241 هـ
855 م
سنة إحدى وأربعين ومائتين (ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث)

ذكر الخبر عن وثوب اهل حمص بعاملهم مره اخرى، فمن ذلك ما كان من وثوب أهل حمص بعاملهم على المعونة، وهو محمد ابن عبدويه …

ذكر الخبر عما كان من أمرهم فيها وما آل إليه الأمر بينهم.
ذكر أن أهل حمص وثبوا في جمادى الآخرة من هذه السنة بمحمد بن عبدويه عاملهم على المعونة، وأعانهم على ذلك قوم من نصارى حمص، فكتب بذلك إلى المتوكل، فكتب إليه يأمره بمناهضتهم، وأمده بجند من راتبة دمشق، مع صالح العباسي التركي، وهو عامل دمشق وجند من جند الرملة، فأمره أن يأخذ من رؤسائهم ثلاثة نفر فيضربهم بالسياط ضرب التلف، فإذا ماتوا صلبهم على أبوابهم، وأن يأخذ بعد ذلك من وجوههم عشرين إنسانا فيضربهم ثلاثمائة سوط، كل واحد منهم، ويحملهم في الحديد إلى باب أمير المؤمنين، وأن يخرب ما بها من الكنائس والبيع، وأن يدخل البيعة التي الى جانب مسجدها في المسجد، والا يترك في المدينة نصرانيا إلا أخرجه منها، وينادى فيهم قبل ذلك، فمن وجده فيها بعد ثلاثة أحسن أدبه وأمر لمحمد بن عبدويه بخمسين ألف درهم، وأمر لقواده ووجوه أصحابه بصلات، وأمر لخليفته علي بن الحسين بخمسة عشر ألف درهم، ولقواده بخمسة آلاف خمسه آلاف درهم، وأمر بخلع، فأخذ محمد بن عبدويه عشرة منهم، فكتب بأخذهم، وأنه قد حملهم إلى دار أمير المؤمنين ولم يضربهم، فوجه المتوكل رجلا من أصحاب الفتح بن خاقان يقال له محمد بن رزق الله، ليرد من الذين وجه بهم ابن عبدويه محمد بن عبد الحميد الحميدى والقاسم بن موسى بن فوعوس إلى حمص، وأن يضربهما ضرب التلف، ويصلبهما على باب حمص، فردهما وضربهما بالسياط حتى ماتا، وصلبهما على باب حمص، وقدم بالآخرين سامرا وهم ثمانية، فلما صاروا بنصيبين مات واحد منهم، فأخذ المتوكل بهم رأسه، وقدم بسبعة منهم سامرا وبرأس الميت ثم كتب محمد بن عبدويه أنه أخذ عشرة نفر منهم بعد ذلك، وضرب منهم خمسة نفر بالسياط فماتوا، ثم ضرب خمسة فلم يموتوا ثم كتب محمد ابن عبدويه بعد ذلك أنه ظفر برجل منهم من المخالفين يقال له عبد الملك بن إسحاق ابن عمارة- وكان فيما ذكر- رأسا من رءوس الفتنة، فضربه بباب حمص بالسياط حتى مات، وصلبه على حصن يعرف بتل العباس.
قال ابو جعفر: وفي هذه السنة مطر الناس- فيما ذكر- بسامرا مطرا جودا في آب وفيها ولي القضاء بالشرقية في المحرم أبو حسان الزيادي.

ذكر الخبر عن ضرب عيسى بن جعفر وما آل اليه امره
وفيها ضرب عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم صاحب خان عاصم ببغداد- فيما قيل- ألف سوط.
ذكر الخبر عن سبب ضربه وما كان من أمره في ذلك: وكان السبب في ذلك أنه شهد عند أبي حسان الزيادي قاضي الشرقية عليه أنه شتم أبا بكر وعمر وعائشة وحفصة، سبعة عشر رجلا، شهاداتهم- فيما ذكر- مختلفة من هذا النحو، فكتب بذلك صاحب بريد بغداد الى عبيد الله ابن يحيى بن خاقان، فأنهى عبيد الله ذلك إلى المتوكل، فأمر المتوكل أن يكتب إلى محمد بن عبد الله بن طاهر يأمره بضرب عيسى هذا بالسياط، فإذا مات رمى به في دجلة، ولم تدفع جيفته إلى أهله.
فكتب عبيد الله إلى الحسن بن عثمان جواب كتابه إليه في عيسى:
بسم الله الرحمن الرحيم، أبقاك الله وحفظك، وأتم نعمته عليك، وصل كتابك في الرجل المسمى عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم صاحب الخانات، وما شهد به الشهود عليه من شتم أصحاب رسول الله ص ولعنهم وإكفارهم، ورميهم بالكبائر، ونسبتهم إلى النفاق، وغير ذلك مما خرج به إلى المعاندة لله ولرسوله ص، وتثبتك في أمر أولئك الشهود وما شهدوا به، وما صح عندك من عدالة من عدل منهم، ووضح لك من الأمر فيما شهدوا به، وشرحك ذلك في رقعة درج كتابك، فعرضت على أمير المؤمنين أعزه الله ذلك، فأمر بالكتاب إلي أبي العباس محمد بن طاهر مولى أمير المؤمنين أبقاه الله بما قد نفذ إليه، مما يشبه ما عنده ابقاه الله، في نصرة دين الله، وإحياء سنته، والانتقام ممن ألحد فيه، وأن يضرب الرجل حدا في مجمع الناس حد الشتم، وخمسمائة سوط بعد الحد للأمور العظام التي اجترأ عليها، فان مات القى في الماء من غير صلاة ليكون ذلك ناهيا لكل ملحد في الدين، خارج من جماعة المسلمين، وأعلمتك ذلك لتعرفه إن شاء الله تعالى- والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
وذكر أن عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم هذا- وقد قال بعضهم:
إن اسمه أحمد بن محمد بن عاصم- لما ضرب ترك في الشمس حتى مات، ثم رمي به في دجلة.
وفي هذه السنة انقضت الكواكب ببغداد وتناثرت، وذلك ليلة الخميس لليلة خلت من جمادى الآخرة وفيها وقع بها الصدام فنفقت الدواب والبقر.
وفيها أغارت الروم على عين زربة، فأسرت من كان بها من الزط، مع نسائهم وذراريهم وجواميسهم وبقرهم خبر الفداء بين المسلمين والروم في هذه السنه وفيها كان الفداء بين المسلمين والروم.

ذكر الخبر عن السبب الذي كان ذلك من أجله:
ذكر أن تذورة صاحبة الروم أم ميخائيل، وجهت رجلا يقال له جورجس بن قريافس يطلب الفداء لمن في أيدي الروم من المسلمين، وكان المسلمون قد قاربوا عشرين ألفا، فوجه المتوكل رجلا من الشيعة يقال له نصر بن الأزهر بن فرج، ليعرف صحة من في أيدي الروم من أسارى المسلمين، ليأمر بمفاداتهم، وذلك في شعبان من هذه السنة بعد أن أقام عندهم حينا فذكر أن تذورة امرت بعد خروج نصر بعرض من في اسارها من المسلمين على النصرانية، فمن تنصر منهم كان أسوة من تنصر قبل ذلك، ومن ابى قتلته، فذكر أنها قتلت من الأسرى اثني عشر ألفا، ويقال ان قنقله الخصي كان يقتلهم من غير أمرها ونفذ كتاب المتوكل إلى عمال الثغور الشامية والجزرية أن شنيفا الخادم قد جرى بينه وبين جورجس رسول عظيم الروم في أمر الفداء قول، وقد اتفق الأمر بينهما، وسأل جورجس هذا هدنة لخمس ليال تخلو من رجب سنة إحدى وأربعين ومائتين إلى سبع ليال بقين من شوال من هذه السنة، ليجمعوا الأسرى، ولتكون مدة لهم إلى إنصرافهم إلى مأمنهم فنفذ الكتاب بذلك يوم الأربعاء لخمس خلون من رجب، وكان الفداء يقع في يوم الفطر من هذه السنة وخرج جورجس رسول ملكة الروم إلى ناحية الثغور يوم السبت لثمان بقين من رجب على سبعين بغلا اكتريت له، وخرج معه أبو قحطبة المغربي الطرطوسي لينظروا وقت الفطر، وكان جورجس قدم معه جماعة من البطاركة وغلمانه بنحو من خمسين إنسانا، وخرج شنيف الخادم للفداء في النصف من شعبان، معه مائة فارس: ثلاثون من الأتراك، وثلاثون من المغاربة، وأربعون من فرسان الشاكرية، فسأل جعفر بن عبد الواحد- وهو قاضي القضاة- أن يؤذن له في حضور الفداء، وأن يستخلف رجلا يقوم مقامه- فأذن له، وأمر له بمائة وخمسين ألفا معونة وأرزاق ستين ألفا، فاستخلف ابن أبي الشوارب- وهو يومئذ فتى حدث السن- وخرج فلحق شنيفا، وخرج أهل بغداد من أوساط الناس، فذكر أن الفداء وقع من بلاد الروم على نهر اللامس، يوم الأحد لاثنتي عشرة ليلة خلت من شوال سنة إحدى وأربعين ومائتين، فكان أسرى المسلمين سبعمائة وخمسه وثمانين إنسانا، ومن النساء مائه وخمسا وعشرين امرأة.
وفي هذه السنة جعل المتوكل كورة شمشاط عشرا، ونقلهم من الخراج إلى العشر، واخرج لهم بذلك كتابا.

ذكر غاره البجه على حرس من ارض مصر
وفي هذه السنة غارت البجة على حرس من أرض مصر، فوجه المتوكل لحربهم محمد بن عبد الله القمي ذكر الخبر عن أمرهم وما آلت إليه حالهم: ذكر أن البجة كانت لا تغزو المسلمين ولا يغزوهم المسلمون لهدنة بينهم قديمة، قد ذكرناها فيما مضى قبل من كتابنا هذا، وهم جنس من أجناس الحبش بالمغرب، وبالمغرب من السودان- فيما ذكر- البجة وأهل غانة الغافر وبينور ورعوين والفرويه وبكسوم ومكاره اكرم والنوبه والحبش وفي بلاد البجة معادن ذهب، فهم يقاسمون من يعمل فيها، ويؤدون إلى عمال السلطان في مصر في كل سنة عن معادنهم أربعمائة مثقال تبر قبل أن يطبخ ويصفى فلما كان أيام المتوكل امتنعت البجة عن أداء ذلك الخراج سنين متوالية فذكر أن المتوكل ولى بريد مصر رجلا من خدمه يقال له يعقوب بن إبراهيم الباذغيسي مولى الهادي، وهو المعروف بقوصرة، وجعل إليه بريد مصر والإسكندرية وبرقة ونواحي المغرب، فكتب يعقوب إلى المتوكل أن البجة قد نقضت العهد الذي كان بينها وبين المسلمين، وخرجت من بلادها إلى معادن الذهب والجوهر، وهي على التخوم فيما بين أرض مصر وبلاد البجة، فقتلوا عدة من المسلمين ممن كان يعمل في المعادن ويستخرج الذهب والجوهر، وسبوا عدة من ذراريهم ونسائهم، وذكروا أن المعادن لهم في بلادهم، وأنهم لا يأذنون للمسلمين في دخولها، وأن ذلك أوحش جميع من كان يعمل في المعادن من المسلمين، فانصرفوا عنها خوفا على أنفسهم وذراريهم فانقطع بذلك ما كان يؤخذ للسلطان بحق الخمس من الذهب والفضة والجوهر الذي يستخرج من المعادن، فاشتد إنكار المتوكل لذلك وأحفظه، وشاور في أمر البجة، فأنهي إليه أنهم قوم أهل بدو وأصحاب إبل وماشية، وأن الوصول إلى بلادهم صعب لا يمكن أن يسلك إليهم الجيوش، لأنها مفاوز وصحاري، وبين أرض الإسلام وبينها مسيره شهر، في ارض قفر وجبال وعر، لا ماء فيها ولا زرع ولا معقل، ولا حصن، وأن من يدخلها من أولياء السلطان يحتاج أن يتزود لجميع المدة التي يتوهم أن يقيمها في بلادهم إلى أن يخرج إلى أرض الإسلام، فإن امتد به المقام حتى يتجاوز تلك المدة هلك وجميع من معه، وأخذتهم البجة بالأيدي دون المحاربة، وأن أرضهم أرض لا ترد على السلطان شيئا من خراج ولا غيره.
فأمسك المتوكل عن التوجيه إليهم، وجعل أمرهم يتزيد، وجرأتهم على المسلمين تشتد حتى خاف أهل الصعيد من أرض مصر على أنفسهم وذراريهم منهم، فولى المتوكل محمد بن عبد الله المعروف بالقمي محاربتهم، وولاه معاون تلك الكور- وهي قفط والأقصر وإسنا وأرمنت وأسوان- وتقدم إليه في محاربة البجة، وأن يكاتب عنبسة بن إسحاق الصبى العامل على حرب مصر وكتب إلى عنبسة بإعطائه جميع ما يحتاج إليه من الجند والشاكرية المقيمين بمصر.
فأزاح عنبسة علته في ذلك، وخرج إلى أرض البجة، وانضم إليه جميع من كان يعمل في المعادن وقوم كثير من المتطوعة، فكانت عدة من معه نحوا من عشرين ألف إنسان، بين فارس وراجل، ووجه إلى القلزم، فحمل في البحر سبعة مراكب موقرة بالدقيق والزيت والتمر والسويق والشعير، وأمر قوما من أصحابه أن يلججوا بها في البحر حتى يوافوه في ساحل البحر من أرض البجة، فلم يزل محمد بن عبد الله القمي يسير في أرض البجة حتى جاوز المعادن التي يعمل فيها الذهب، وصار إلى حصونهم وقلاعهم، وخرج إليه ملكهم- واسمه علي بابا واسم ابنه لعيس- في جيش كثير وعدد أضعاف من كان مع القمي من الناس، وكانت البجة على إبلهم ومعهم الحراب وإبلهم فرة تشبه بالمهاري في النجابة، فجعلوا يلتقون أياما متوالية، فيتناوشون ولا يصححون المحاربة، وجعل ملك البجة يتطارد للقمي لكي تطول الأيام طمعا في نفاد الزاد والعلوفة التي معهم، فلا يكون لهم قوة، ويموتون هزلا، فيأخذهم البجة بالأيدي.
فلما توهم عظيم البجة أن الأزواد قد نفدت، أقبلت السبع المراكب التي حملها القمي حتى خرجت إلى ساحل من سواحل البحر في موضع يعرف بصنجة، فوجه القمي إلى هنالك جماعة من أصحابه يحمون المراكب من البجة، وفرق ما كان فيها على اصحابه، فاتسعوا في الزاد والعلوفة، فلما رأى ذلك علي بابا رئيس البجة قصد لمحاربتهم، وجمع لهم، والتقوا فاقتتلوا قتالا شديدا، وكانت الإبل التي يحاربون عليها إبلا زعرة، تكثر الفزع والرعب من كل شيء، فلما رأى ذلك القمي جمع أجراس الإبل والخيل التي كانت في عسكره كلها، فجعلها في أعناق الخيل، ثم حمل على البجة، فنفرت إبلهم لأصوات الأجراس، واشتد رعبها، فحملتهم على الجبال والأودية، فمزقتهم كل ممزق، واتبعهم القمي بأصحابه، فأخذهم قتلا وأسرا حتى أدركه الليل، وذلك في أول سنة احدى واربعين، ثم رجع إلى معسكره ولم يقدر على إحصاء القتلى لكثرتهم، فلما أصبح القمي وجدهم قد جمعوا جمعا من الرجالة، ثم صاروا إلى موضع أمنوا فيه طلب القمي، فوافاهم القمي في الليل في خيله، فهرب ملكهم، فأخذ تاجه ومتاعه، ثم طلب علي بابا الأمان على أن يرد إلى مملكته وبلاده، فأعطاه القمي ذلك، فأدى إليه الخراج للمدة التي كان منعها- وهي اربع سنين- لكل سنه أربعمائة مثقال، واستخلف علي بابا على مملكته ابنه لعيس، وانصرف القمي بعلي بابا إلى باب المتوكل، فوصل إليه في آخر سنة إحدى وأربعين ومائتين، فكسا علي بابا هذا دراعة ديباج وعمامة سوداء، وكسا جمله رحلا مدبجا وجلال ديباج، ووقف بباب العامة مع قوم من البجة نحو من سبعين غلاما على الإبل بالرحال، ومعهم الحراب في رءوس حرابهم رءوس القوم الذين قتلوا من عسكرهم، قتلهم القمي فأمر المتوكل أن يقبضوا من القمي يوم الأضحى من سنة إحدى وأربعين ومائتين وولى المتوكل البجة وطريق ما بين مصر ومكة سعدا الخادم الإيتاخي، فولى سعد محمد بن عبد الله القمي، فخرج القمي بعلي بابا، وهو مقيم على دينه، فذكر بعضهم أنه رأى معه صنما من حجارة كهيئة الصبي يسجد له.
ومات في هذه السنة يعقوب بن إبراهيم المعروف بقوصرة في جمادى الآخرة.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بن محمد بن داود، وحج جعفر بن دينار فيها، وهو والي طريق مكة واحداث الموسم.