231 هـ
845 م
سنة إحدى وثلاثين ومائتين (ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث)

فمن ذلك ما كان من أمر الفداء الذي جرى على يد خاقان الخادم بين المسلمين والروم في المحرم منها، فبلغت عدة المسلمين …

– فيما قيل- اربعه آلاف وثلاثمائة واثنين وستين إنسانا.

ذكر الخبر عن امر بنى سليم وغيرهم من القبائل

وفيها قتل من قتل من بني سليم بالمدينة في حبس بغا.

ذكر الخبر عن سبب قتلهم وما كان من أمرهم:
ذكر أن بغا لما صار إليه بنو هلال بذات عرق، فأخذ منهم من ذكرت أنه أخذ منهم، شخص معتمرا عمرة المحرم، ثم انصرف الى المدينة، فجمع كل من أخذ من بني هلال واحتبسهم عنده مع الذين كان أخذ من بني سليم، وجمعهم جميعا في دار يزيد بن معاوية في الأغلال والأقياد وكانت بنو سليم حبست قبل ذلك بأشهر ثم سار بغا إلى بني مرة، وفي حبس المدينة نحو من الف وثلاثمائة رجل من بني سليم وهلال، فنقبوا الدار ليخرجوا، فرأت امرأة من أهل المدينة النقب، فاستصرخت أهل المدينة فجاءوا، فوجدوهم قد وثبوا على الموكلين بهم، فقتلوا منهم رجلا أو رجلين، وخرج بعضهم أو عامتهم، فأخذوا سلاح الموكلين بهم، واجتمع عليهم أهل المدينة، أحرارهم وعبيدهم- وعامل المدينة يومئذ عبد الله بن أحمد بن داود الهاشمي- فمنعوهم الخروج، وباتوا محاصريهم حول الدار حتى أصبحوا، وكان وثوبهم عشية الجمعة، وذلك أن عزيزة بن قطاب قال لهم: إني أتشاءم بيوم السبت، ولم يزل اهل المدينة يعتقبون القتال، وقاتلتهم بنو سليم، فظهر أهل المدينة عليهم، فقتلوهم أجمعين، وكان عزيزة يرتجز، ويقول:

لا بد من زحم وإن ضاق الباب *** إني أنا عزيزة بن القطاب
للموت خير للفتى من العاب *** هذا وربي عمل للبواب

وقيده في يده قد فكه، فرمى به رجلا، فخر صريعا وقتلوا جميعا، وقتلت سودان المدينة من لقيت من الأعراب في أزقة المدينة ممن دخل يمتار، حتى لقوا أعرابيا خارجا من قبر النبي ص فقتلوه، وكان أحد بني أبي بكر بن كلاب من ولد عبد العزيز بن زرارة وكان بغا غائبا عنهم، فلما قدم فوجدهم قد قتلوا شق ذلك عليه، ووجد منه وجدا شديدا.
وذكر أن البواب كان قد ارتشى منهم، ووعدهم أن يفتح لهم الباب، فعجلوا قبل ميعاده، فكانوا يرتجزون ويقولون وهم يقاتلون:

الموت خير للفتى من العار *** قد أخذ البواب ألف دينار

وجعلوا يقولون حين أخذهم بغا:

يا بغية الخير وسيف المنتبه *** وجانب الجور البعيد المشتبه
من كان منا جانيا فلست به *** افعل هداك الله ما أمرت به

فقال: أمرت أن أقتلكم وكان عزيزة بن قطاب رأس بني سليم حين قتل أصحابه صار إلى بئر، فدخلها، فدخل عليه رجل من أهل المدينة فقتله، وصفت القتلى على باب مروان بن الحكم، بعضها فوق بعض.
وحدثني أحمد بن محمد أن مؤذن أهل المدينة أذن ليلة حراستهم بني سليم بليل ترهيبا لهم بطلوع الفجر، وأنهم قد أصبحوا، فجعل الأعراب يضحكون، ويقولون: يا شربة السويق، تعلموننا بالليل، ونحن أعلم به منكم! فقال رجل من بني سليم:

متى كان ابن عباس أميرا *** يصل لصقل نابيه صريف
يجور ولا يرد الجور منه *** ويسطو ما لوقعته ضعيف
وقد كنا نرد الجور عنا *** إذا انتضيت بأيدينا السيوف
أمير المؤمنين سما إلينا *** سمو الليث ثار من الغريف
فإن يمنن فعفو الله نرجو *** وإن يقتل فقاتلنا شريف

وكان سبب غيبة بغا عنهم أنه توجه إلى فدك لمحاربة من فيها ممن كان تغلب عليها من بني فزارة ومرة، فلما شارفهم وجه إليهم رجلا من فزارة يعرض عليهم الأمان، ويأتيه بأخبارهم، فلما قدم عليهم الفزاري حذرهم سطوته، وزين لهم الهرب، فهربوا ودخلوا في البر، ودخلوا فدك إلا نفرا بقوا فيها منهم، وكان قصدهم خيبر وجنفاء ونواحيها، فظفر ببعضهم، واستأمن بعضهم، وهرب الباقون مع رأس لهم يقال له الركاض إلى موضع من البلقاء من عمل دمشق، وأقام بغا بجنفاء وهي قرية من حد عمل الشام، مما يلي الحجاز نحوا من أربعين ليلة، ثم انصرف إلى المدينة بمن صار في يديه من بني مرة وفزارة.
وفي هذه السنة صار إلى بغا من بطون غطفان وفزارة وأشجع جماعة، وكان وجه إليهم وإلى بني ثعلبة، فلما صاروا إليه- فيما ذكر- امر محمد ابن يوسف الجعفري، فاستحلفهم الايمان المؤكدة ألا يتخلفوا عنه متى دعاهم فحلفوا، ثم شخص إلى ضرية لطلب بني كلاب، ووجه إليهم رسله، فاجتمع إليه منهم- فيما قيل- نحو من ثلاثة آلاف رجل، فاحتبس منهم من أهل الفساد نحوا من ألف رجل وثلاثمائة رجل، وخلى سائرهم، ثم قدم بهم المدينة في شهر رمضان سنة إحدى وثلاثين ومائتين، فحبسهم في دار يزيد بن معاوية، ثم شخص إلى مكة بغا، وأقام بها حتى شهد الموسم، فبقي بنو كلاب في الحبس لا يجري عليهم شيء مدة غيبة بغا، حتى رجع إلى المدينة، فلما صار إلى المدينة أرسل إلى من كان استحلف من ثعلبة وأشجع وفزارة فلم يجيبوه، وتفرقوا في البلاد، فوجه في طلبهم فلم يلحق منهم كثير احد.

ذكر مقتل احمد بن نصر الخزاعي على يد الواثق
وفي هذه السنة تحرك ببغداد قوم في ربض عمرو بن عطاء، فأخذوا على أحمد بن نصر الخزاعي البيعة.

ذكر الخبر عن سبب حركة هؤلاء القوم وما آل إليه أمرهم وأمر أحمد بن نصر:
وكان السبب في ذلك أن أحمد بن نصر بن مالك بن الهيثم الخزاعي- ومالك بن الهيثم أحد نقباء بني العباس، وكان ابنه أحمد يغشاه أصحاب الحديث، كيحيى بن معين وابن الدورقى وابن خيثمة، وكان يظهر المباينة لمن يقول: القرآن مخلوق، مع منزلة أبيه كانت من السلطان في دولة بني العباس، ويبسط لسانه فيمن يقول ذلك، مع غلظة الواثق كانت على من يقول ذلك وامتحانه إياهم فيه، وغلبه أحمد بن ابى دواد عليه- فحدثني بعض أشياخنا، عمن ذكره، أنه دخل على أحمد بن نصر في بعض تلك الأيام وعنده جماعة من الناس، فذكر عنده الواثق، فجعل يقول: ألا فعل هذا الخنزير! أو قال: هذا الكافر، وفشا ذلك من أمره، فخوف بالسلطان، وقيل له: قد اتصل أمرك به، فخافه.
وكان فيمن يغشاه رجل- فيما ذكر- يعرف بأبي هارون السراج وآخر يقال له طالب، وآخر من أهل خراسان من أصحاب إسحاق بن إبراهيم بن مصعب صاحب الشرطة ممن يظهر له القول بمقالته، فحرك المطيفون به- يعني أحمد بن نصر- من أصحاب الحديث، وممن ينكر القول بخلق القرآن من أهل بغداد- أحمد، وحملوه على الحركة لإنكار القول بخلق القرآن، وقصدوه بذلك دون غيره، لما كان لأبيه وجده في دولة بني العباس من الأثر، ولما كان له ببغداد، وأنه كان أحد من بايع له أهل الجانب الشرقي على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والسمع له في سنه احدى ومائتين، لما كثر الدعار بمدينة السلام، وظهر بها الفساد والمأمون بخراسان، وقد ذكرنا خبره فيما مضى وأنه لم يزل أمره على ذلك ثابتا إلى أن قدم المأمون بغداد في سنة أربع ومائتين، فرجوا استجابة العامة له إذا هو تحرك للأسباب التي ذكرت.
فذكر أنه أجاب من سأله ذلك، وأن الذي كان يسعى له في دعاء الناس له الرجلان اللذان ذكرت اسميهما قبل وأن أبا هارون السراج وطالبا فرقا في قوم مالا، فأعطيا كل رجل منهم دينارا دينارا، وواعداهم ليلة يضربون فيها الطبل للاجتماع في صبيحتها للوثوب بالسلطان، فكان طالب بالجانب الغربي من مدينة السلام فيمن عاقده على ذلك، وأبو هارون بالجانب الشرقي فيمن عاقده عليه، وكان طالب وأبو هارون أعطيا فيمن أعطيا رجلين من بني أشرس القائد دنانير يفرقانها في جيرانهم، فانتبذ بعضهم نبيذا، واجتمع عدة منهم على شربه، فلما ثملوا ضربوا بالطبل ليلة الأربعاء قبل الموعد بليلة، وكان الموعد لذلك ليلة الخميس في شعبان سنة إحدى وثلاثين ومائتين، لثلاث تخلو منه، وهم يحسبونها ليلة الخميس التي اتعدوا لها، فأكثروا ضرب الطبل، فلم يجبهم أحد وكان إسحاق بن إبراهيم غائبا عن بغداد وخليفته بها أخوه محمد بن إبراهيم، فوجه إليهم محمد بن إبراهيم غلاما له يقال له رحش، فأتاهم فسألهم عن قصتهم، فلم يظهر له أحد ممن ذكر بضرب الطبل، فدل على رجل يكون في الحمامات مصاب بعينه، يقال له عيسى الأعور، فهدده بالضرب، فأقر على ابني أشرس وعلى أحمد بن نصر بن مالك وعلى آخرين سماهم، فتتبع القوم من ليلتهم، فأخذ بعضهم، وأخذ طالبا ومنزله في الربض من الجانب الغربي، وأخذ أبا هارون السراج ومنزله في الجانب الشرقي، وتتبع من سماه عيسى الأعور في أيام وليال، فصيروا في الحبس في الجانب الشرقي والغربي، كل قوم في ناحيتهم التي أخذوا فيها، وقيد أبو هارون وطالب بسبعين رطلا من الحديد كل واحد منهما، وأصيب في منزل ابني أشرس علمان أخضران فيهما حمرة في بئر، فتولى إخراجهما رجل من أعوان محمد بن عياش- وهو عامل الجانب الغربي، وعامل الجانب الشرقي العباس بن محمد بن جبريل القائد الخراساني- ثم أخذ خصي لأحمد ابن نصر فتهدد، فأقر بما أقر به عيسى الأعور، فمضى إلى أحمد بن نصر وهو في الحمام، فقال لأعوان السلطان: هذا منزلي، فإن أصبتم فيه علما أو عدة أو سلاحا لفتنة فأنتم في حل منه ومن دمي، ففتش فلم يوجد فيه شيء، فحمل إلى محمد بن إبراهيم بن مصعب وأخذوا خصيين وابنين له ورجلا ممن كان يغشاه يقال له إسماعيل بن محمد بن معاوية بن بكر الباهلي، ومنزله بالجانب الشرقي، فحمل هؤلاء الستة إلى أمير المؤمنين الواثق وهو بسامرا على بغال باكف ليس تحتهم وطاء، فقيد أحمد بن نصر بزوج قيود، وأخرجوا من بغداد يوم الخميس لليلة بقيت من شعبان سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وكان الواثق قد أعلم بمكانهم، وأحضر ابن ابى دواد وأصحابه، وجلس لهم مجلسا عاما ليمتحنوا امتحانا مكشوفا، فحضر القوم واجتمعوا عنده.
وكان أحمد بن ابى دواد- فيما ذكر- كارها قتله في الظاهر، فلما أتي بأحمد بن نصر لم يناظره الواثق في الشغب ولا فيما رفع عليه من إرادته الخروج عليه، ولكنه قال له: يا أحمد، ما تقول في القرآن؟ قال: كلام الله- وأحمد بن نصر مستقتل قد تنور وتطيب، قال: أفمخلوق هو؟ قال: هو كلام الله، قال: فما تقول في ربك، أتراه يوم القيامة؟ قال: يا أمير المؤمنين جاءت الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته»، فنحن على الخبر قال: وحدثنى سفيان ابن عيينة بحديث يرفعه: أن قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الله يقلبه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو: «يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك»، فقال له إسحاق بن إبراهيم: ويلك! انظر ماذا تقول! قال: أنت أمرتني بذلك، فأشفق إسحاق من كلامه، وقال: أنا أمرتك بذلك! قال: نعم، أمرتني أن أنصح له إذ كان أمير المؤمنين، ومن نصيحتي له الا يخالف حديث رسول الله ص فقال الواثق لمن حوله: ما تقولون فيه؟
فأكثروا، فقال عبد الرحمن بن إسحاق- وكان قاضيا على الجانب الغربي فعزل، وكان حاضرا وكان أحمد بن نصر ودا له-: يا أمير المؤمنين، هو حلال الدم، وقال أبو عبد الله الأرمني صاحب ابن أبي دواد: اسقني دمه يا أمير المؤمنين، فقال الواثق: القتل يأتي على ما تريد، وقال ابن ابى دواد:
يا أمير المؤمنين كافر يستتاب، لعل به عاهة أو تغير عقل- كأنه كره أن يقتل بسببه- فقال الواثق: إذا رأيتموني قد قمت إليه، فلا يقومن أحد معي، فإني أحتسب خطاي إليه ودعا بالصمصامة- سيف عمرو بن معديكرب الزبيدي وكان في الخزانة، كان أهدي إلى موسى الهادي، فأمر سلما الخاسر الشاعر أن يصفه له، فوصفه فأجازه- فأخذ الواثق الصمصامة- وهي صفيحة موصولة من أسفلها مسمورة بثلاثة مسامير تجمع بين الصفيحة والصلة- فمشى إليه وهو في وسط الدار، ودعا بنطع فصير في وسطه، وحبل فشد رأسه، ومد الحبل، فضربه الواثق ضربة، فوقعت على حبل العاتق، ثم ضربه أخرى على رأسه، ثم انتضى سيما الدمشقي سيفه، فضرب عنقه وحز رأسه.
وقد ذكر أن بغا الشرابي ضربه ضربة أخرى، وطعنه الواثق بطرف الصمصامة في بطنه، فحمل معترضا حتى أتي به الحظيرة التي فيها بابك، فصلب فيها وفي رجله زوج قيود، وعليه سراويل وقميص، وحمل رأسه إلى بغداد، فنصب في الجانب الشرقي أياما، وفي الجانب الغربي أياما، ثم حول إلى الشرقي، وحظر على الرأس حظيرة، وضرب عليه فسطاط، وأقيم عليه الحرس، وعرف ذلك الموضع برأس أحمد بن نصر، وكتب في أذنه رقعة:
هذا رأس الكافر المشرك الضال، وهو أحمد بن نصر بن مالك، ممن قتله الله على يدي عبد الله هارون الإمام الواثق بالله أمير المؤمنين، بعد أن أقام عليه الحجة في خلق القرآن ونفي التشبيه، وعرض عليه التوبة، ومكنه من الرجوع إلى الحق، فأبى إلا المعاندة والتصريح، والحمد لله الذي عجل به إلى ناره وأليم عقابه وإن أمير المؤمنين سأله عن ذلك، فأقر بالتشبيه وتكلم بالكفر، فاستحل بذلك أمير المؤمنين دمه، ولعنه وأمر أن يتتبع من وسم بصحبة أحمد بن نصر، ممن ذكر انه كان متشايعا له، فوضعوا في الحبوس، ثم جعل نيف وعشرون رجلا وسموا في حبوس الظلمة، ومنعوا من أخذ الصدقة التي يعطاها أهل السجون، ومنعوا من الزوار، وثقلوا بالحديد وحمل أبو هارون السراج وآخر معه إلى سامرا، ثم ردوا إلى بغداد، فجعلوا في المحابس.
وكان سبب أخذ الذين أخذوا بسبب أحمد بن نصر، أن رجلا قصارا كان في الربض جاء إلى إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فقال: أنا أدلك على أصحاب أحمد بن نصر، فوجه معه من يتبعهم، فلما اجتمعوا وجدوا على القصار سببا حبسوه معهم، وكان له في المهرزار نخل، فقطع وانتهب منزله، وكان ممن حبس بسببه قوم من ولد عمرو بن اسفنديار، فماتوا في الحبس، فقال بعض الشعراء في احمد بن ابى دواد:

ما إن تحولت من إياد *** صرت عذابا على العباد
أنت كما قلت من اياد *** فارفق بهذا الخلق يا إيادي

وفي هذه السنة أراد الواثق الحج، فاستعد له، ووجه عمر بن فرج إلى الطريق لإصلاحه، فرجع فأخبره بقلة الماء فبدا له وحج بالناس فيها محمد بن داود بن عيسى وفيها ولى الواثق جعفر بن دينار اليمن، فشخص إليها في شعبان وحج هو وبغا الكبير، وعلى أحداث الموسم بغا الكبير، وكان شخوص جعفر إلى اليمن في أربعة آلاف فارس وألفي راجل وأعطي رزق ستة أشهر وعقد محمد بن عبد الملك الزيات لإسحاق بن إبراهيم بن أبي خميصة مولى بني قشير من أهل أضاخ فيها على اليمامة والبحرين وطريق مكة، مما يلي البصرة في دار الخلافة، ولم يذكر أن أحدا عقد لأحد في دار الخلافة إلا الخليفة غير محمد بن عبد الملك الزيات وفي هذه السنة نقب قوم من اللصوص بيت المال الذي في دار العامة في جوف القصر، وأخذوا اثنين وأربعين ألفا من الدراهم، وشيئا من الدنانير يسيرا، فأخذوا بعد وتتبع أخذهم يزيد الحلواني، صاحب الشرطة خليفة إيتاخ وفيها خرج محمد بن عمرو الخارجي من بني زيد بن تغلب في ثلاثة عشر رجلا في ديار ربيعة، فخرج إليه غانم بن أبي مسلم بن حميد الطوسي، وكان على حرب الموصل في مثل عدته، فقتل من الخوارج اربعه، وأخذ محمد ابن عمرو أسيرا فبعث به إلى سامرا، فبعث به إلى مطبق بغداد، ونصبت رءوس أصحابه وأعلامه عند خشبة بابك وفي هذه السنة قدم وصيف التركي من ناحية أصبهان والجبال وفارس، وكان شخص في طلب الأكراد، لأنهم قد كانوا تطرقوا إلى هذه النواحي، وقدم معه منهم بنحو من خمسمائة نفس، فيهم غلمان صغار، جمعهم في قيود وأغلال، فأمر بحبسهم، وأجيز وصيف بخمسة وسبعين الف دينار، وقلد سيفا وكسى.

خبر الفداء بين المسلمين والروم
وفي هذه السنة، تم الفداء بين المسلمين وصاحب الروم، واجتمع فيها المسلمون والروم على نهر يقال له اللمس على سلوقية على مسيرة يوم من طرسوس.

ذكر الخبر عن سبب هذا الفداء وكيف كان:
ذكر عن أحمد بن أبي قحطبة صاحب خاقان الخادم- وكان خادم الرشيد، وكان قد نشأ بالثغر- أن خاقان هذا قدم على الواثق، وقدم معه نفر من وجوه أهل طرسوس وغيرها يشكون صاحب مظالم كان عليهم، يكنى أبا وهب، فأحضر، فلم يزل محمد بن عبد الملك يجمع بينه وبينهم في دار العامة عند انصراف الناس يوم الاثنين والخميس، فيمكثون إلى وقت الظهر، وينصرف محمد بن عبد الملك وينصرفون، فعزل عنهم، وأمر الواثق بامتحان أهل الثغور في القرآن، فقالوا بخلقه جميعا، إلا أربعة نفر، فأمر الواثق بضرب أعناقهم إن لم يقولوه، وأمر لجميع أهل الثغور بجوائز على ما رأى خاقان، وتعجل أهل الثغور إلى ثغورهم، وتأخر خاقان بعدهم قليلا، فقدم على الواثق رسل صاحب الروم- وهو ميخائيل بن توفيل بن ميخائيل ابن اليون بن جورجس- يسأله أن يفادي بمن في يده من أسارى المسلمين، فوجه الواثق خاقان في ذلك، فخرج خاقان ومن معه في فداء أسارى المسلمين في آخر سنة ثلاثين ومائتين على موعد بين خاقان ورسل صاحب الروم للالتقاء للفداء في يوم عاشوراء، وذلك في العاشر من المحرم سنة إحدى وثلاثين ومائتين ثم عقد الواثق لأحمد بن سعيد بن سلم بن قتيبة الباهلي على الثغور والعواصم، وأمره بحضور الفداء، فخرج على سبعة عشر من البرد وكان الرسل الذين قدموا في طلب الفداء قد جرى بينهم وبين ابن الزيات اختلاف في الفداء، قالوا: لا نأخذ في الفداء امرأة عجوزا ولا شيخا كبيرا ولا صبيا، فلم يزل ذلك بينهم أياما حتى رضوا عن كل نفس بنفس.
فوجه الواثق إلى بغداد والرقة في شري من يباع من الرقيق من مماليك، فاشترى من قدر عليه منهم، فلم تتم العدة، فأخرج الواثق من قصره من النساء الروميات العجائز وغيرهن، حتى تمت العدة، ووجه ممن مع ابن أبي دواد رجلين، يقال لأحدهما يحيى بن آدم الكرخي، ويكنى أبا رملة، وجعفر بن احمد بن الحذاء، ووجه معهما كاتبا من كتاب العرض، يقال له طالب بن داود، وأمره بامتحانهم هو وجعفر، فمن قال: القرآن مخلوق فودي به، ومن أبى ذلك ترك في أيدي الروم، وأمر لطالب بخمسة آلاف درهم، وأمر أن يعطوا جميع من قال: إن القرآن مخلوق، ممن فودي به دينارا لكل إنسان من ماله حمل معهم، فمضى القوم.
فذكر عن أحمد بن الحارث أنه قال: سألت ابن أبي قحطبة صاحب خاقان الخادم- وكان السفير الموجه بين المسلمين والروم، وجه ليعرف عدة المسلمين في بلاد الروم فأتى ملك الروم وعرف عدتهم قبل الفداء- فذكر أنه بلغت عدتهم ثلاثة آلاف رجل وخمسمائة امرأة، فأمر الواثق بفدائهم، وعجل أحمد بن سعيد على البريد ليكون الفداء على يديه، ووجه من يمتحن الأسراء من المسلمين، فمن قال منهم: إن القرآن مخلوق، وإن الله عز وجل لا يرى في الآخرة فودي به، ومن لم يقل ذلك ترك في أيدي الروم، ولم يكن فداء منذ أيام محمد بن زبيدة في سنة أربع أو خمس وتسعين ومائة قال: فلما كان يوم عاشوراء، لعشر خلون من المحرم سنة إحدى وثلاثين ومائتين، اجتمع المسلمون ومن معهم من العلوج وقائدان من قواد الروم، يقال لأحدهما انقاس وللآخر لمسنوس، والمسلمون والمطوعة في أربعة آلاف بين فارس وراجل، فاجتمعوا بموضع يقال له اللمس، فذكر عن محمد بن أحمد بن سعيد بن سلم بن قتيبة الباهلي أن كتاب أبيه أتاه، أن من فودي به من المسلمين ومن كان معهم من أهل ذمتهم اربعه آلاف وستمائه انسان، منهم صبيان ونساء ستمائه، ومنهم من اهل الذمة اقل من خمسمائة والباقون رجال من جميع الآفاق.
وذكر أبو قحطبة- وكان رسول خاقان الخادم إلى ملك الروم لينظركم عدد الأسرى، ويعلم صحة ما عزم عليه ميخائيل ملك الروم- أن عدد المسلمين قبل الفداء كان ثلاثة آلاف رجل وخمسمائة امرأة وصبي، ممن كان بالقسطنطينية وغيرها، إلا من أحضره الروم ومحمد بن عبد الله الطرسوسي- وكان عندهم- فأوفده أحمد بن سعيد بن سلم وخاقان مع نفر من وجوه الأسرى على الواثق، فحملهم الواثق على فرس فرس، وأعطى لكل رجل منهم ألف درهم.
وذكر محمد هذا أنه كان أسيرا في أيدي الروم ثلاثين سنة، وأنه كان أسر في غزاة رامية كان في العلافة فأسر، وكان فيمن فودي به في هذا الفداء، وقال: فودي بنا في يوم عاشوراء على نهر يقال له اللامس، على سلوقية قريبا من البحر، وأن عدتهم كانت أربعة آلاف وأربعمائة وستين نفسا، النساء وازواجهن وصبيانهن ثمانمائه وأهل ذمة المسلمين مائة أو أكثر، فوقع الفداء كل نفس عن نفس صغيرا أو كبيرا، فاستفرغ خاقان جميع من كان في بلد الروم من المسلمين ممن علم موضعه.
قال: فلما جمعوا للفداء، وقف المسلمون من جانب النهر الشرقي والروم من الجانب الغربي- وهو مخاضه- فكان هؤلاء يرسلون من هاهنا رجلا وهؤلاء من هاهنا رجلا، فيلتقيان في وسط النهر، فإذا صار المسلم إلى المسلمين كبر وكبروا وإذا صار الرومي إلى الروم تكلم بكلامهم، وتكلموا شبيها بالتكبير.
وذكر عن السندي مولى حسين الخادم، أنه قال: عقد المسلمون جسرا على النهر، وعقد الروم جسرا، فكنا نرسل الرومي على جسرنا ويرسل الروم المسلم على جسرهم، فيصير هذا إلينا وذاك إليهم، وأنكر أن يكون مخاضة.
وذكر عن محمد بن كريم أنه قال: لما صرنا في أيدي المسلمين، امتحننا جعفر ويحيى، فقلنا، وأعطينا دينارين دينارين قال: وكان البطريقان اللذان قدما بالأسرى لا بأس بهما في معاشرتهما.
قال: وخاف الروم عدد المسلمين لقلتهم وكثرة المسلمين، فآمنهم خاقان من ذلك، وضرب بينهم وبين المسلمين أربعين يوما لا يغزون حتى يصلوا إلى بلادهم ومأمنهم، وكان الفداء في أربعة أيام، ففضل مع خاقان ممن كان أمير المؤمنين أعد لفداء المسلمين عدة كبيرة، وأعطى خاقان صاحب الروم ممن كان قد فضل في يده مائة نفس، ليكون عليهم الفضل استظهارا مكان من يخشى أن يأسروه من المسلمين إلى انقضاء المدة، ورد الباقين إلى طرسوس، فباعهم.
قال: وكان خرج معنا ممن كان تنصر ببلاد الروم من المسلمين نحو من ثلاثين رجلا فودي بهم.
قال محمد بن كريم: ولما انقضت المدة بين خاقان والروم الأربعون يوما، غزا أحمد بن سعيد بن سلم بن قتيبة، فأصاب الناس الثلج والمطر، فمات منهم قدر مائتي إنسان وغرق منهم في البدندون قوم كثير، وأسر منهم نحو من مائتين، فوجد أمير المؤمنين الواثق عليه لذلك، وحصل جميع من مات وغرق خمسمائة إنسان، وكان أقبل إلى أحمد بن سعيد وهو في سبعة آلاف بطريق من عظمائهم فجبن عنه، فقال له وجوه الناس: إن عسكرا فيه سبعة آلاف لا يتخوف عليه، فإن كنت لا تواجه القوم فتطرق بلادهم.
فأخذ نحوا من ألف بقرة وعشرة آلاف شاة، وخرج فعزله الواثق، وعقد لنصر بن حمزة الخزاعي يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى من هذه السنة.
وفي هذه السنة مات الحسن بن الحسين، أخو طاهر بن الحسين بطبرستان في شهر رمضان.
وفيها مات الخطاب بن وجه الفلس وفيها مات ابو عبد الله الأعرابي الراوية يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من شعبان وهو ابن ثمانين سنة.
وفيها ماتت أم أبيها بنت موسى أخت علي بن موسى الرضى وفيها مات مخارق المغني، وأبو نصر أحمد بن حاتم راوية الأصمعي، وعمرو ابن أبي عمرو الشيباني ومحمد بن سعدان النحوي.