوا به، وخرج إلى الروم، وعليها ميخائيل بسرعان الناس، فأصيب من المسلمين عدة، وكان عيسى بْن علي مرابطا بحصن مرعش يومئذ، فلم يكن للمسلمين في ذلك العام صائفة من أجل ذلك.
وفيها أمر المهدي ببناء القصور في طريق مكة أوسع من القصور التي كان أبو العباس بناها من القادسية إلى زبالة، وأمر بالزيادة في قصور أبي العباس، وترك منازل أبي جعفر التي كان بناها على حالها، وأمر باتخاذ المصانع في كل منهل، وبتجديد الأميال والبرك، وحفر الركايا مع المصانع، وولى ذلك يقطين بْن موسى، فلم يزل ذلك إليه إلى سنة إحدى وسبعين ومائة، وكان خليفة يقطين في ذلك أخوه أبو موسى.
وفيها أمر المهدي بالزيادة في مسجد الجامع بالبصرة، فزيد فيه من مقدمه مما يلي القبلة، وعن يمينه مما يلي رحبة بني سليم، وولي بناء ذلك محمد بْن سليمان وهو يومئذ والي البصرة.
وفيها أمر المهدي بنزع المقاصير من مساجد الجماعات وتقصير المنابر وتصييرها إلى المقدار الذي عليه منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتب بذلك إلى الآفاق فعمل به.
وفيها أمر المهدي يعقوب بْن داود بتوجيه الأمناء في جميع الآفاق، فعمل به، فكان لا ينفذ للمهدي كتاب إلى عامل فيجوز حتى يكتب يعقوب بْن داود إلى أمينه وثقته بإنفاذ ذلك.
وفيها اتضعت منزلة أبي عبيد الله وزير المهدي، وضم يعقوب إليه من متفقهة البصرة وأهل الكوفة وأهل الشام عددا كثيرا، وجعل رئيس البصريين والقائم بأمرهم إسماعيل بن علية الأسدي ومحمد بْن ميمون العنبري، وجعل رئيس أهل الكوفة وأهل الشام عبد الأعلى بْن موسى الحلبي.

ذكر السبب الذي من أجله تغيرت منزلة أبي عبيد الله عند المهدي
قد ذكرنا سبب اتصاله به الذي كان قبل في أيام المنصور وضم المنصور إياه إلى المهدي حين وجهه إلى الري عند خلع عبد الجبار بْن عبد الرحمن المنصور، فذكر أبو زيد عمر بْن شبة، أن سعيد بْن إبراهيم حدثه أن جعفر بْن يحيى حدثه أن الفضل بْن الربيع أخبره، أن الموالي كانوا يشنعون على أبي عبيد الله عند المهدي، ويسعون عليه عنده، فكانت كتب أبي عبيد الله تنفذ عند المنصور بما يريد من الأمور، وتتخلى الموالي بالمهدي، فيبلغونه عن أبي عبيد الله، ويحرضونه عليه.
قَالَ الفضل: وكانت كتب ابى عبيد الله نصل إلى أبي تترى، يشكو الموالي وما يلقى منهم، ولا يزال يذكره عند المنصور ويخبره بقيامه، ويستخرج الكتب عنه الى المهدى بالوصاية به، وترك القبول فيه قَالَ: فلما رأى أبو عبيد الله غلبة الموالي على المهدي، وخلوتهم به نظر إلى أربعة رجال من قبائل شتى من أهل الأدب والعلم، فضمهم إلى المهدي، فكانوا في صحابته، فلم يكونوا يدعون الموالي يتخلون به.
ثم إن أبا عبيد الله كلم المهدي في بعض أمره إذ اعترض رجل من هؤلاء الأربعة في الأمر الذي تكلم فيه، فسكت عنه أبو عبيد الله، فلم يراده، وخرج فأمر أن يحجب عن المهدي فحجبه عنه، وبلغ ذلك من خبره أبي.
قَالَ: وحج أبي مع المنصور في السنة التي مات فيها، وقام أبي من أمر المهدي بما قام به من أمر البيعة وتجديدها على بيت المنصور والقواد والموالي، فلما قدم تلقيته بعد المغرب، فلم أزل معه حتى تجاوز منزله، وترك دار المهدي، ومضى إلى أبي عبيد الله، فقال: يا بني، هو صاحب الرجل، وليس ينبغي أن نعامله على ما كنا نعامله عليه، ولا أن نحاسبه بما كان منا في أمره من نصرتنا له قَالَ: فمضينا حتى أتينا باب أبي عبيد الله، فما زال واقفا حتى صليت العتمة، فخرج الحاجب، فقال: ادخل، فثنى رجله وثنيت رجلي قَالَ: إنما استأذنت لك يا أبا الفضل وحدك قَالَ: اذهب فأخبره أن الفضل معي.
قَالَ: ثم أقبل علي، فقال: وهذا أيضا من ذلك! قَالَ: فخرج الحاجب، فأذن لنا جميعا، فدخلنا أنا وأبي، وأبو عبيد الله في صدر المجلس، على مصلى متكئ على وسادة، فقلت: يقوم إلى أبي إذا دخل إليه، فلم يقم إليه، فقلت: يستوي جالسا إذا دنا، فلم يفعل، فقلت: يدعو له بمصلى، فلم يفعل، فقعد أبي بين يديه على البساط وهو متكئ، فجعل يسائله عن مسيره وسفره وحاله، وجعل أبي يتوقع أن يسأله عما كان منه في أمر المهدي وتجديد بيعته، فأعرض عن ذلك، فذهب أبي يبتدئه بذكره، فقال: قد بلغنا نبؤكم، قَالَ: فذهب أبي لينهض، فقال: لا أرى الدروب إلا وقد غلقت، فلو أقمت! قَالَ: فقال أبي: إن الدروب لا تغلق دوني، قَالَ: بلى قد أغلقت قَالَ: فظن أبي أنه يريد أن يحتبسه ليسكن من مسيره، ويريد أن يسأله، قَالَ: فأقيم قَالَ: يا فلان، اذهب فهيئ لأبي الفضل في منزل محمد بْن أبي عبيد الله مبيتا فلما رأى أنه يريد أن يخرج من الدار، قَالَ.
فليس تغلق الدروب دوني فاعتزم ثم قام، فلما خرجنا من الدار أقبل علي فقال: يا بني، أنت أحمق، قلت: وما حمقي أنا! قَالَ: تقول لي: كان ينبغي لك ألا تجيء، وكان ينبغي إذا جئت فحجبنا ألا تقيم حتى صليت العتمة، وأن تنصرف ولا تدخل، وكان ينبغي إذا دخلت فلم يقم إليك أن ترجع ولا تقيم عليه، ولم يكن الصواب إلا ما عملت كله، ولكن والله الذي لا إله إلا هو- واستغلق في اليمين- لأخلعن جاهي، ولأنفقن مالي حتى أبلغ من أبي عبيد الله.
قَالَ: ثم جعل يضطرب بجهده، فلا يجد مساغا إلى مكروهه، ويحتال الجد إذ ذكر القشيري الذي كان أبو عبيد الله حجبه، فأرسل اليه فجاءه، فقال: إنك قد علمت ما ركبك به أبو عبيد الله، وقد بلغ مني كل غاية من المكروه، وقد أرغت أمره بجهدي، فما وجدت عليه طريقا، فعندك حيلة في أمره؟ فقال: إنما يؤتى أبو عبيد الله من أحد وجوه أذكرها لك.
يقال: هو رجل جاهل بصناعته وأبو عبيد الله أحذق الناس، أو يقال: هو ظنين في الدين بتقليده، وأبو عبيد الله أعف الناس، لو كان بنات المهدي في حجره لكان لهن موضع، أو يقال: هو يميل إلى أن يخالف السلطان فليس يؤتى أبو عبيد الله من ذلك، إلا أنه يميل إلى القدر بعض الميل، وليس يتسلق عليه بذاك أن يقال: هو متهم، ولكن هذا كله مجتمع لك في ابنه، قَالَ: فتناوله الربيع، فقبل بين عينيه، ثم دب لابن ابى عبيد الله، فو الله ما زال يحتال ويدس إلى المهدي ويتهمه ببعض حرم المهدي، حتى استحكم عند المهدي الظنة بمحمد بْن أبي عبيد الله، فأمر فأحضر، وأخرج أبو عبيد الله.
فقال: يا محمد اقرأ، فذهب ليقرأ، فاستعجم عليه القرآن، فقال: يا معاوية ألم تعلمني أن ابنك جامع للقرآن؟ قَالَ: أخبرتك يا أمير المؤمنين، ولكن فارقني منذ سنين، وفي هذه المدة التي نأى فيها عني نسي القرآن، قَالَ: قم فتقرب إلى الله في دمه، فذهب ليقوم فوقع، فقال العباس بْن محمد: إن رأيت يا أمير المؤمنين أن تعفي الشيخ! قَالَ: ففعل، وأمر به فأخرج، فضربت عنقه.
قَالَ: فاتهمه المهدي في نفسه، فقال له الربيع: قتلت ابنه، وليس ينبغي أن يكون معك، ولا أن تثق به فأوحش المهدي، وكان الذي كان من أمره وبلغ الربيع ما أراد، واشتفى وزاد.
وذكر محمد بْن عبد الله يعقوب بْن داود، قَالَ: أخبرني أبي، قَالَ: ضرب المهدي رجلا من الأشعريين، فاوجعه، فتعصب ابو عبيد الله- وكان مولى لهم، فقال: القتل أحسن من هذا يا أمير المؤمنين، فقال له المهدي:
يا يهودي، اخرج من عسكري لعنك الله قَالَ: ما أدري إلى أين أخرج إلا إلى النار! قَالَ: قلت: يا أمير المؤمنين، أحر بهذا أن لمثلها يتوقع، قَالَ: فقال لي: سبحان الله يا أبا عبيد الله! وفيها غزا الغمر بْن العباس في البحر.
وفيها ولي نصر بْن محمد بْن الأشعث السند مكان روح بْن حاتم، وشخص إليها حتى قدمها ثم عزل وولي مكانه محمد بْن سليمان، فوجه إليها عبد الملك ابن شهاب المسمعي، فقدمها على نصر، فبغته، ثم أذن له في الشخوص، فشخص حتى نزل الساحل على ستة فراسخ من المنصورة، فأتى نصر بْن محمد عهده على السند، فرجع إلى عمله، وقد كان عبد الملك أقام بها ثمانية عشر يوما، فلم يعرض له، فرجع إلى البصرة.
وفيها استقضى المهدي عافية بن يزيد الأزدي، فكان هو وابن علاثة يقضيان في عسكر المهدي في الرصافة، وكان القاضي بمدينة الشرقية عمر بْن حبيب العدوي.
وفيها عزل الفضل بْن صالح عن الجزيرة، واستعمل عليها عبد الصمد ابن علي.
وفيها استعمل عيسى بْن لقمان على مصر.
وفيها ولي يزيد بْن منصور سواد الكوفه وحسان الشروى الموصل وبسطام ابن عمرو التغلبي أذربيجان.
وفيها عزل أبا أيوب المسمى سليمان المكي عن ديوان الخراج، وولي مكانه أبو الوزير عمر بْن مطرف.
وفيها توفي نصر بْن مالك من فالج أصابه، ودفن في مقابر بني هاشم وصلى عليه المهدي.
وفيها صرف أبان بْن صدقة عن هارون بْن المهدي إلى موسى بْن المهدي، وجعله له كاتبا ووزيرا، وجعل مكانه مع هارون ابن المهدى يحيى بن خالد ابن برمك وفيها عزل محمد بْن سليمان أبا ضمرة عن مصر في ذي الحجة المهدي وولاها سلمة بْن رجاء.
وحج بالناس في هذه السنة موسى بْن محمد بْن عبد الله الهادي، وهو ولي عهد أبيه.
وكان عامل الطائف ومكة واليمامة فيها جعفر بْن سليمان، وعلى صلاة الكوفة وأحداثها إسحاق بْن الصباح الكندي، وعلى سوادها يزيد بْن منصور.