104 هـ
722 م
سنة أربع ومائة (ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث)

ذكر الوقعه بين الحرشي والسغد ، ففي هذه السنة كانت وقعة الحرشي بأهل السغد وقتله من قتل من دهاقينها …

ذكر الخبر عن أمره وأمرهم في هذه الوقعة: 
ذكر علي عن أصحابه أن الحرشي غزا في سنة أربع ومائة فقطع النهر.
وعرض الناس، ثم سار فنزل قصر الريح على فرسخين من الدبوسية، ولم يجتمع إليه جنده.
قَالَ: فأمر الناس بالرحيل، فقال له هلال بْن عليم الحنظلي: يا هناه، إنك وزيرا خير منك أميرا، الأرض حرب شاغرة برجلها، ولم يجتمع لك جندك، وقد أمرت بالرحيل! قَالَ: فكيف لي؟ قَالَ: تأمر بالنزول، ففعل.
وخرج النيلان ابن عم ملك فرغانة إلى الحرشي، وهو نازل على مغون فقال له: إن أهل السغد بخجندة، وأخبره خبرهم وقال: عاجلهم قبل أن يصيروا إلى الشعب، فليس لهم علينا جوار حتى يمضي الأجل فوجه الحرشي مع النيلان عبد الرحمن القشيري وزياد بْن عبد الرحمن القشيري في جماعة، ثم ندم على ما فعل فقال: جاءني علج لا أدري صدق أم كذب، فغررت بجند من المسلمين وارتحل في أثرهم حتى نزل في أشروسنة، فصالحهم بشيء يسير، فبينا هو يتعشى إذ قيل له: هذا عطاء الدبوسي- وكان فيمن وجهه مع القشيري- ففزع وسقطت اللقمة من يده، ودعا بعطاء، فدخل عليه، فقال: ويلك! قاتلتم أحدا؟ فقال: لا، قَالَ:
الحمد لله، وتعشى، وأخبره بما قدم له عليه فسار جوادا مغذا، حتى لحق القشيري بعد ثالثة، وسار فلما انتهى إلى خجندة، قَالَ للفضل بْن بسام:
ما ترى؟ قَالَ: أرى المعاجلة، قَالَ: لا أرى ذلك، إن جرح رجل فإلى أين يرجع! أو قتل قتيل فإلى من يحمل! ولكني أرى النزول والتأني والاستعداد للحرب، فنزل فرفع الأبنية وأخذ في التأهب، فلم يخرج أحد من العدو، فجبن الناس الحرشي، وقالوا: كان هذا يذكر بأسه بالعراق ورأيه، فلما صار بخراسان ماق قَالَ: فحمل رجل من العرب، فضرب باب خجندة بعمود ففتح الباب، وقد كانوا حفروا في ربضهم وراء الباب الخارج خندقا، وغطوه بقصب، وعلوه بالتراب مكيدة، وأرادوا إذا التقوا إن انهزموا أن يكونوا قد عرفوا الطريق، ويشكل على المسلمين فيسقطوا في الخندق.
قَالَ: فلما خرجوا قاتلوهم فانهزموا، وأخطئوهم الطريق، فسقطوا في الخندق فأخرجوا من الخندق أربعين رجلا، على الرجل درعان درعان، وحصرهم الحرشي، ونصب عليهم المجانيق، فأرسلوا إلى ملك فرغانة: غدرت بنا، وسألوه أن ينصرهم، فقال لهم: لم أغدر ولا أنصركم، فانظروا لأنفسكم، فقد أتوكم قبل انقضاء الأجل، ولستم في جواري فلما أيسوا من نصره طلبوا الصلح، وسألوا الأمان وأن يردهم إلى السغد، فاشترط عليهم أن يردوا من في أيديهم من نساء العرب وذراريهم، وأن يؤدوا ما كسروا من الخراج، ولا يغتالوا أحدا، ولا يتخلف منهم بخجندة أحد، فإن أحدثوا حدثا حلت دماؤهم.
قَالَ: وكان السفير فيما بينهم موسى بْن مشكان مولى آل بسام، فخرج إليه كارزنج، فقال له: إن لي حاجة أحب أن تشفعني فيها، قَالَ:
وما هي؟ قَالَ: أحب إن جنى منهم رجل جناية بعد الصلح ألا تأخذني بما جنى، فقال الحرشي: ولي حاجة فاقضها، قَالَ: وما هي؟ قال: لا يلحقني في شرطي ما أكره قَالَ: فأخرج الملوك والتجار من الجانب الشرقي، وترك أهل خجندة الذين هم أهلها على حالهم، فقال كارزنج للحرشي: ما تصنع؟
قَالَ: أخاف عليكم معرة الجند قَالَ: وعظماؤهم مع الحرشي في العسكر نزلوا على معارفهم من الجند، ونزل كارزنج على أيوب بْن أبي حسان، فبلغ الحرشي أنهم قتلوا امرأة من نساء كن في أيديهم، فقال لهم: بلغني أن ثابتا الأشتيخني قتل امرأة ودفنها تحت حائط، فجحدوا فأرسل الحرشي إلى قاضي خجندة، فنظروا فإذا المرأة مقتولة قَالَ: فدعا الحرشي بثابت، فأرسل كارزنج غلامه إلى باب السرادق ليأتيه بالخبر، وسأل الحرشي ثابتا وغيره عن المرأة، فجحد ثابت وتيقن الحرشي أنه قتلها فقتله فرجع غلام كارزنج إليه بقتل ثابت، فجعل يقبض على لحيته ويقرضها بأسنانه، وخاف كارزنج أن يستعرضهم الحرشي، فقال لأيوب بْن أبي حسان: إني ضيفك وصديقك، فلا يجمل بك أن يقتل صديقك في سراويل خلق، قَالَ: فخذ سراويلي.
قَالَ: وهذا لا يجمل، أقتل في سراويلاتكم! فسرح غلامك الى جلنج ابن أخي يجيئونى بسراويل جديد- وكان قد قَالَ لابن أخيه: إذا أرسلت إليك أطلب سراويل فاعلم أنه القتل- فلما بعث بسراويل أخرج فرندة خضراء فقطعها عصائب، وعصبها برءوس شاكريته، ثم خرج هو وشاكريته.
فاعترض الناس فقتل ناسا، ومر بيحيى بْن حضين فنفحه نفحة على رجله، فلم يزل يخمع منها وتضعضع أهل العسكر، ولقي الناس منه شرا، حتى انتهى إلى ثابت بْن عثمان بْن مسعود في طريق ضيق، فقتله ثابت بسيف عثمان بْن مسعود وكان في أيدي السغد أسراء من المسلمين فقتلوا منهم خمسين ومائة، ويقال: قتلوا منهم أربعين، قَالَ: فأفلت منهم غلام فأخبر الحرشي- ويقال: بل أتاه رجل فأخبره- فسألهم فجحدوا، فأرسل إليهم من علم علمهم، فوجد الخبر حقا، فأمر بقتلهم، وعزل التجار عنهم- وكان التجار أربعمائة، كان معهم مال عظيم قدموا به من الصين- قَالَ: فامتنع أهل السغد، ولم يكن لهم سلاح، فقاتلوا بالخشب، فقتلوا عن آخرهم فلما كان الغد دعا الحراثين- ولم يعلموا ما صنع أصحابهم- فكان يختم في عنق الرجل ويخرج من حائط إلى حائط فيقتل، وكانوا ثلاثة آلاف- ويقال سبعة آلاف- فأرسل جرير بْن هميان والحسن بْن أبي العمرطة ويزيد بْن أبي زينب فأحصوا أموال التجار- وكانوا اعتزلوا وقالوا: لا نقاتل- فاصطفى أموال السغد وذراريهم، فأخذ منه ما أعجبه، ثم دعا مسلم بْن بديل العدوي، عدي الرباب، فقال: قد وليتك المقسم، قال: بعد ما عمل فيه عمالك ليلة! ولِّه غيري، فولاه عبيد الله بْن زهير بْن حيان العدوي، فأخرج الخمس، وقسم الأموال، وكتب الحرشي إلى يزيد بْن عبد الملك، ولم يكتب إلى عمر بْن هبيرة، فكان هذا مما وجد فيه عليه عمر بْن هبيرة، فقال ثابت قطنة يذكر ما أصابوا من عظمائهم:

أقر العين مصرع كارزنج *** وكشين وما لاقى بيار
وديواشنى وما لاقى جلنج ***  بحصن خجند إذ دمروا فباروا

ويروى أقر العين مصرع كارزنج، وكشكيش، ويقال: إن ديواشني دهقان أهل سمرقند، واسمه ديواشنج فأعربوه ديواشني.
ويقال: كان على أقباض خجندة علباء بْن أحمر اليشكري، فاشترى رجل منه جونة بدرهمين، فوجد فيها سبائك ذهب، فرجع وهو واضع يده على لحيته كأنه رمد، فرد الجونة، وأخذ الدرهمين، فطلب فلم يوجد قَالَ: وسرح الحرشي سليمان بْن أبي السري مولى بني عوافة إلى قلعة لا يطيف بها وادي السغد إلا من وجه واحد ومعه شوكر بْن حميك وخوارزم شاه وعورم صاحب أخرون وشومان، فوجه سليمان بْن أبي السري على مقدمته المسيب بْن بشر الرياحي، فتلقوه من القلعة على فرسخ في قرية يقال لها كوم، فهزمهم المسيب حتى ردهم إلى القلعة فحصرهم سليمان، ودهقانها يقال له ديواشني.
قَالَ فكتب إليه الحرشي فعرض عليه أن يمده، فأرسل إليه: ملتقانا ضيق فسر إلى كس، فأنا في كفاية الله إن شاء الله فطلب الديواشنى ان يزل على حكم الحرشي، وأن يوجهه مع المسيب بْن بشر إلى الحرشي، فوفي له سليمان ووجهه إلى سعيد الحرشي، فألطفه وأكرمه مكيدة، فطلب أهل القلعة الصلح بعد مسيرة على ألا يعرض لمائة أهل بيت منهم ونسائهم وأبنائهم ويسلمون القلعة فكتب سليمان إلى الحرشي أن يبعث الأمناء في قبض ما في القلعة.
قَالَ: فبعث محمد بْن عزيز الكندي وعلباء بْن أحمر اليشكري، فباعوا ما في القلعة مزايدة، فأخذ الخمس، وقسم الباقي بينهم وخرج الحرشي إلى كس فصالحوه على عشرة آلاف رأس ويقال: صالح دهقان كس، واسمه ويك- على ستة آلاف رأس، يوفيه في أربعين يوما على ألا يأتيه فلما فرغ من كس خرج إلى ربنجن، فقتل الديواشني، وصلبه على ناوس، وكتب على أهل ربنجن كتابا بمائة إن فقد من موضعه، وولى نصر بْن سيار قبض صلح كس، ثم عزل سورة بْن الحر وولى نصر بْن سيار، واستعمل سليمان بْن أبي السري على كس، ونسف حربها وخراجها، وبعث برأس الديواشني إلى العراق، ويده اليسرى إلى سليمان بْن ابى السري إلى طخارستان.
قَالَ: وكانت خزار منيعة، فقال المجشر بْن مزاحم لسعيد بْن عمرو الحرشي: ألا أدلك على من يفتحها لك بغير قتال؟ قَالَ: بلى، قَالَ:
المسربل بْن الخريت بْن راشد الناجي، فوجهه إليها- وكان المسربل صديقا لملكها، واسم الملك سبقري وكانوا يحبون المسربل- فأخبر الملك ما صنع الحرشي بأهل خجندة وخوفه، قَالَ: فما ترى؟ قَالَ: أرى أن تنزل بأمان، قَالَ: فما أصنع بمن لحق بي من عوام الناس؟ قال: نصيرهم معك في أمانك، فصالحهم فآمنوه وبلاده.
قَالَ: ورجع الحرشي إلى مرو ومعه سبقري، فلما نزل أسنان وقدم مهاجر بْن يزيد الحرشي، وامره ان يوافيه ببرذون بن كشانيشاه قتل سبقري وصلبه ومعه أمانه- ويقال: كان هذا دهقان ابن ماجر قدم على ابن هبيرة فأخذ أمانا لأهل السغد، فحبسه الحرشي في قهندز مرو، فلما قدم مرو دعا به، وقتله وصلبه في الميدان، فقال الراجز:

إذا سعيد سار في الأخماس ***  في رهج يأخذ بالأنفاس
دارت على الترك أمر الكاس ***  وطارت الترك على الأحلاس

ولوا فرارا عطل القياس. وفي هذه السنة عزل يزيد بْن عبد الملك عبد الرحمن بْن الضحاك بْن قيس الفهري عن المدينة ومكة، وذلك للنصف من شهر ربيع الأول، وكان عامله على المدينة ثلاث سنين.
وفيها ولى يزيد بْن عبد الملك المدينة عبد الواحد النضري.

ذكر الخبر عن سبب عزل يزيد بْن عبد الملك عبد الرحمن ابن الضحاك عن المدينة وما كان ولاه من الأعمال
وكان سبب ذلك- فيما ذكر محمد بن عمر، عن عبد الله بن محمد بْن أبي يحيى- قَالَ: خطب عبد الرحمن بْن الضحاك بْن قيس الفهري فاطمة ابنة الحسين، فقالت: والله ما أريد النكاح، ولقد قعدت على بني هؤلاء،وجعلت تحاجزه وتكره أن تنابذه لما تخاف منه قَالَ: وألح عليها وقال:
والله لئن لم تفعلي لأجلدن أكبر بنيك في الخمر- يعني عبد الله بْن الحسن- فبينا هو كذلك، وكان على ديوان المدينة ابن هرمز رجل من أهل الشام، فكتب إليه يزيد أن يرفع حسابه، ويدفع الديوان، فدخل على فاطمة بنت الحسين يودعها، فقال: هل من حاجة؟ فقالت: تخبر أمير المؤمنين بما ألقى من ابن الضحاك، وما يتعرض مني قَالَ: وبعثت رسولا بكتاب إلى يزيد تخبره وتذكر قرابتها ورحمها، وتذكر ما ينال ابن الضحاك منها، وما يتوعدها به قال: فقدم ابن هرمز والرسول معا قَالَ: فدخل ابن هرمز على يزيد، فاستخبره عن المدينة، وقال: هل كان من مغربة خبر؟ فلم يذكر ابن هرمز من شأن ابنة الحسين، فقال الحاجب: أصلح الله الأمير! بالباب رسول فاطمة بنت الحسين فقال ابن هرمز: أصلح الله الأمير! إن فاطمة بنت الحسين يوم خرجت حملتني رسالة إليك، فأخبره الخبر.
قَالَ: فنزل من أعلى فراشه، وقال: لا أم لك! ألم أسألك هل من مغربة خبر، وهذا عندك لا تخبرنيه! قَالَ: وجعل يضرب بخيزران في يديه وهو يقول: لقد اجترأ ابن الضحاك! هل من رجل يسمعني صوته في العذاب وأنا على فراشي؟ قيل له: عبد الواحد بْن عبد الله بْن بشر النضري.
قَالَ: فدعا بقرطاس، فكتب بيده:
إلى عبد الواحد بْن عبد الله بْن بشر النضري وهو بالطائف: سلام عليك، أما بعد فإني قد وليتك المدينة، فإذا جاءك كتابي هذا فاهبط واعزل عنها ابن الضحاك، وأغرمه أربعين ألف دينار، وعذبه حتى أسمع صوته وأنا على فراشي.
قَالَ: وأخذ البريد الكتاب، وقدم به المدينة، ولم يدخل على ابن الضحاك وقد أوجست نفس ابن الضحاك، فأرسل إلى البريد، فكشف له عن طرف المفرش، فإذا ألف دينار، فقال: هذه ألف دينار لك ولك العهد والميثاق، لئن أنت أخبرتني خبر وجهك هذا دفعتها إليك، فأخبره، فاستنظر البريد ثلاثا حتى يسير، ففعل ثم خرج ابن الضحاك، فأغذ السير حتى نزل على مسلمة بْن عبد الملك، فقال: أنا في جوارك، فغدا مسلمة على يزيد فرققه وذكر حاجة جاء لها، فقال: كل حاجة تكلمت فيها هي في يدك ما لم يكن ابن الضحاك، فقال: هو والله ابن الضحاك! فقال: والله لا أعفيه أبدا وقد فعل ما فعل، قَالَ: فرده إلى المدينة إلى النضري.
قَالَ عبد الله بْن محمد: فرأيته في المدينة عليه جبة من صوف يسأل الناس، وقد عذب ولقي شرا، وقدم النضري يوم السبت للنصف من شوال سنة أربع ومائة.
قَالَ محمد بْن عمر: حدثني إبراهيم بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ الزهري، قَالَ: قلت لعبد الرحمن بْن الضحاك: إنك تقدم على قومك وهم ينكرون كل شيء خالف فعلهم، فالزم ما أجمعوا عليه، وشاور القاسم ابن محمد وسالم بْن عبد الله، فإنهما لا يألوانك رشدا قَالَ الزهري: فلم يأخذ بشيء من ذلك، وعادى الأنصار طرا، وضرب أبا بكر بْن حزم ظلما وعدوانا في باطل، فما بقي منهم شاعر إلا هجاه، ولا صالح إلا عابه وأتاه بالقبيح، فلما ولي هشام رأيته ذليلا.
وولي المدينة عبد الواحد بْن عبد الله بْن بشر فأقام بالمدينة لم يقدم عليهم وال أحب عليهم منه، وكان يذهب مذاهب الخير، لا يقطع أمرا إلا استشار فيه القاسم وسالما.
وفي هذه السنة غزا الجراح بْن عبد الله الحكمي- وهو أمير على أرمينية وأذربيجان- أرض الترك ففتح على يديه بلنجر، وهزم الترك وغرقهم وعامه ذراريهم في الماء، وسبوا ما شاءوا، وفتح الحصون التي تلي بلنجر وجلا عامة أهلها.
وفيها ولد- فيما ذكر- أبو العباس عبد الله بْن محمد بْن علي في شهر ربيع الآخر.
وفيها دخل أبو محمد الصادق وعدة من أصحابه من خراسان الى محمد ابن علي، وقد ولد أبو العباس قبل ذلك بخمس عشرة ليلة، فأخرجه إليهم في خرقة، وقال لهم: والله ليتمن هذا الأمر حتى تدركوا ثأركم من عدوكم.
وفي هذه السنة عزل عمر بْن هبيرة سعيد بْن عمرو الحرشي عن خراسان، وولاها مسلم بْن سعيد بْن أسلم بْن زرعة الكلابي.

ذكر الخبر عن سبب عزل عمر بْن هبيرة سعيد بْن عمرو الحرشي عن خراسان
ذكر أن سبب ذلك كان من موجدة وجدها عمر على الحرشي في أمر الديواشني، وذلك أنه كان كتب إليه يأمره بتخليته وقتله، وكان يستخف بأمر ابن هبيرة، وكان البريد والرسول إذا ورد من العراق قَالَ له: كيف أبو المثنى؟ ويقول لكاتبه: اكتب إلى أبي المثنى ولا يقول: الأمير، ويكثر أن يقول: قَالَ أبو المثنى وفعل أبو المثنى، فبلغ ذلك ابن هبيرة فدعا جميل بْن عمران، فقال له: بلغني أشياء عن الحرشي، فاخرج إلى خراسان، وأظهر أنك قدمت تنظر في الدواوين، واعلم لي علمه.
فقدم جميل، فقال له الحرشي: كيف تركت أبا المثنى؟ فجعل ينظر في الدواوين فقيل للحرشي: ما قدم جميل لينظر في الدواوين، وما قدم إلا ليعلم علمك، فسم بطيخة، وبعث بها إلى جميل، فأكلها فمرض، وتساقط شعره، ورجع إلى ابن هبيرة، فعولج واستبل وصح، فقال لابن هبيرة: الأمر أعظم مما بلغك، ما يرى سعيد إلا أنك عامل من عماله فغضب عليه وعزله وعذبه، ونفح في بطنه النمل، وكان يقول حين عزله: لو سألني عمر درهما يضعه في عينه ما أعطيته، فلما عذب أدى، فقال له رجل:
ألم تزعم أنك لا تعطيه درهما! قَالَ: لا تعنفني، إنه لما أصابني الحديد جزعت، فقال أذينة بْن كليب- أو كليب بْن أذينة:

تصبر أبا يحيى فقد كنت- علمنا *** – صبورا ونهاضا بثقل المغارم

وقال علي بْن محمد: إنما غضب عليه ابن هبيرة أنه وجه معقل بْن عروة إلى هراة، إما عاملا وإما في غير ذلك من أموره، فنزل قبل أن يمر على الحرشي، وأتى هراة، فلم ينفذ له ما قدم فيه، وكتب إلى الحرشي، فكتب الحرشي إلى عامله: أن احمل إلي معقلا، فحمله، فقال له الحرشي: ما منعك من إتياني قبل أن تأتي هراة؟ قَالَ: أنا عامل لابن هبيرة ولاني كما ولاك، فضربه مائتين وحلقه فعزله ابن هبيرة، واستعمل على خراسان مسلم بْن سعيد بْن أسلم بْن زرعة، فكتب الى الحرشي يلخنه، فقال سعيد: بل هو ابن اللخناء وكتب إلى مسلم أن احمل إلي الحرشي مع معقل بْن عروة، فدفعه إليه فأساء به وضيق عليه، ثم أمره يوما فعذبه، وقال: اقتله بالعذاب.
فلما أمسى ابن هبيرة سمر فقال: من سيد قيس؟ قالوا: الأمير، قَالَ:
دعوا هذا، سيد قيس الكوثر بْن زفر، لو بوق بليل لوافاه عشرون ألفا، لا يقولون: لم دعوتنا ولا يسألونه، وهذا الحمار الذي في الحبس- قد أمرت بقتله- فارسها، وأما خير قيس لها فعسى أن أكونه، إنه لم يعرض إلي أمر أرى أني أقدر فيه على منفعة وخير إلا جررته إليهم، فقال له أعرابي من بني فزارة: ما أنت كما تقول، لو كنت كذلك ما أمرت بقتل فارسها فأرسل إلى معقل أن كف عما كنت امرتك به قَالَ علي: قَالَ مسلم بْن المغيرة: لما هرب ابن هبيرة أرسل خالد في طلبه سعيد بْن عمرو الحرشي، فلحقه بموضع من الفرات يقطعه إلى الجانب الآخر في سفينة، وفي صدر السفينة غلام لابن هبيرة يقال له قبيض، فعرفه الحرشي فقال له: قبيض؟ قَالَ: نعم، قَالَ: أفي السفينة أبو المثنى؟ قَالَ: نعم.
قَالَ: فخرج إليه ابن هبيرة، فقال له الحرشي: أبا المثنى، ما ظنك بي؟
قَالَ: ظني بك أنك لا تدفع رجلا من قومك إلى رجل من قريش، قال: هو ذاك، قال: فالنجاء.
قَالَ علي: قَالَ أبو إسحاق بْن ربيعة: لما حبس ابن هبيرة الحرشي دخل عليه معقل بْن عروة القشيري، فقال: أصلح الله الأمير! قيدت فارس قيس وفضحته، وما أنا براض عنه، غير أني لم أحب أن تبلغ منه ما بلغت، قَالَ: أنت بيني وبينه، قدمت العراق فوليته البصرة، ثم وليته خراسان، فبعث إلي ببرذون حطم واستخف بأمري، وخان فعزلته، وقلت له: يا بن نسعه، فقال لي: يا بن بسرة فقال معقل: وفعل ابن الفاعلة! ودخل على الحرشي السجن، فقال: يا بن نسعة، أمك دخلت واشتريت بثمانين عنزا جربا، كانت مع الرعاء ترادفها الرجال مطية الصادر والوارد، تجعلها ندا لبنت الحارث بْن عمرو بْن حرجة! وافترى عليه، فلما عزل ابن هبيرة، وقدم خالد العراق استعدى الحرشي على معقل ابن عروة، وأقام البينة أنه قذفه، فقال للحرشي: اجلده، فحده، وقال:
لولا أن ابن هبيرة وهن في عضدي لنقبت عن قلبك، فقال رجل من بني كلاب لمعقل: أسأت إلى ابن عمك وقذفته، فأداله الله منك، فصرت لا شهادة لك في المسلمين، وكان معقل حين ضرب الحد قذف الحرشي أيضا، فأمر خالد بإعادة الحد، فقال القاضي: لا يحد قال: وأم عمر ابن هبيرة بسرة بنت حسان، عدوية من عدي الرباب ولايه مسلم بن سعيد على خراسان
وفي هذه السنة ولى عمر بْن هبيرة مسلم بْن سعيد بْن أسلم بْن زرعة بْن عمرو بْن خويلد الصعق خراسان بعد ما عزل سعيد بْن عمرو الحرشي عنها ذكر الخبر عن سبب توليته إياها:
ذكر علي بْن محمد أن أبا الذيال وعلي بْن مجاهد وغيرهما حدثوه، قالوا: لما قتل سعيد بْن أسلم ضم الحجاج ابنه مسلم بْن سعيد مع ولده، فتأدب ونبل، فلما قدم عدي بْن أرطاة أراد أن يوليه، فشاور كاتبه، فقال: ولِّه ولاية خفيفة ثم ترفعه، فولاه ولاية، فقام بها وضبطها وأحسن، فلما وقعت فتنة يزيد بْن المهلب حمل تلك الأموال إلى الشام، فلما قدم عمر بْن هبيرة أجمع على أن يوليه ولاية، فدعاه ولم يكن شاب بعد، فنظر فرأى شيبة في لحيته، فكبر.
قَالَ: ثم سمر ليلة ومسلم في سمره، فتخلف مسلم بعد السمار، وفي يد ابن هبيرة سفرجلة، فرمى بها، وقال: أيسرك أن أوليك خراسان؟
قَالَ: نعم، قَالَ: غدوة إن شاء الله قَالَ: فلما أصبح جلس، ودخل الناس، فعقد لمسلم على خراسان وكتب عهده، وأمره بالسير، وكتب إلى عمال الخراج أن يكاتبوا مسلم بْن سعيد، ودعا بجبلة بْن عبد الرحمن مولى باهلة فولاه كرمان، فقال جبلة: ما صنعت بي المولويه! كان مسلم يطمع أن ألي ولاية عظيمة فأوليه كورة، فعقد له على خراسان وعقد لي على كرمان! قَالَ: فسار مسلم فقدم خراسان في آخر سنة أربع ومائة- أو ثلاث ومائة- نصف النهار، فوافق باب دار الإمارة مغلقا، فأتى دار الدواب فوجد الباب مغلقا فدخل المسجد، فوجد باب المقصورة مغلقا، فصلى وخرج وصيف من باب المقصورة فقيل له: الأمير، فمشى بين يديه حتى أدخله مجلس الوالي في دار الإمارة، وأعلم الحرشي، وقيل له: قدم مسلم بْن سعيد ابن أسلم، فأرسل إليه: أقدمت أميرا أو وزيرا أو زائرا؟ فأرسل إليه: مثلي لا يقدم خراسان زائرا ولا وزيرا، فأتاه الحرشي فشتمه وأمر بحبسه، فقيل له: إن أخرجته نهارا قتل، فأمر بحبسه عنده حتى أمسى، ثم حبسه ليلا وقيده، ثم أمر صاحب السجن أن يزيده قيدا فأتاه حزينا، فقال:
مالك؟ فقال: أمرت أن أزيدك قيدا، فقال لكاتبه: اكتب إليه: إن صاحب سجنك ذكر أنك أمرته أن يزيدني قيدا، فإن كان أمرا ممن فوقك فسمعا وطاعة، وإن كان رأيا رأيته فسيرك الحقحقة، وتمثل:

هم إن يثقفوني يقتلوني *** ومن أثقف فليس إلى خلود

ويروى:

فإما تثقفوني فاقتلوني ***  فمن أثقف فليس إلى خلود
هم الأعداء ان شهدوا وغابوا ***  أولو الأحقاد والأكباد سود
أريغوني إراغتكم فإني *** وحذفة كالشجا تحت الوريد

ويروى: أريدوني إرادتكم.
قال: وبعث مسلم على كورة رجلا من قبله على حربها قَالَ: وكان ابن هبيرة حريصا، أخذ قهرمانا ليزيد بْن المهلب، له علم بخراسان وبأشرافهم، فحبسه فلم يدع منهم شريفا إلا قرفه، فبعث أبا عبيدة العنبري ورجلا يقال له خالد، وكتب إلى الحرشي وأمره أن يدفع الذين سماهم إليه يستأديهم فلم يفعل، فرد رسول ابن هبيرة، فلما استعمل ابن هبيرة مسلم بْن سعيد أمره بجباية تلك الأموال، فلما قدم مسلم أراد أخذ الناس بتلك الأموال التي فرفت عليهم، فقيل له: إن فعلت هذا بهؤلاء لم يكن لك بخراسان قرار، وإن لم تعمل في هذا حتى توضع عنهم فسدت عليك وعليهم خراسان، لأن هؤلاء الذين تريد أن تأخذهم بهذه الأموال أعيان البلد قرفوا بالباطل، إنما كان على مهزم بْن جابر ثلاثمائة الف فزادوا مائه الف فصارت أربعمائة ألف، وعامة من سموا لك ممن كثر عليه بمنزله فكتب مسلم بذلك إلى ابن هبيرة، وأوفد وفدا فيهم مهزم بْن جابر، فقال له مهزم بْن جابر: أيها الأمير، إن الذي رفع إليك الظلم والباطل، ما علينا من هذا كله لو صدق إلا القليل الذي لو أخذنا به أديناه، فقال ابن هبيرة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها} [النساء: 58]، فقال: اقرأ ما بعدها: {وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] فقال ابن هبيرة: لا بد من هذا المال، قَالَ: أما والله لئن أخذته لتأخذنه من قوم شديدة شوكتهم ونكايتهم في عدوك، وليضرن ذلك بأهل خراسان في عدتهم وكراعهم وحلقتهم، ونحن في ثغر نكابد فيه عدوا لا ينقضي حربهم، إن أحدنا ليلبس الحديد حتى يخلص صدؤه إلى جلده، حتى إن الخادم التي تخدم الرجل لتصرف وجهها عن مولاها وعن الرجل الذي تخدمه لريح الحديد، وأنتم في بلادكم متفضلون في الرقاق وفي المعصفرة، والذين قرفوا بهذا المال وجوه أهل خراسان وأهل الولايات والكلف العظام في المغازي. وقبلنا قوم قدموا علينا من كل فج عميق، فجاءوا على الحمرات، فولوا الولايات، فاقتطعوا الأموال، فهي عندهم موقره جمة.
فكتب ابن هبيرة إلى مسلم بْن سعيد بما قَالَ الوفد، وكتب إليه أن استخرج هذه الأموال ممن ذكر الوفد أنها عندهم فلما أتى مسلما كتاب ابن هبيرة أخذ أهل العهد بتلك الأموال، وأمر حاجب بن عمرو الحارثي أن يعذبهم، ففعل وأخذ منهم ما فرق عليهم.
وحج بالناس في هذه السنة عبد الواحد بْن عبد الله النضري، كذلك حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر وكذلك قَالَ الوافدى.
وكان العامل على مكة والمدينة والطائف في هذه السنة عبد الواحد بْن عبد الله النضري، وعلى العراق والمشرق عمر بْن هبيرة، وعلى قضاء الكوفة حسين بْن الحسن الكندي، وعلى قضاء البصرة عبد الملك بن يعلى.