محرم 64 هـ
أيلول 683 م
سنة أربع وستين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

قَالَ أَبُو جَعْفَر: فمن ذَلِكَ مسير أهل الشام إِلَى مكة لحرب عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ ومن كَانَ عَلَى مثل رأيه فِي الامتناع عَلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة …

ولما فرغ مسلم بن عُقْبَةَ من قتال أهل الْمَدِينَة وإنهاب جنده أموالهم ثلاثا، شخص بمن مَعَهُ من الجند متوجها الى مكة، كالذي ذكر هشام ابن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل، أن مسلما خرج بِالنَّاسِ إِلَى مكة يريد ابن الزُّبَيْر، وخلف عَلَى الْمَدِينَة روح بن زنباع الجذامي.
وأما الْوَاقِدِيّ فإنه قَالَ: خلف عَلَيْهَا عَمْرو بن محرز الأشجعي، قَالَ:
ويقال: خلف عَلَيْهَا روح بن زنباع الجذامي.

ذكر موت مسلم بن عُقْبَةَ ورمي الكعبة وإحراقها
رجع الحديث إِلَى أبي مخنف قَالَ: حَتَّى إذا انتهى إِلَى المشلل- ويقال:
إِلَى قفا المشلل- نزل بِهِ الموت، وَذَلِكَ فِي آخر المحرم من سنة أربع وستين، فدعا حصين بن نمير السكوني فَقَالَ له: يا بن برذعة الحمار، أما وَاللَّهِ لو كَانَ هَذَا الأمر إلي مَا وليتك هَذَا الجند، ولكن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ ولاك بعدي، وليس لأمر أَمِير الْمُؤْمِنِينَ مرد، خذ عني أربعا: أسرع السير، وعجل الوقاع، وعم الأخبار، وَلا تمكن قرشيا من أذنك ثُمَّ إنه مات، فدفن بقفا المشلل.
قَالَ هِشَام بن مُحَمَّد الكلبي: وذكر عوانة أن مسلم بن عُقْبَةَ شخص يريد ابن الزُّبَيْر، حَتَّى إذا بلغ ثنية هرشا نزل بِهِ الموت، فبعث إِلَى رءوس الأجناد، فَقَالَ: إن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عهد إلي إن حدث بي حدث الموت أن أستخلف عَلَيْكُمْ حصين بن نمير السكوني، وَاللَّهِ لو كَانَ الأمر إلي مَا فعلت، ولكن أكره معصية أمر أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ الموت، ثُمَّ دعا بِهِ فَقَالَ: انظر يَا برذعة الحمار فاحفظ مَا أوصيك بِهِ، عم الأخبار، وَلا ترع سمعك قريشا أبدا، وَلا تردن أهل الشام، عن عدوهم، وَلا تقيمن إلا ثلاثا حَتَّى تناجز ابن الزُّبَيْر الفاسق، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إني لم أعمل عملا قط بعد شِهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عبده ورسوله أحب إلي من قتلي أهل الْمَدِينَة، وَلا أرجي عندي فِي الآخرة ثُمَّ قَالَ لبني مرة: زراعتي الَّتِي بحوران صدقة عَلَى مرة، وما أغلقت عَلَيْهِ فلانة بابها فهو لها- يعني أم ولده- ثُمَّ مات.
ولما مات خرج حصين بن نمير بِالنَّاسِ، فقدم عَلَى ابن الزُّبَيْر مكة وَقَدْ بايعه أهلها وأهل الحجاز.
قَالَ هِشَام: قَالَ عوانة: قَالَ مسلم قبل الوصية: إن ابني يزعم أن أم ولدي هَذِهِ سقتني السم، وَهُوَ كاذب، هَذَا داء يصيبنا فِي بطوننا أهل البيت قَالَ: وقدم عَلَيْهِ- يعني ابن الزُّبَيْر- كل أهل الْمَدِينَة، وَقَدْ قدم عَلَيْهِ نجدة بن عَامِر الحنفي فِي أناس من الخوارج يمنعون البيت، فَقَالَ لأخيه المنذر: مَا لهذا الأمر ولدفع هَؤُلاءِ القوم غيري وغيرك- وأخوه المنذر ممن شهد الحرة، ثُمَّ لحق بِهِ- فجرد إِلَيْهِم أخاه فِي الناس، فقاتلهم ساعة قتالا شديدا.
ثُمَّ إن رجلا من أهل الشام دعا المنذر إِلَى المبارزة- قَالَ: والشامي عَلَى بغلة لَهُ- فخرج إِلَيْهِ المنذر، فضرب كل واحد منهما صاحبه ضربة خر صاحبه لها ميتا، فجثا عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ عَلَى ركبتيه وَهُوَ يقول: يَا رب أبرها من أصلها وَلا تشدها، وَهُوَ يدعو عَلَى الَّذِي بارز أخاه ثُمَّ ان اهل الشام شدوا عليهم شدة منكرة، وانكشف أَصْحَابه انكشافة، وعثرت بغلته فَقَالَ: تعسا! ثُمَّ نزل وصاح بأَصْحَابه: إلي، فأقبل إِلَيْهِ المسور بن مخرمة بن نوفل بْن أهيب بْن عبد مناف بْن زهرة، ومصعب بن عبد الرحمن ابن عوف الزُّهْرِيّ، فقاتلوا حَتَّى قتلوا جميعا وصابرهم ابن الزُّبَيْر يجالدهم حَتَّى الليل، ثُمَّ انصرفوا عنه، وهذا فِي الحصار الأول ثُمَّ إِنَّهُمْ أقاموا عَلَيْهِ يقاتلونه بقية المحرم وصفر كله، حَتَّى إذا مضت ثلاثة أيام من شهر ربيع الأول يوم السبت سنة أربع وستين قذفوا البيت بالمجانيق، وحرقوه بالنار، وأخذوا يرتجزون ويقولون:

خطارة مثل الفنيق المزبد *** نرمي بِهَا أعواد هَذَا المسجد

قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو عوانة: جعل عَمْرو بن حوط السدوسي يقول:

كيف ترى صنيع أم فروه *** تأخذهم بين الصفا والمروه

يعني بأم فروة المنجنيق.
وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: سار الحصين بن نمير حين دفن مسلم بن عُقْبَةَ بالمشلل لسبع بقين من المحرم، وقدم مكة لأربع بقين من المحرم، فحاصر ابن الزُّبَيْر أربعا وستين يَوْمًا حَتَّى جاءهم نعي يَزِيد بن معاويه لهلال ربيع الآخر

ذكر الخبر عن حرق الكعبه
وفي هَذِهِ السنة حرقت الكعبة.
ذكر السبب فِي إحراقها:
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: احترقت الكعبة يوم السبت لثلاث ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين قبل أن يأتي نعي يَزِيد بن مُعَاوِيَة بتسعة وعشرين يَوْمًا، وجاء نعيه لهلال ربيع الآخر ليلة الثلاثاء.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنَا رياح بن مسلم، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانُوا يوقدون حول الكعبة، فأقبلت شررة هبت بِهَا الريح، فاحترقت ثياب الكعبة، واحترق خشب البيت يوم السبت لثلاث ليال خلون من ربيع الأول.
قَالَ مُحَمَّد بن عُمَرَ: وَحَدَّثَنِي عَبْد اللَّهِ بن زَيْد، قَالَ: حَدَّثَنِي عروة بن أذينة، قَالَ: قدمت مكة مع أمي يوم احترقت الكعبة قَدْ خلصت إِلَيْهَا النار، ورأيتها مجردة من الحرير، ورأيت الركن قَدِ اسود وانصدع في ثلاثة أمكنة، فقلت: مَا أصاب الكعبة؟ فأشاروا إِلَى رجل من أَصْحَاب عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ، قَالُوا: هَذَا احترقت بسببه، أخذ قبسا فِي رأس رمح لَهُ فطيرت الريح بِهِ، فضربت أستار الكعبة مَا بين الركن اليماني والأسود

ذكر خبر وفاه يزيد بن معاويه
وفيها هلك يَزِيد بن مُعَاوِيَة، وكانت وفاته بقرية من قرى حمص يقال لها حوارين من أرض الشام، لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة أربع وستين وَهُوَ ابن ثمان وثلاثين سنة فِي قول بعضهم.
حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن يَحْيَى، عن هِشَام بن الْوَلِيد المخزومي، أن الزُّهْرِيّ، كتب لجده أسنان الخلفاء، فكان فِيمَا كتب من ذَلِكَ: ومات يَزِيد بن مُعَاوِيَة وَهُوَ ابن تسع وثلاثين، وكانت ولايته ثلاث سنين وستة أشهر فِي قول بعضهم، ويقال: ثمانية أشهر.
وَحَدَّثَنِي أَحْمَد بن ثَابِت عمن حدثه، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر، أنه قَالَ: توفي يَزِيد بن مُعَاوِيَة يوم الثلاثاء لأربع عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، وكانت خلافته ثلاث سنين وثمانية اشهر الا ثمان ليال، وصلى عَلَى يَزِيد ابنه مُعَاوِيَة بن يَزِيدَ.
وأما هِشَام بن مُحَمَّد الكلبي فإنه قَالَ فِي سن يَزِيد خلاف الَّذِي ذكره الزُّهْرِيّ، والذي قَالَ هِشَام فِي ذَلِكَ- فِيمَا حدثنا عنه-: استخلف ابو خالد يزيد ابن مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ ابن اثنتين وثلاثين سنة وأشهر فِي هلال رجب سنة ستين، وولي سنتين وثمانية أشهر، وتوفي لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة ثلاث وستين وَهُوَ ابن خمس وثلاثين، وأمه ميسون بنت بحدل بن أنيف بن ولجة بن قنافة بن عدي بن زهير بن حارثة الكلبى ذكر عدد ولده فمنهم مُعَاوِيَة بن يَزِيدَ بن مُعَاوِيَة، يكنى أبا لَيْلَى، وَهُوَ الَّذِي يقول فِيهِ الشاعر:

إني أَرَى فتنة قَدْ حان أولها *** والملك بعد أَبِي لَيْلَى لمن غلبا

وخالد بن يَزِيدَ- وَكَانَ يكنى أبا هاشم، وَكَانَ يقال: إنه أصاب عمل الكيمياء- وأبو سُفْيَان، وأمهما أم

هاشم بنت أبي هاشم بْن عتبة بْن رَبِيعَة بْن عبد شمس، تزوجها بعد يَزِيد مَرْوَان، وَهِيَ الَّتِي يقول لها الشاعر:

انعمي أم خَالِد *** رب ساع لقاعد

وعبد اللَّه بن يَزِيدَ، قيل: إنه من أرمى العرب فِي زمانه، وأمه أم كلثوم بنت عَبْد اللَّهِ بن عَامِر، وَهُوَ الأسوار، وله يقول الشاعر:

زعم الناس ان خير قريش *** كلهم حين يذكر الأسوار

وعبد اللَّه الأصغر، وعمر، وأبو بكر، وعتبة، وحرب، وعبد الرَّحْمَن، والربيع، ومُحَمَّد، لأمهات اولاد شتى خلافة مُعَاوِيَة بن يَزِيدَ
وفي هَذِهِ السنة بويع لمعاوية بْن يَزِيدَ بْن مُعَاوِيَة بْن أَبِي سُفْيَانَ بِالشَّامِ بالخلافة، ولعبد اللَّه بن الزُّبَيْرِ بالحجاز.
ولما هلك يَزِيد بن مُعَاوِيَة مكث الحصين بن نمير وأهل الشام يقاتلون ابن الزُّبَيْر وأَصْحَابه بمكة- فِيمَا ذكر هِشَام عن عوانة- أربعين يَوْمًا، قَدْ حصروهم حصارا شديدا، وضيقوا عَلَيْهِم ثُمَّ بلغ موته ابن الزُّبَيْر وأَصْحَابه، ولم يبلغ الحصين بن نمير وأَصْحَابه، فَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ خَالِدِ بْنِ رُسْتُمَ الصَّنْعَانِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ جِيلٍ، قَالَ: بَيْنَا حُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ يُقَاتِلُ ابْنَ الزُّبَيْرِ، إِذْ جَاءَ مَوْتُ يَزِيدَ، فَصَاحَ بِهِمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: إِنَّ طَاغِيَتَكُمْ قَدْ هَلَكَ، فَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَدْخُلَ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَلْيَفْعَلْ، فَمَنْ كَرِهَ فَلْيَلْحَقْ بِشَامِهِ، فَغَدَوْا عَلَيْهِ يُقَاتِلُونَهُ.
قَالَ: فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لِلْحُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ: ادْنُ مِنِّي أُحَدِّثْكَ، فَدَنَا مِنْهُ فَحَدَّثَهُ، فَجَعَلَ فَرَسُ أَحَدِهِمَا يَجْفَلُ- وَالْجَفْلُ: الرَّوَثُ- فَجَاءَ حَمَامُ الْحَرَمِ يَلْتَقِطُ مِنَ الْجَفْلِ، فَكَفَّ الْحُصَيْنُ فَرَسَهُ عَنْهُنَّ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: مَا لَكَ؟ قَالَ: أَخَافُ أَنْ يَقْتُلُ فَرَسِي حَمَامِ الْحَرَمِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزبير: اتتحرج مِنْ هَذَا وَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَ الْمُسْلِمِينَ! فَقَالَ لَهُ: لا أُقَاتِلُكَ، فَأْذَنْ لَنَا نَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَنَنْصَرِفْ عَنْكَ، فَفَعَلَ فَانْصَرَفُوا وَأَمَّا عَوَانَةُ بْنُ الْحَكَمِ فَإِنَّهُ قَالَ- فِيمَا ذَكَرَ هِشَامٌ، عَنْهُ- قَالَ: لَمَّا بَلَغَ ابْنَ الزُّبَيْرِ مَوْتُ يَزِيدَ- وَأَهْلُ الشَّامِ لا يَعْلَمُونَ بِذَلِكَ، قَدْ حَصَرُوهُ حِصَارًا شَدِيدًا وَضَيَّقُوا عَلَيْهِ- أَخَذَ يُنَادِيهِمْ هُوَ وَأَهْلُ مَكَّةَ: عَلامَ تُقَاتِلُونَ؟ قَدْ هَلَكَ طَاغِيَتُكُمْ، وَأَخَذُوا لا يُصَدِّقُونَهُ حَتَّى قَدِمَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ الْمُنَقِّعِ النَّخَعِيُّ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِي رُءُوسِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَمَرَّ بِالْحُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ- وَكَانَ لَهُ صَدِيقًا، وَكَانَ بَيْنَهُمَا صِهْرٌ، وَكَانَ يَرَاهُ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ، فَكَانَ يَعْرِفُ فَضْلَهُ وَإِسْلامَهُ وَشَرَفَهُ- فَسَأَلَ عَنِ الْخَبَرِ، فَأَخْبَرَهُ بِهَلاكِ يزيد، فبعث الحصين ابن نُمَيْرٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: مَوْعِدٌ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ اللَّيْلَةُ الأَبْطَحَ، فَالْتَقَيَا، فَقَالَ لَهُ الْحُصَيْنُ: إِنْ يَكُ هَذَا الرَّجُلُ قَدْ هَلَكَ فَأَنْتَ أَحَقُّ النَّاسِ بِهَذَا الأَمْرِ، هَلُمَّ فَلْنُبَايِعْكَ، ثُمَّ اخْرُجْ مَعِي إِلَى الشَّامِ، فَإِنَّ هَذَا الْجُنْدَ الَّذِينَ مَعِي هُمْ وُجُوهُ اهل الشام وفرسانهم، فو الله لا يَخْتَلِفُ عَلَيْكَ اثْنَانِ، وَتُؤَمِّنُ النَّاسَ وَتَهْدِرُ هَذِهِ الدِّمَاءَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ، وَالَّتِي كَانَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَهْلِ الْحَرَّةِ، فَكَانَ سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو يَقُولُ: مَا مَنَعَهُ أَنْ يُبَايِعَهُمْ وَيَخْرُجَ إِلَى الشَّامِ إِلا تَطَيُّرٌ، لأَنَّ مَكَّةَ الَّتِي مَنَعَهُ اللَّهُ بِهَا، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ جُنْدِ مَرْوَانَ، وَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ وَاللَّهِ لَوْ سَارَ مَعَهُمْ حَتَّى يَدْخُلَ الشَّامَ مَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ مِنْهُمُ اثْنَانِ فَزَعَمَ بَعْضُ قُرَيْشٍ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا أَهْدِرُ تِلَكَ الدِّمَاءَ! أَمَا وَاللَّهِ لا أَرْضَى أَنْ أَقْتُلَ بِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ عَشَرَةً، وَأَخَذَ الْحُصَيْنُ يُكَلِّمُهُ سِرًّا، وَهُوَ يَجْهَرُ جَهْرًا، وَأَخَذَ يَقُولُ: لا وَاللَّهِ لا أَفْعَلُ، فَقَالَ لَهُ الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ:
قَبَّحَ اللَّهُ مَنْ يَعُدُّكَ بَعْدَ هَذِهِ دَاهِيًا قَطُّ أَوْ أَدِيبًا! قَدْ كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ لَكَ رَأْيًا أَلا أَرَانِي أُكَلِّمُكَ سِرًّا وَتُكَلِّمُنِي جَهْرًا، وَأَدْعُوكَ إِلَى الْخِلافَةِ، وَتَعِدُنِي الْقَتْلَ وَالْهَلَكَةَ! ثُمَّ قَامَ فَخَرَجَ وَصَاحَ فِي النَّاسِ، فَأَقْبَلَ فِيهِمْ نَحْوَ الْمَدِينَةِ، وَنَدِمَ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى الَّذِي صَنَعَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: أَمَا أَنْ أَسِيرَ إِلَى الشَّامِ فَلَسْتُ فَاعِلا، وَأَكْرَهُ الْخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ، وَلَكِنْ بَايِعُوا لِي هُنَالِكَ فَإِنِّي مُؤَمِّنُكُمْ وَعَادِلٌ فِيكُمْ.
فَقَالَ لَهُ الْحُصَيْنُ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ تُقْدِمْ بِنَفْسِكَ، وَوَجَدْتُ هُنَالِكَ أُنَاسًا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ هَذَا الْبَيْتِ يَطْلُبُونَهَا يُجِيبُهُمُ النَّاسُ، فَمَا أَنَا صَانِعٌ؟ فَأَقْبَلَ بِأَصْحَابِهِ وَمَنْ مَعَهُ نَحْوَ الْمَدِينَةِ، فَاسْتَقْبَلَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمَعَهُ قَتٌّ وَشَعِيرٌ، وَهُوَ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ، فَسَلَّمَ عَلَى الْحُصَيْنِ، فَلَمْ يَكَدْ يلتفت إِلَيْهِ، وَمَعَ الْحُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ فَرَسٌ لَهُ عَتِيقٌ، وَقَدْ فَنِيَ قَتُّهُ وَشَعِيرُهُ، فَهُوَ غَرَضٌ، وَهُوَ يَسُبُّ غُلامَهُ وَيَقُولُ: مِنْ أَيْنَ نَجِدُ هُنَا لِدَابَّتِنَا عَلَفًا! فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: هَذَا عَلَفٌ عِنْدَنَا، فَاعْلِفْ مِنْهُ دَابَّتَكَ، فَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ عِنْدَ ذَلِكَ بِوَجْهِهِ، فَأَمَرَ له بما كان عِنْدِهِ مِنْ عَلَفٍ، وَاجْتَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الْحِجَازِ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ فَذُلُّوا حَتَّى كَانَ لا يَنْفَرِدُ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلا أَخَذَ بِلِجَامِ دَابَّتِهِ ثُمَّ نَكَسَ عَنْهَا، فَكَانُوا يَجْتَمِعُونَ فِي مُعَسْكَرِهِمْ فَلا يَفْتَرِقُونَ.
وَقَالَتْ لَهُمْ بَنُو أُمَيَّةَ: لا تَبْرَحُوا حَتَّى تَحْمِلُونَا مَعَكُمْ إِلَى الشَّامِ، فَفَعَلُوا، وَمَضَى ذَلِكَ الْجَيْشُ حَتَّى دَخَلَ الشَّامَ، وَقَدْ أَوْصَى يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بِالْبَيْعَةِ لابْنِهِ معاويه ابن يَزِيدَ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلا ثَلاثَةَ أَشْهُرٍ حَتَّى مَاتَ.
وَقَالَ عَوَانَةُ: اسْتَخْلَفَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ ابْنَهُ مُعَاوِيَةَ بْنَ يَزِيدَ، فَلَمْ يَمْكُثْ إِلا أَرْبَعِينَ يَوْمًا حَتَّى مَاتَ.
وَحَدَّثَنِي عُمَرُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: لما استخلف مُعَاوِيَة بن يَزِيدَ وجمع عمال أَبِيهِ، وبويع لَهُ بدمشق، هلك بِهَا بعد أربعين يَوْمًا من ولايته.
ويكنى أبا عبد الرَّحْمَن، وَهُوَ أَبُو لَيْلَى، وأمه أم هاشم بنت أبي هاشم ابن عتبة بن رَبِيعَة، وتوفي وَهُوَ ابن ثلاث عشرة سنة وثمانية عشر يَوْمًا.
وفي هَذِهِ السنة بايع أهل الْبَصْرَة عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، عَلَى أن يقوم لَهُمْ بأمرهم حَتَّى يصطلح الناس عَلَى إمام يرتضونه لأنفسهم، ثُمَّ أرسل عُبَيْد اللَّهِ رسولا إِلَى الْكُوفَةِ يدعوهم إِلَى مثل الَّذِي فعل من ذَلِكَ أهل الْبَصْرَة، فأبوا عَلَيْهِ، وحصبوا الوالي الَّذِي كَانَ عَلَيْهِم، ثُمَّ خالفه أهل الْبَصْرَة أَيْضًا، فهاجت بِالْبَصْرَةِ فتنة، ولحق عُبَيْد اللَّهِ بن زياد بالشام.
ذكر الخبر عما كَانَ من أمر عُبَيْد اللَّهِ بن زياد وأمر أهل الْبَصْرَة مَعَهُ بِهَا بعد موت يَزِيد.
وَحَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سلمة، عن عَلِيّ بن زيد، عن الحسن، قال: كتب الضحاك ابن قيس إِلَى قيس بن الهيثم حين مات يَزِيد بن مُعَاوِيَة: سلام عَلَيْك، أَمَّا بَعْدُ، فإن يَزِيد بن مُعَاوِيَة قَدْ مات، وَأَنْتُمْ إخواننا، فلا تسبقونا بشيء حَتَّى نختار لأنفسنا.
حدثني عمر، قَالَ: حَدَّثَنَا زهير بن حرب، قَالَ: حَدَّثَنَا وهب بن حماد، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن أبي عيينة، قَالَ: حَدَّثَنِي شهرك، قَالَ: شهدت عُبَيْد اللَّهِ بن زياد حين مات يَزِيد بن مُعَاوِيَة قام خطيبا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: يَا أهل البصره، انسبوني، فو الله لتجدن مهاجر والدي ومولدي فيكم، وداري، وَلَقَدْ وليتكم وما أحصى ديوان مقاتلتكم إلا سبعين ألف مقاتل وَلَقَدْ أحصى الْيَوْم ديوان مقاتلتكم ثمانين ألفا، وما أحصى ديوان عمالكم إلا تسعين ألفا، وَلَقَدْ أحصي الْيَوْم مائة وأربعين ألفا، وما تركت لكم ذا ظنة أخافه عَلَيْكُمْ إلا وَهُوَ فِي سجنكم هَذَا وإن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ يَزِيد بن مُعَاوِيَة قَدْ توفي، وَقَدِ اختلف أهل الشام، وَأَنْتُمُ الْيَوْم أكثر الناس عددا، وأعرضه فناء، وأغناه عن الناس، وأوسعه بلادا، فاختاروا لأنفسكم رجلا ترتضونه لدينكم وجماعتكم، فأنا أول راض من رضيتموه وتابع، فإن اجتمع أهل الشام عَلَى رجل ترتضونه، دخلتم فِيمَا دخل فِيهِ الْمُسْلِمُونَ، وإن كرهتم ذَلِكَ كنتم عَلَى جديلتكم حَتَّى تعطوا حاجتكم، فما بكم إِلَى أحد من أهل البلدان حاجة، وما يستغني الناس عنكم فقامت خطباء أهل الْبَصْرَة فَقَالُوا: قَدْ سمعنا مقالتك أيها الأمير، وإنا وَاللَّهِ مَا نعلم أحدا أقوى عَلَيْهَا مِنْكَ، فهلم فلنبايعك، فَقَالَ: لا حاجة لي فِي ذَلِكَ، فاختاروا لأنفسكم، فأبوا عَلَيْهِ، وأبى عَلَيْهِم، حَتَّى كرروا ذَلِكَ عَلَيْهِ ثلاث مرات، فلما أبوا بسط يده فبايعوه، ثُمَّ انصرفوا بعد البيعة وهم يقولون: لا يظن ابن مرجانة أنا نستقاد لَهُ فِي الجماعة والفرقة، كذب وَاللَّهِ! ثُمَّ وثبوا عَلَيْهِ.
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ زهير: قَالَ: حَدَّثَنَا وهب، قال وحدثنا الأسود ابن شيبان، عن خَالِد بن سمير، أن شقيق بن ثور ومالك بن مسمع وحضين ابن المنذر أتوا عُبَيْد اللَّهِ ليلا وَهُوَ فِي دار الإمارة، فبلغ ذَلِكَ رجلا من الحي من بني سدوس، قَالَ: فانطلقت فلزمت دار الإمارة، فلبثوا مَعَهُ حَتَّى مضى عَلَيْهِ الليل، ثُمَّ خرجوا ومعهم بغل موقر مالا، قَالَ: فأتيت حضينا فقلت: مر لي من هَذَا المال بشيء، فَقَالَ: عَلَيْك ببني عمك، فأتيت شقيقا فقلت: مر لي من هَذَا المال بشيء- قَالَ: وعلى المال مولى لَهُ يقال لَهُ: أيوب- فَقَالَ: يَا أيوب، أعطه مائة درهم، قلت: أما مائة درهم وَاللَّهِ لا أقبلها، فسكت عني ساعة، وسار هنيهة، فأقبلت عَلَيْهِ فقلت:
مر لي من هَذَا المال بشيء، فَقَالَ: يَا أيوب، أعطه مائتي درهم، قلت:
لا اقبل والله مائتين، ثم امر بثلاثمائة ثم أربعمائة، فلما انتهينا إِلَى الطفاوة قلت: مر لي بشيء، قَالَ: أرأيت إن لم أفعل مَا أنت صانع؟ قلت: أنطلق وَاللَّهِ حَتَّى إذا توسطت دور الحي وضعت إصبعي فِي أذني، ثُمَّ صرخت بأعلى صوتي: يَا معشر بكر بن وائل، هَذَا شقيق بن ثور وحضين بن المنذر ومالك بن المسمع، قَدِ انطلقوا إِلَى ابن زياد، فاختلفوا فِي دمائكم، قَالَ:
مَا لَهُ فعل اللَّه بِهِ وفعل! ويلك أعطه خمسمائة درهم، قَالَ: فأخذتها ثُمَّ صبحت غاديا عَلَى مالك- قَالَ وهب: فلم أحفظ مَا أمر له به مالك- قال: ثم رايت حضينا فدخلت عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا صنع ابن عمك؟ فأخبرته وقلت:
أعطني من هَذَا المال، فَقَالَ: إنا قَدْ أخذنا هَذَا المال ونجونا بِهِ، فلن نخشى مِنَ النَّاسِ شَيْئًا، فلم يعطني شَيْئًا.
قَالَ أَبُو جَعْفَر: وَحَدَّثَنِي أَبُو عبيدة معمر بن المثنى أن يونس بن حبيب الجرمي حدثه، قَالَ: لما قتل عُبَيْد اللَّهِ بن زياد الحسين بن على ع وبني أَبِيهِ، بعث برءوسهم إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فسر بقتلهم أولا، وحسنت بِذَلِكَ منزلة عُبَيْد اللَّهِ عنده، ثُمَّ لم يلبث إلا قليلا حَتَّى ندم عَلَى قتل الْحُسَيْن، فكان يقول: وما كَانَ علي لو احتملت الأذى وأنزلته معي فِي داري، وحكمته فِيمَا يريد، وإن كَانَ علي فِي ذَلِكَ وكف ووهن في سلطاني، حفظا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورعاية لحقه وقرابته! لعن اللَّه ابن مرجانة، فإنه أخرجه واضطره، وَقَدْ كَانَ سأله أن يخلي سبيله ويرجع فلم يفعل، أو يضع يده فِي يدي، أو يلحق بثغر من ثغور الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يتوفاه اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فلم يفعل، فأبى ذَلِكَ ورده عَلَيْهِ وقتله، فبغضنى بقتله الى المسلمين، وزرع لي في قلوبهم العداوة، فبغضني البر والفاجر، بِمَا استعظم الناس من قتلي حسينا، مَا لي ولابن مرجانة لعنه اللَّه وغضب عَلَيْهِ! ثُمَّ إن عبيد الله بعث مولى يقال لَهُ أيوب بن حمران إِلَى الشام ليأتيه بخبر يَزِيد، فركب عُبَيْد اللَّهِ ذات يوم حَتَّى إذا كَانَ فِي رحبة القصابين، إذا هُوَ بأيوب بن حمران قَدْ قدم، فلحقه فأسر إِلَيْهِ موت يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فرجع عُبَيْد اللَّهِ من مسيره ذَلِكَ فأتى منزله، وأمر عَبْد اللَّهِ بن حصن أحد بني ثعلبة بن يربوع فنادى: الصَّلاة جامعة.
قَالَ أَبُو عبيدة: وأما عمير بن معن الكاتب، فَحَدَّثَنِي قَالَ: الَّذِي بعثه عُبَيْد اللَّهِ، حمران مولاه، فعاد عُبَيْد اللَّهِ عَبْد اللَّهِ بن نافع أخي زياد لأمه، ثُمَّ خرج عُبَيْد اللَّهِ ماشيا من خوخة كَانَتْ فِي دار نافع إِلَى الْمَسْجِدِ، فلما كَانَ فِي صحنه إذا هُوَ بمولاه حمران أدنى ظلمة عِنْدَ المساء- وَكَانَ حمران رسول عُبَيْد اللَّهِ بن زياد إِلَى مُعَاوِيَةَ حياته وإلى يَزِيد- فلما رآه ولم يكن آن لَهُ أن يقدم- قَالَ: مهيم! قَالَ: خير، قَالَ: وما وراءك؟ قَالَ: أدنو مِنْكَ؟ قَالَ: نعم- وأسر إِلَيْهِ موت يَزِيد واختلاف أمر الناس بِالشَّامِ، وَكَانَ يَزِيد مات يوم الخميس للنصف من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين- فأقبل عُبَيْد اللَّهِ من فوره، فأمر مناديا فنادى: الصَّلاة جامعة، فلما اجتمع الناس صعد الْمِنْبَر فنعى يَزِيد، وعرض بثلبه لقصد يَزِيد إِيَّاهُ قبل موته حَتَّى يخافه عُبَيْد اللَّهِ، فَقَالَ الأحنف لعبيد اللَّه: إنه قَدْ كَانَتْ ليزيد فِي أعناقنا بيعة، وَكَانَ يقال: أعرض عن ذي فنن، فأعرض عنه، ثُمَّ قام عُبَيْد اللَّهِ يذكر اختلاف أهل الشام، وَقَالَ: إني قَدْ وليتكم ثُمَّ ذكر نحو حديث عُمَر بن شَبَّةَ، عن زهير بن حرب إِلَى: فبايعوه عن رضا مِنْهُمْ ومشورة.
ثُمَّ قَالَ: فلما خرجوا من عنده جعلوا يمسحون أكفهم بباب الدار وحيطانه، ويقولون: ظن ابن مرجانة أنا نوليه أمرنا فِي الفرقة! قَالَ: فأقام عُبَيْد اللَّهِ أميرا غير كثير حَتَّى جعل سلطانه يضعف، ويأمرنا بالأمر فلا يقضى، ويرى الرأي فيرد عَلَيْهِ، ويأمر بحبس المخطئ فيحال بين أعوانه وبينه.
قَالَ أَبُو عبيدة: فسمعت غيلان بن مُحَمَّد يحدث عن عُثْمَان البتي، قَالَ: حَدَّثَنِي عبد الرَّحْمَن بن جوشن، قَالَ: تبعت جنازة فلما كَانَ فِي سوق الإبل إذا رجل عَلَى فرس شهباء متقنع بسلاح وفي يده لواء، وَهُوَ يقول: أَيُّهَا النَّاسُ، هلموا إلي أدعكم إِلَى مَا لم يدعكم إِلَيْهِ أحد، أدعوكم إِلَى العائذ بالحرم- يعني عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ قَالَ: فتجمع إِلَيْهِ نويس، فجعلوا يصفقون عَلَى يديه، ومضينا حَتَّى صلينا عَلَى الجنازة، فلما رجعنا إذا هُوَ قَدِ انضم إِلَيْهِ أكثر من الأولين، ثُمَّ أخذ بين دار قيس بن الهيثم بن أسماء بن الصلت السلمي ودار الحارثيين قبل بني تميم فِي الطريق الَّذِي يأخذ عَلَيْهِم، فَقَالَ: أَلا من أرادني فأنا سلمة بن ذؤيب- وَهُوَ سلمة بن ذؤيب بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ محكم بن زَيْد بن رياح بن يربوع بن حنظلة- قَالَ: فلقيني عبد الرَّحْمَن بن بكر عِنْدَ الرحبة، فأخبرته بخبر سلمة بعد رجوعي، فأتى عبد الرَّحْمَن عُبَيْد اللَّهِ فحدثه بالحديث عني، فبعث إلي، فأتيته، فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِي خبر بِهِ عنك أَبُو بحر؟
قَالَ: فاقتصصت عَلَيْهِ القصة حَتَّى أتيت عَلَى آخرها، فأمر فنودي عَلَى المكان:
الصَّلاة جامعة، فتجمع الناس، فأنشأ عبيد الله يقص أمره وأمرهم، وما قَدْ كَانَ دعاهم إِلَى من يرتضونه، فيبايعه معهم، وإنكم أبيتم غيري، وإنه بلغني أنكم مسحتم أكفكم بالحيطان وباب الدار، وقلتم مَا قلتم، وإني آمر بالأمر فلا ينفذ، ويرد علي رأيي، وتحول القبائل بين أعواني وطلبتي، ثُمَّ هَذَا سلمة بن ذؤيب يدعو إِلَى الخلاف عَلَيْكُمْ، إرادة أن يفرق جماعتكم، ويضرب بعضكم جباه بعض بالسيف فقال الأحنف صخر بن قيس ابن مُعَاوِيَة بن حصين بن عبادة بن النزال بن مُرَّةَ بن عبيد بن الْحَارِث بن عَمْرو بن كعب بن سَعْدِ بْنِ زَيْد مناة بن تميم، والناس جميعا: نحن نأتيك بسلمة، فأتوا سلمة، فإذا جمعه قَدْ كثف، وإذا الفتق قَدِ اتسع عَلَى الراتق، وامتنع عَلَيْهِم، فلما رأوا ذَلِكَ قعدوا عن عُبَيْد اللَّهِ بن زياد فلم يأتوه.
قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي غير واحد، عن سبرة بن الجارود الْهُذَلِيّ، عَنْ أَبِيهِ الجارود، قَالَ: وَقَالَ عُبَيْد اللَّهِ فِي خطبته: يَا أهل الْبَصْرَة، وَاللَّهِ لقد لبسنا الخز واليمنة واللين من الثياب حَتَّى لقد أجمنا ذَلِكَ وأجمته جلودنا، فما بنا إِلَى أن نعقبها الحديد! يَا أهل الْبَصْرَة، وَاللَّهِ لو اجتمعتم عَلَى ذنب عير لتكسروه ما كسرتموه قال الجارود: فو الله مَا رمي بجماح حَتَّى هرب، فتوارى عِنْدَ مسعود فلما قتل مسعود لحق بِالشَّامِ.
قَالَ يونس: وَكَانَ فِي بيت مال عُبَيْد اللَّهِ يوم خطب الناس قبل خروج سلمة ثمانية آلاف ألف أو أقل- وَقَالَ عَلِيّ بن مُحَمَّد: تسعة عشر ألف الف- فقال للناس: ان هذا فيئكم، فخذوا أعطياتكم وأرزاق ذراريكم مِنْهُ، وأمر الكتبة بتحصيل الناس وتخريج الأسماء، واستعجل الكتاب فِي ذَلِكَ حَتَّى وكل بهم من يحبسهم بالليل فِي الديوان، وأسرجوا بالشمع.
قَالَ: فلما صنعوا مَا صنعوا وقعدوا عنه، وَكَانَ من خلاف سلمة عَلَيْهِ مَا كَانَ، كف عن ذَلِكَ، ونقلها حين هرب، فهي إِلَى الْيَوْم تردد فِي آل زياد، فيكون فِيهِمُ العرس أو المأتم فلا يرى فِي قريش مثلهم، وَلا فِي قريش أحسن مِنْهُمْ فِي الغضارة والكسوة فدعا عُبَيْد اللَّهِ رؤساء خاصة السلطان، فأرادهم أن يقاتلوا مَعَهُ، فَقَالُوا: إن أمرنا قوادنا قاتلنا معك، فَقَالَ إخوة عُبَيْد اللَّهِ لعبيد اللَّه: وَاللَّهِ مَا من خليفة فتقاتل عنه فإن هزمت فئت إِلَيْهِ وإن استمددته أمدك، وَقَدْ علمت أن الحرب دول، فلا ندري لعلها تدول عَلَيْك، وَقَدِ اتخذنا بين أظهر هَؤُلاءِ القوم أموالا، فإن ظفروا أهلكونا وأهلكوها، فلم تبق لك باقية وَقَالَ لَهُ أخوه عَبْد اللَّهِ لأبيه وأمه مرجانة: وَاللَّهِ لَئِنْ قاتلت القوم لأعتمدن عَلَى ظبة السيف حَتَّى يخرج من صلبي فلما رَأَى ذَلِكَ عُبَيْد اللَّهِ أرسل إِلَى حارث بن قيس بن صهبان بن عون بن علاج بن مازن بن أسود بن جهضم بن جذيمة بن مالك بن فهم، فَقَالَ لَهُ: يَا حار، إن أبي كَانَ أوصاني إن احتجت إِلَى الهرب يَوْمًا أن اختاركم، وإن نفسي تأبى غيركم، فَقَالَ الْحَارِث: قَدْ أبلوك فِي أبيك ما قد علمت، وابلوه فلم يجدوا عنده وَلا عندك مكافأة، وما لك مرد إذا اخترتنا، وما أدري كيف أتاني لك إن أخرجتك نهارا! إني أخاف أَلا أصل بك إِلَى قومي حَتَّى تقتل وأقتل، ولكني أقيم معك حَتَّى إذا وارى دمس دمسا وهدأت القدم، ردفت خلفي لئلا تعرف، ثُمَّ أخذتك عَلَى أخوالي بني ناجية، قَالَ عُبَيْد اللَّهِ: نعم مَا رأيت، فأقام حتى إذا قيل: أخوك أم الذئب، حمله خلفه، وَقَدْ نقل تِلَكَ الأموال فأحرزها، ثُمَّ انطلق بِهِ يمر بِهِ عَلَى الناس، وكانوا يتحارسون مخافة الحرورية فيسأل عُبَيْد اللَّهِ أين نحن؟ فيخبره، فلما كَانُوا فِي بني سليم قَالَ عُبَيْد اللَّهِ: أين نحن؟ قَالَ: فِي بني سليم، قَالَ:
سلمنا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فلما أتى بني ناجيه قال: اين نحن؟ قال: في بني ناجية، قَالَ: نجونا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فقال بنو ناجية: من أنت؟ قَالَ: الْحَارِث بن قيس، قَالُوا: ابن أختكم، وعرف رجل مِنْهُمْ عُبَيْد اللَّهِ فَقَالَ: ابن مرجانة! فأرسل سهما فوقع فِي عمامته، ومضى بِهِ الْحَارِث حَتَّى ينزله دار نفسه فِي الجهاضم، ثُمَّ مضى إِلَى مسعود بن عَمْرو بن عدي بن محارب بن صنيم بن مليح بن شرطان بن معن بن مالك بن فهم، فَقَالَتِ الأزد ومُحَمَّد بن أبي عيينة، فلما رآه مسعود قَالَ: يَا حار، قَدْ كَانَ يتعوذ من سوء طوارق الليل، فنعوذ بِاللَّهِ من شر مَا طرقتنا بِهِ، قَالَ الْحَارِث: لم أطرقك إلا بخير، وَقَدْ علمت أن قومك قَدْ أنجوا زيادا فوفوا لَهُ، فصارت لَهُمْ مكرمة فِي العرب يفتخرون بِهَا عَلَيْهِم، وَقَدْ بايعتم عُبَيْد اللَّهِ بيعة الرضا، رضا عن مشورة، وبيعة أخرى قَدْ كَانَتْ فِي أعناقكم قبل البيعة- يعني بيعة الجماعة- فَقَالَ لَهُ مسعود: يَا حار، أترى لنا أن نعادي أهل مصرنا فِي عُبَيْد اللَّهِ، وَقَدْ أبلينا فِي أَبِيهِ مَا أبلينا، ثُمَّ لم نكافأ عَلَيْهِ، ولم نشكر! مَا كنت أحسب أن هَذَا من رأيك، قَالَ الْحَارِث: إنه لا يعاديك أحد عَلَى الوفاء ببيعتك حَتَّى تبلغه مأمنه.
قَالَ أَبُو جَعْفَر: وأما عمر فَحَدَّثَنِي قَالَ: حَدَّثَنِي زهير بن حرب، قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أبي، عن الزُّبَيْر بن الخريت، عن أبي لبيد الجهضمي، عن الْحَارِث بن قيس، قَالَ: عرض نفسه- يعني عُبَيْد اللَّهِ بن زياد- علي، فَقَالَ: أما وَاللَّهِ إني لأعرف سوء رأي كَانَ فِي قومك، قال: فوقفت لَهُ، فأردفته عَلَى بغلتي- وَذَلِكَ ليلا- فأخذت عَلَى بني سليم، فَقَالَ: من هَؤُلاءِ؟ قلت: بنو سليم، قَالَ: سلمنا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ مررنا ببني ناجية وهم جلوس ومعهم السلاح- وَكَانَ الناس يتحارسون إذ ذاك فِي مجالسهم- فَقَالُوا: من هَذَا؟ قلت: الْحَارِث بن قيس، قَالُوا: امض راشدا، فلما مضينا قَالَ رجل مِنْهُمْ: هَذَا وَاللَّهِ ابن مرجانة خلفه، فرماه بسهم، فوضعه فِي كور عمامته، فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّد، من هَؤُلاءِ؟ قَالَ: الَّذِينَ كنت تزعم أَنَّهُمْ من قريش، هَؤُلاءِ بنو ناجية، قَالَ: نجونا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا حارث، إنك قَدْ أحسنت وأجملت، فهل أنت صانع ما أشير عَلَيْك؟ قَدْ علمت منزلة مسعود بن عَمْرو فِي قومه وشرفه وسنه وطاعة قومه لَهُ، فهل لك أن تذهب بي إِلَيْهِ فأكون فِي داره، فهي وسط الأزد، فإنك إن لم تفعل صدع عَلَيْك أمر قومك، قلت: نعم، فانطلقت بِهِ، فما شعر مسعود بشيء حَتَّى دخلنا عَلَيْهِ وَهُوَ جالس ليلتئذ يوقد بقضيب عَلَى لبنة، وَهُوَ يعالج خفيه قَدْ خلع أحدهما وبقي الآخر، فلما نظر فِي وجوهنا عرفنا وَقَالَ: إنه كَانَ يتعوذ من طوارق السوء، فقلت لَهُ: أفتخرجه بعد ما دخل عَلَيْك بيتك! قَالَ: فأمره فدخل بيت عبد الغافر بن مسعود- وامرأة عبد الغافر يَوْمَئِذٍ خيرة بنت خفاف بن عَمْرو- قَالَ: ثُمَّ ركب مسعود من ليلته وَمَعَهُ الْحَارِث وجماعة من قومه، فطافوا فِي الأزد ومجالسهم، فَقَالُوا: إن ابن زياد قَدْ فقد، وإنا لا نأمن أن تلطخوا بِهِ، فأصبحوا فِي السلاح، وفقد الناس ابن زياد فَقَالُوا: أين توجه؟ فَقَالُوا: مَا هُوَ إلا فِي الأزد.
قَالَ وهب: فحدثنا أَبُو بَكْر بن الفضل، عن قبيصة بن مروان انهم جعلوا يقولون: أين ترونه توجه؟ فَقَالَتْ عجوز من بني عقيل: أين ترونه توجه! اندحس وَاللَّهِ فِي أجمة أَبِيهِ.
وكانت وفاة يَزِيد حين جاءت ابن زياد وفي بيوت مال الْبَصْرَة ستة عشر ألف ألف، ففرق ابن زياد طائفة منها فِي بني أَبِيهِ، وحمل الباقي مَعَهُ، وَقَدْ كَانَ دعا البخارية إِلَى القتال مَعَهُ، ودعا بني زياد إِلَى ذَلِكَ فأبوا عَلَيْهِ.
حدثني عمر، قَالَ: حَدَّثَنِي زهير بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَسْوَدُ بْنُ شَيْبَانَ، عن عَبْد اللَّهِ بن جرير المازني، قَالَ: بعث إلي شقيق بن ثور فَقَالَ لي: إنه قَدْ بلغني أن ابن منجوف هَذَا وابن مسمع يدلجان بالليل إِلَى دار مسعود ليردا ابن زياد إِلَى الدار ليصلوا بين هذين الغارين، فيهريقوا دماءكم، ويعزوا أنفسهم، وَلَقَدْ هممت أن أبعث إِلَى ابن منجوف فأشده وثاقا، وأخرجه عنى، فاذهب الى مسعود فاقرا ع مني، وَقل لَهُ: إن ابن منجوف وابن مسمع يفعلان كذا وكذا، فأخرج هَذَيْنِ الرجلين عنك قَالَ:
وَكَانَ مَعَهُ عُبَيْد اللَّهِ وعبد اللَّه ابنا زياد قَالَ: فدخلت عَلَى مسعود وابنا زياد عنده: أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله، فقلت: السلام عَلَيْك أبا قيس، قَالَ: وعليك السلام، قلت: بعثني إليك شقيق بن ثور يقرأ عَلَيْك السلام ويقول لك: إنه بلغني، فرد الكلام بعينه إلي فأخرجهما عنك، قال مسعود: والله فعلت ذاك، فقال عبيد اللَّهِ: كيف أبا ثور- ونسي كنيته، إنما كان يكنى أبا الفضل- فَقَالَ أخوه عَبْد اللَّهِ: إنا وَاللَّهِ لا نخرج عنكم، قَدْ أجرتمونا، وعقدتم لنا ذمتكم، فلا نخرج حَتَّى نقتل بين أظهركم، فيكون عارا عَلَيْكُمْ إِلَى يوم الْقِيَامَة.
قَالَ وهب: حَدَّثَنَا الزُّبَيْر بن الخريت، عن أبي لبيد، أن أهل الْبَصْرَة اجتمعوا فقلدوا أمرهم النُّعْمَان بن صهبان الراسبي ورجلا من مضر ليختارا لَهُمْ رجلا فيولوه عَلَيْهِم، وَقَالُوا: من رضيتما لنا فقد رضيناه وَقَالَ غير أبي لبيد: الرجل المضري قيس بن الهيثم السلمي قَالَ أَبُو لبيد: ورأي المضري فِي بني أُمَيَّة، ورأي النُّعْمَان فِي بني هاشم، فَقَالَ النُّعْمَان: مَا أَرَى أحدا أحق بهذا الأمر من فلان- لرجل من بني أُمَيَّة- قَالَ: وَذَلِكَ رأيك؟
قَالَ: نعم، قَالَ: قَدْ قلدتك أمري، ورضيت من رضيت ثُمَّ خرجا إِلَى النَّاسِ، فَقَالَ المضري: قَدْ رضيت من رضي النُّعْمَان، فمن سمى لكم فأنا بِهِ راض، فَقَالُوا للنعمان: مَا تقول! فَقَالَ: مَا أَرَى أحدا غير عبد الله ابن الْحَارِث- وَهُوَ ببة- فَقَالَ المضري: مَا هَذَا الَّذِي سميت لي؟ قَالَ:
بلى، لعمري إنه لهو، فرضي الناس بعبد اللَّه وبايعوه.
قَالَ أَصْحَابنا: دعت مضر إِلَى العباس بن الأَسْوَدِ بْنِ عوف الزُّهْرِيّ، ابن أخي عبد الرَّحْمَن بن عوف، ودعت اليمن إِلَى عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث بن نوفل، فتراضى الناس إن حكموا قيس بن الهيثم والنعمان بن صهبان الراسبي لينظرا فِي أمر الرجلين، فاتفق رأيهما على أن يوليا المضري الهاشمي إِلَى أن يجتمع أمر الناس عَلَى إمام، فقيل فِي ذَلِكَ:

نزعنا وولينا وبكر بن وائل *** تجر خصاها تبتغي من تحالف

فلما أمروا ببة عَلَى الْبَصْرَة ولى شرطته هميان بن عدي السدوسي.
قَالَ أَبُو جَعْفَر: وأما أَبُو عبيدة فإنه- فِيمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن علي، عن أبي سعدان، عنه- قص من خبر مسعود وعبيد اللَّه بن زياد وأخيه غير القصة الَّتِي قصها وهب بن جرير، عمن روى عَنْهُمْ خبرهم، قال: حدثنى مسلمه ابن محارب بن سلم بن زياد وغيره من آل زياد، عمن أدرك ذَلِكَ مِنْهُمْ ومن مواليهم والقوم أعلم بحديثهم، أن الْحَارِث بن قيس لم يكلم مسعودا، ولكنه آمن عُبَيْد اللَّهِ، فحمل مَعَهُ مائة ألف درهم، ثُمَّ أتى بِهَا إِلَى أم بسطام امرأة مسعود، وَهِيَ بنت عمه، وَمَعَهُ عُبَيْد اللَّهِ وعبد اللَّه ابنا زياد، فاستأذن عَلَيْهَا، فأذنت لَهُ، فَقَالَ لها الْحَارِث: قَدْ أتيتك بأمر تسودين بِهِ نساءك وتتمين بِهِ شرف قومك، وتعجلين غنى ودنيا لك خاصة، هَذِهِ مائة ألف درهم فاقبضيها، فهي لك، وضمي عُبَيْد اللَّهِ قالت، إني أخاف أَلا يرضى مسعود بِذَلِكَ وَلا يقبله، فَقَالَ الْحَارِث: ألبسيه ثوبا من أثوابي، وأدخليه بيتك، وخلي بيننا وبين مسعود، فقبضت المال، وفعلت، فلما جَاءَ مسعود أخبرته، فأخذ برأسها، فخرج عُبَيْد اللَّهِ والحارث من حجلتها عَلَيْهِ، فَقَالَ عُبَيْد اللَّهِ: قَدْ أجارتني ابنة عمك عَلَيْك، وهذا ثوبك علي، وطعامك فِي بطني، وَقَدِ التف علي بيتك، وشهد لَهُ عَلَى ذَلِكَ الْحَارِث، وتلطفا لَهُ حَتَّى رضي.
قَالَ أَبُو عبيدة: وأعطى عُبَيْد اللَّهِ الْحَارِث نحوا من خمسين ألفا، فلم يزل عُبَيْد اللَّهِ فِي بيت مسعود حَتَّى قتل مسعود، قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي يَزِيد بن سمير الجرمي، عن سوار بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيد الجرمي، قَالَ: فلما هرب عُبَيْد اللَّهِ غبر أهل الْبَصْرَة بغير أَمِير، فاختلفوا فيمن يؤمرون عَلَيْهِم، ثُمَّ تراضوا برجلين يختاران لَهُمْ خيرة، فيرضون بِهَا إذا اجتمعا عَلَيْهَا، فتراضوا بقيس بن الهيثم السلمي، وبنعمان بن سفيان الراسبى- راسب بن جرم ابن ربان بن حلوان بن عِمْرَان بن الحاف بن قضاعة- أن يختارا من يرضيان لَهُمْ، فذكرا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِث بْن عبد المطلب- وأمه هند بنت أبي سُفْيَان بن حرب بن أُمَيَّة- وكان يلقب ببه، وهو جد سليمان ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِث، وذكرا عَبْد اللَّهِ بن الأَسْوَدِ الزُّهْرِيّ فلما أطبقا عليهما اتعدا المربد، وواعدا الناس أن تجتمع آراؤهم عَلَى أحد هَذَيْنِ.
قَالَ: فحضر الناس، وحضرت معهم قارعه المربد، اى اعلاه، فجاء قيس ابن الهيثم، ثُمَّ جَاءَ النُّعْمَان بعد، فتجاول قيس والنعمان، فأرى النُّعْمَان قيسا أن هواه فِي ابن الأسود، ثُمَّ قَالَ: إنا لا نستطيع أن نتكلم معا، وأراده أن يجعل الكلام إِلَيْهِ، ففعل قيس وَقَدِ اعتقد أحدهما عَلَى الآخر، فأخذ النُّعْمَان عَلَى الناس عهدا ليرضون بِمَا يختار قَالَ: ثُمَّ أتى النُّعْمَان عَبْد الله ابن الأَسْوَدِ فأخذ بيده، وجعل يشترط عَلَيْهِ شرائط حَتَّى ظن الناس أنه مبايعه، ثُمَّ تركه، وأخذ بيد عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث، فاشترط عَلَيْهِ مثل ذَلِكَ، ثُمَّ حمد اللَّه تعالى واثنى عليه، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحق أهل بيته وقرابته، ثُمَّ قَالَ: يا أيها الناس، مَا تنقمون من رجل من بنى عم نبيكم صلى الله عليه وسلم، وأمه هند بنت أبي سُفْيَان! فإن كَانَ فِيهِمْ فهو ابن أختكم، ثُمَّ صفق عَلَى يده وَقَالَ: أَلا إني قَدْ رضيت لكم بِهِ، فنادوا: قَدْ رضينا، فأقبلوا بعبد اللَّه بن الْحَارِث إِلَى دار الإمارة حَتَّى نزلها، وَذَلِكَ فِي أول جمادى الآخرة سنة أربع وستين، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى شرطته هيمان بن عدي السدوسي، ونادى فِي الناس: أن احضروا البيعة، فحضروا فبايعوه، فَقَالَ الفرزدق حين بايعه:

وبايعت أقواما وفيت بعهدهم *** وبَبَّة قَدْ بايعته غير نادم

قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي زهير بن هنيد، عن عَمْرو بن عِيسَى، قَالَ: كَانَ منزل مالك بن مسمع الجحدري فِي الباطنة عِنْدَ باب عَبْد اللَّهِ الإصبهاني فِي خط بنى جحدر، الَّذِي عِنْدَ مسجد الجامع، فكان مالك يحضر المسجد، فبينا هُوَ قاعد فِيهِ- وَذَلِكَ بعد يسير من أمر ببة- وافى الحلقة رجل من ولد عَبْد اللَّهِ عَامِر بن كريز القرشي يريد ببة، وَمَعَهُ رسالة من عبد الله ابن خازم، وبيعته بهراة، فتنازعوا، فأغلظ القرشي لمالك، فلطم رجل من بكر بن وائل القرشي، فتهايج من ثُمَّ من مضر وربيعة، وكثرتهم رَبِيعَة الَّذِينَ فِي الحلقة، فنادى رجل: يال تميم! فسمعت الدعوة عصبه من ضبة ابن أد- كَانُوا عِنْدَ القاضي- فأخذوا رماح حرس من المسجد وترستهم، ثُمَّ شدوا عَلَى الربعيين فهزموهم، وبلغ ذَلِكَ شقيق بن ثور السدوسي- وَهُوَ يَوْمَئِذٍ رئيس بكر بن وائل- فأقبل إِلَى الْمَسْجِدِ فَقَالَ: لا تجدن مضريا إلا قتلتموه، فبلغ ذَلِكَ مالك بن مسمع، فأقبل متفضلا يسكن الناس، فكف بعضهم عن بعض، فمكث الناس شهرا أو أقل، وَكَانَ رجل من بني يشكر يجالس رجلا من بني ضبة فِي المسجد، فتذاكرا لطمة البكري القرشي، ففخر اليشكري قال: ثم قال: ذهبت ظلفا فأحفظ الضبي بِذَلِكَ، فوجأ عنقه، فوقذه الناس فِي الجمعة، فحمل إِلَى أهله ميتا- أعني اليشكري- فثارت بكر إِلَى رأسهم أشيم بن شقيق، فَقَالُوا: سر بنا، فَقَالَ: بل أبعث إِلَيْهِم رسولا، فإن سيبوا لنا حقنا وإلا سرنا إِلَيْهِم، فأبت ذَلِكَ بكر، فأتوا مالك بن مسمع- وَقَدْ كَانَ قبل ذَلِكَ مملكا عليهم قبل اشيم، فغلب اشيم على الرياسة حين شخص أشيم إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فكتب لَهُ إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد أن ردوا الرياسة إِلَى أشيم، فأبت اللهازم، وهم بنو قيس بن ثعلبة وحلفاؤهم عنزة وشيع اللات وحلفاؤها عجل حتى توافوهم وآل ذهل بن شيبان وحلفاؤها يشكر، وذهل بن ثعلبة وحلفاؤها ضبيعة بن رَبِيعَة بن نزار، أربع قبائل وأربع قبائل، وَكَانَ هَذَا الحلف فِي أهل الوبر فِي الْجَاهِلِيَّة، فكانت حنيفة بقيت من قبائل بكر لم تكن دخلت فِي الْجَاهِلِيَّة فِي هَذَا الحلف، لأنهم أهل مدر، فدخلوا فِي الإِسْلام مع أخيهم عجل، فصاروا لهزمة، ثُمَّ تراضوا بحكم عِمْرَان بن عصام العنزي أحد بني هميم، وردها إِلَى أشيم، فلما كَانَتْ هَذِهِ الْفِتْنَة استخفت بكر مالك بن مسمع، فخف وجمع وأعد، فطلب إِلَى الأزد أن يجددوا الحلف الَّذِي كَانَ بينهم قبل ذَلِكَ فِي الجماعة عَلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فَقَالَ حَارِثَة بن بدر فِي ذَلِكَ:

نزعنا وأمرنا وبكر بن وائل *** تجر خصاها تبتغي من تحالف
وما بات بكريّ من الدهر ليلة *** فيصبح إلا وَهْوَ للذل عارف

قَالَ: فبلغ عُبَيْد اللَّهِ الخبر- وَهُوَ فِي رحل مسعود- من تباعد مَا بين بكر وتميم، فَقَالَ لمسعود: الق مالكا فجدد الحلف الأول، فلقيه، فترادا ذَلِكَ، وتأبى عليهما نفر من هَؤُلاءِ وأولئك، فبعث عُبَيْد اللَّهِ أخاه عَبْد اللَّهِ مع مسعود، فأعطاه جزيلا من المال، حَتَّى أنفق فِي ذَلِكَ أكثر من مائتي ألف درهم عَلَى أن يبايعوهما، وَقَالَ عُبَيْد اللَّهِ لأخيه: استوثق من القوم لأهل اليمن، فجددوا الحلف وكتبوا بينهم كتابا سوى الكتابين اللذين كانا كتبا بينهما فِي الجماعة، فوضعوا كتابا عِنْدَ مسعود بن عَمْرو.
قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي بعض ولد مسعود، أن أول تسمية من فِيهِ، الصلت بن حريث بن جابر الحنفي، ووضعوا كتابا عِنْدَ الصلت بن حريث أول تسميته ابن رجاء العوذي، من عوذ بن سود، وَقَدْ كَانَ بينهم قبل هَذَا حلف.
قَالَ أَبُو عبيدة: وزعم مُحَمَّد بن حفص ويونس بن حبيب وهبيرة بن حدير وزهير بن هنيد، أن مضر كَانَتْ تكثر رَبِيعَة بِالْبَصْرَةِ، وكانت جماعة الأزد آخر من نزل بِالْبَصْرَةِ، كَانُوا حَيْثُ مصرت الْبَصْرَة، فحول عُمَر بن الْخَطَّابِ رحمه اللَّه من تنوخ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْبَصْرَة، وأقامت جماعة الأزد لم يتحولوا، ثُمَّ لحقوا بِالْبَصْرَةِ بعد ذَلِكَ فِي آخر خلافة مُعَاوِيَة، وأول خلافة يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فلما قدموا قالت بنو تميم للأحنف: بادر إِلَى هَؤُلاءِ قبل أن تسبقنا إِلَيْهِم رَبِيعَة، وَقَالَ الأحنف: إن أتوكم فاقبلوهم، وإلا لا تأتوهم فإنكم إن أتيتموهم صرتم لَهُمْ أتباعا فأتاهم مالك بن مسمع ورئيس الأزد يَوْمَئِذٍ مسعود بن عَمْرو المعني، فَقَالَ مالك: جددوا حلفنا وحلف كندة فِي الْجَاهِلِيَّة، وحلف بني ذهل بن ثعلبة فِي طيئ بن أدد من ثعل، فقال الأحنف: اما إذ أتوهم فلن يزالوا لَهُمْ أتباعا أذنابا.
قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي هبيرة بن حدير، عن إِسْحَاق بن سويد، قَالَ:
فلما أن جرت بكر إِلَى نصر الأزد عَلَى مضر، وجددوا الحلف الأول، وأرادوا أن يسيروا، قالت الأزد: لا نسير معكم إلا أن يكون الرئيس منا، فرأسوا مسعودا عَلَيْهِم.
قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي مسلمة بن محارب، قَالَ: قَالَ مسعود لعبيد اللَّه:
سر معنا حَتَّى نعيدك فِي الدار، فَقَالَ: مَا أقدر عَلَى ذَلِكَ، امض أنت، وأمر برواحله فشدوا عَلَيْهَا أدواتها وسوادها، وتزمل فِي أهبة السفر، وألقوا لَهُ كرسيا عَلَى باب مسعود، فقعد عَلَيْهِ، وسار مسعود، وبعث عُبَيْد اللَّهِ غلمانا لَهُ عَلَى الخيل مع مسعود، وَقَالَ لَهُمْ: إني لا أدري مَا يحدث فأقول: إذا كَانَ كذا، فليأتني بعضكم بالخبر، ولكن لا يحدثن خير وَلا شر إلا أتاني بعضكم بِهِ، فجعل مسعود لا يأتي عَلَى سكة، وَلا يتجاوز قبيلة إلا أتى بعض أُولَئِكَ الغلمان بخبر ذَلِكَ، وقدم مسعود رَبِيعَة، وعليهم مالك بن مسمع، فأخذوا جميعا سكة المربد، فَجَاءَ مسعود حَتَّى دخل المسجد، فصعد الْمِنْبَر، وعبد اللَّه بن الْحَارِث فِي دار الإمارة، فقيل لَهُ: إن مسعودا وأهل اليمن وربيعة قَدْ ساروا، وسيهيج بين الناس شر، فلو أصلحت بينهم أو ركبت في بنى تميم عليهم! فقال: أبعدهم اللَّه! لا وَاللَّهِ لا أفسدت نفسي فِي إصلاحهم، وجعل رجل من أَصْحَاب مسعود يقول:

لأنكحن ببه *** جارية فِي قبه
تمشط رأس لعبه.

فهذا قول الأزد وربيعة، فأما مضر فيقولون: إن أمه هند بنت أبي سُفْيَان كَانَتْ ترقصه وتقول هَذَا، فلما لم يحل أحد بين مسعود وبين صعود الْمِنْبَر، خرج مالك بن مسمع فِي كتيبته حَتَّى علا الجبان من سكة المربد، ثُمَّ جعل يمر بعداد دور بني تميم حَتَّى دخل سكة بني العدوية من قبل الجبان، فجعل يحرق دورهم للشحناء الَّتِي فِي صدورهم، لقتل الضبي اليشكري، ولاستعراض ابن خازم رَبِيعَة بهراة، قَالَ: فبينا هُوَ فِي ذَلِكَ إذ أتوه فقالوا: قتلوا مسعودا، وَقَالُوا: سارت بنو تميم إِلَى مسعود، فاقبل حتى إذا كَانَ عِنْدَ مسجد بني قيس فِي سكة المربد، وبلغه قتل مسعود، وقف.
قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي زهير بن هنيد، قَالَ: حَدَّثَنَا الضحاك- أو الوضاح بن خيثمة أحد بني عَبْد اللَّهِ بن دارم- قَالَ: حَدَّثَنِي مالك بن دينار، قَالَ: ذهبت فِي الشباب الَّذِينَ ذهبوا إِلَى الأحنف ينظرون، قَالَ: فأتيته وأتته بنو تميم، فَقَالُوا: إن مسعودا قَدْ دخل الدار وأنت سيدنا، فَقَالَ:
لست بسيدكم، إنما سيدكم الشَّيْطَان.
وأما هبيرة بن حدير، فَحَدَّثَنِي عن إسحاق بن سويد العدوى، قال: اتيت منزل الأحنف فِي النظارة، فأتوا الأحنف فَقَالُوا: يا أبا بحر، وان رَبِيعَة والأزد قَدْ دخلوا الرحبة، فَقَالَ: لستم بأحق بالمسجد مِنْهُمْ، ثُمَّ أتوه فَقَالُوا: قَدْ دخلوا الدار، فقال: لستم بأحق بالدار مِنْهُمْ، فتسرع سلمة بن ذؤيب الرياحي، فَقَالَ: إلي يَا معشر الفتيان، فإنما هَذَا جبس لا خير لكم عنده، فبدرت ذؤبان بني تميم فانتدب معه خمسمائة، وهم مع ماه أفريذون، فَقَالَ لَهُمْ سلمة: أين تريدون؟ قَالُوا: إياكم أردنا، قَالَ: فتقدموا.
قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي زهير بن هنيد، عن ابى نعامة، عن ناشب ابن الحسحاس وحميد بن هلال، قَالا: أتينا منزل الأحنف بحضرة المسجد، قَالا: فكنا فيمن ينظر، فأتته امرأة بمجمر فَقَالَتْ: مَا لك وللرئاسة! تجمر فإنما أنت امرأة، فَقَالَ: است المرأة أحق بالمجمر، فأتوه فَقَالُوا:
إن علية بنت ناجية الرياحي- وَهِيَ أخت مطر، وَقَالَ آخرون: عزة بنت الحر الرياحية- قَدْ سلبت خلاخيلها من ساقيها، وَكَانَ منزلها شارعا فِي رحبة بني تميم عَلَى الميضأة، وَقَالُوا: قتلوا الصباغ الَّذِي عَلَى طريقك، وقتلوا المقعد الَّذِي كَانَ عَلَى باب المسجد، وَقَالُوا: إن مالك بن مسمع قَدْ دخل سكة بني العدوية من قبل الجبان، فحرق دورا، فَقَالَ الأحنف: أقيموا البينة عَلَى هَذَا، ففي دون هَذَا مَا يحل قتالهم، فشهدوا عنده عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ الأحنف: أجاء عباد؟ وَهُوَ عباد بن حصين بن يَزِيدَ بن عَمْرو بن أوس بن سيف بن عزم بن حلزة بن بيان بن سَعْدِ بْنِ الْحَارِث الحبطة بن عمرو ابن تميم، قَالُوا: لا، ثُمَّ مكث غير طويل، فَقَالَ: أجاء عباد؟ قَالُوا: لا، قَالَ: فهل هاهنا عبس بن طلق بن رَبِيعَة بن عَامِر بن بسطام بن الحكم ابن ظالم بن صريم بن الْحَارِث بن عَمْرو بن كعب بن سَعْد؟ فَقَالُوا: نعم، فدعاه، فانتزع معجرا فِي رأسه، ثُمَّ جثا عَلَى ركبتيه، فعقده فِي رمح ثُمَّ دفعه إِلَيْهِ، فَقَالَ: سر قَالا: فلما ولي قَالَ: اللَّهُمَّ لا تخزها الْيَوْم، فإنك لم تخزها فِيمَا مضى وصاح الناس: هاجت زبراء- وزبراء أمة للأحنف، وإنما كنوا بِهَا عنه- قَالا: فلما سار عبس جَاءَ عباد فِي ستين فارسا فسأل، مَا صنع الناس؟ فَقَالُوا: ساروا، قَالَ: ومن عَلَيْهِم؟ قَالُوا: عبس بن طلق الصريمي، فَقَالَ عباد: أنا أسير تحت لواء عبس! فرجع والفرسان إِلَى أهله.
فَحَدَّثَنِي زهير، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو ريحانة العريني، قَالَ: كنت يوم قتل مسعود تحت بطن فرس الزرد بن عَبْدِ اللَّهِ السعدي أعدو حَتَّى بلغنا شريعة القديم.
قَالَ إِسْحَاق بن سويد: فأقبلوا، فلما بلغوا أفواه السكك وقفوا، فَقَالَ لَهُمْ ماه أفريذون بالفارسية: ما لكم يَا معشر الفتيان؟ قَالُوا: تلقونا بأسنة الرماح، فَقَالَ لَهُمْ بالفارسية: صكوهم بالفنجقان- أي بخمس نشابات فِي رميه، بالفارسيه- والأساورة أربعمائة، فصكوهم بألفي نشابة فِي دفعة، فأجلوا عن أبواب السكك، وقاموا عَلَى باب المسجد، ودلفت التميمية إِلَيْهِم، فلما بلغوا الأبواب وقفوا، فسألهم ماه أفريذون: ما لكم؟ قَالُوا: أسندوا إلينا أطراف رماحهم، قَالَ: ارموهم أَيْضًا، فرموهم بألفي نشابة، فأجلوهم عن الأبواب، فدخلوا المسجد، فأقبلوا ومسعود يخطب عَلَى الْمِنْبَر ويحضض، فجعل غطفان بن أنيف بن يَزِيدَ بن فهدة، أحد بني كعب بن عَمْرو بن تميم، وَكَانَ يَزِيد بن فهدة فارسا فِي الجاهلية يقاتل ويحض قومه ويرتحز:

يال تميم إنها مذكوره *** إن فات مسعود بِهَا مشهوره
فاستمسكوا بجانب المقصوره.

أي لا يهرب فيفوت.
قَالَ إِسْحَاق بن يَزِيدَ: فأتوا مسعودا وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَر يحض، فاستنزلوه فقتلوه، وَذَلِكَ فِي أول شوال سنة أربع وستين، فلم يكن القوم شَيْئًا، فانهزموا.
وبادر أشيم بن شقيق القوم بباب المقصورة هاربا، فطعنه أحدهم، فنجا بِهَا، ففي ذَلِكَ يقول الفرزدق:

لو أن أشيم لم يسبق أسنتنا *** وأخطأ الباب إذ نيراننا تقد
إذا لصاحب مسعودا وصاحبه *** وَقَدْ تهافتت الأعفاج والكبد

قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي سلام بن أبي خيرة، وسمعته أَيْضًا من أبي الخنساء كسيب العنبري يحدث فِي حلقه يونس، قالا: سمعنا الحسن ابن أبي الْحَسَن يقول فِي مجلسه فِي مسجد الأمير: فاقبل مسعود من هاهنا- وأشار بيده إِلَى منازل الأزد فِي أمثال الطير- معلما بقباء ديباج أصفر مغير بسواد، يأمر الناس بالسنة، وينهى عن الْفِتْنَة: أَلا إن من السنة أن تأخذ فوق يديك، وهم يقولون: القمر القمر، فو الله مَا لبثوا إلا ساعة حَتَّى صار قمرهم قميرا، فأتوه فاستنزلوه عن الْمِنْبَر وَهُوَ عَلَيْهِ- قَدْ علم اللَّه- فقتلوه.
قَالَ سلام فِي حديثه: قال الحسن: وجاء الناس من هاهنا- وأشار بيده إِلَى دور بني تميم قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي مسلمة بن محارب، قَالَ: فأتوا عُبَيْد اللَّهِ فَقَالُوا: قَدْ صعد مسعود المنبر، ولم يرم دون الدار بكثاب، فبيناه فِي ذَلِكَ يتهيأ ليجيء إِلَى الدار، إذ جاءوا فَقَالُوا: قَدْ قتل مسعود، فاغترز فِي ركابه فلحق بِالشَّامِ، وَذَلِكَ فِي شوال سنة أربع وستين قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي رواد الكعبي، قَالَ: فأتى مالك بن مسمع أناس من مضر، فحصروه فِي داره، وحرقوا، ففي ذَلِكَ يقول غطفان بن أنيف الكعبي فِي أرجوزة:

وأصبح ابن مسمع محصورا *** يبغي قصورا دونه ودورا
حَتَّى شببنا حوله السعيرا.

ولما هرب عُبَيْد اللَّهِ بن زياد اتبعوه، فأعجز الطلبه، فانتهبوا مَا وجدوا لَهُ، ففي ذَلِكَ يقول وافد بن خليفة بن أسماء، أحد بني صخر بن منقر بن عبيد بن الْحَارِث بن عَمْرو بن كعب بن سَعْد:

يَا رب جبار شديد كلبه *** قَدْ صار فينا تاجه وسلبه
مِنْهُمْ عُبَيْد اللَّهِ حين نسلبه *** جياده وبزه وننهبه
يوم التقى مقنبنا ومقنبه *** لو لم ينج ابن زياد هربه

وَقَالَ جرهم بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قيس، أحد بني العدوية فِي قتل مسعود فِي كلمة طويلة:

ومسعود بن عَمْرو إذ أتانا *** صبحنا حد مطرور سنينا
رجا التأمير مسعود فأضحى *** صريعا قَدْ أزرناه المنونا

قَالَ أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن جرير: وأما عمر، فإنه حَدَّثَنِي فِي أمر خروج عُبَيْد اللَّهِ إِلَى الشام، قَالَ: حَدَّثَنِي زهير، قَالَ: حَدَّثَنَا وهب بن جرير بن حازم، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْر بن الخريت، قَالَ: بعث مسعود مع ابن زياد مائة من الأزد، عَلَيْهِم قرة بن عَمْرو بن قيس، حَتَّى قدموا بِهِ الشام.
وَحَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عاصم النبيل، عَنْ عَمْرِو بْنِ الزُّبَيْرِ وخلاد بن يَزِيدَ الباهلي والوليد بن هِشَام، عن عمه، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ هبيرة، عن يساف بن شريح اليشكري، قَالَ، وحدثنيه عَلِيّ بن مُحَمَّدٍ، قَالَ- قَدِ اختلفوا فزاد بعضهم عَلَى بعض- إن ابن زياد خرج مِنَ الْبَصْرَةِ، فَقَالَ ذات ليلة: إنه قَدْ ثقل علي ركوب الإبل، فوطئوا لي عَلَى ذي حافر، قَالَ: فألقيت لَهُ قطيفة عَلَى حمار، فركبه وإن رجليه لتكادان تخدان فِي الأرض قَالَ اليشكري: فإنه ليسير أمامي إذ سكت سكتة فأطالها، فقلت فِي نفسي: هَذَا عُبَيْد اللَّهِ أَمِير العراق أمس نائم الساعة عَلَى حمار، لو قَدْ سقط مِنْهُ أعنته، ثُمَّ قلت: وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ نائما لأنغصن عَلَيْهِ نومه، فدنوت مِنْهُ، فقلت: أنائم أنت؟ قَالَ: لا، قلت: فما أسكتك؟
قَالَ: كنت أحدث نفسي، قلت: أفلا أحدثك مَا كنت تحدث بِهِ نفسك؟ قَالَ: هات، فو الله مَا أراك تكيس وَلا تصيب، قَالَ: قلت: كنت تقول: ليتني لم أقتل الْحُسَيْن، قَالَ: وماذا؟ قلت: تقول: ليتني لم أكن قتلت من قتلت، قَالَ: وماذا؟ قلت: كنت تقول: ليتني لم أكن بنيت البيضاء، قَالَ: وماذا؟ قلت: تقول: ليتني لم أكن استعملت الدهاقين، قال: وماذا؟
قلت: تقول: ليتني كنت أسخى مما كنت، قَالَ: فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا نطقت بصواب، وَلا سكت عن خطإ، أما الْحُسَيْن فإنه سار إلي يريد قتلي، فاخترت قتله عَلَى أن يقتلني، وأما البيضاء فإني اشتريتها من عَبْد اللَّهِ بن عُثْمَانَ الثقفي، وأرسل يَزِيد بألف ألف فأنفقتها عَلَيْهَا، فإن بقيت فلأهلي، وإن هلكت لم آس عَلَيْهَا مما لم أعنف فِيهِ، وأما استعمال الدهاقين فإن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرة وزاذان فروخ وقعا فِيّ عِنْدَ مُعَاوِيَة حَتَّى ذكرا قشور الأرز، فبلغا بخراج العراق مائه الف الف، فخيرني معاويه بين الضمان والعزل، فكرهت العزل، فكنت إذا استعملت الرجل من العرب فكسر الخراج، فتقدمت إِلَيْهِ أو أغرمت صدور قومه، أو أغرمت عشيرته أضررت بهم، وإن تركته تركت مال اللَّه وأنا أعرف مكانه، فوجدت الدهاقين أبصر بالجباية، وأوفى بالأمانة، وأهون فِي المطالبه منكم، مع انى قد جعلتكم أمناء عَلَيْهِم لئلا يظلموا أحدا وأما قولك في السخاء، فو الله مَا كَانَ لي مال فأجود بِهِ عَلَيْكُمْ، ولو شئت لأخذت بعض مالكم فخصصت بِهِ بعضكم دون بعض، فيقولون:
مَا أسخاه! ولكني عممتكم، وَكَانَ عندي أنفع لكم وأما قولك: ليتني لم أكن قتلت من قتلت، فما عملت بعد كلمة الإخلاص عملا هُوَ أقرب إِلَى اللَّهِ عندي من قتلي من قتلت من الخوارج، ولكني سأخبرك بِمَا حدثت بِهِ نفسي، قلت: ليتني كنت قاتلت أهل الْبَصْرَة، فإنهم بايعوني طائعين غير مكرهين، وايم اللَّه لقد حرصت عَلَى ذَلِكَ، ولكن بني زياد أتوني فَقَالُوا:
إنك إذا قاتلتهم فظهروا عَلَيْك لم يبقوا منا أحدا، وان تركتهم تغيب الرجل منا عِنْدَ أخواله وأصهاره، فرفقت لَهُمْ فلم أقاتل وكنت أقول: ليتني كنت أخرجت اهل السجن فضربت أعناقهم، فاما إذ فاتت هاتان فليتني كنت أقدم الشام ولم يبرموا أمرا.
قَالَ بعضهم: فقدم الشام ولم يبرموا أمرا، فكأنما كَانُوا مَعَهُ صبيانا، وَقَالَ بعضهم: قدم الشام وَقَدْ أبرموا، فنقض مَا أبرموا إِلَى رأيه.
وفي هَذِهِ السنة طرد أهل الْكُوفَة عَمْرو بن حريث وعزلوه عَنْهُمْ، واجتمعوا عَلَى عَامِر بن مسعود

ذكر الخبر عن عزلهم عَمْرو بن حريث وتأميرهم عامرا
قَالَ أَبُو جَعْفَر: ذكر الهيثم بن عدي، قَالَ: حَدَّثَنَا ابن عَيَّاش، قَالَ: كَانَ أول من جمع لَهُ المصران: الْكُوفَة والبصرة زيادا وابنه، فقتلا من الخوارج ثلاثة عشر ألفا، وحبس عُبَيْد اللَّهِ مِنْهُمْ أربعة آلاف، فلما هلك يَزِيد قام خطيبا، فَقَالَ: إن الَّذِي كنا نقاتل عن طاعته قَدْ مات، فان أمرتموني جبيت فيئكم، وقاتلت عدوكم وبعث بِذَلِكَ إِلَى أهل الْكُوفَة مقاتل ابن مسمع وسعيد بن قرحا، أحد بني مازن، وخليفته عَلَى الْكُوفَة عَمْرو بن حريث، فقاما بِذَلِكَ، فقام يَزِيد بن الْحَارِث بن رويم الشيباني فَقَالَ:
الحمد لِلَّهِ الَّذِي أراحنا من ابن سمية، لا وَلا كرامة! فأمر بِهِ عَمْرو فلبب ومضي بِهِ إِلَى السجن، فحالت بكر بينهم وبينه، فانطلق يَزِيد إِلَى أهله خائفا، فأرسل إِلَيْهِ مُحَمَّد بن الأشعث: أنك عَلَى رأيك، وتتابعت عَلَيْهِ الرسل بِذَلِكَ، وصعد عَمْرو الْمِنْبَر فحصبوه، فدخل داره، واجتمع الناس فِي المسجد فَقَالُوا: نؤمر رجلا إِلَى أن يجتمع الناس على خليفه، فاجمعوا على عمر بن سعد، فجاءت نساء همدان يبكين حسينا، ورجالهم متقلدو السيوف، فأطافوا بالمنبر، فَقَالَ مُحَمَّد بن الأشعث: جَاءَ أمر غير مَا كنا فِيهِ، وكانت كنده تقوم بأمر عمر بن سعد لانهم أخواله، فاجتمعوا على عامر ابن مسعود، وكتبوا بِذَلِكَ إِلَى ابن الزُّبَيْر، فأقره.
وأما عوانة بن الحكم، فإنه قال فيما ذكر هِشَام بن مُحَمَّد عنه: لما بايع أهل الْبَصْرَة عُبَيْد اللَّهِ بن زياد بعث وافدين من قبله إِلَى الْكُوفَةِ: عَمْرو بن مسمع، وسعد بن القرحا التميمي، ليعلم أهل الْكُوفَة مَا صنع أهل الْبَصْرَة، ويسألانهم البيعة لعبيد اللَّه بن زياد، حَتَّى يصطلح الناس، فجمع الناس عَمْرو بن حريث، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إن هَذَيْنِ الرجلين قَدْ أتياكم من قبل أميركم يدعوانكم إِلَى أمر يجمع اللَّه بِهِ كلمتكم، ويصلح بِهِ ذات بينكم، فاسمعوا منهما، واقبلوا عنهما، فإنهما برشد مَا أتياكم.
فقام عَمْرو بن مسمع، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وذكر أهل الْبَصْرَة واجتماع رأيهم عَلَى تأمير عُبَيْد اللَّهِ بن زياد حَتَّى يرى الناس رأيهم فيمن يولون عليهم، وَقَدْ جئناكم لنجمع أمرنا وأمركم فيكون أميرنا وأميركم واحدا، فإنما الْكُوفَة مِنَ الْبَصْرَةِ والبصرة من الْكُوفَة، وقام ابن القرحا فتكلم نحوا من كلام صاحبه.
قَالَ: فقام يَزِيد بن الْحَارِث بن يَزِيدَ الشيباني- وَهُوَ ابن رويم- فحصبهما أول الناس، ثُمَّ حصبهما الناس بعد، ثُمَّ قَالَ: أنحن نبايع لابن مرجانة! لا وَلا كرامة، فشرفت تِلَكَ الفعلة يَزِيد فِي المصر ورفعته، ورجع الوفد إِلَى الْبَصْرَة فأعلم الناس الخبر فَقَالُوا: أهل الْكُوفَة يخلعونه، وَأَنْتُمْ تولونه وتبايعونه! فوثب بِهِ الناس، وَقَالَ: مَا كَانَ فِي ابن زياد وصمة إلا استجارته بالأزد.
قَالَ: فلما نابذه الناس استجار بمسعود بن عَمْرو الأَزْدِيّ، فأجاره ومنعه، فمكث تسعين يَوْمًا بعد موت يَزِيد، ثُمَّ خرج إِلَى الشام، وبعثت الأزد وبكر ابن وائل رجالا مِنْهُمْ مَعَهُ حَتَّى أوردوه الشام، فاستخلف حين توجه إِلَى الشام مسعود بن عَمْرو عَلَى الْبَصْرَة، فَقَالَتْ بنو تميم وقيس: لا نرضى وَلا نجيز وَلا نولي إلا رجلا ترضاه جماعتنا، فَقَالَ مسعود: فقد استخلفني فلا أدع ذَلِكَ أبدا، فخرج فِي قومه حَتَّى انتهى إِلَى القصر فدخله، واجتمعت تميم إِلَى الأحنف بن قيس فَقَالُوا لَهُ: إن الأزد قد دخلوا المسجد، قَالَ: ودخل المسجد فمه! إنما هُوَ لكم ولهم، وَأَنْتُمْ تدخلونه، قَالُوا: فإنه قَدْ دخل القصر، فصعد الْمِنْبَر وكانت خوارج قَدْ خرجوا، فنزلوا بنهر الأساورة حين خرج عُبَيْد اللَّهِ بن زياد إِلَى الشام، فزعم الناس أن الأحنف بعث إِلَيْهِم إن هَذَا الرجل الَّذِي قَدْ دخل القصر لنا ولكم عدو، فما يمنعكم من أن تبدءوا بِهِ! فجاءت عصابة مِنْهُمْ حَتَّى دخلوا المسجد، ومسعود بن عَمْرو عَلَى الْمِنْبَر يبايع من أتاه، فيرميه علج يقال لَهُ: مسلم من أهل فارس، دخل الْبَصْرَة فأسلم ثُمَّ دخل فِي الخوارج، فأصاب قلبه فقتله وخرج، وجال الناس بعضهم فِي بعض فَقَالُوا: قتل مسعود بن عَمْرو، قتلته الخوارج، فخرجت الأزد إِلَى تِلَكَ الخوارج فقتلوا مِنْهُمْ وجرحوا، وطردوهم عن الْبَصْرَة، ودفنوا مسعودا، فجاءهم الناس فَقَالُوا لَهُمْ: تعلمون أن بني تميم يزعمون أَنَّهُمْ قتلوا مسعود بن عَمْرو، فبعثت الأزد تسأل عن ذَلِكَ، فإذا أناس مِنْهُمْ يقولونه، فاجتمعت الأزد عِنْدَ ذَلِكَ فرأسوا عَلَيْهِم زياد بن عَمْرو العتكي، ثُمَّ ازدلفوا إِلَى بني تميم وخرجت مع بني تميم قيس، وخرج مع الأزد مالك بن مسمع وبكر بن وائل فأقبلوا نحو بني تميم وأقبلت تميم إِلَى الأحنف يقولون: قَدْ جَاءَ القوم، اخرج وَهُوَ متمكث، إذ جاءته امرأة من قومه بمجمر فَقَالَتْ: يَا أحنف اجلس عَلَى هَذَا، أي إنما أنت امرأة، فَقَالَ: استك أحق بِهَا، فما سمع منه بعد كلمه كانت رافث منها، وَكَانَ يعرف بالحلم ثُمَّ إنه دعا برايته فَقَالَ: اللَّهُمَّ انصرها وَلا تذللها، وإن نصرتها أَلا يظهر بِهَا وَلا يظهر عَلَيْهَا، اللَّهُمَّ احقن دماءنا، وأصلح ذات بيننا ثُمَّ سار وسار ابن أخيه إياس بن مُعَاوِيَة بين يديه، فالتقى القوم فاقتتلوا أشد القتال، فقتل من الفريقين قتلى كثيرة، فَقَالَتْ لَهُمْ بنو تميم: اللَّه اللَّه يَا معشر الأزد فِي دمائنا ودمائكم! بيننا وبينكم القرآن ومن شئتم من أهل الإِسْلام، فإن كَانَتْ لكم علينا بينة أنا قتلنا صاحبكم، فاختاروا أفضل رجل فينا فاقتلوه بصاحبكم، وإن لم تكن لكم بينه فانا نحلف بِاللَّهِ مَا قتلنا وَلا أمرنا، وَلا نعلم لصاحبكم قاتلا، وإن لم تريدوا ذَلِكَ فنحن ندي صاحبكم بمائة ألف درهم فاصطلحوا، فأتاهم الأحنف بن قيس فِي وجوه مضر إِلَى زياد بن عَمْرو العتكي، فَقَالَ:
يَا معشر الأزد، أنتم جيرتنا فِي الدار، وإخوتنا عِنْدَ القتال، وَقَدْ آتيناكم فِي رحالكم لإطفاء حشيشتكم، وسل سخيمتكم، ولكم الحكم مرسلا، فقولوا عَلَى أحلامنا وأموالنا، فإنه لا يتعاظمنا ذهاب شَيْء من أموالنا كَانَ فِيهِ صلاح بيننا، فَقَالُوا: أتدون صاحبنا عشر ديات؟ قَالَ: هي لكم، فانصرف الناس واصطلحوا، فَقَالَ الهيثم بن الأَسْوَدِ:

أعلى بمسعود الناعي فقلت لَهُ *** نعم اليماني تجروا عَلَى الناعي
أوفى ثمانين مَا يسطيعه أحد *** فتى دعاه لرأس العده الداعي
آوى ابن حرب وَقَدْ سدت مذاهبه *** فأوسع السرب مِنْهُ أي إيساع
حَتَّى توارت بِهِ أرض وعامرها *** وَكَانَ ذا ناصر فِيهَا وأشياع

وقال عبيد الله بن الحر:

ما زلت أرجو الأزد حَتَّى رأيتها *** تقصر عن بنيانها المتطاول
أيقتل مسعود ولم يثأروا بِهِ *** وصارت سيوف الأزد مثل المناجل
وما خير عقل أورث الأزد ذلة *** تسب بِهِ أحياؤهم فِي المحافل
عَلَى أَنَّهُمْ شمط كأن لحاهمُ *** ثعالب فِي أعناقها كالجلاجل

واجتمع أهل الْبَصْرَة عَلَى أن يجعلوا عَلَيْهِم مِنْهُمْ أميرا يصلي بهم حَتَّى يجتمع الناس عَلَى إمام، فجعلوا عَبْد الْمَلِكِ بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِر شهرا، ثُمَّ جعلوا ببة- وَهُوَ عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث بن عبد المطلب- فصلى بهم شهرين، ثُمَّ قدم عَلَيْهِم عُمَر بن عُبَيْد اللَّهِ بن معمر من قبل ابن الزُّبَيْر، فمكث شهرا، ثُمَّ قدم الْحَارِث بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ المخزومي بعزله، فوليها الْحَارِث وَهُوَ القباع.
قَالَ أَبُو جَعْفَر: وأما عُمَر بن شَبَّةَ، فإنه حَدَّثَنِي فِي أمر عَبْد الْمَلِكِ بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِر بن كريز وأمر ببة ومسعود وقتله، وأمر عُمَر بن عُبَيْد اللَّهِ غير مَا قَالَ هِشَام عن عوانة والذي حَدَّثَنِي عُمَر بن شَبَّةَ فِي ذَلِكَ أنه قَالَ:
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عن أبي مقرن عُبَيْد اللَّهِ الدهني، قَالَ: لما بايع الناس ببة ولى ببة شرطته هميان بن عدي، وقدم عَلَى ببة بعض أهل الْمَدِينَة، وأمر هميان بن عدي بإنزاله قريبا مِنْهُ، فأتى هميان دارا للفيل مولى زياد الَّتِي فِي بني سليم وهم بتفريغها لينزلها إِيَّاهُ، وَقَدْ كَانَ هرب وأقفل أبوابه، فمنعت بنو سليم هميان حَتَّى قاتلوه، واستصرخوا عَبْد الْمَلِكِ بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِر بن كريز، فأرسل بخاريته ومواليه فِي السلاح حَتَّى طردوا هميان ومنعوه الدار، وغدا عَبْد الْمَلِكِ من الغد إِلَى دار الإمارة ليسلم عَلَى ببة، فلقيه عَلَى الباب رجل من بني قيس بن ثعلبة، فَقَالَ: أنت المعين علينا بالأمس! فرفع يده فلطمه، فضرب قوم من البخارية يد القيسي فأطارها، ويقال: بل سلم القيسي، وغضب ابن عَامِر فرجع، وغضبت لَهُ مضر فاجتمعت وأتت بكر بن وائل أشيم بن شقيق بن ثور فاستصرخوه، فأقبل وَمَعَهُ مالك بن مسمع حَتَّى صعد الْمِنْبَر فَقَالَ: أي مضري وجدتموه فاسلبوه وزعم بنو مسمع أن مالكا جَاءَ يَوْمَئِذٍ متفضلا فِي غير سلاح ليرد أشيم عن رأيه ثُمَّ انصرفت بكر وَقَدْ تحاجزوا هم والمضرية، واغتنمت الأزد ذَلِكَ، فحالفوا بكرا، وأقبلوا مع مسعود إِلَى الْمَسْجِدِ الجامع، وفزعت تميم إِلَى الأحنف، فعقد عمامته عَلَى قناة، ودفعها إِلَى سلمة بن ذؤيب الرياحي، فأقبل بين يديه الأساورة حَتَّى دخل المسجد ومسعود يخطب، فاستنزلوه فقتلوه، وزعمت الأزد أن الأزارقة قتلوه، فكانت الْفِتْنَة، وسفر بينهم عُمَر بن عُبَيْد الله بن معمر وعبد الرحمن ابن الْحَارِث بن هِشَام حَتَّى رضيت الأزد من مسعود بعشر ديات، ولزم عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث بيته، وَكَانَ يتدين، وَقَالَ: مَا كنت لأصلح الناس بفساد نفسي.
قَالَ عمر: قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: فكتب أهل الْبَصْرَة إِلَى ابن الزُّبَيْر، فكتب إِلَى أنس بن مالك يأمره بالصلاة بِالنَّاسِ، فصلى بهم أربعين يَوْمًا.
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: كتب ابن الزبير الى عمر ابن عُبَيْد اللَّهِ بن معمر التيمي بعهده عَلَى الْبَصْرَة، ووجه بِهِ إِلَيْهِ، فوافقه وَهُوَ متوجه يريد العمرة، فكتب إِلَى عُبَيْد اللَّهِ يأمره أن يصلي بِالنَّاسِ، فصلى بهم حَتَّى قدم عمر.
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي زهير بن حرب، قَالَ: حَدَّثَنَا وهب بن جرير، قال: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: سمعت مُحَمَّد بن الزُّبَيْرِ، قَالَ: كَانَ الناس اصطلحوا عَلَى عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث الهاشمي، فولى أمرهم أربعة أشهر، وخرج نافع بن الأزرق إِلَى الأهواز، فَقَالَ الناس لعبد اللَّه: إن الناس قَدْ أكل بعضهم بعضا، تؤخذ المرأة من الطريق فلا يمنعها أحد حَتَّى تفضح، قَالَ: فتريدون ماذا؟
قَالُوا: تضع سيفك، وتشد عَلَى الناس، قَالَ: مَا كنت لأصلحهم بفساد نفسي، يَا غلام، ناولني نعلي، فانتعل ثُمَّ لحق بأهله، وأمر الناس عَلَيْهِم عُمَر بن عُبَيْد اللَّهِ بن معمر التيمي، قَالَ أبي، عن الصعب بن زيد:
أن الجارف وقع وعبد اللَّه عَلَى الْبَصْرَة، فماتت أمه فِي الجارف، فما وجدوا لها من يحملها حَتَّى استأجروا لها أربعة أعلاج فحملوها إِلَى حفرتها، وَهُوَ الأمير يَوْمَئِذٍ.
حَدَّثَنِي عمر، قال: حدثني علي بن مُحَمَّد، قال: كَانَ ببة قَدْ تناول فِي عمله عَلَى الْبَصْرَة أربعين ألفا من بيت المال، فاستودعها رجلا، فلما قدم عُمَر بن عُبَيْد اللَّهِ أميرا أخذ عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث فحبسه، وعذب مولى لَهُ فِي ذَلِكَ المال حَتَّى أغرمه إِيَّاهُ.
حَدَّثَنِي عُمَرُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بن مُحَمَّد، عن القافلانى، عن يزيد ابن عَبْدِ اللَّهِ بن الشخير، قَالَ: قلت لعبد اللَّه بن الْحَارِث بن نوفل: رأيتك زمان استعملت علينا أصبت من المال، واتقيت الدم، فَقَالَ: إن تبعة المال أهون من تبعة الدم

ذكر الخبر عن ولايه عامر بن مسعود على الكوفه
وفي هَذِهِ السنة ولى أهل الْكُوفَة عَامِر بن مسعود امرهم، فذكر هشام ابن مُحَمَّد الكلبي، عن عوانة بن الحكم، أَنَّهُمْ لما ردوا وافدي أهل الْبَصْرَة اجتمع أشراف أهل الْكُوفَة، فاصطلحوا عَلَى أن يصلي بهم عَامِر بن مسعود- وَهُوَ عَامِر بن مسعود بن خلف القرشي، وَهُوَ دحروجة الجعل الَّذِي يقول فِيهِ عَبْد اللَّهِ بن همام السلولي:

اشدد يديك بزَيْد إن ظفرت بِهِ *** واشف الأرامل من دحروجة الجعل

وَكَانَ قصيرا- حَتَّى يرى الناس رأيهم، فمكث ثلاثة أشهر من مهلك يَزِيد بن مُعَاوِيَة، ثُمَّ قدم عَلَيْهِم عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ الأَنْصَارِيّ ثُمَّ الخطمي عَلَى الصَّلاة، وإبراهيم بن مُحَمَّد بْنِ طَلْحَة بن عُبَيْد اللَّهِ عَلَى الخراج، فاجتمع لابن الزُّبَيْر أهل الْكُوفَة وأهل الْبَصْرَة ومن بالقبلة من العرب وأهل الشام، وأهل الجزيرة الا اهل الأردن.

خلافه مروان بن الحكم
وفي هَذِهِ السنة بويع لمروان بن الحكم بالخلافة بِالشَّامِ.
ذكر السبب فِي البيعة لَهُ:
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ:
لَمَّا بُويِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَلَّى الْمَدِينَةَ عُبَيْدَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ جَحْدَمٍ الْفِهْرِيَّ مِصْرَ، وَأَخْرَجَ بَنِي أُمَيَّةَ وَمَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ إِلَى الشَّامِ- وَعَبْدُ الْمَلِكِ يَوْمَئِذٍ ابْنُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ- فَلَمَّا قَدِمَ حُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى الشَّامِ أَخْبَرَ مَرْوَانَ بِمَا خَلَفَ عَلَيْهِ ابْنَ الزُّبَيْرِ، وَأَنَّهُ دَعَاهُ إِلَى الْبَيْعَةِ، فأبى فقال له ولبنى اميه: نَرَاكُمْ فِي اخْتِلاطٍ شَدِيدٍ، فَأَقِيمُوا أَمْرَكُمْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْكُمْ شَامَكُمْ، فَتَكُونَ فِتْنَةً عَمْيَاءَ صَمَّاءَ، فَكَانَ مِنْ رَأْيِ مَرْوَانَ أَنْ يَرْحَلَ فَيَنْطَلِقَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ فَيُبَايِعَهُ، فَقَدِمَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ وَاجْتَمَعَتْ عِنْدَهُ بَنُو أُمَيَّةَ، وَكَانَ قَدْ بَلَغَ عُبَيْدَ اللَّهِ مَا يُرِيدُ مَرْوَانَ، فَقَالَ لَهُ: اسْتَحْيَيْتُ لَكَ مِمَّا تُرِيدُ! أَنْتَ كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَسَيِّدُهَا، تَصْنَعُ مَا تَصْنَعُهُ! فَقَالَ: مَا فَاتَ شَيْءٌ بَعْدُ، فَقَامَ مَعَهُ بَنُو أُمَيَّةَ وَمَوَالِيهِمْ، وَتَجَمَّعَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْيَمَنِ، فَسَارَ وَهُوَ يَقُولُ: مَا فَاتَ شَيْءٌ بَعْدُ، فَقَدِمَ دِمَشْقَ وَمَنْ مَعَهُ، وَالضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ الْفِهْرِيُّ قَدْ بَايَعَهُ أَهْلُ دِمَشْقَ عَلَى أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ، وَيُقِيمَ لَهُمْ أَمْرَهُمْ حَتَّى يَجْتَمِعَ أَمْرُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ.
وَأَمَّا عَوَانَةُ فَإِنَّهُ قَالَ- فِيمَا ذَكَرَ هِشَامٌ عَنْهُ- إِنَّ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ لَمَّا مَاتَ وَابْنُهُ مُعَاوِيَةُ مِنْ بَعْدِهِ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ- فِيمَا بَلَغَنِي- أَمَرَ بَعْدَ وِلايَتِهِ فَنُودِيَ بِالشَّامِ: الصَّلاةُ جَامِعَةٌ! فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي أَمْرِكُمْ فَضَعُفْتُ عَنْهُ، فَابْتَغَيْتُ لَكُمْ رَجُلا مِثْلَ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ حِينَ فَزِعَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ أَجِدْهُ، فَابْتَغَيْتُ لَكُمْ سِتَّةً فِي الشُّورَى مِثْلَ سِتَّةَ عُمَرَ، فَلَمْ أَجِدْهَا، فَأَنْتُمْ أَوْلَى بِأَمْرِكُمْ، فَاخْتَارُوا لَهُ مَنْ أَحْبَبْتُمْ ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى النَّاسِ، وَتَغَيَّبَ حَتَّى مَاتَ فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: دُسَّ إِلَيْهِ فَسُقِيَ سُمًّا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: طُعِنَ.
رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ عَوَانَةَ ثُمَّ قَدِمَ عُبَيْدُ الله بن زياد دمشق وعليها الضحاك ابن قَيْسٍ الْفِهْرِيُّ، فَثَارَ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ الْكِلابِيُّ بِقِنَّسْرِينَ يُبَايِعُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَبَايَعَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ الأَنْصَارِيُّ بِحِمْصَ لابْنِ الزُّبَيْرِ، وكان حسان ابن مَالِكِ بْنِ بَحْدَلٍ الْكَلْبِيُّ بِفِلَسْطِينَ عَامِلا لِمُعَاوِيَةَ بن ابى سفيان، ثم ليزيد ابن مُعَاوِيَةَ بَعْدَهُ، وَكَانَ يَهْوَى هَوَى بَنِي أُمَيَّةَ، وَكَانَ سَيِّدَ أَهْلِ فِلَسْطِينَ، فَدَعَا حَسَّانُ بْنُ مَالِكِ بْنِ بَحْدَلٍ الْكَلْبِيُّ رَوْحَ بْنَ زِنْبَاعٍ الْجُذَامِيَّ، فَقَالَ: إِنِّي مُسْتَخْلِفُكَ عَلَى فِلَسْطِينَ، وَأَدْخُلَ هَذَا الْحَيَّ مِنْ لَخْمٍ وَجُذَامٍ، وَلَسْتَ بِدُونِ رجل إذ كنت عينهم قَاتَلْتَ بِمَنْ مَعَكَ مِنْ قَوْمِكَ وَخَرَجَ حَسَّانُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى الأُرْدُنِّ وَاسْتَخْلَفَ رَوْحَ بْنَ زِنْبَاعٍ عَلَى فِلَسْطِينَ، فَثَارَ نَاتِلُ بْنُ قَيْسٍ بِرَوْحِ بْنِ زِنْبَاعٍ فَأَخْرَجَهُ، فَاسْتَوْلَى عَلَى فِلَسْطِينَ، وَبَايَعَ لابْنِ الزُّبَيْرِ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ كَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ بِالْمَدِينَةِ أَنْ يَنْفِيَ بَنِي أُمَيَّةَ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَنُفُوا بِعِيَالاتِهِمْ وَنِسَائِهِمْ إِلَى الشَّامِ، فَقَدِمَتْ بَنُو أُمَيَّةَ دِمَشْقَ وَفِيهَا مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، فَكَانَ النَّاسُ فَرِيقَيْنِ:
حَسَّانُ بْنُ مَالِكٍ بِالأُرْدُنِّ يَهْوَى هَوَى بَنِي اميه، ويدعو اليهم، والضحاك ابن قَيْسٍ الْفِهْرِيُّ بِدِمَشْقَ يَهْوَى هَوَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَيَدْعُو إِلَيْهِ.
قَالَ: فَقَامَ حَسَّانُ بْنُ مَالِكٍ بِالأُرْدُنِّ، فَقَالَ: يَا أَهْلَ الأُرْدُنِّ، مَا شَهَادَتُكُمْ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ وَعَلَى قَتْلَى أَهْلِ الْحَرَّةِ؟ قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ مُنَافِقٌ وَأَنَّ قَتْلَى أَهْلِ الْحَرَّةِ فِي النَّارِ، قَالَ: فَمَا شَهَادَتُكُمْ عَلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَقَتْلاكُمْ بِالْحَرَّةِ؟ قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّ يَزِيدَ عَلَى الْحَقِّ، وَأَنَّ قَتْلانَا فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: وَأَنَا أَشْهَدُ لَئِنْ كَانَ دِينُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ حَيٌّ حَقًّا يَوْمَئِذٍ إِنَّهُ الْيَوْمَ وَشِيعَتَهُ عَلَى حَقٍّ، وَإِنْ كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَوْمَئِذٍ وَشِيعُتُهُ عَلَى بَاطِلٍ إِنَّهُ الْيَوْمَ عَلَى بَاطِلٍ وَشِيعَتَهُ، قَالُوا لَهُ: قَدْ صَدَقْتَ، نَحْنُ نُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ نُقَاتِلَ مَنْ خَالَفَكَ مِنَ النَّاسِ، وَأَطَاعَ ابْنَ الزُّبَيْرِ، عَلَى أَنْ تُجَنِّبْنَا هَذَيْنِ الْغُلامَيْنِ، فَإِنَّا نَكْرَهُ ذَلِكَ- يَعْنُونَ ابْنَيْ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَبْدَ اللَّهِ وَخَالِدًا- فَإِنَّهُمَا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمَا، وَنَحْنُ نَكْرَهُ أَنْ يَأْتِيَنَا النَّاسُ بِشَيْخٍ وَنَأْتِيَهُمْ بِصَبِيٍّ وَقَدْ كَانَ الضحاك ابن قَيْسٍ بِدِمَشْقَ يَهْوَى هَوَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ يَمْنَعُهُ مِنْ إِظْهَارِ ذَلِكَ أَنَّ بَنِي أُمَيَّةَ كَانُوا بِحَضْرَتِهِ، وَكَانَ يَعْمَلُ فِي ذَلِكَ سِرًّا، فبلغ ذلك حسان بن مالك ابن بَحْدَلٍ، فَكَتَبَ إِلَى الضَّحَّاكِ كِتَابًا يُعَظِّمُ فِيهِ حَقَّ بَنِي أُمَيَّةَ، وَيَذْكُرُ الطَّاعَةَ وَالْجَمَاعَةَ وَحُسْنَ بَلاءِ بَنِي أُمَيَّةَ عِنْدَهُ وَصَنِيعَهُمْ إِلَيْهِ، وَيَدْعُوهُ إِلَى طَاعَتِهِمْ، وَيَذْكُرُ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَيَقَعُ فِيهِ وَيَشْتُمُهُ، وَيَذْكُرُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ، قَدْ خَلَعَ خَلِيفَتَيْنِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَ كِتَابَهُ عَلَى النَّاسِ وَدَعَا رَجُلا مِنْ كَلْبٍ يُدْعَى نَاغِضَةَ فَسَرَّحَ بِالْكِتَابِ مَعَهُ إِلَى الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ، وَكَتَبَ حَسَّانُ بْنُ مَالِكٍ نُسْخَةَ ذَلِكَ الْكِتَابِ، وَدَفَعَهُ إِلَى نَاغِضَةَ، وَقَالَ: إِنْ قَرَأَ الضَّحَّاكُ كِتَابِي عَلَى النَّاسِ وَإِلا فَقُمْ فَاقْرَأْ هَذَا الْكِتَابَ عَلَى النَّاسِ، وَكَتَبَ حَسَّانٌ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَحْضُرُوا ذَلِكَ، فَقَدِمَ نَاغِضَةُ بِالْكِتَابِ عَلَى الضَّحَّاكِ فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ وَدَفَعَ كِتَابَ بَنِي أُمَيَّةَ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ صَعِدَ الضَّحَّاكُ الْمِنْبَرَ فَقَامَ إِلَيْهِ نَاغِضَةُ، فَقَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ الأَمِيرَ! ادْعُ بِكِتَابِ حَسَّانٍ فَاقْرَأْهُ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ لَهُ الضَّحَّاكُ: اجْلِسْ، فَجَلَسَ، ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ الثَّانِيَةَ فَقَالَ لَهُ:
اجْلِسْ، ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ الثَّالِثَةَ فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ، فَلَمَّا رَآهُ نَاغِضَةُ لا يَفْعَلْ أَخْرَجَ الْكِتَابَ الَّذِي مَعَهُ فَقَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ، فَقَامَ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فَصَدَّقَ حَسَّانًا وَكَذَّبَ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَشَتَمَهُ، وَقَامَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي النَّمَسِ الْغَسَّانِيُّ، فَصَدَّقَ مَقَالَةَ حَسَّانٍ وَكِتَابَهُ، وَشَتَمَ ابْنَ الزُّبَيْرِ، وَقَامَ سُفْيَانُ بْنُ الأَبْرَدِ الْكَلْبِيُّ فَصَدَّقَ مَقَالَةَ حَسَّانٍ وَكِتَابَهُ، وَشَتَمَ ابْنَ الزُّبَيْرِ.
وَقَامَ عمرو بن يزيد الحكمي فشتم حسان وَأَثْنَى عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَاضْطَرَبَ النَّاسُ تَبَعًا لَهُمْ، ثُمَّ أَمَرَ الضَّحَّاكُ بِالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ ويزيد بن ابى النمس وسفيان ابن الأَبْرَدِ الَّذِينَ كَانُوا صَدَّقُوا مَقَالَةَ حَسَّانٍ وَشَتَمُوا ابْنَ الزُّبَيْرِ فَحُبِسُوا، وَجَالَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، وَوَثَبَتْ كَلْبٌ عَلَى عَمْرِو بْنِ يَزِيدَ الْحَكَمِيِّ فَضَرَبُوهُ وَحَرَّقُوهُ بِالنَّارِ، وَخَرَّقُوا ثِيَابَهُ.
وَقَامَ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَصَعِدَ مِرْقَاتَيْنِ مِنَ الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ غُلامٌ، وَالضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَتَكَلَّمَ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بِكَلامٍ أَوْجَزَ فِيهِ لَمْ يُسْمَعْ مِثْلُهُ، وَسَكَنَ النَّاسُ وَنَزَلَ الضَّحَّاكُ فَصَلَّى بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ، ثُمَّ دَخَلَ فَجَاءَتْ كَلْبٌ فَأَخْرَجُوا سُفْيَانَ بْنَ الأَبْرَدِ، وَجَاءَتْ غَسَّانُ فَأَخْرَجُوا يَزِيدَ بْنَ أَبِي النَّمَسِ، فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ: لَوْ كُنْتُ مِنْ كَلْبٍ أَوْ غَسَّانَ أُخْرِجْتُ.
قَالَ: فَجَاءَ ابْنَا يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ: خَالِدٌ وَعَبْدُ اللَّهِ، مَعَهُمَا أَخْوَالُهُمَا مِنْ كَلْبٍ فَأَخْرَجُوهُ مِنَ السِّجْنِ، فَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمَ يُسَمِّيهِ أَهْلُ الشَّامِ يَوْمَ جَيْرُونَ الأَوَّلِ.
وَأَقَامَ النَّاسُ بِدِمَشْقَ، وَخَرَجَ الضَّحَّاكُ إِلَى مَسْجِدِ دِمَشْقَ، فَجَلَسَ فِيهِ فَذَكَرَ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ، فَوَقَعَ فِيهِ، فَقَامَ إِلَيْهِ شَابٌّ مِنْ كَلْبٍ بِعَصًا مَعَهُ فَضَرَبَهُ بِهَا، وَالنَّاسُ جُلُوسٌ فِي الْحَلَقِ مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، فَقَامَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَاقْتَتَلُوا، قَيْسٌ تَدْعُو إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ وَنُصْرَةِ الضَّحَّاكِ، وَكَلْبٌ تَدْعُو إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ ثُمَّ إِلَى خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، وَيَتَعَصَّبُونَ لِيَزِيدَ، وَدَخَلَ الضَّحَّاكُ دَارَ الإِمَارَةِ، وَأَصْبَحَ النَّاسُ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى صَلاةِ الْفَجْرِ، وَكَانَ مِنَ الأَجْنَادِ نَاسٌ يَهْوَوْنَ هَوَى بَنِي أُمَيَّةَ، وَنَاسٌ يَهْوَوْنَ هَوَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَبَعَثَ الضَّحَّاكُ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ مِنَ الْغَدِ، فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ، وَذَكَرَ حُسْنَ بَلائِهِمْ عِنْدَ مَوَالِيهِ وَعِنْدَهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ يُرِيدُ شَيْئًا يَكْرَهُونَهُ.
قَالَ: فَتَكْتُبُونَ إِلَى حَسَّانٍ وَنَكْتُبُ، فَيَسِيرُ مِنَ الأُرْدُنِّ حَتَّى يَنْزِلَ الْجَابِيَةَ، وَنَسِيرُ نَحْنُ وَأَنْتُمْ حَتَّى نُوَافِيَهُ بِهَا، فَنُبَايِعَ لِرَجُلٍ مِنْكُمْ، فَرَضِيَتْ بِذَلِكَ بَنُو أُمَيَّةَ، وَكَتَبُوا إِلَى حَسَّانٍ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ الضَّحَّاكُ، وَخَرَجَ النَّاسُ وَخَرَجَتْ بَنُو أُمَيَّةَ وَاسْتُقْبِلَتِ الرَّايَاتُ، وَتَوَجَّهُوا يُرِيدُونَ الْجَابِيَةَ، فَجَاءَ ثَوْرُ بْنُ معن بن يزيد ابن الأَخْنَسِ السُّلَمِيُّ إِلَى الضَّحَّاكِ، فَقَالَ: دَعَوْتَنَا إِلَى طَاعَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَبَايَعْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنْتَ تَسِيرُ إِلَى هَذَا الأَعْرَابِيِّ من كلب تستخلف ابن أخيه خالد ابن يَزِيدَ! فَقَالَ لَهُ الضَّحَّاكُ: فَمَا الرَّأْيُ؟ قَالَ: الرَّأْيُ أَنْ نُظْهِرَ مَا كُنَّا نُسِرُّ وَنَدْعُو إِلَى طَاعَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَنُقَاتِلُ عَلَيْهَا، فَمَالَ الضَّحَّاكُ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ النَّاسِ فَعَطَفَهُمْ، ثُمَّ أَقْبَلَ يَسِيرُ حَتَّى نَزَلَ بِمَرْجِ رَاهِطٍ.
وَاخْتُلِفَ فِي الْوَقْعَةِ الَّتِي كَانَتْ بِمَرْجِ رَاهِطٍ بَيْنَ الضحاك بن قيس ومروان ابن الْحَكَمِ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ: بُويِعَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، وَكَانَ مَرْوَانُ بِالشَّامِ لا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِهَذَا الأَمْرِ حَتَّى أَطْمَعَهُ فِيهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ مِنَ الْعِرَاقِ، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَرَئِيسُهَا، يَلِي عَلَيْكَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ! فَذَلِكَ حِينَ كَانَ مَا كَانَ، فَخَرَجَ إِلَى الضَّحَّاكِ فِي جَيْشٍ، فَقَتَلَهُمْ مَرْوَانُ وَالضَّحَّاكُ يَوْمَئِذٍ فِي طَاعَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَقُتِلَتْ قَيْسٌ بِمَرْجِ رَاهِطٍ مَقْتَلَةً لَمْ يُقْتَلْ مِثْلَهَا فِي مَوْطِنٍ قَطُّ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، قَالَ:
قتل الضحاك يوم مَرْجِ رَاهِطٍ عَلَى أنه يدعو إِلَى عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ، وكتب بِهِ إِلَى عَبْد اللَّهِ لما ذكر عنه من طاعته وحسن رأيه.
وَقَالَ غير واحد: كَانَتِ الوقعة بمرج راهط بين الضحاك ومروان فِي سنة أربع وستين.
وَقَدْ حدثت عَنِ ابْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، قال: حدثنى موسى ابن يَعْقُوب، عن أبي الحويرث، قَالَ: قَالَ أهل الأردن وغيرهم لمروان: أنت شيخ كبير، وابن يَزِيدَ غلام وابن الزُّبَيْر كهل، وإنما يقرع الحديد بعضه ببعض، فلا تباره بهذا الغلام، وارم بنحرك فِي نحره، ونحن نبايعك، ابسط يدك، فبسطها، فبايعوه بالجابية يوم الأربعاء لثلاث خلون من ذي القعدة سنة أربع وستين.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عمر: وَحَدَّثَنِي مُصْعَب بن ثَابِت، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أن الضحاك لما بلغه أن مَرْوَان قَدْ بايعه من بايعه عَلَى الخلافة، بايع من معه لابن الزُّبَيْر، ثُمَّ سار كل واحد منهما إِلَى صاحبه، فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل الضحاك وأَصْحَابه.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عمر: وَحَدَّثَنِي ابن أبي الزناد، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لما ولى الْمَدِينَة عبد الرَّحْمَن بن الضحاك كَانَ فتى شابا، فقال: ان الضحاك ابن قيس قَدْ كَانَ دعا قيسا وغيرها إِلَى البيعة لنفسه، فبايعهم يَوْمَئِذٍ عَلَى الخلافة، فَقَالَ لَهُ زفر بن عقيل الفهري: هَذَا الَّذِي كنا نعرف ونسمع، وإن بني الزُّبَيْر يقولون: إنما كَانَ بايع لعبد اللَّه بن الزُّبَيْرِ، وخرج فِي طاعته حَتَّى قتل، الباطل وَاللَّهِ يقولون، كَانَ أول ذاك أن قريشا دعته إِلَيْهَا، فأبى عَلَيْهَا حَتَّى دخل فِيهَا كارها

ذكر الخبر عن الوقعة بمرج راهط بين الضحاك بن قيس ومروان بن الحكم
وتمام الخبر عن الكائن من جليل الأخبار والأحداث فِي سنة أربع وستين
قَالَ أَبُو جَعْفَر: حَدَّثَنَا نوح بن حبيب، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن عوانة بن الحكم الكلبي، قَالَ: مال الضحاك بن قيس بمن مَعَهُ مِنَ النَّاسِ حين سار يريد الجابية للقاء حسان بن مَالِكٍ، فعطفهم، ثُمَّ أقبل يسير حَتَّى نزل بمرج راهط، وأظهر البيعة لابن الزُّبَيْر وخلع بني أُمَيَّة، وبايعه عَلَى ذَلِكَ جل أهل دمشق من أهل اليمن وغيرهم.
قَالَ: وسارت بنو أُمَيَّة ومن تبعهم حَتَّى وافوا حسان بالجابية، فصلى بهم حسان أربعين يَوْمًا، والناس يتشاورون، وكتب الضحاك إِلَى النُّعْمَان بن بشير وَهُوَ عَلَى حمص، وإلى زفر بن الْحَارِث وَهُوَ عَلَى قنسرين، وإلى ناتل ابن قيس وَهُوَ عَلَى فلسطين يستمدهم، وكانوا عَلَى طاعة ابن الزُّبَيْر، فأمده النُّعْمَان بشُرَحْبِيل بن ذي الكلاع، وأمده زفر بأهل قنسرين، وأمده ناتل بأهل فلسطين، فاجتمعت الأجناد إِلَى الضحاك بالمرج.
وَكَانَ الناس بالجابية لَهُمْ أهواء مختلفة، فأما مالك بن هبيرة السكوني فكان يهوى هوى بني يَزِيد بن مُعَاوِيَة، ويحب أن تكون الخلافة فِيهِمْ، وأما الحصين بن نمير السكوني فكان يهوى أن تكون الخلافة لمروان بن الحكم، فَقَالَ مالك بن هبيرة لحصين بن نمير: هلم فلنبايع لهذا الغلام الَّذِي نحن ولدنا أباه، وَهُوَ ابن أختنا، فقد عرفت منزلتنا كَانَتْ من أَبِيهِ، فإنه يحملنا عَلَى رقاب العرب غدا- يعني خَالِد بن يَزِيدَ- فَقَالَ الحصين: لا، لعمر اللَّه، لا تأتينا العرب بشيخ ونأتيهم بصبي، فَقَالَ مالك: هَذَا ولم تردى تهامه ولما يبلغ الحزام الطبيين، فَقَالُوا: مهلا يَا أَبَا سُلَيْمَان! فَقَالَ لَهُ مالك:
وَاللَّهِ لَئِنِ استخلفت مَرْوَان وآل مَرْوَان ليحسدنك عَلَى سوطك وشراك نعلك وظل شجرة تستظل بِهَا، إن مَرْوَان أَبُو عشيرة، وأخو عشيرة، وعم عشيرة، فإن بايعتموه كنتم عبيدا لَهُمْ، ولكن عَلَيْكُمْ بابن أختكم خَالِد، فَقَالَ حصين:
إني رأيت فِي المنام قنديلا معلقا من السماء، وإن من يمد عنقه إِلَى الخلافة تناوله فلم ينله، وتناوله مَرْوَان فناله، وَاللَّهِ لنستخلفنه، فَقَالَ لَهُ مالك:
ويحك يَا حصين! أتبايع لمروان وآل مَرْوَان وأنت تعلم أَنَّهُمْ أهل بيت من قيس! فلما اجتمع رأيهم للبيعة لمروان بن الحكم قام روح بن زنباع الجذامي، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إنكم تذكرون عَبْد اللَّهِ بن عمر ابن الخطاب وصحبته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدمه فِي الإِسْلام، وَهُوَ كما تذكرون، ولكن ابن عمر رجل ضعيف، وليس بصاحب أمة مُحَمَّد الضعيف، وأما مَا يذكر الناس من عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ ويدعون إِلَيْهِ من أمره فهو وَاللَّهِ كما يذكرون بأنه لابن الزبير حوارى رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن أسماء ابنة أبي بكر الصديق ذات النطاقين، وَهُوَ بعد كما تذكرون فِي قدمه وفضله، ولكن ابن الزُّبَيْر منافق، قَدْ خلع خليفتين: يزيد وابنه معاويه ابن يَزِيدَ، وسفك الدماء، وشق عصا الْمُسْلِمِينَ، وليس صاحب امر أمه محمد صلى الله عليه وسلم المنافق، واما مروان بن الحكم، فو الله مَا كَانَ فِي الإِسْلام صدع قط إلا كَانَ مَرْوَان ممن يشعب ذَلِكَ الصدع، وَهُوَ الَّذِي قاتل عن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَان بن عَفَّانَ يوم الدار، والذي قاتل عَلِيّ بن أبي طالب يوم الجمل، وإنا نرى لِلنَّاسِ أن يبايعوا الكبير ويستشبوا الصغير- يعني بالكبير مَرْوَان بن الحكم، وبالصغير خَالِد بن يَزِيدَ بن مُعَاوِيَة قَالَ:
فأجمع رأي الناس عَلَى البيعة لمروان، ثُمَّ لخالد بن يزيد من بعده، ثم لعمرو ابن سَعِيد بن الْعَاصِ من بعد خَالِد، عَلَى ان اماره دمشق لعمرو بن سعيد ابن الْعَاصِ، وإمارة حمص لخالد بن يَزِيدَ بن معاويه قال: فدعا حسان ابن مالك بن بحدل خَالِد بن يَزِيدَ فَقَالَ: أبني أختي، إن الناس قَدْ أبوك لحداثة سنك، وإني وَاللَّهِ مَا أريد هَذَا الأمر إلا لك ولأهل بيتك، وما أبايع مَرْوَان إلا نظرا لكم، فَقَالَ لَهُ خَالِد بن يَزِيدَ: بل عجزت عنا، قَالَ: لا وَاللَّهِ مَا عجزت عنك، ولكن الرأي لك مَا رأيت ثُمَّ دعا حسان بمروان فَقَالَ:
يَا مَرْوَان، إن الناس وَاللَّهِ مَا كلهم يرضى بك، فَقَالَ لَهُ مَرْوَان: إن يرد اللَّه أن يعطنيها لا يمنعني إياها أحد من خلقه، وإن يرد أن يمنعنيها لا يعطنيها أحد من خلقه قَالَ: فَقَالَ لَهُ حسان: صدقت، وصعد حسان الْمِنْبَر يوم الاثنين، فَقَالَ: يا أيها الناس، إنا نستخلف يوم الخميس إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فلما كَانَ يوم الخميس بايع لمروان، وبايع الناس لَهُ، وسار مَرْوَان إِلَى الجابية فِي الناس حَتَّى نزل مرج راهط عَلَى الضحاك فِي أهل الأردن من كلب، وأتته السكاسك والسكون وغسان، وربع حسان بن مالك بن بحدل إِلَى الأردن.
قَالَ: وعلى ميمنته- أعني مَرْوَان- عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ، وعلى ميسرته عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، وعلى ميمنة الضحاك زياد بن عَمْرو بن مُعَاوِيَة العقيلي وعلى ميسرته رجل آخر لم أحفظ اسمه، وَكَانَ يَزِيد بن أبي النمس الغساني لم يشهد الجابية، وَكَانَ مختبئا بدمشق، فلما نزل مَرْوَان مرج راهط ثار يزيد ابن أبي نمس بأهل دمشق فِي عبيدها، فغلب عَلَيْهَا، وأخرج عامل الضحاك منها، وغلب عَلَى الخزائن وبيت المال، وبايع لمروان وأمده بالأموال والرجال والسلاح، فكان أول فتح فتح عَلَى بني أُمَيَّة قَالَ: وقاتل مَرْوَان الضحاك عشرين ليلة كَانَ، ثُمَّ هزم أهل المرج، وقتلوا وقتل الضحاك، وقتل يَوْمَئِذٍ من أشراف الناس من أهل الشام ممن كَانَ مع الضحاك ثمانون رجلا كلهم كَانَ يأخذ القطيفة، والذي كَانَ يأخذ القطيفة يأخذ ألفين فِي العطاء، وقتل أهل الشام يَوْمَئِذٍ مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها قط من القبائل كلها، وقتل مع الضحاك يَوْمَئِذٍ رجل من كلب من بني عليم يقال لَهُ مالك بن يَزِيدَ بن مالك بن كعب، وقتل يَوْمَئِذٍ صاحب لواء قضاعة حيث دخلت قضاعه الشام، وهو جد مدلج ابن المقدام بن زمل بن عَمْرو بن رَبِيعَة بن عَمْرو الجرشي، وقتل ثور بن معن بن يَزِيدَ السلمي، وَهُوَ الَّذِي كَانَ رد الضحاك عن رأيه قَالَ: وجاء برأس الضحاك رجل من كلب، وذكروا أن مَرْوَان حين أتي برأسه ساءه ذَلِكَ وَقَالَ: الآن حين كبرت سني ودق عظمي وصرت فِي مثل ظمء الحمار، أقبلت بالكتائب أضرب بعضها ببعض! قَالَ: وذكروا أنه مر يَوْمَئِذٍ برجل قتيل فَقَالَ:

وما ضرهم غير حين النفوس *** أي أميري قريش غلب

وَقَالَ مَرْوَان حين بويع لَهُ ودعا إِلَى نفسه:

لما رأيت الأمر أمرا نهبا *** سيرت غسان لَهُمْ وكلبا
والسكسكيين رجالا غلبا *** وطيئا تأباه إلا ضربا
والقين تمشي فِي الحديد نكبا *** ومن تنوخ مشمخرا صعبا
لا تأخذون الملك إلا غصبا *** وإن دنت قيس فقل لا قربا

قَالَ هِشَام بن مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنِي أَبُو مخنف لوط بن يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنِي رجل من بني عبد ود من أهل الشام، قَالَ: حَدَّثَنِي من شهد مقتل الضحاك ابن قيس، قَالَ: مر بنا رجل من كلب يقال لَهُ زحنة بن عَبْدِ اللَّهِ، كأنما يرمي بالرجال الجداء، مَا يطعن رجلا إلا صرعه، وَلا يضرب رجلا إلا قتله، فجعلت أنظر إِلَيْهِ أتعجب من فعله ومن قتله الرجال، إذ حمل عَلَيْهِ رجل فصرعه زحنة وتركه، فأتيته فنظرت إِلَى المقتول فإذا هُوَ الضحاك بن قيس، فأخذت رأسه فأتيت بِهِ إِلَى مَرْوَان، فَقَالَ: أنت قتلته؟ فقلت: لا، ولكن قتله زحنة بن عَبْدِ اللَّهِ الكلبي، فاعجبه صدقى اياه، وتركي ادعائه، فأمر لي بمعروف، وأحسن إِلَى زحنة قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل بن مساحق، عن حبيب بن كرة، قَالَ: وَاللَّهِ إن راية مَرْوَان يَوْمَئِذٍ لمعي، وإنه ليدفع بنعل سيفه فِي ظهري، وَقَالَ: ادن برايتك لا أبا لك! إن هَؤُلاءِ لو قَدْ وجدوا لَهُمْ حد السيوف انفرجوا انفراج الرأس، وانفراج الغنم عن راعيها قَالَ: وَكَانَ مَرْوَان فِي ستة آلاف، وَكَانَ عَلَى خيله عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، وَكَانَ عَلَى الرجال مالك ابن هبيرة، قَالَ عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل: وذكروا أن بشر بن مَرْوَان كَانَتْ مَعَهُ يَوْمَئِذٍ راية يقاتل بِهَا وَهُوَ يقول:

إن عَلَى الرئيس حقا حقا *** أن يخضب الصعدة أو تندقا

قَالَ: وصرع يَوْمَئِذٍ عَبْد الْعَزِيزِ بن مَرْوَان، قَالَ: ومر مَرْوَان يَوْمَئِذٍ برجل من محارب وَهُوَ فِي نفر يسير تحت راية يقاتل عن مَرْوَان، فَقَالَ مَرْوَان: يرحمك اللَّه! لو أنك انضممت بأَصْحَابك، فإني أراك فِي قلة! فَقَالَ: إن معنا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ من الملائكة مددا أضعاف من تأمرنا ننضم إِلَيْهِ، قَالَ: فسر بِذَلِكَ مَرْوَان وضحك، وضم أناسا إِلَيْهِ ممن كَانَ حوله، قَالَ: وخرج الناس منهزمين من المرج إِلَى أجنادهم، فانتهى أهل حمص إِلَى حمص والنعمان بن بشير عَلَيْهَا، فلما بلغ النُّعْمَان الخبر خرج هاربا ليلا وَمَعَهُ امرأته نائلة بنت عمارة الكلبية، وَمَعَهُ ثقله وولده، فتحير ليلته كلها، وأصبح أهل حمص فطلبوه، وَكَانَ الَّذِي طلبه رجل من الكلاعيين يقال لَهُ عَمْرو بن الخلي فقتله، وأقبل برأس النُّعْمَان بن بشير وبنائلة امرأته وولدها، فألقى الرأس فِي حجر أم أبان ابنة النُّعْمَان الَّتِي كَانَتْ تحت الحجاج بن يُوسُفَ بعد.
قَالَ: فَقَالَتْ نائلة: ألقوا الرأس إلي فأنا أحق بِهِ منها، فألقي الرأس فِي حجرها، ثُمَّ أقبلوا بهم وبالرأس حَتَّى انتهوا بهم إِلَى حمص، فجاءت كلب من أهل حمص فأخذوا نائلة وولدها، قَالَ: وخرج زفر بن الْحَارِث من قنسرين هاربا فلحق بقرقيسيا، فلما انتهى إِلَيْهَا وعليها عياض الجرشي وَهُوَ ابن أسلم بن كعب بن مالك بن لغز بن أسود بن كعب بن حدس بن أسلم- وَكَانَ يَزِيد بن مُعَاوِيَة ولاه قرقيسيا، فحال عياض بين زفر وبين دخول قرقيسيا، فَقَالَ لَهُ زفر: أوثق لك بالطلاق والعتاق إذا أنا دخلت حمامها أن أخرج منها، فلما انتهى إِلَيْهَا ودخلها لم يدخل حمامها وأقام بِهَا، وأخرج عياضا منها، وتحصن زفر بِهَا وثابت إِلَيْهِ قيس.
قَالَ: وخرج ناتل بن قيس الجذامي صاحب فلسطين هاربا، فلحق بابن الزُّبَيْر بمكة، وأطبق أهل الشام عَلَى مَرْوَان، واستوثقوا لَهُ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا عماله.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي رجل من بني عبد ود من أهل الشام- يعني الشرقي- قَالَ: وخرج مَرْوَان حَتَّى أتى مصر بعد ما اجتمع لَهُ أمر الشام، فقدم مصر وعليها عبد الرَّحْمَن بن جحدم القرشي يدعو إِلَى ابن الزُّبَيْر، فخرج إِلَيْهِ فيمن مَعَهُ من بني فهر، وبعث مَرْوَان عَمْرو بن سَعِيد الأشدق من ورائه حَتَّى دخل مصر، وقام عَلَى منبرها يخطب الناس، وقيل لَهُمْ: قَدْ دخل عَمْرو مصر، فرجعوا، وأمر الناس مَرْوَان وبايعوه، ثُمَّ أقبل راجعا نحو دمشق، حَتَّى إذا دنا منها بلغه أن ابن الزُّبَيْر قَدْ بعث أخاه مُصْعَب بن الزُّبَيْرِ نحو فلسطين، فسرح إِلَيْهِ مَرْوَان عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ فِي جيش، واستقبله قبل أن يدخل الشام، فقاتله فهزم أَصْحَاب مصعب، وَكَانَ مَعَهُ رجل من بني عذرة يقال لَهُ مُحَمَّد بن حريث بن سليم، وَهُوَ خال بني الأشدق، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا رأيت مثل مُصْعَب بن الزُّبَيْرِ رجلا قط أشد قتالا فارسا وراجلا، وَلَقَدْ رأيته فِي الطريق يترجل فيطرد بأَصْحَابه، ويشد عَلَى رجليه، حَتَّى رأيتهما قَدْ دميتا قَالَ: وانصرف مَرْوَان حَتَّى استقرت بِهِ دمشق، ورجع إِلَيْهِ عَمْرو بن سَعِيد.
قَالَ: ويقال: إنه لما قدم عُبَيْد اللَّهِ بن زياد من العراق، فنزل الشام أصاب بني أُمَيَّة بتدمر، قَدْ نفاهم ابن الزُّبَيْر مِنَ الْمَدِينَةِ ومكة، ومن الحجاز كله، فنزلوا بتدمر، وأصابوا الضحاك بن قيس أميرا عَلَى الشام لعبد اللَّه بن الزُّبَيْرِ، فقدم ابن زياد حين قدم ومروان يريد أن يركب إِلَى ابن الزُّبَيْر فيبايعه بالخلافة، فيأخذ مِنْهُ الأمان لبني أُمَيَّة، فَقَالَ لَهُ ابن زياد: أنشدك الله تفعل، ليس هَذَا برأي أن تنطلق وأنت شيخ قريش إِلَى أبي خبيب بالخلافة، ولكن ادع أهل تدمر فبايعهم، ثُمَّ سر بهم وبمن معك من بني أُمَيَّة إِلَى الضحاك بن قيس حَتَّى تخرجه من الشام، فَقَالَ عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ: صدق وَاللَّهِ عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، ثُمَّ أنت سيد قريش وفرعها، وأنت أحق الناس بالقيام بهذا الأمر، إنما ينظر الناس إِلَى هَذَا الغلام- يعني خَالِد بن يَزِيدَ بن مُعَاوِيَة- فتزوج أمه فيكون فِي حجرك، قَالَ: ففعل مَرْوَان ذَلِكَ، فتزوج أم خَالِد بن يَزِيدَ، وَهِيَ فاختة ابنة أبي هاشم بْن عتبة بْن رَبِيعَة بْن عبد شمس ثُمَّ جمع بني أُمَيَّة فبايعوه بالإمارة عَلَيْهِم، وبايعه أهل تدمر ثُمَّ سار فِي جمع عظيم إِلَى الضحاك بن قيس، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ بدمشق، فلما بلغ الضحاك مَا صنع بنو أُمَيَّة ومسيرتهم إِلَيْهِ، خرج بمن تبعه من أهل دمشق وغيرهم، فِيهِمْ زفر بن الْحَارِث، فالتقوا بمرج راهط، فاقتتلوا قتالا شديدا فقتل الضحاك بن قيس الفهري وعامة أَصْحَابه، وانهزم بقيتهم، فتفرقوا، وأخذ زفر بن الْحَارِث وجها من تِلَكَ الوجوه، هُوَ وشابان من بني سليم فجاءت خيل مَرْوَان تطلبهم، فلما خاف السلميان أن تلحقهم خيل مَرْوَان قَالا لزفر: يَا هَذَا، انج بنفسك، فأما نحن فمقتولان، فمضى زفر وتركهما حَتَّى أتى قرقيسيا، فاجتمعت إِلَيْهِ قيس، فرأسوه عَلَيْهِم، فذلك حَيْثُ يقول زفر بن الْحَارِث:

أريني سلاحي لا أبا لك إنني *** أَرَى الحرب لا تزداد إلا تماديا
أتاني عن مَرْوَان بالغيب أنه *** مقيد دمي أو قاطع من لسانيا
ففي العيس منجاة وفي الأرض مهرب *** إذا نحن رفعنا لهن المثانيا
فلا تحسبوني إن تغيبت غافلا *** وَلا تفرحوا إن جئتكم بلقائيا
فقد ينبت المرعى عَلَى دمن الثرى *** وتبقى حزازات النفوس كماهيا
أتذهب كلب لم تنلها رماحنا *** وتترك قتلى راهط هي ماهيا!
لعمري لقد أبقت وقيعة راهط *** لحسان صدعا بينا متنائيا
أبعد ابن عَمْرو وابن معن تتابعا *** ومقتل همام أمني الأمانيا!
فلم تر مني نبوة قبل هَذِهِ *** فراري وتركي صاحبي ورائيا
عشية أعدو بالقران فلا أَرَى *** مِنَ النَّاسِ إلا من علي وَلا ليا
أيذهب يوم واحد إن أسأته *** بصالح أيامي وحسن بلائيا!
فلا صلح حَتَّى تنحط الخيل بالقنا *** وتثأر من نسوان كلب نسائيا
أَلا ليت شعري هل تصيبن غارتي *** تنوخا وحيي طيئ من شفائيا

فأجابه جواس بن قعطل:

لعمري لقد أبقت وقيعة راهط *** عَلَى زفر داء من الداء باقيا
مقيما ثوى بين الضلوع محله *** وبين الحشا أعيا الطبيب المداويا
تبكي عَلَى قتلي سليم وعامر *** وذبيان معذورا وتبكي البواكيا
دعا بسلاح ثُمَّ أحجم إذ رَأَى *** سيوف جناب والطوال المذاكيا
عَلَيْهَا كأسد الغاب فتيان نجدة *** إذا شرعوا نحو الطعان العواليا
فأجابه عمر بن المخلاة الكلبي من تيم اللات بن رفيدة، فَقَالَ:
بكى زفر القيسي من هلك قومه *** بعبرة عين مَا يجف سجومها
يبكي عَلَى قتلى أصيبت براهط *** تجاوبه هام القفار وبومها
أبحنا حمى للحي قيس براهط *** وولت شلالا واستبيح حريمها
يبكيهم حران تجري دموعه *** يرجي نزارا أن تئوب حلومها
فمت كمدا أو عش ذليلا مهضما *** بحسرة نفس لا تنام همومها
إذا خطرت حولي قضاعة بالقنا *** تخبط فعل المصعبات قرومها
خبطت بهم من كادني من قبيلة *** فمن ذا إذا عز الخطوب يرومها

وَقَالَ زفر بن الْحَارِث أَيْضًا:

افي الله اما بحدل وابن بحدل *** فيحيا وأما ابن الزُّبَيْر فيقتل!
كذبتم وبيت اللَّه لا تقتلونه *** ولما يكن يوم أغر محجل
ولما يكن للمشرفية فوقكم *** شعاع كقرن الشمس حين ترجل

فأجابه عبد الرَّحْمَن بن الحكم، أخو مَرْوَان بن الحكم، فَقَالَ:

أتذهب كلب قَدْ حمتها رماحها *** وتترك قتلى راهط مَا أجنت!
لحا اللَّه قيسا قيس عيلان إنها *** أضاعت ثغور الْمُسْلِمِينَ وولت
فباه بقيس فِي الرخاء وَلا تكن *** أخاها إذا مَا المشرفية سلت

قَالَ أَبُو جَعْفَر: ولما بايع حصين بن نمير مروان بن الحكم وعصا مالك بن هبيرة فِيمَا أشار بِهِ عَلَيْهِ من بيعة خَالِد بن يَزِيدَ بن مُعَاوِيَة، واستقر لمروان بن الحكم الملك، وَقَدْ كَانَ الحصين بن نمير اشترط عَلَى مَرْوَان أن ينزل البلقاء من كَانَ بِالشَّامِ من كندة، وأن يجعلها لَهُمْ مأكلة، فأعطاه ذَلِكَ، وإن بني الحكم لما استوثق الأمر لمروان، وَقَدْ كَانُوا اشترطوا لخالد بن يَزِيدَ بن مُعَاوِيَة شروطا، قَالَ مَرْوَان ذات يوم وَهُوَ جالس فِي مجلسه ومالك بن هبيرة جالس عنده: إن قوما يدعون شروطا مِنْهُمْ عطارة مكحلة- يعني مالك بن هبيرة وَكَانَ رجلا يتطيب ويكتحل- فَقَالَ مالك بن هبيرة: هَذَا ولما تردي تهامة، ولما يبلغ الحزام الطبيين، فَقَالَ مَرْوَان: مهلا يَا أَبَا سُلَيْمَان، إنما داعبناك، فَقَالَ مالك: هُوَ ذاك وَقَالَ عويج الطَّائِيّ يمتدح كلبا وحميد بن بحدل:

لقد علم الأقوام وقع ابن بحدل *** وأخرى عَلَيْهِم إن بقي سيعيدها
يقودون أولاد الوجيه ولاحق *** من الريف شهرا مَا يني من يقودها
فهذا لهذا ثم انى لنافض *** على الناس أقواما كثيرا حدودها
فلولا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ لأصبحت *** قضاعة أربابا وقيس عبيدها

وفي هَذِهِ السنة بايع جند خُرَاسَان لسلم بن زياد بعد موت يَزِيد بن مُعَاوِيَة، عَلَى أن يقوم بأمرهم حتى يجتمع الناس على خليفه ذكر الخبر عن فتنه عبد الله بن خازم وبيعه سلم بن زياد
وفيها كَانَتْ فتنة عَبْد اللَّهِ بن خازم بخراسان.
ذكر الخبر عن ذَلِكَ:
حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قال: أخبرنا مسلمه ابن محارب، قَالَ: بعث سلم بن زياد بِمَا أصاب من هدايا سمرقند وخوارزم إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة مع عَبْد اللَّهِ بن خازم، وأقام سلم واليا عَلَى خُرَاسَان حَتَّى مات يَزِيد بن مُعَاوِيَة ومعاوية بن يَزِيدَ، فبلغ سلما موته، وأتاه مقتل يَزِيد بن زياد فِي سجستان وأسر أبي عبيدة بن زياد، وكتم الخبر سلم، فَقَالَ ابن عرادة:

يَا أَيُّهَا الملك المغلق بابه *** حدثت أمور شأنهن عظيم
قتلى بجنزة والذين بكابل *** ويزيد أعلن شأنه المكتوم
أبني أُمَيَّة إن آخر ملككم *** جسد بحوارين ثُمَّ مقيم
طرقت منيته وعند وساده *** كوب وزق راعف مرثوم
ومرنة تبكي عَلَى نشوانه *** بالصنج تقعد تارة وتقوم

قَالَ مسلمة: فلما ظهر شعر ابن عرادة أظهر سلم موت يَزِيد بن مُعَاوِيَة ومعاوية بن يَزِيدَ، ودعا الناس إِلَى البيعة عَلَى الرضا حَتَّى يستقيم أمر الناس عَلَى خليفة، فبايعوه، ثُمَّ مكثوا بِذَلِكَ شهرين، ثُمَّ نكثوا بِهِ.
قَالَ عَلِيّ بن مُحَمَّد: وَحَدَّثَنَا شيخ من أهل خُرَاسَان، قَالَ: لم يحب أهل خُرَاسَان أميرا قط حبهم سلم بن زياد، فسمي فِي تِلَكَ السنين الَّتِي كَانَ بِهَا سلم أكثر من عشرين ألف مولود بسلم، من حبهم سلما قَالَ: وأخبرنا أَبُو حفص الأَزْدِيّ، عن عمه قَالَ: لما اختلف الناس بخراسان ونكثوا بيعة سلم، خرج سلم عن خُرَاسَان وخلف عَلَيْهَا المهلب بن أبي صفرة، فلما كَانَ بسرخس لقيه سُلَيْمَان بن مرثد أحد بني قيس بن ثعلبة، فَقَالَ لَهُ: من خلفت عَلَى خُرَاسَان؟ قَالَ: المهلب، فَقَالَ: ضاقت عَلَيْك نزار حَتَّى وليت رجلا من أهل اليمن! فولاه مرو الروذ والفارياب والطالقان والجوزجان، وولى أوس بن ثعلبة بن زفر- وَهُوَ صاحب قصر أوس بِالْبَصْرَةِ- هراة، ومضى فلما صار بنيسابور لقيه عَبْد اللَّهِ بن خازم فَقَالَ: من وليت خُرَاسَان؟ فأخبره، فَقَالَ: أما وجدت فِي مضر رجلا تستعمله حَتَّى فرقت خُرَاسَان بين بكر بن وائل ومزون عمان! وَقَالَ لَهُ: اكتب لي عهدا عَلَى خُرَاسَان، قَالَ: أوالي خُرَاسَان أنا! قَالَ: اكتب لي عهدا وخلاك ذم.
قَالَ: فكتب لَهُ عهدا عَلَى خُرَاسَان، قَالَ: فأعني الآن بمائة ألف درهم فأمر لَهُ بِهَا، وأقبل إِلَى مرو، وبلغ الخبر المهلب بن أبي صفرة،، فأقبل واستخلف رجلا من بني جشم بن سَعْدِ بْنِ زَيْد مناة بن تميم.
قَالَ: وأخبرنا المفضل بن مُحَمَّد الضبي، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لما صار عَبْد اللَّهِ بن خازم إِلَى مرو بعهد سلم بن زياد، منعه الجشمي، فكانت بينهما مناوشة، فأصابت الجشمي رمية بحجر فِي جبهته، وتحاجزوا وخلى الجشمي بين مرو الروذ وبينه، فدخلها ابن خازم، ومات الجشمي بعد ذَلِكَ بيومين.
قَالَ عَلِيّ بن مُحَمَّد المدائني: حَدَّثَنَا الْحَسَن بن رشيد الجوزجاني، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لما مات يَزِيد بن مُعَاوِيَة ومعاوية بن يَزِيدَ وثب أهل خُرَاسَان بعمالهم فأخرجوهم، وغلب كل قوم عَلَى ناحية، ووقعت الْفِتْنَة، وغلب ابن خازم عَلَى خُرَاسَان، ووقعت الحرب.
قَالَ أَبُو جَعْفَر: وأخبرنا أَبُو الذيال زهير بن هنيد، عن أبي نعامة، قَالَ:
أقبل عَبْد اللَّهِ بن خازم فغلب عَلَى مرو، ثُمَّ سار إِلَى سُلَيْمَان بن مرثد فلقيه بمرو الروذ، فقاتله أياما، فقتل سُلَيْمَان بن مرثد، ثُمَّ سار عَبْد اللَّهِ بن خازم إِلَى عَمْرو بن مرثد وَهُوَ بالطالقان فِي سبعمائة، وبلغ عمرا إقبال عَبْد اللَّهِ إِلَيْهِ وقتله أخاه سُلَيْمَان، فأقبل إِلَيْهِ، فالتقوا عَلَى نهر قبل أن يتوافى إِلَى ابن خازم أَصْحَابه، فأمر عَبْد اللَّهِ من كَانَ مَعَهُ فنزلوا، فنزل وسال عن زهير بن ذؤيب العدوى، فقالوا: لم يجيء حَتَّى أقبل وَهُوَ عَلَى حاله، فلما أقبل قيل لَهُ: هَذَا زهير قَدْ جَاءَ، فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّهِ: تقدم، فالتقوا فاقتتلوا طويلا، فقتل عَمْرو بن مرثد، وانهزم أَصْحَابه، فلحقوا بهراة بأوس بن ثعلبة، ورجع عَبْد اللَّهِ ابن خازم إِلَى مرو قَالَ: وَكَانَ الَّذِي ولي قتل عَمْرو بن مرثد زهير بن حيان العدوى فيما يروون فَقَالَ الشاعر:

أتذهب أيام الحروب ولم تبئ *** زهير بن حيان بعمرو بن مرثد!

قال: وَحَدَّثَنَا أَبُو السري الخراساني- وَكَانَ من أهل هراة- قَالَ: قتل عَبْد اللَّهِ بن خازم سُلَيْمَان وعمرا ابني مرثد المرثديين من بني قيس بن ثعلبة ثُمَّ رجع إِلَى مرو، وهرب من كَانَ بمرو الروذ من بكر بن وائل إِلَى هراة، وانضم إِلَيْهَا من كَانَ بكور خُرَاسَان من بكر بن وائل، فكان لَهُمْ بِهَا جمع كثير عَلَيْهِم أوس بن ثعلبة، قَالَ: فَقَالُوا لَهُ نبايعك عَلَى أن تسير إِلَى ابن خازم، وتخرج مضر من خُرَاسَان كلها، فَقَالَ لَهُمْ: هَذَا بغي، وأهل البغي مخذولون، أقيموا مكانكم هَذَا، فإن ترككم ابن خازم- وما أراه يفعل- فارضوا بهذه الناحية، وخلوه وما هُوَ فِيهِ، فَقَالَ بنو صهيب- وهم موالي بني جحدر: لا وَاللَّهِ لا نرضى أن نكون نحن ومضر فِي بلد، وَقَدْ قتلوا ابني مرثد، فإن أجبتنا إِلَى هَذَا وإلا أمرنا علينا غيرك، قَالَ: إنما أنا رجل مِنْكُمْ، فاصنعوا مَا بدا لكم، فبايعوه، وسار إِلَيْهِم ابن خازم، واستخلف ابنه مُوسَى، وأقبل حَتَّى نزل عَلَى واد بين عسكره وبين هراة، قَالَ: فَقَالَ البكريون لأوس: اخرج فخندق خندقا دون الْمَدِينَة فقاتلهم فِيهِ، وتكون الْمَدِينَة من ورائنا، فَقَالَ لَهُمْ أوس: الزموا الْمَدِينَة فإنها حصينة، وخلوا ابن خازم ومنزله الَّذِي هُوَ فِيهِ، فإنه إن طال مقامه ضجر فأعطاكم مَا ترضون بِهِ، فإن اضطررتم إِلَى القتال قاتلتم، فأبوا وخرجوا مِنَ الْمَدِينَةِ فخندقوا خندقا دونها، فقاتلهم ابن خازم نحوا من سنة.
قَالَ وزعم الأحنف بن الأشهب الضبي، وأخبرنا أَبُو الذيال زهير بن الهنيد، سار ابن خازم إِلَى هراة وفيها جمع كثير لبكر بن وائل قَدْ خندقوا عَلَيْهِم، وتعاقدوا عَلَى إخراج مضر إن ظفروا بخراسان، فنزل بهم ابن خازم، فَقَالَ لَهُ هلال الضبي أحد بني ذهل، ثُمَّ أحد بني أوس: إنما تقاتل إخوتك من بني أبيك، وَاللَّهِ إن نلت مِنْهُمْ فما تريد مَا فِي العيش بعدهم من خير، وَقَدْ قتلت بمرو الروذ مِنْهُمْ من قتلت، فلو أعطيتهم شَيْئًا يرضون بِهِ، أو أصلحت هَذَا الأمر! قَالَ: وَاللَّهِ لو خرجت لَهُمْ عن خُرَاسَان مَا رضوا بِهِ، ولو استطاعوا أن يخرجوكم من الدُّنْيَا لأخرجوكم، قَالَ لا، وَاللَّهِ لا أرمي معك بسهم، وَلا رجل يطيعني من خندف حَتَّى تعذر إِلَيْهِم، قَالَ: فأنت رسولي إِلَيْهِم فأرضهم، فأتى هلال إِلَى أوس بن ثعلبة فناشده اللَّه والقرابة، وَقَالَ: أذكرك اللَّه فِي نزار أن تسفك دماءها، وتضرب بعضها ببعض! قَالَ: لقيت بني صهيب؟ قَالَ: لا وَاللَّهِ، قَالَ: فالقهم، فخرج فلقي أرقم بن مطرف الحنفي، وضمضم بن يَزِيدَ- أو عَبْد اللَّهِ بن ضمضم بن يَزِيدَ- وعاصم بن الصلت بن الحريث الحنفيين، وجماعة من بكر بن وائل وكلمهم بمثل مَا كلم بِهِ أوسا، فَقَالُوا: هل لقيت بني صهيب؟ فَقَالَ: لقد عظم اللَّه أمر بني صهيب عندكم، لا لم ألقهم، قَالُوا: القهم، فأتى بني صهيب فكلمهم، فَقَالُوا: لولا أنك رسول لقتلناك، قَالَ: أفما يرضيكم شَيْء؟
قَالُوا: واحدة من اثنتين، إما أن تخرجوا عن خُرَاسَان وَلا يدعو فِيهَا لمضر داع، وإما أن تقيموا وتنزلوا لنا عن كل كراع وسلاح وذهب وفضة، قَالَ:
أفما شَيْء غير هاتين؟ قَالُوا: لا، قَالَ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ! فرجع إِلَى ابن خازم، فَقَالَ: مَا عندك؟ قَالَ: وجدت إخوتنا قطعا للرحم، قَالَ:
قَدْ أخبرتك أن رَبِيعَة لم تزل غضابا عَلَى ربها منذ بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم من مضر قَالَ أَبُو جَعْفَر: وأخبرنا سُلَيْمَان بن مُجَالِد الضبي، قَالَ: أغارت الترك عَلَى قصر إسفاد وابن خازم بهراة، فحصروا أهله، وفيه ناس من الأزد هم أكثر من فِيهِ، فهزمتهم، فبعثوا إِلَى من حولهم من الأزد فجاءوا لينصروهم فهزمتهم الترك، فأرسلوا إِلَى ابن خازم، فوجه إِلَيْهِم زهير بن حيان فِي بني تميم وَقَالَ لَهُ: إياك ومشاولة الترك، إذا رأيتموهم فاحملوا عَلَيْهِم، فأقبل فوافاهم فِي يوم بارد، قَالَ: فلما التقوا شدوا عَلَيْهِم فلم يثبتوا لَهُمْ، وانهزمت الترك واتبعوهم حَتَّى مضى عامة الليل حَتَّى انتهوا إِلَى قصر فِي المفازة، فأقامت الجماعة ومضى زهير فِي فوارس يتبعهم، وَكَانَ عالما بالطريق، ثُمَّ رجع فِي نصف من الليل، وَقَدْ يبست يده عَلَى رمحه من البرد، فدعا غلامه كعبا، فخرج إِلَيْهِ، فأدخله، وجعل يسخن لَهُ الشحم فيضعه عَلَى يده، ودهنوه وأوقدوا لَهُ نارا حَتَّى لان ودفى، ثُمَّ رجع إِلَى هراة، فَقَالَ فِي ذَلِكَ كعب بن مَعْدَانَ الأشقري:

أتاك أتاك الغوث فِي برق عارض *** دروع وبيض حشوهن تميم
أبوا أن يضموا حشو مَا تجمع القرى *** فضمهمُ يوم اللقاء صميم
ورزقهمُ من رائحات تزينها *** ضروع عريضات الخواصر كوم

وَقَالَ ثَابِت قطنة:

فدت نفسي فوارس من تميم *** عَلَى مَا كَانَ من ضنك المقام
بقصر الباهلي وَقَدْ أراني *** أحامي حين قل بِهِ المحامي
بسيفي بعد كسر الرمح فِيهِمْ *** أذودهمُ بذي شطب حسام
أكر عَلَيْهِم اليحموم كرا *** ككر الشرب آنية المدام
فلولا اللَّه ليس لَهُ شريك *** وضربي قونس الملك الهمام
إذا فاظت نساء بني دثار *** أمام الترك بادية الخدام

قَالَ أَبُو جَعْفَر: وَحَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ الخراساني، عن أبي حماد السلمي قَالَ: أقام ابن خازم بهراة يقاتل أوس بن ثعلبة أكثر من سنة، فَقَالَ يوما لأَصْحَابه: قَدْ طال مقامنا عَلَى هَؤُلاءِ، فنادوهم: يَا معشر رَبِيعَة، إنكم قَدِ اعتصمتم بخندقكم، أفرضيتم من خُرَاسَان بهذا الخندق! فأحفظهم ذَلِكَ، فتنادى الناس للقتال، فَقَالَ لَهُمْ أوس بن ثعلبة: الزموا خندقكم وقاتلوهم كما كنتم تقاتلونهم، وَلا تخرجوا إِلَيْهِم بجماعتكم، قَالَ: فعصوه وخرجوا إِلَيْهِم، فالتقى الناس، فَقَالَ ابن خازم لأَصْحَابه: اجعلوه يومكم فيكون الملك لمن غلب، فإن قتلت فأميركم شماس بن دثار العطاردي، فإن قتل فأميركم بكير بن وشاح الثقفي.
قَالَ علي: وَحَدَّثَنَا أَبُو الذيال زهير بن هنيد، عن أبي نعامة العدوي عن عبيد بن نقيد، عن إياس بن زهير بن حيان: لما كَانَ الْيَوْم الَّذِي هرب فِيهِ أوس بن ثعلبة وظفر ابن خازم ببكر بن وائل، قَالَ ابن خازم لأَصْحَابه حين التقوا: إني قلع، فشدوني عَلَى السرج، واعلموا أن علي من السلاح مَا لا أقتل قدر جزر جزورين، فان قيل لكم: انى قد قتلت فلا تصدقوا.
قَالَ: وكانت راية بني عدي مع أبي وأنا عَلَى فرس محزم، وَقَدْ قَالَ لنا ابن خازم: إذا لقيتم الخيل فاطعنوها فِي مناخرها، فإنه لن يطعن فرس فِي نخرته إلا أدبر أو رمى بصاحبه، فلما سمع فرسي قعقعة السلاح وثب بي واديا كَانَ بيني وبينهم، قَالَ: فتلقاني رجل من بكر بن وائل فطعنت فرسه فِي نخرته، فصرعه، وحمل أبي ببني عدي، وأتبعته بنو تميم من كل وجه، فاقتتلوا ساعة، فانهزمت بكر بن وائل حَتَّى انتهوا الى خندقهم وأخذوا يمينا وشمالا، وسقط ناس فِي الخندق فقتلوا قتلا ذريعا، وهرب أوس ابن ثعلبة وبه جراحات، وحلف ابن خازم لا يؤتى بأسير إلا قتله حَتَّى تغيب الشمس، فكان آخر من أتي بِهِ رجل من بني حنيفة يقال لَهُ محمية فَقَالُوا لابن خازم: قَدْ غابت الشمس، قَالَ: وفوا بِهِ القتلى، فقتل.
قَالَ: فأخبرني شيخ من بني سعد بن زَيْد مناة أن أوس بن ثعلبه هرب وبه جراحات إِلَى سجستان، فلما صار بِهَا أو قريبا منها مات.
وفي مقتل ابن مرثد وأمر أوس بن ثعلبة يقول الْمُغِيرَة بن حبناء، أحد بني رَبِيعَة بن حنظلة:

وفي الحرب كنتم فِي خُرَاسَان كلها *** قتيلا ومسجونا بِهَا ومسيرا
ويوم احتواكم فِي الحفير ابن خازم *** فلم تجدوا إلا الخنادق مقبرا
ويوم تركتم فِي الغبار ابن مرثد *** وأوسا تركتم حَيْثُ سار وعسكرا

قَالَ: وأخبرني أَبُو الذيال زهير بن هنيد، عن جده أبي أمه، قَالَ:
قتل من بكر بن وائل يَوْمَئِذٍ ثمانية آلاف.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا التميمي، رجل من أهل خُرَاسَان، عن مولى لابن خازم، قَالَ: قاتل ابن خازم أوس بن ثعلبة وبكر بن وائل، فظفر بهراة، وهرب أوس وغلبه ابن خازم عَلَى هراة، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا ابنه مُحَمَّدا، وضم إِلَيْهِ شماس بن دثار العطاردي، وجعل بكير بن وشاح عَلَى شرطته، وَقَالَ لهما:
ربياه فإنه ابن أختكما، فكانت أمه من بني سعد يقال لها صفية، وَقَالَ لَهُ:
لا تخالفهما، ورجع ابن خازم إِلَى مرو

ذكر الخبر عن تحرك الشيعة للطلب بدم الحسين

قَالَ أَبُو جَعْفَر: وفي هَذِهِ السنة تحركت الشيعة بالكوفة، واتعدوا الاجتماع بالنخيلة فِي سنة خمس وستين للمسير إِلَى أهل الشام للطلب بدم الْحُسَيْن بن علي، وتكاتبوا فِي ذَلِكَ ذكر الخبر عن مبدإ أمرهم فِي ذَلِكَ:
قَالَ هِشَام بن مُحَمَّد: حَدَّثَنَا أَبُو مخنف، قَالَ: حَدَّثَنِي يُوسُف بن يَزِيدَ عن عَبْد اللَّهِ بن عوف بن الأحمر الأَزْدِيّ، قَالَ: لما قتل الْحُسَيْن بن علي ورجع ابن زياد من معسكره بالنخيلة، فدخل الْكُوفَة، تلاقت الشيعة بالتلاوم والتندم، ورأت أنها قَدْ أخطأت خطأ كبيرا بدعائهم الْحُسَيْن إِلَى النصرة وتركهم إجابته، ومقتله إِلَى جانبهم لم ينصروه، ورأوا أنه لا يغسل عارهم والإثم عَنْهُمْ فِي مقتله إلا بقتل من قتله، أو القتل فِيهِ، ففزعوا بالكوفة إِلَى خمسة نفر من رءوس الشيعة إِلَى سُلَيْمَان بن صرد الخزاعي، وكانت له صحبه مع النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى المسيب بن نجبة الفزاري، وَكَانَ من أَصْحَاب علي وخيارهم، وإلى عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ نفيل الأَزْدِيّ، وإلى عَبْد اللَّهِ بن وال التيمي، وإلى رفاعة بن شداد البجلي.
ثُمَّ إن هَؤُلاءِ النفر الخمسة اجتمعوا فِي منزل سُلَيْمَان بن صرد، وكانوا من خيار أَصْحَاب علي، ومعهم أناس من الشيعة وخيارهم ووجوههم.
قَالَ: فلما اجتمعوا إِلَى منزل سُلَيْمَان بن صرد بدأ المسيب بن نجبة القوم بالكلام، فتكلم فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ:
أَمَّا بَعْدُ، فإنا قَدِ ابتلينا بطول العمر، والتعرض لأنواع الفتن فنرغب إِلَى ربنا أَلا يجعلنا ممن يقول لَهُ غدا: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ ٱلنَّذِيرُ} [فاطر: 37] ، فإن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: [العمر الَّذِي أعذر اللَّه فِيهِ إِلَى ابن آدم ستون سنة، وليس] فينا رجل إلا وَقَدْ بلغه، وَقَدْ كنا مغرمين بتزكية أنفسنا، وتقريظ شيعتنا، حَتَّى بلا اللَّه أخيارنا فوجدنا كاذبين فِي موطنين من مواطن ابن ابنه نبينا صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ بلغتنا قبل ذَلِكَ كتبه، وقدمت علينا رسله، وأعذر إلينا يسألنا نصره عودا وبدءا، وعلانية وسرا، فبخلنا عنه بأنفسنا حَتَّى قتل إِلَى جانبنا، لا نحن نصرناه بأيدينا، وَلا جادلنا عنه بألسنتنا، وَلا قويناه بأموالنا، وَلا طلبنا لَهُ النصرة إِلَى عشائرنا، فما عذرنا الى ربنا وعند لقاء نبينا صلى الله عليه وسلم وَقَدْ قتل فينا ولده وحبيبه، وذريته ونسله! لا وَاللَّهِ، لا عذر دون أن تقتلوا قاتله والموالين عَلَيْهِ، أو تقتلوا فِي طلب ذَلِكَ، فعسى ربنا أن يرضى عنا عِنْدَ ذَلِكَ، وما أنا بعد لقائه لعقوبته بآمن أيها القوم، ولوا عَلَيْكُمْ رجلا مِنْكُمْ فإنه لا بد لكم من أَمِير تفزعون إِلَيْهِ، وراية تحفون بِهَا، أقول قولي هَذَا وأستغفر اللَّه لي ولكم.
قَالَ: فبدر القوم رفاعة بن شداد بعد المسيب الكلام، فَحَمِدَ اللَّهَ وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإن اللَّه قَدْ هداك لأصوب القول، ودعوت إِلَى أرشد الأمور، بدأت بحمد اللَّه والثناء عَلَيْهِ، والصلاة عَلَى نبيه صلى الله عليه وسلم، ودعوت إِلَى جهاد الفاسقين وإلى التوبة من الذنب العظيم، فمسموع مِنْكَ، مستجاب لك، مقبول قولك، قلت: ولوا أمركم رجلا مِنْكُمْ تفزعون إِلَيْهِ، وتحفون برايته، وَذَلِكَ رأي قَدْ رأينا مثل الَّذِي رأيت، فإن تكن أنت ذَلِكَ الرجل تكن عندنا مرضيا، وفينا متنصحا، وفي جماعتنا محبا، وإن رأيت رأي أَصْحَابنا ذَلِكَ ولينا هَذَا الأمر شيخ الشيعة صاحب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، وذا السابقه والقدم سليمان ابن صرد المحمود فِي بأسه ودينه، والموثوق بحزمه أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
قَالَ: ثُمَّ تكلم عَبْد اللَّهِ بن وال وعبد اللَّه بن سَعْد، فحمدا ربهما وأثنيا عَلَيْهِ، وتكلما بنحو من كلام رفاعة بن شداد، فذكرا المسيب بن نجبة بفضله، وذكرا سُلَيْمَان بن صرد بسابقته، ورضاهما بتوليته، فَقَالَ المسيب ابن نجبة: أصبتم ووفقتم، وأنا أَرَى مثل الَّذِي رايتم، فولوا امركم سليمان ابن صرد قَالَ أَبُو مخنف: فحدثت سُلَيْمَان بن أبي راشد بهذا الحديث، فَقَالَ:
حَدَّثَنِي حميد بن مسلم، قَالَ: وَاللَّهِ إني لشاهد بهذا الْيَوْم، يوم ولوا سليمان ابن صرد، وإنا يَوْمَئِذٍ لأكثر من مائة رجل من فرسان الشيعة ووجوههم فِي داره.
قَالَ: فتكلم سُلَيْمَان بن صرد فشدد، وما زال يردد ذَلِكَ القول فِي كل جمعة حَتَّى حفظته، بدأ فَقَالَ: أثني عَلَى اللَّه خيرا، وأحمد آلاءه وبلاءه، وأشهد أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسوله، أَمَّا بَعْدُ، فإني وَاللَّهِ لخائف أَلا يكون آخرنا إِلَى هَذَا الدهر الَّذِي نكدت فِيهِ المعيشة، وعظمت فِيهِ الرزية وشمل فِيهِ الجور أولي الفضل من هَذِهِ الشيعة لما هُوَ خير، أنا كنا نمد أعناقنا إِلَى قدوم آل نبينا، ونمنيهم النصر، ونحثهم عَلَى القدوم، فلما قدموا ونينا وعجزنا، وأدهنا، وتربصنا، وانتظرنا مَا يكون حتى قتل فينا ولد نبينا وسلالته وعصارته وبضعة من لحمه ودمه، إذ جعل يستصرخ فلا يصرخ، ويسأل النصف فلا يعطاه، اتخذه الفاسقون غرضا للنبل، ودرية للرماح حَتَّى أقصدوه، وعدوا عَلَيْهِ فسلبوه أَلا انهضوا فقد سخط ربكم، وَلا ترجعوا إِلَى الحلائل والأبناء حَتَّى يرضى اللَّه، وَاللَّهِ مَا أظنه راضيا دون أن تناجزوا من قتله، أو تبيروا أَلا لا تهابوا الموت فو الله مَا هابه امرؤ قط إلا ذل، كونوا كالأولى من بني إسرائيل إذ قَالَ لَهُمْ نبيهم: {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلْعِجْلَ فَتُوبُوۤاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ} [البقرة: 54] ، فما فعل القوم؟ جثوا عَلَى الركب وَاللَّهِ، ومدوا الأعناق ورضوا بالقضاء حَتَّى حين علموا أنه لا ينجيهم من عظيم الذنب إلا الصبر عَلَى القتل، فكيف بكم لو قَدْ دعيتم إِلَى مثل مَا دعي القوم إِلَيْهِ! اشحذوا السيوف، وركبوا الأسنة، {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ} [الأنفال: 60] ، حَتَّى تدعوا حين تدعون وتستنفرون قَالَ: فقام خَالِد بن سَعْدِ بْنِ نفيل، فقال: اما انا فو الله لو أعلم أن قتلي نفسي يخرجني من ذنبي ويرضي ربي لقتلتها، ولكن هَذَا أمر بِهِ قوم كَانُوا قبلنا ونهينا عنه، فأشهد اللَّه ومن حضر مِنَ الْمُسْلِمِينَ أن كل مَا أصبحت أملكه سوى سلاحي الَّذِي أقاتل بِهِ عدوي صدقة عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أقويهم بِهِ عَلَى قتال القاسطين وقام أَبُو المعتمر حنش بن رَبِيعَة الكناني فَقَالَ: وأنا أشهدكم عَلَى مثل ذَلِكَ.
فَقَالَ سُلَيْمَان بن صرد: حسبكم، من أراد من هَذَا شَيْئًا فليأت بماله عَبْد اللَّهِ بن وال التيمي تيم بكر بن وائل، فإذا اجتمع عنده كل مَا تريدون إخراجه من أموالكم جهزنا بِهِ ذوي الخلة والمسكنة من أشياعكم.
قَالَ أَبُو مخنف لوط بن يَحْيَى، عن سُلَيْمَان بن أبي راشد، قَالَ: فحدثنا حميد بن مسلم الأَزْدِيّ أن سُلَيْمَان بن صرد قَالَ لخالد بن سَعْدِ بْنِ نفيل حين قَالَ لَهُ: وَاللَّهِ لو علمت أن قتلي نفسي يخرجني من ذنبي ويرضى عني ربي لقتلتها، ولكن هَذَا أمر بِهِ قوم غيرنا كَانُوا من قبلنا ونهينا عنه، قَالَ: أخوكم هَذَا غدا فريس أول الأسنة، قَالَ: فلما تصدق بماله عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَالَ لَهُ: أبشر بجزيل ثواب اللَّه للذين لأنفسهم يمهدون.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الحصين بن يَزِيدَ بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ نفيل قَالَ: أخذت كتابا كَانَ سُلَيْمَان بن صرد كتب بِهِ إِلَى سعد بن حُذَيْفَة بن الْيَمَانِ بالمدائن، فقرأته زمان ولي سُلَيْمَان، قَالَ: فلما قرأته أعجبني، فتعلمته فما نسيته، كتب إِلَيْهِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من سُلَيْمَان بن صرد إِلَى سعد بن حُذَيْفَة ومن قبله من الْمُؤْمِنِينَ سلام عَلَيْكُمْ، أَمَّا بَعْدُ، فإن الدُّنْيَا دار قَدْ أدبر منها مَا كَانَ معروفا، وأقبل منها مَا كَانَ منكرا، وأصبحت قَدْ تشنأت إِلَى ذوي الألباب، وأزمع بالترحال منها عباد اللَّه الأخيار، وباعوا قليلا من الدُّنْيَا لا يبقى بجزيل مثوبة عِنْدَ اللَّه لا تفنى ان أولياء من إخوانكم، وشيعة آل نبيكم نظروا لأنفسهم فِيمَا ابتلوا بِهِ من أمر ابن بنت نبيهم الَّذِي دعي فأجاب، ودعا فلم يجب، وأراد الرجعة فحبس، وسأل الأمان فمنع، وترك الناس فلم يتركوه، وعدوا عَلَيْهِ فقتلوه، ثُمَّ سلبوه وجردوه ظلما وعدوانا وغرة بِاللَّهِ وجهلا، وبعين الله ما يعملون، وإلى اللَّه مَا يرجعون، {وَسَيَعْلَمْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] ، فلما نظروا إخوانكم وتدبروا عواقب مَا استقبلوا رأوا أن قَدْ خطئوا بخذلان الزكي الطيب وإسلامه وترك مواساته، والنصر لَهُ خطأ كبيرا ليس لَهُمْ مِنْهُ مخرج وَلا توبة، دون قتل قاتليه أو قتلهم حَتَّى تفنى عَلَى ذَلِكَ أرواحهم، فقد جد إخوانكم فجدوا، وأعدوا واستعدوا، وَقَدْ ضربنا لإخواننا أجلا يوافوننا إِلَيْهِ، وموطنا يلقوننا فِيهِ، فأما الأجل فغرة شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين، وأما الموطن الَّذِي يلقوننا فِيهِ فالنخيلة.
أنتم الَّذِينَ لم تزالوا لنا شيعة وإخوانا، وإلا وَقَدْ رأينا أن ندعوكم إِلَى هَذَا الأمر الَّذِي أراد اللَّه بِهِ إخوانكم فِيمَا يزعمون، ويظهرون لنا أَنَّهُمْ يتوبون، وإنكم جدراء بتطلاب الفضل، والتماس الأجر، والتوبة إِلَى ربكم من الذنب، ولو كَانَ فِي ذَلِكَ حز الرقاب، وقتل الأولاد، واستيفاء الأموال، وهلاك العشائر، مَا ضر أهل عذراء الَّذِينَ قتلوا أَلا يكونوا الْيَوْم أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، شهداء قَدْ لقوا اللَّه صابرين محتسبين، فأثابهم ثواب الصابرين- يعني حجرا واصحابه- وما ضر إخوانكم المقتلين صبرا، المصلبين ظلما، والمثل بهم، المعتدى عَلَيْهِم، أَلا يكونوا أحياء مبتلين بخطاياكم، قَدْ خير لَهُمْ فلقوا ربهم، ووفاهم اللَّه إِنْ شَاءَ اللَّهُ أجرهم، فاصبروا رحمكم اللَّه عَلَى البأساء والضراء وحين البأس، وتوبوا الى الله عن قريب، فو الله انكم لأحرياء الا يكون أحد من إخوانكم صبر عَلَى شَيْء من البلاء إرادة ثوابه إلا صبرتم التماس الأجر فِيهِ عَلَى مثله، وَلا يطلب رضاء اللَّه طالب بشيء من الأشياء ولو أنه القتل إلا طلبتم رضا اللَّه بِهِ إن التقوى أفضل الزاد فِي الدُّنْيَا، وما سوى ذَلِكَ يبور ويفنى، فلتعزف عنها أنفسكم، ولتكن رغبتكم فِي دار عافيتكم، وجهاد عدو اللَّه وعدوكم، وعدو أهل بيت نبيكم حَتَّى تقدموا عَلَى اللَّه تائبين راغبين، أحيانا اللَّه وإياكم حياة طيبة، وأجارنا وإياكم من النار، وجعل منايانا قتلا فِي سبيله عَلَى يدي أبغض خلقه إِلَيْهِ وأشدهم عداوة لَهُ، إنه القدير عَلَى مَا يشاء، والصانع لأوليائه فِي الأشياء، والسلام عَلَيْكُمْ.
قَالَ: وكتب ابن صرد الكتاب وبعث بِهِ إِلَى سعد بن حُذَيْفَة بن الْيَمَانِ مع عَبْد اللَّهِ بن مالك الطَّائِيّ، فبعث بِهِ سعد حين قرأ كتابه إِلَى من كَانَ بالمدائن من الشيعة، وَكَانَ بِهَا أقوام من أهل الْكُوفَة قَدْ أعجبتهم فأوطنوها وهم يقدمون الْكُوفَة فِي كل حين عطاء ورزق، فيأخذون حقوقهم، وينصرفون إِلَى أوطانهم، فقرأ عَلَيْهِم سعد كتاب سُلَيْمَان بن صرد ثُمَّ إنه حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإنكم قَدْ كنتم مجتمعين مزمعين عَلَى نصر الْحُسَيْن وقتال عدوه، فلم يفجأكم أول من قتله، وَاللَّهِ مثيبكم عَلَى حسن النية وما أجمعتم عَلَيْهِ من النصر أحسن المثوبة، وَقَدْ بعث إليكم إخوانكم يستنجدونكم ويستمدونكم، ويدعونكم إِلَى الحق وإلى مَا ترجون لكم بِهِ عِنْدَ اللَّه أفضل الأجر والحظ، فماذا ترون؟ وماذا تقولون؟ فَقَالَ القوم بأجمعهم: نجيبهم ونقاتل معهم، ورأينا فِي ذَلِكَ مثل رأيهم.
فقام عَبْد اللَّهِ بن الحنظل الطَّائِيّ ثُمَّ الحزمري، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإنا قَدْ أجبنا إخواننا إِلَى مَا دعونا إِلَيْهِ، وَقَدْ رأينا مثل الَّذِي قَدْ رأوا، فسرحني إِلَيْهِم فِي الخيل، فَقَالَ لَهُ: رويدا، لا تعجل، استعدوا للعدو، وأعدوا لَهُ الحرب، ثُمَّ نسير وتسيرون.
وكتب سعد بن حُذَيْفَة بن الْيَمَانِ إِلَى سُلَيْمَان بن صرد مع عَبْد اللَّهِ بن مالك الطَّائِيّ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِلَى سُلَيْمَان بن صرد، من سعد بن حُذَيْفَة ومن قبله من الْمُؤْمِنِينَ، سلام عَلَيْكُمْ، أَمَّا بَعْدُ، فقد قرأنا كتابك، وفهمنا الَّذِي دعوتنا إِلَيْهِ من الأمر الَّذِي عَلَيْهِ رأي الملأ من إخوانك، فقد هديت لحظك، ويسرت لرشدك، ونحن جادون مجدون، معدون مسرجون ملجمون ننتظر الأمر، ونستمع الداعي، فإذا جَاءَ الصريخ أقبلنا ولم نعرج إِنْ شَاءَ اللَّهُ، والسلام فلما قرأ كتابه سُلَيْمَان بن صرد قرأه على اصحابه، فسروا بذلك.
قالوا: وكتب الى المثنى بن مخربه العبدي نسخة الكتاب الَّذِي كَانَ كتب بِهِ إِلَى سعد بن حُذَيْفَة بن الْيَمَانِ وبعث بِهِ مع ظبيان بن عمارة التميمي من بني سعد، فكتب إِلَيْهِ المثنى: أَمَّا بَعْدُ، فقد قرأت كتابك، وأقرأته إخوانك، فحمدوا رأيك، واستجابوا لك، فنحن موافوك إِنْ شَاءَ اللَّهُ للأجل الَّذِي ضربت وفي الموطن الَّذِي ذكرت، والسلام عَلَيْك وكتب فِي أسفل كتابه:

تبصر كأني قَدْ أتيتك معلما *** عَلَى أتلع الهادي اجش هزيم
طويل القرا نهد الشواه مقلص *** ملح عَلَى فأس اللجام أزوم
بكل فتى لا يملأ الروع نحره *** محس لعض الحرب غير سئوم
أخي ثقة ينوي الإله بسعيه *** ضروب بنصل السيف غير أثيم

قَالَ أَبُو مخنف لوط بن يَحْيَى، عن الْحَارِث بن حصيرة، عن عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ نفيل، قَالَ: كَانَ أول مَا ابتدعوا بِهِ من أمرهم سنة إحدى وستين، وَهِيَ السنة الَّتِي قتل فِيهَا الْحُسَيْن رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فلم يزل القوم فِي جمع آلة الحرب والاستعداد للقتال، ودعاء الناس فِي السر من الشيعة وغيرها إِلَى الطلب بدم الْحُسَيْن، فكان يجيبهم القوم بعد القوم، والنفر بعد النفر.
فلم يزالوا كذلك وفي ذَلِكَ حَتَّى مات يَزِيد بن مُعَاوِيَة يوم الخميس لأربع عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ سنة أربع وستين، وَكَانَ بين قتل الْحُسَيْن وهلاك يَزِيد بن مُعَاوِيَة ثلاث سنين وشهران وأربعة أيام، وهلك يَزِيد وأمير العراق عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، وَهُوَ بِالْبَصْرَةِ، وخليفته بالكوفة عَمْرو بن حريث المخزومي، فَجَاءَ إِلَى سُلَيْمَان أَصْحَابه من الشيعة، فَقَالُوا: قَدْ مات هَذَا الطاغية، والأمر الآن ضعيف، فإن شئت وثبنا عَلَى عَمْرو بن حريث فأخرجناه من القصر، ثُمَّ أظهرنا الطلب بدم الْحُسَيْن، وتتبعنا قتلته، ودعونا الناس إِلَى أهل هَذَا البيت المستأثر عَلَيْهِم، المدفوعين عن حقهم، فَقَالُوا فِي ذَلِكَ فأكثروا، فَقَالَ لَهُمْ سُلَيْمَان بن صرد: رويدا، لا تعجلوا، إني قَدْ نظرت فِيمَا تذكرون، فرأيت أن قتلة الْحُسَيْن هم أشراف أهل الْكُوفَة، وفرسان العرب وهم المطالبون بدمه، ومتى علموا مَا تريدون، وعلموا أَنَّهُمُ المطلوبون، كَانُوا أشد عَلَيْكُمْ ونظرت فيمن تبعني مِنْكُمْ فعلمت أَنَّهُمْ لو خرجوا لم يدركوا ثأرهم، ولم يشفوا أنفسهم، ولم ينكوا فِي عدوهم، وكانوا لَهُمْ جزرا، ولكن بثوا دعاتكم فِي المصر، فادعوا إِلَى أمركم هَذَا، شيعتكم وغير شيعتكم، فإني أرجو أن يكون الناس الْيَوْم حَيْثُ هلك هَذَا الطاغية أسرع إِلَى أمركم استجابة مِنْهُمْ قبل هلاكه ففعلوا، وخرجت طائفة مِنْهُمْ دعاة يدعون الناس، فاستجاب لَهُمْ ناس كثير بعد هلاك يَزِيد بن مُعَاوِيَة أضعاف من كَانَ استجاب لَهُمْ قبل ذَلِكَ.
قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنَا الحصين بن يَزِيدَ، عن رجل من مزينة قَالَ: مَا رأيت من هَذِهِ الأمة أحدا كَانَ أبلغ من عُبَيْد اللَّهِ بن عَبْدِ اللَّهِ المري فِي منطق وَلا عظة، وَكَانَ من دعاة أهل المصر زمان سُلَيْمَان بن صرد، وَكَانَ إذا اجتمعت إِلَيْهِ جماعة مِنَ النَّاسِ فوعظهم بدأ بحمد اللَّه والثناء عَلَيْهِ والصلاة عَلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يقول: أَمَّا بَعْدُ، فإن اللَّه اصطفى محمدا صلى الله عليه وسلم عَلَى خلقه بنبوته، وخصه بالفضل كله، وأعزكم بأتباعه وأكرمكم بالإيمان بِهِ، فحقن بِهِ دماءكم المسفوكة، وأمن بِهِ سبلكم المخوفة، {وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103] فهل خلق ربكم فِي الأولين والآخرين أعظم حقا عَلَى هَذِهِ الأمة من نبيها؟ وهل ذرية أحد من النبيين والمرسلين أو غيرهم أعظم حقا عَلَى هَذِهِ الأمة من ذرية رسولها؟ لا وَاللَّهِ، مَا كَانَ وَلا يكون لِلَّهِ أنتم! ألم تروا ويبلغكم مَا اجترم إِلَى ابن بنت نبيكم! أما رأيتم إِلَى انتهاك القوم حرمته، واستضعافهم وحدته، وترميلهم إِيَّاهُ بالدم، وتجرارهموه عَلَى الأرض! لم يرقبوا فِيهِ ربهم ولا قرابته من الرسول صلى الله عليه وسلم، اتخذوه للنبل غرضا، وغادروه للضباع جزرا، فلله عينا من رَأَى مثله! ولله حُسَيْن بن علي، ماذا غادروا بِهِ ذا صدق وصبر، وذا أمانة ونجدة وحزم! ابن أول الْمُسْلِمِينَ إسلاما، وابن بنت رسول رب العالمين، قلت حماته، وكثرت عداته حوله، فقتله عدوه، وخذله وليه فويل للقاتل، وملامة للخاذل! إن اللَّه لم يجعل لقاتله حجة، وَلا لخاذله معذرة، إلا أن يناصح لِلَّهِ فِي التوبة، فيجاهد القاتلين، وينابذ القاسطين، فعسى اللَّه عِنْدَ ذَلِكَ أن يقبل التوبة، ويقيل العثرة، إنا ندعوكم إِلَى كتاب اللَّه وسنة نبيه، والطلب بدماء أهل بيته، وإلى جهاد المحلين والمارقين، فإن قتلنا فما عِنْدَ اللَّه خير للأبرار، وإن ظهرنا رددنا هَذَا الأمر إِلَى أهل بيت نبينا.
قَالَ: وَكَانَ يعيد هَذَا الكلام علينا فِي كل يوم حَتَّى حفظه عامتنا.
قَالَ: ووثب الناس عَلَى عَمْرو بن حريث عِنْدَ هلاك يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فأخرجوه من القصر، واصطلحوا عَلَى عَامِر بن مسعود بن أُمَيَّة بن خلف الْجُمَحِيّ.
وَهُوَ دحروجة الجعل الَّذِي قَالَ لَهُ ابن همام السلولي:

اشدد يديك بزَيْد إن ظفرت بِهِ *** واشف الأرامل من دحروجة الجعل

وَكَانَ كأنه إبهام قصرا، وزَيْد مولاه وخازنه، فكان يصلي بِالنَّاسِ.
وبايع لابن الزُّبَيْر، ولم يزل أَصْحَاب سُلَيْمَان بن صرد يدعون شيعتهم وغيرهم من أهل مصرهم حَتَّى كثر تبعهم، وَكَانَ الناس الى اتباعهم بعد هلاك يزيد ابن مُعَاوِيَة أسرع مِنْهُمْ قبل ذَلِكَ، فلما مضت سته اشهر من هلاك يزيد ابن مُعَاوِيَة، قدم المختار بن أبي عبيد الْكُوفَة، فقدم فِي النصف من شهر رمضان يوم الجمعة قَالَ: وقدم عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ الأَنْصَارِيّ ثُمَّ الخطمي من قبل عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ أميرا عَلَى الْكُوفَة عَلَى حربها وثغرها، وقدم مَعَهُ من قبل ابن الزُّبَيْر إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بْنِ طَلْحَة بن عُبَيْد اللَّهِ الأعرج أميرا على خراج الْكُوفَة، وَكَانَ قدوم عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ الأَنْصَارِيّ ثُمَّ الخطمي يوم الجمعة لثمان بقين من شهر رمضان سنة أربع وستين.
قَالَ: وقدم المختار قبل عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ وإبراهيم بن مُحَمَّد بثمانية أيام، ودخل المختار الْكُوفَة، وَقَدِ اجتمعت رءوس الشيعة ووجوهها مع سُلَيْمَان بن صرد فليس يعدلونه بِهِ، فكان المختار إذا دعاهم إِلَى نفسه وإلى الطلب بدم الْحُسَيْن قالت لَهُ الشيعة: هَذَا سُلَيْمَان بن صرد شيخ الشيعة، قَدِ انقادوا لَهُ واجتمعوا عَلَيْهِ، فأخذ يقول للشيعة: إني قَدْ جئتكم من قبل المهدي مُحَمَّد بن عَلِيّ ابن الحنفيه مؤتمنا مأمونا، منتجبا ووزيرا، فو الله مَا زال بالشيعة حَتَّى انشعبت إِلَيْهِ طائفة تعظمه وتجيبه، وتنتظر أمره، وعظم الشيعة مع سليمان ابن صرد، فسُلَيْمَان أثقل خلق اللَّه عَلَى المختار.
وَكَانَ المختار يقول لأَصْحَابه: أتدرون مَا يريد هَذَا؟ يعني سُلَيْمَان بن صرد- إنما يريد أن يخرج فيقتل نفسه ويقتلكم، ليس لَهُ بصر بالحروب، وَلا لَهُ علم بِهَا.
قَالَ: وأتى يَزِيد بن الْحَارِث بن يَزِيدَ بن رويم الشيباني عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ الأَنْصَارِيّ فَقَالَ: إن الناس يتحدثون أن هَذِهِ الشيعة خارجة عَلَيْك مع ابن صرد، ومنهم طائفة أخرى مع المختار، وَهِيَ أقل الطائفتين عددا، والمختار فِيمَا يذكر الناس لا يريد أن يخرج حَتَّى ينظر إِلَى مَا يصير إِلَيْهِ أمر سُلَيْمَان بن صرد، وَقَدِ اجتمع لَهُ أمره، وَهُوَ خارج من أيامه هَذِهِ، فإن رأيت أن تجمع الشرط والمقاتلة ووجوه الناس، ثُمَّ تنهض إِلَيْهِم، وننهض معك، فإذا دفعت الى منزله دعوته، فان أجابك فحسبه، وإن قاتلك قاتلته، وَقَدْ جمعت لَهُ وعبأت وَهُوَ مغتر، فإني أخاف عَلَيْك إن هُوَ بدأك وأقررته حَتَّى يخرج عَلَيْك أن تشتد شوكته، وأن يتفاقم أمره.
فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ: اللَّه بيننا وبينهم، إن هم قاتلونا قتلناهم، وإن تركونا لم نطلبهم، حَدِّثْنِي مَا يريد الناس؟ قَالَ: يذكر الناس أَنَّهُمْ يطلبون بدم الْحُسَيْن بن علي، قَالَ: فأنا قتلت الْحُسَيْن! لعن اللَّه قاتل الْحُسَيْن! قَالَ: وَكَانَ سُلَيْمَان بن صرد وأَصْحَابه يريدون أن يثبوا بالكوفة، فخرج عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ حَتَّى صعد الْمِنْبَر، ثُمَّ قام فِي الناس فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فقد بلغني أن طائفة من أهل هَذَا المصر أرادوا أن يخرجوا علينا، فسألت عن الَّذِي دعاهم إِلَى ذَلِكَ مَا هُوَ؟ فقيل لي: زعموا أَنَّهُمْ يطلبون بدم الْحُسَيْن بن علي، فرحم اللَّه هَؤُلاءِ القوم، قَدْ وَاللَّهِ دللت على أماكنهم، وامرت بأخذهم، وقيل: ابداهم قبل أن يبدءوك، فأبيت ذَلِكَ، فقلت: إن قاتلوني قاتلتهم، وإن تركوني لم أطلبهم، وعلام يقاتلونني! فو الله مَا أنا قتلت حسينا، وَلا أنا ممن قاتله، وَلَقَدْ أصبت بمقتله رحمة اللَّه عَلَيْهِ! فإن هَؤُلاءِ القوم آمنون، فليخرجوا ولينتشروا ظاهرين ليسيروا إِلَى من قاتل الْحُسَيْن، فقد أقبل إِلَيْهِم، وأنا لَهُمْ عَلَى قاتله ظهير، هَذَا ابن زياد قاتل الْحُسَيْن، وقاتل خياركم وأماثلكم، قَدْ توجه إليكم، عهد العاهد بِهِ عَلَى مسيرة ليلة من جسر منبج، فقتاله والاستعداد لَهُ أولى وأرشد من أن تجعلوا بأسكم بينكم، فيقتل بعضكم بعضا، ويسفك بعضكم دماء بعض، فيلقاكم ذَلِكَ العدو غدا وَقَدْ رققتم، وتلك وَاللَّهِ أمنية عدوكم، وإنه قَدْ أقبل إليكم أعدى خلق اللَّه لكم، من ولي عَلَيْكُمْ هُوَ وأبوه سبع سنين، لا يقلعان عن قتل أهل العفاف والدين، هُوَ الَّذِي قتلكم، ومن قبله اتيتم، والذي قتل من تثأرون بدمه، قَدْ جاءكم فاستقبلوه بحدكم وشوكتكم، واجعلوها بِهِ، وَلا تجعلوها بأنفسكم، إني لم آلكم نصحا، جمع اللَّه لنا كلمتنا، وأصلح لنا أئمتنا! قَالَ: فَقَالَ إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَة: أَيُّهَا النَّاسُ، لا يغرنكم من السيف والغشم مقالة هَذَا المداهن الموادع، وَاللَّهِ لَئِنْ خرج علينا خارج لنقتلنه، ولئن استقينا أن قوما يريدون الخروج علينا لنأخذن الوالد بولده، والمولود بوالده، ولنأخذن الحميم بالحميم، والعريف بِمَا فِي عرافته حَتَّى يدينوا للحق، ويذلوا للطاعة فوثب إِلَيْهِ المسيب بن نجبة فقطع عَلَيْهِ منطقه ثُمَّ قَالَ: يا بن الناكثين، أنت تهددنا بسيفك وغشمك! أنت وَاللَّهِ أذل من ذَلِكَ، إنا لا نلومك عَلَى بغضنا، وَقَدْ قتلنا أباك وجدك، وَاللَّهِ إني لأرجو الا يخرجك اللَّه من بين ظهراني أهل هَذَا المصر حَتَّى يثلثوا بك جدك وأباك، وأما أنت أيها الأمير فقد قلت قولا سديدا، وإني وَاللَّهِ لأظن من يريد هَذَا الأمر مستنصحا لك، وقابلا قولك.
فَقَالَ إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَة: إي وَاللَّهِ، ليقتلن وَقَدْ أدهن ثُمَّ أعلن فقام إِلَيْهِ عَبْد اللَّهِ بن وال التيمي، فَقَالَ: مَا اعتراضك يَا أخا بني تيم بن مره فيما بيننا وبين أميرنا! فو الله مَا أنت علينا بأمير، وَلا لك علينا سلطان، إنما أنت أَمِير الجزية، فأقبل عَلَى خراجك، فلعمر اللَّه لَئِنْ كنت مفسدا مَا أفسد أمر هَذِهِ الأمة إلا والدك وجدك الناكثان، فكانت بهما اليدان، وكانت عليهما دائرة السوء قَالَ: ثُمَّ أقبل مسيب بن نجبة وعبد اللَّه بن وال عَلَى عَبْد اللَّهِ بن يزيد فقالا: اما رأيك ايها الأمير فو الله إنا لنرجو أن تكون بِهِ عِنْدَ العامة محمودا وأن تكون عِنْدَ الَّذِي عنيت واعتريت مقبولا فغضب أناس من عمال إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَة وجماعة ممن كَانَ مَعَهُ، فتشاتموا دونه، فشتمهم الناس وخصموهم.
فلما سمع ذَلِكَ عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ نزل ودخل، وانطلق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّدٍ وَهُوَ يقول: قَدْ داهن عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ أهل الْكُوفَة، وَاللَّهِ لأكتبن بِذَلِكَ إِلَى عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ، فأتى شبث بن ربعي التميمي عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ فأخبره بِذَلِكَ، فركب بِهِ وبيزيد بن الْحَارِث بن رويم حَتَّى دخل عَلَى إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَة، فحلف لَهُ بِاللَّهِ مَا أردت بالقول الَّذِي سمعت إلا العافية وصلاح ذات البين، إنما أتاني يَزِيد بن الْحَارِث بكذا وكذا، فرأيت أن اقوم فيهم بما سمعت اراده الا تختلف الكلمة، وَلا تتفرق الألفة، وألا يقع بأس هَؤُلاءِ القوم بينهم فعذره وقبل مِنْهُ.
قَالَ: ثُمَّ إن أَصْحَاب سُلَيْمَان بن صرد خرجوا ينشرون السلاح ظاهرين، ويتجهزون يجاهرون بجهازهم وما يصلحهم

ذكر الخبر عن فراق الخوارج عبد الله بن الزبير
وفي هَذِهِ السنة فارق عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ الخوارج الَّذِينَ كَانُوا قدموا عَلَيْهِ مكة، فقاتلوا مَعَهُ حصين بن نمير السكوني، فصاروا إِلَى الْبَصْرَة، ثُمَّ افترقت كلمتهم فصاروا أحزابا ذكر الخبر عن فراقهم ابن الزُّبَيْر والسبب الَّذِي من أجله فارقوه والذي من أجله افترقت كلمتهم:
حدثت عن هِشَام بْن مُحَمَّد الكلبي، عن أبي مخنف لوط بن يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو المخارق الراسبي، قَالَ: لما ركب ابن زياد من الخوارج بعد قتل أبي بلال مَا ركب، وَقَدْ كَانَ قبل ذَلِكَ لا يكف عَنْهُمْ وَلا يستبقيهم غير أنه بعد قتل أبي بلال تجرد لاستئصالهم وهلاكهم، واجتمعت الخوارج حين ثار ابن الزُّبَيْر بمكة، وسار اليه اهل الشام، فتذاكروا أتى إِلَيْهِم، فَقَالَ لَهُمْ نافع بن الأزرق: إن اللَّه قَدْ أنزل عَلَيْكُمُ الكتاب، وفرض عَلَيْكُمْ فِيهِ الجهاد، واحتج عَلَيْكُمْ بالبيان، وَقَدْ جرد فيكم السيوف أهل الظلم وأولو العدا والغشم، وهذا من قَدْ ثار بمكة، فاخرجوا بنا نأت البيت ونلق هَذَا الرجل، فإن يكن عَلَى رأينا جاهدنا مَعَهُ العدو، وإن يكن عَلَى غير رأينا دافعنا عن البيت مَا استطعنا، ونظرنا بعد ذَلِكَ فِي أمورنا فخرجوا حتى قدموا على عبد الله ابن الزبير، فسر بمقدمهم، ونبأهم أنه عَلَى رأيهم، وأعطاهم الرضا مِنْ غَيْرِ توقف وَلا تفتيش، فقاتلوا مَعَهُ حَتَّى مات يَزِيد بن مُعَاوِيَة، وانصرف أهل الشام عن مكة ثُمَّ إن القوم لقي بعضهم بعضا، فَقَالُوا: إن هَذَا الَّذِي صنعتم أمس بغير رأي وَلا صواب من الأمر، تقاتلون مع رجل لا تدرون لعله ليس عَلَى رأيكم، إنما كَانَ أمس يقاتلكم هُوَ وأبوه ينادي: يال ثأرات عُثْمَان! فأتوه وسلوه عن عُثْمَان، فإن برئ مِنْهُ كَانَ وليكم، وإن أبى كَانَ عدوكم.
فمشوا نحوه فَقَالُوا لَهُ: أيها الإنسان، إنا قَدْ قاتلنا معك، ولم نفتشك عن رأيك حَتَّى نعلم أمنا أنت أم من عدونا! خبرنا مَا مقالتك فِي عُثْمَان؟ فنظر فإذا من حوله من أَصْحَابه قليل، فَقَالَ لَهُمْ: إنكم أتيتموني فصادفتموني حين أردت القيام، ولكن روحوا إلي العشية حَتَّى أعلمكم من ذَلِكَ الَّذِي تريدون.
فانصرفوا، وبعث إِلَى أَصْحَابه فَقَالَ: البسوا السلاح، وأحضروني بأجمعكم العشية، ففعلوا، وجاءت الخوارج، وَقَدْ أقام أَصْحَابه حوله سماطين عليهم السلاح، وقامت جماعة مِنْهُمْ عظيمة عَلَى رأسه بأيديهم الأعمدة، فَقَالَ ابن الأزرق لأَصْحَابه: خشي الرجل غائلتكم، وَقَدْ أزمع بخلافكم واستعد لكم، مَا ترون؟
فدنا مِنْهُ ابن الأزرق، فَقَالَ له: يا بن الزُّبَيْر، اتق اللَّه ربك، وأبغض الخائن المستأثر، وعاد أول من سن الضلالة، وأحدث الأحداث، وخالف حكم الكتاب، فإنك إن تفعل ذَلِكَ ترض ربك، وتنج من العذاب الأليم نفسك، وإن تركت ذَلِكَ فأنت من الَّذِينَ استمتعوا بِخَلاقِهِمْ، وأذهبوا فِي الحياة الدُّنْيَا طيباتهم.
يَا عبيدة بن هلال، صف لهذا الإنسان ومن مَعَهُ أمرنا الَّذِي نحن عَلَيْهِ، والذي ندعو الناس إِلَيْهِ، فتقدم عبيدة بن هلال.
قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي أَبُو عَلْقَمَة الخثعمى، عن قبيصة بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ القحافي، من خثعم، قَالَ: أنا وَاللَّهِ شاهد عبيدة بن هلال، إذ تقدم فتكلم، فما سمعت ناطقا قط ينطق كَانَ أبلغ وَلا أصوب قولا مِنْهُ، وَكَانَ يرى رأي الخوارج.
قَالَ: وإن كَانَ ليجمع القول الكثير، فِي المعنى الخطير، فِي اللفظ اليسير.
قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإن اللَّه بعث محمدا صلى الله عليه وسلم يدعو إِلَى عبادة اللَّه، وإخلاص الدين، فدعا إِلَى ذَلِكَ، فأجابه الْمُسْلِمُونَ، فعمل فِيهِمْ بكتاب الله وامره، حتى قبضه الله اليه صلى الله عليه وسلم، واستخلف الناس أبا بكر، واستخلف أَبُو بَكْر عمر، فكلاهما عمل بالكتاب وسنة رَسُول اللَّهِ، فالحمد لِلَّهِ رب العالمين ثُمَّ إن الناس استخلفوا عثمان بن عفان، فحمى الاحماء، وآثر القربى، وَاسْتَعْمَلَ الفتى ورفع الدرة، ووضع السوط، ومزق الكتاب، وحقر المسلم وضرب منكري الجور، وآوى طريد الرسول صلى الله عليه وسلم، وضرب السابقين بالفضل، وسيرهم وحرمهم ثُمَّ أخذ فيء اللَّه الَّذِي أفاءه عَلَيْهِم فقسمه بين فساق قريش، ومجان العرب، فسارت إِلَيْهِ طائفة مِنَ الْمُسْلِمِينَ أخذ اللَّه ميثاقهم عَلَى طاعته، لا يبالون فِي اللَّه لومة لائم، فقتلوه، فنحن لَهُمْ أولياء، ومن ابن عفان وأوليائه برآء، فما تقول أنت يا بن الزُّبَيْر؟ قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ ابن الزُّبَيْر وأثنى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فقد فهمت الذى ذكرتم، وذكرت به النبي صلى الله عليه وسلم، فهو كما قلت صلى الله عليه وفوق مَا وصفته، وفهمت مَا ذكرت بِهِ أبا بكر وعمر، وَقَدْ وفقت وأصبت، وَقَدْ فهمت الَّذِي ذكرت بِهِ عُثْمَان بن عَفَّانَ رحمة اللَّه عَلَيْهِ، وإني لا أعلم مكان أحد من خلق اللَّه الْيَوْم أعلم بابن عفان وأمره مني، كنت مَعَهُ حَيْثُ نقم القوم عَلَيْهِ، واستعتبوه فلم يدع شَيْئًا استعتبه القوم فِيهِ إلا أعتبهم مِنْهُ ثُمَّ إِنَّهُمْ رجعوا إِلَيْهِ بكتاب لَهُ يزعمون أنه كتبه فِيهِمْ، يأمر فِيهِ بقتلهم فَقَالَ لَهُمْ: مَا كتبته، فإن شئتم فهاتوا بينتكم، فإن لم تكن حلفت لكم، فو الله مَا جاءوه ببينة، وَلا استحلفوه ووثبوا عَلَيْهِ فقتلوه، وَقَدْ سمعت مَا عبته بِهِ، فليس كذلك، بل هُوَ لكل خير أهل، وأنا أشهدكم ومن حضر أني ولي لابن عفان فِي الدُّنْيَا والآخرة، وولي أوليائه، وعدو أعدائه، قَالُوا: فبرئ اللَّه مِنْكَ يَا عدو اللَّه، قَالَ: فبرئ اللَّه مِنْكُمْ يَا أعداء اللَّه.
وتفرق القوم، فأقبل نافع بن الأزرق الحنظلي، وعبد اللَّه بن صفار السعدي من بني صريم بن مقاعس، وعبد اللَّه بن إباض أَيْضًا من بني صريم، وحنظلة بن بيهس، وبنو الماحوز: عَبْد اللَّهِ، وعبيد اللَّه، وَالزُّبَيْر، من بنى سليط ابن يربوع، حَتَّى أتوا الْبَصْرَة، وانطلق أَبُو طالوت من بني زمان بن مالك بن صعب بن عَلِيّ بن مالك بن بكر بن وائل وعبد اللَّه بن ثور أَبُو فديك من بني قيس بن ثعلبة وعطية بن الأَسْوَدِ اليشكري إِلَى اليمامة، فوثبوا باليمامة مع أبي طالوت، ثُمَّ أجمعوا بعد ذَلِكَ عَلَى نجده ابن عَامِر الحنفي، فأما الْبَصْرِيُّونَ مِنْهُمْ فإنهم قدموا الْبَصْرَة وهم مجمعون عَلَى رأي أبي بلال.
قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف لوط بن يَحْيَى: فَحَدَّثَنِي أَبُو المثنى، عن رجل من إخوانه من أهل الْبَصْرَة، أَنَّهُمُ اجتمعوا فَقَالَتِ العامة مِنْهُمْ: لو خرج منا خارجون فِي سبيل اللَّه، فقد كَانَتْ منا فترة منذ خرج أَصْحَابنا، فيقوم علماؤنا فِي الأرض فيكونون مصابيح الناس يدعونهم إِلَى الدين، ويخرج أهل الورع والاجتهاد فيلحقون بالرب، فيكونون شهداء مرزوقين عِنْدَ اللَّه أحياء.
فانتدب لها نافع بن الأزرق، فاعتقد على ثلاثمائة رجل، فخرج، وَذَلِكَ عِنْدَ وثوب الناس بعبيد اللَّه بن زياد، وكسر الخوارج أبواب السجون وخروجهم منها، واشتغل الناس بقتال الأزد وربيعة وبني تميم وقيس فِي دم مسعود بن عَمْرو، فاغتنمت الخوارج اشتغال الناس بعضهم ببعض، فتهيئوا واجتمعوا، فلما خرج نافع بن الأزرق تبعوه، واصطلح أهل الْبَصْرَة عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِث بْن عبد المطلب يصلي بهم، وخرج ابن زياد إِلَى الشام، واصطلحت الأزد وبنو تميم، فتجرد الناس للخوارج، فأتبعوهم وأخافوهم حَتَّى خرج من بقي مِنْهُمْ بِالْبَصْرَةِ، فلحق بابن الأزرق، إلا قليلا مِنْهُمْ ممن لَمْ يَكُنْ أراد الخروج يومه ذَلِكَ، مِنْهُمْ عَبْد اللَّهِ بن صفار، وعبد الله ابن إباض، ورجال مَعَهُمَا عَلَى رأيهما ونظر نافع بن الأزرق ورأى أن ولاية من تخلف عنه لا تنبغي، وأن من تخلف عنه لا نجاة لَهُ، فَقَالَ لأَصْحَابه: إن اللَّه قَدْ أكرمكم بمخرجكم، وبصركم مَا عمي عنه غيركم، ألستم تعلمون أنكم إنما خرجتم تطلبون شريعته وأمره! فأمره لكم قائد، والكتاب لكم إمام، وإنما تتبعون سننه وأثره، فَقَالُوا: بلى، فَقَالَ: أليس حكمكم فِي وليكم حكم النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي وليه، وحكمكم فِي عدوكم حكم النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي عدوه، وعدوكم الْيَوْم عدو اللَّه وعدو النبي صلى الله عليه وسلم، كما ان عدو النبي صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ هُوَ عدو اللَّه وعدوكم الْيَوْم! فَقَالُوا: نعم، قَالَ: فقد أنزل اللَّه تبارك وتعالى:
{بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ} [براءة: 1] وقال: {وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] ، فقد حرم اللَّه ولايتهم، والمقام بين أظهرهم، وإجازة شهادتهم، وأكل ذبائحهم وقبول علم الدين عَنْهُمْ، ومناكحتهم، ومواريثهم، وَقَدِ احتج اللَّه علينا بمعرفة هَذَا، وحق علينا أن نعلم هَذَا الدين الَّذِينَ خرجنا من عندهم، وَلا نكتم مَا أنزل اللَّه، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يقول: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلْكِتَابِ أُولَـٰئِكَ يَلعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ ٱللاَّعِنُونَ} [البقرة: 159] ، فاستجاب لَهُ إِلَى هَذَا الرأي جميع أَصْحَابه.
فكتب: من عبيد اللَّهِ نافع بن الأزرق إِلَى عَبْد اللَّهِ بن صفار وعبد الله ابن إباض ومن قبلهما مِنَ النَّاسِ سلام عَلَى أهل طاعة اللَّه من عباد اللَّه، فإن من الأمر كيت وكيت، فقص هَذِهِ القصة، ووصف هَذِهِ الصفة، ثُمَّ بعث بالكتاب إليهما فأتيا بِهِ، فقرأه عَبْد اللَّهِ بن صفار، فأخذه فوضعه خلفه، فلم يقرأه عَلَى الناس خشية أن يتفرقوا ويختلفوا، فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّهِ بن إباض: مَا لك لِلَّهِ أبوك! اى شيء اصبت! اان قَدْ أصيب إخواننا، أو أسر بعضهم! فدفع الكتاب إِلَيْهِ، فقرأه، فَقَالَ: قاتله اللَّه!، أي راى راى! صدق نافع ابن الأزرق، لو كَانَ القوم مشركين كَانَ أصوب الناس رأيا وحكما فِيمَا يشير بِهِ، وكانت سيرته كسيره النبي صلى الله عليه وسلم فِي المشركين، ولكنه قَدْ كذب وكذبنا فِيمَا يقول، إن القوم كفار بالنعم والأحكام، وهم برآء من الشرك، وَلا تحل لنا إلا دماؤهم، وما سوى ذَلِكَ من أموالهم فهو علينا حرام، فقال ابن صفار: برئ اللَّه مِنْكَ، فقد قصرت، وبرئ اللَّه من ابن الأزرق فقد غلا، برئ اللَّه منكما جميعا، وَقَالَ الآخر:
فبرئ اللَّه مِنْكَ ومنه.
وتفرق القوم، واشتدت شوكة ابن الأزرق، وكثرت جموعه، وأقبل نحو الْبَصْرَة حَتَّى دنا من الجسر، فبعث إِلَيْهِ عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث مسلم بن عبيس بن كريز بن رَبِيعَة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف فِي اهل البصره

ذكر الخبر عن مقدم المختار بن ابى عبيد الكوفه
قَالَ أَبُو جَعْفَر: وفي النصف من شهر رمضان من هَذِهِ السنة كَانَ مقدم المختار بن أبي عبيد الْكُوفَة.
ذكر الخبر عن سبب مقدمه إِلَيْهَا:
قَالَ هِشَام بن مُحَمَّد الكلبي: قَالَ أَبُو مخنف: قَالَ النضر بن صالح:
كَانَتِ الشيعة تشتم المختار وتعتبه لما كَانَ مِنْهُ فِي أمر الْحَسَن بن علي يوم طعن فِي مظلم ساباط، فحمل إِلَى أبيض المدائن، حَتَّى إذا كَانَ زمن الْحُسَيْن، وبعث الْحُسَيْن مسلم بن عقيل إِلَى الْكُوفَةِ، نزل دار المختار، وَهِيَ الْيَوْم دار سلم بن المسيب، فبايعه المختار بن أبي عبيد فيمن بايعه من أهل الْكُوفَة، وناصحه ودعا إِلَيْهِ من أطاعه، حَتَّى خرج ابن عقيل يوم خرج والمختار فِي قرية لَهُ بخطرنية تدعى لقفا، فجاءه خبر ابن عقيل عِنْدَ الظهر أنه قَدْ ظهر بالكوفة، فلم يكن خروجه يوم خرج عَلَى ميعاد من أَصْحَابه، إنما خرج حين قيل لَهُ: إن هانئ بن عروة المرادي قَدْ ضرب وحبس، فأقبل المختار فِي موال لَهُ حَتَّى انتهى إِلَى باب الفيل بعد الغروب، وَقَدْ عقد عُبَيْد اللَّهِ بن زياد لعمرو بن حريث راية عَلَى جميع الناس، وأمره أن يقعد لَهُمْ في المسجد، فلما كان المختار وقف عَلَى باب الفيل مر بِهِ هانئ بن أبي حية الوادعي، فَقَالَ للمختار: مَا وقوفك هاهنا! لا أنت مع الناس، وَلا أنت فِي رحلك، قَالَ: أصبح رأيي مرتجا لعظم خطيئتكم، فَقَالَ لَهُ: أظنك وَاللَّهِ قاتلا نفسك، ثُمَّ دخل عَلَى عَمْرو بن حريث فأخبره بِمَا قَالَ للمختار وما رد عَلَيْهِ المختار.
قَالَ أَبُو مخنف: فأخبرني النضر بن صالح، عن عبد الرَّحْمَن بن أبي عمير الثقفي، قَالَ: كنت جالسا عِنْدَ عَمْرو بن حريث حين بلغه هانئ بن أبي حية عن المختار هَذِهِ المقالة، فَقَالَ لي: قم إِلَى ابن عمك فأخبره أن صاحبه لا يدري أين هُوَ! فلا يجعلن عَلَى نفسه سبيلا، فقمت لآتيه، ووثب إِلَيْهِ زائدة بن قدامة بن مسعود، فَقَالَ لَهُ: يأتيك عَلَى أنه آمن؟ فَقَالَ لَهُ عَمْرو بن حريث:
أما مني فهو آمن، وإن رقي إِلَى الأمير عُبَيْد اللَّهِ بن زياد شَيْء من أمره أقمت لَهُ بمحضره الشهادة، وشفعت لَهُ أحسن الشفاعة، فَقَالَ لَهُ زائدة بن قدامة:
لا يكونن مع هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ إلا خير.
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فخرجت، وخرج معي زائدة إِلَى المختار، فأخبرناه بمقالة ابن أبي حية وبمقالة عَمْرو بن حريث، وناشدناه بالله الا يجعل عَلَى نفسه سبيلا، فنزل إِلَى ابن حريث، فسلم عَلَيْهِ، وجلس تحت رايته حَتَّى أصبح، وتذاكر الناس أمر المختار وفعله، فمشى عمارة بن عُقْبَةَ بن أبي معيط بِذَلِكَ إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فذكر لَهُ، فلما ارتفع النهار فتح باب عُبَيْد اللَّهِ ابن زياد وأذن لِلنَّاسِ، فدخل المختار فيمن دخل، فدعاه عُبَيْد اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ: أنت المقبل فِي الجموع لتنصر ابن عقيل! فَقَالَ لَهُ: لم أفعل، ولكني أقبلت ونزلت تحت راية عَمْرو بن حريث، وبت مَعَهُ وأصبحت، فَقَالَ لَهُ عَمْرو: صدق أصلحك اللَّه! قَالَ: فرفع القضيب، فاعترض بِهِ وجه المختار فخبط بِهِ عينه فشترها وَقَالَ: أولى لك! أما وَاللَّهِ لولا شهادة عَمْرو لك لضربت عنقك، انطلقوا به الى السجن فانطلقوا به الى فحبس فيه فلم يزل فِي السجن حَتَّى قتل الْحُسَيْن ثُمَّ إن المختار بعث إِلَى زائدة بن قدامة، فسأله أن يسير إِلَى عَبْد اللَّهِ بن عُمَرَ بِالْمَدِينَةِ فيسأله أن يكتب لَهُ إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فيكتب إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد بتخلية سبيله، فركب زائدة إِلَى عَبْد اللَّهِ بن عُمَرَ فقدم عَلَيْهِ، فبلغه رسالة المختار، وعلمت صفية أخت المختار بمحبس أخيها وَهِيَ تحت عَبْد اللَّهِ بن عُمَرَ، فبكت وجزعت، فلما رَأَى ذَلِكَ عَبْد اللَّهِ بن عُمَرَ كتب مع زائدة إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة: أَمَّا بَعْدُ، فإن عُبَيْد اللَّهِ بن زياد حبس المختار، وَهُوَ صهري، وأنا أحب أن يعافى ويصلح من حاله، فإن رأيت رحمنا اللَّه وإياك أن تكتب إِلَى ابن زياد فتأمره بتخليته فعلت.
والسلام عَلَيْك.
فمضى زائدة عَلَى رواحله بالكتاب حَتَّى قدم بِهِ عَلَى يَزِيد بِالشَّامِ، فلما قرأه ضحك ثُمَّ قَالَ: يشفع أَبُو عبد الرَّحْمَن، وأهل ذَلِكَ هُوَ فكتب لَهُ إِلَى ابن زياد: أَمَّا بَعْدُ، فخل سبيل المختار بن أبي عبيد حين تنظر فِي كتابي، والسلام عَلَيْك.
فأقبل بِهِ زائدة حَتَّى دفعه، فدعا ابن زياد بالمختار، فأخرجه، ثُمَّ قَالَ لَهُ قَدْ أجلتك ثلاثا، فإن أدركتك بالكوفه بعدها قد برئت مِنْكَ الذمة.
فخرج إِلَى رحله وَقَالَ ابن زياد: وَاللَّهِ لقد اجترأ علي زائدة حين يرحل إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى يأتيني بالكتاب فِي تخلية رجل قَدْ كَانَ من شأني أن أطيل حبسه، علي بِهِ فمر بِهِ عَمْرو بن نافع أَبُو عُثْمَان- كاتب لابن زياد- وَهُوَ يطلب، وَقَالَ لَهُ: النجاء بنفسك، واذكرها يدا لي عندك.
قَالَ: فخرج زائدة، فتوارى يومه ذَلِكَ ثُمَّ إنه خرج فِي أناس من قومه حَتَّى أتى القعقاع بن شور الذهلي، ومسلم بن عَمْرو الباهلي، فأخذا لَهُ من ابن زياد الأمان.
قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف: ولما كَانَ الْيَوْم الثالث خرج المختار إِلَى الحجاز، قَالَ: فَحَدَّثَنِي الصقعب بن زهير، عن ابن العرق، مولى لثقيف.
قَالَ: أقبلت من الحجاز حَتَّى إذا كنت بالبسيطة من وراء واقصة استقبلت المختار بن أبي عبيد خارجا يريد الحجاز حين خلى سبيله ابن زياد، فلما استقبلته رحبت بِهِ، وعطفت إِلَيْهِ، فلما رأيت شتر عينه استرجعت لَهُ، وقلت لَهُ بعد ما توجعت لَهُ: مَا بال عينك، صرف اللَّه عنك السوء!
فَقَالَ: خبط عيني ابن الزانية بالقضيب خبطة صارت إِلَى مَا ترى فقلت لَهُ: مَا لَهُ شلت أنامله! فَقَالَ المختار: قتلني اللَّه ان لم اقطع أنامله واباجله وأعضائه إربا إربا، قَالَ: فعجبت لمقالته، فقلت لَهُ: مَا علمك بِذَلِكَ رحمك اللَّه؟ فَقَالَ لي: مَا أقول لك فاحفظه عني حَتَّى ترى مصداقه.
قَالَ: ثُمَّ طفق يسألني عن عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ، فقلت لَهُ: لجأ إِلَى البيت، فَقَالَ: إنما أنا عائذ برب هَذِهِ البنية، والناس يتحدثون أنه يبايع سرا، وَلا أراه إلا لو قَدِ اشتدت شوكته واستكثف من الرجال إلا سيظهر الخلاف، قَالَ: أجل، لا شك فِي ذَلِكَ، أما إنه رجل العرب الْيَوْم، أما إنه إن يخطط فِي أثري، ويسمع قولي أكفه أمر الناس، وإلا يفعل فو الله ما انا بدون احد من العرب، يا بن العرق، إن الْفِتْنَة قَدْ أرعدت وأبرقت، وكأن قَدِ انبعثت فوطئت فِي خطامها، فإذا رأيت ذَلِكَ وسمعت بِهِ بمكان قَدْ ظهرت فِيهِ فقل: إن المختار فِي عصائبه مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يطلب بدم المظلوم الشهيد المقتول بالطف، سيد المسلمين، وابن سيدها، الحسين ابن على، فو ربك لأقتلن بقتله عدة القتلى الَّتِي قتلت عَلَى دم يحيى بن زكرياء ع، قَالَ: فقلت لَهُ: سبحان اللَّه! وهذه أعجوبة مع الأحدوثة الأولى، فَقَالَ: هُوَ مَا أقول لك فاحفظه عني حَتَّى ترى مصداقه.
ثُمَّ حرك راحلته، فمضى ومضيت مَعَهُ ساعة أدعو اللَّه لَهُ بالسلامة، وحسن الصحابة قَالَ: ثُمَّ إنه وقف فأقسم علي لما انصرفت، فأخذت بيده! فودعته، وَسَلَّمَت عَلَيْهِ، وانصرفت عنه، فقلت فِي نفسي: هَذَا الَّذِي يذكر لي هَذَا الإنسان، – يعني المختار- مما يزعم أنه كائن، اشيء حدث به نفسه! فو الله مَا أطلع اللَّه عَلَى الغيب أحدا، وإنما هُوَ شَيْء يتمناه فيرى أنه كائن، فهو يوجب رايه، فهذا والله الرأي الشعاع، فو الله مَا كل مَا يرى الإنسان أنه كائن يكون، قال: فو الله مَا مت حَتَّى رأيت كل مَا قاله قال: فو الله لَئِنْ كَانَ ذَلِكَ من علم ألقى إِلَيْهِ لقد أثبت لَهُ، ولئن كَانَ ذَلِكَ رأيا رآه، وشيئا تمناه، لقد كَانَ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: فَحَدَّثَنِي الصَّقْعَبُ بْنُ زُهَيْرٍ، عن ابن العرق، قَالَ:
فحدثت بهذا الحديث الحجاج بن يُوسُفَ، فضحك ثُمَّ قَالَ لي: إنه كَانَ يقول أيضا:

ورافعه ذيلها *** وداعية ويلها
بدجلة أو حولها

فقلت لَهُ: أترى هَذَا شَيْئًا كَانَ يخترعه، وتخرصا يتخرصه، أم هُوَ من علم كَانَ أوتيه؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أدري مَا هَذَا الَّذِي تسألني عنه، ولكن لِلَّهِ دره! أي رجل دينا، ومسعر حرب، ومقارع أعداء كَانَ! قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي أَبُو سيف الأَنْصَارِيّ من بني الخزرج، عن عباس بن سَهْل بن سَعْدٍ، قَالَ: قدم المختار علينا مكة، فَجَاءَ الى عبد الله ابن الزُّبَيْرِ وأنا جالس عنده، فسلم عَلَيْهِ، فرد عَلَيْهِ ابن الزُّبَيْر، ورحب بِهِ، وأوسع لَهُ، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنِي عن حال الناس بالكوفة يَا أَبَا إِسْحَاق، قَالَ:
هم لسلطانهم فِي العلانية أولياء، وفي السر أعداء، فَقَالَ لَهُ ابن الزُّبَيْر: هَذِهِ صفة عبيد السوء، إذا رأوا أربابهم خدموهم وأطاعوهم، فإذا غابوا عَنْهُمْ شتموهم ولعنوهم، قَالَ: فجلس معنا ساعة، ثُمَّ إنه مال إِلَى ابن الزُّبَيْر كأنه يساره، فَقَالَ لَهُ: مَا تنتظر! ابسط يدك أبايعك، وأعطنا مَا يرضينا، وثب عَلَى الحجاز فإن أهل الحجاز كلهم معك وقام المختار فخرج، فلم ير حولا، ثُمَّ إني بينا أنا جالس مع ابن الزُّبَيْر إذ قَالَ لي ابن الزُّبَيْر: متى عهدك بالمختار بن أبي عبيد؟ فقلت لَهُ: مَا لي بِهِ عهد منذ رأيته عندك عاما أول، فَقَالَ: أين تراه ذهب! لو كان بمكة، لقد رئى بِهَا بعد، فقلت لَهُ:
إني انصرفت إِلَى الْمَدِينَة بعد إذ رأيته عندك بشهر أو شهرين، فلبثت بِالْمَدِينَةِ أشهرا، ثُمَّ إني قدمت عَلَيْك، فسمعت نفرا من أهل الطائف جاءوا معتمرين يزعمون أنه قدم عَلَيْهِم الطائف، وَهُوَ يزعم أنه صاحب الغضب، ومبير الجبارين، قَالَ: قاتله اللَّه! لقد انبعث كذابا متكهنا، إن اللَّه ان يهلك الجبارين يكن المختار احدهم فو الله مَا كَانَ إلا ريث فراغنا من منطقنا حَتَّى عن لنا فِي جانب المسجد، فَقَالَ ابن الزُّبَيْر: اذكر غائبا تره، أين تظنه يهوي؟ فقلت: أظنه يريد البيت، فأتى البيت فاستقبل الحجر، ثُمَّ طاف بالبيت أسبوعا، ثُمَّ صلى ركعتين عِنْدَ الحجر، ثُمَّ جلس، فما لبث أن مر بِهِ رجال من معارفه من أهل الطائف وغيرهم من أهل الحجاز، فجلسوا إِلَيْهِ، واستبطأ ابن الزُّبَيْر قيامه إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا ترى شأنه لا يأتينا! قلت: لا ادرى، وساعلم لك علمه، فقال: مَا شئت، وكأن ذَلِكَ أعجبه.
قَالَ: فقمت فمررت بِهِ كأني أريد الخروج من المسجد، ثُمَّ التفت إِلَيْهِ، فأقبلت نحوه ثُمَّ سلمت عَلَيْهِ، ثُمَّ جلست إِلَيْهِ، وأخذت بيده، فقلت له:
اين كنت؟ واين بلغت بعدي؟ أبا لطائف كنت؟ فَقَالَ لي: كنت بالطائف وغير الطائف، وعمس علي أمره، فملت إِلَيْهِ، فناجيته، فقلت لَهُ: مثلك يغيب عن مثل مَا قَدِ اجتمع عَلَيْهِ أهل الشرف وبيوتات العرب من قريش والأنصار وثقيف! لم يبق أهل بيت وَلا قبيلة إلا وَقَدْ جَاءَ زعيمهم وعميدهم فبايع هَذَا الرجل، فعجبا لك ولرأيك أَلا تكون أتيته فبايعته، وأخذت بحظك من هَذَا الأمر! فَقَالَ لي: وما رأيتني؟ أتيته العام الماضي، فأشرت عَلَيْهِ بالرأي، فطوى أمره دوني، وإني لما رأيته استغنى عني أحببت أن أريه أني مستغن عنه، إنه وَاللَّهِ لهو أحوج إلي مني إِلَيْهِ، فقلت لَهُ: إنك كلمته بِالَّذِي كلمته وَهُوَ ظاهر فِي المسجد، وهذا الكلام لا ينبغي أن يكون إلا والستور دونه مرخاة والأبواب دونه مغلقة، القه الليلة إن شئت وأنا معك، فَقَالَ لي: فانى فاعل إذا صلينا العتمة أتيناه، واتعدنا الحجر.
قَالَ: فنهضت من عنده، فخرجت ثُمَّ رجعت إِلَى ابن الزُّبَيْر، فأخبرته بِمَا كَانَ من قولي وقوله، فسر بِذَلِكَ، فلما صلينا العتمة، التقينا بالحجر، ثُمَّ خرجنا حَتَّى أتينا منزل ابن الزُّبَيْر، فاستأذنا عَلَيْهِ، فأذن لنا، فقلت:
أخليكما؟ فقالا جميعا: لا سر دونك، فجلست، فإذا ابن الزُّبَيْر قَدْ أخذ بيده، فصافحه ورحب بِهِ، فسأله عن حاله وأهل بيته، وسكتا جميعا غير طويل.
فَقَالَ لَهُ المختار وأنا أسمع بعد أن تبدأ فِي أول منطقه، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إنه لا خير فِي الإكثار من المنطق، وَلا فِي التقصير عن الحاجة، إني قَدْ جئتك لأبايعك على أَلا تقضي الأمور دوني، وعلى أن أكون فِي أول من تأذن لَهُ، وإذا ظهرت استعنت بي عَلَى أفضل عملك فَقَالَ لَهُ ابن الزُّبَيْر: أبايعك عَلَى كتاب اللَّه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: وشر غلماني أنت مبايعه عَلَى كتاب اللَّه وسنة نبيه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا لي فِي هَذَا الأمر من الحظ مَا ليس لأقصى الخلق مِنْكَ، لا وَاللَّهِ لا أبايعك أبدا إلا عَلَى هَذِهِ الخصال.
قَالَ عباس بن سهل: فالتقمت أذن ابن الزُّبَيْر، فقلت لَهُ: اشتر مِنْهُ دينه حَتَّى ترى من رأيك، فَقَالَ لَهُ ابن الزُّبَيْر: فإن لك مَا سألته، فبسط يده فبايعه، ومكث مَعَهُ حَتَّى شاهد الحصار الأول حين قدم الحصين بن نمير السكوني مكة، فقاتل فِي ذَلِكَ الْيَوْم، فكان من أحسن الناس يَوْمَئِذٍ بلاء، وأعظمهم غناء فلما قتل المنذر بن الزُّبَيْرِ والمسور بن مخرمة ومُصْعَب بن عبد الرحمن ابن عوف الزُّهْرِيّ، نادى المختار: يَا أهل الإِسْلام، الى الى! انا ابن ابى عبيد ابن مسعود، وأنا ابن الكرار لا الفرار، أنا ابن المقدمين غير المحجمين، إلي يَا أهل الحفاظ وحماة الأوتار فحمى الناس يَوْمَئِذٍ، وأبلى وقاتل قتالا حسنا ثُمَّ أقام مع ابن الزُّبَيْر فِي ذَلِكَ الحصار حَتَّى كَانَ يوم أحرق البيت، فإنه أحرق يوم السبت لثلاث مضين من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين، فقاتل المختار يومئذ في عصابه معه نحو من ثلاثمائة أحسن قتال قاتله أحد مِنَ النَّاسِ، إن كَانَ ليقاتل حَتَّى يتبلد، ثُمَّ يجلس ويحيط بِهِ أَصْحَابه، فإذا استراح نهض فقاتل، فما كَانَ يتوجه نحو طائفة من أهل الشام إلا ضاربهم حَتَّى يكشفهم.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي أَبُو يُوسُف مُحَمَّد بن ثابط، عن عباس بن سَهْل بن سَعْدٍ، قَالَ: تولى قتال أهل الشام يوم تحريق الكعبة عَبْد اللَّهِ بن مطيع وأنا والمختار، قَالَ: فما كَانَ فينا يَوْمَئِذٍ رجل أحسن بلاء من المختار.
قَالَ: وقاتل قبل أن يطلع أهل الشام عَلَى موت يَزِيد بن مُعَاوِيَة بيوم قتالا شديدا، وَذَلِكَ يوم الأحد لخمس عشرة ليلة مضت من ربيع الآخر سنة أربع وستين، وَكَانَ أهل الشام قَدْ رجوا أن يظفروا بنا، وأخذوا علينا سكك مكة.
قَالَ: وخرج ابن الزُّبَيْر، فبايعه رجال كثير عَلَى الموت، قَالَ:
فخرجت فِي عصابة معي أقاتل فِي جانب، والمختار فِي عصابة أخرى يقاتل فِي جميعة من أهل اليمامة فِي جانب، وهم خوارج، وانما قاتلوا ليدفعوا عن البيت، فهم فِي جانب، وعبد اللَّه بن المطيع فِي جانب.
قَالَ: فشد أهل الشام علي، فحازوني فِي أَصْحَابي حَتَّى اجتمعت أنا والمختار وأَصْحَابه فِي مكان واحد، فلم أكن أصنع شَيْئًا إلا صنع مثله، وَلا يصنع شَيْئًا إلا تكلفت أن أصنع مثله، فما رأيت أشد مِنْهُ قط، قَالَ: فإنا لنقاتل إذ شدت علينا رجال وخيل من خيل أهل الشام، فاضطروني وإياه فِي نحو من سبعين رجلا من أهل الصبر إِلَى جانب دار من دور أهل مكة، فقاتلهم المختار يومئذ، وأخذ يقول رجل لرجل:
لا وألت نفس امرئ يفر.
قَالَ: فخرج المختار، وخرجت مَعَهُ، فقلت: ليخرج مِنْكُمْ إلي رجل فخرج إلي رجل وإليه رجل آخر، فمشيت إِلَى صاحبي فأقتله، ومشى المختار إِلَى صاحبه فقتله، ثم صحنا باصحابنا، وشددنا عليهم، فو الله لضربناهم حَتَّى أخرجناهم من السكك كلها، ثُمَّ رجعنا إِلَى صاحبينا اللذين قتلنا قَالَ:
فإذا الَّذِي قتلت رجل أحمر شديد الحمرة كأنه رومي، وإذا الَّذِي قتل المختار رجل أسود شديد السواد، فَقَالَ لي المختار: تعلم وَاللَّهِ أني لأظن قتيلينا هَذَيْنِ عبدين، ولو أن هَذَيْنِ قتلانا لفجع بنا عشائرنا ومن يرجونا، وما هَذَانِ وكلبان من الكلاب عندي إلا سواء، وَلا أخرج بعد يومي هَذَا لرجل أبدا إلا لرجل أعرفه، فقلت لَهُ: وأنا وَاللَّهِ لا أخرج إلا لرجل أعرفه.
وأقام المختار مع ابن الزُّبَيْر حَتَّى هلك يَزِيد بن مُعَاوِيَة، وانقضى الحصار، ورجع أهل الشام إِلَى الشام، واصطلح أهل الْكُوفَة عَلَى عَامِر بن مسعود، بعد ما هلك يَزِيد يصلي بهم حَتَّى يجتمع الناس عَلَى إمام يرضونه، فلم يلبث عَامِر إلا شهرا حَتَّى بعث ببيعته وبيعة أهل الْكُوفَة إِلَى ابن الزُّبَيْر، وأقام المختار مع ابن الزُّبَيْر خمسة أشهر بعد مهلك يَزِيد وأياما.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل بن مساحق، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ، قَالَ: وَاللَّهِ إني لمع عَبْد اللَّهِ بن الزبير ومعه عبد الله ابن صفوان بن أُمَيَّة بن خلف، ونحن نطوف بالبيت، إذ نظر ابن الزُّبَيْر فإذا هُوَ بالمختار، فقال لابن صفوان: انظر اليه، فو الله لهو أحذر من ذئب قَدْ أطافت بِهِ السباع، قَالَ: فمضى ومضينا مَعَهُ، فلما قضينا طوافنا وصلينا الركعتين بعد الطواف لحقنا المختار، فَقَالَ لابن صفوان: مَا الَّذِي ذكرني بِهِ ابن الزُّبَيْر؟ قَالَ: فكتمه، وَقَالَ: لم يذكرك إلا بخير، قَالَ: بلى ورب هَذِهِ البنية إن كنت لمن شأنكما، أما وَاللَّهِ ليخطن فِي أثري أو لأقدنها عَلَيْهِ سعرا فأقام مَعَهُ خمسة أشهر، فلما رآه لا يستعمله جعل لا يقدم عَلَيْهِ أحد من الْكُوفَة إلا سأله عن حال الناس وهيئتهم.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي عطية بن الْحَارِث أَبُو روق الهمدانى، ان هانئ ابن أبي حية الوادعي قدم مكة يريد عمرة رمضان، فسأله المختار عن حاله وحال الناس بالكوفة وهيئتهم، فأخبره عَنْهُمْ بصلاح واتساق عَلَى طاعة ابن الزُّبَيْر، إلا أن طائفة مِنَ النَّاسِ إِلَيْهِم عدد أهل المصر لو كَانَ لَهُمْ رجل يجمعهم عَلَى رأيهم أكل بهم الأرض إِلَى يوم مَا، فَقَالَ لَهُ المختار: أنا أَبُو إِسْحَاق أنا وَاللَّهِ لَهُمْ! أنا أجمعهم عَلَى مر الحق، وأنفي بهم ركبان الباطل، وأقتل بهم كل جبار عنيد، فَقَالَ لَهُ هانئ بن أبي حية: ويحك يا بن أبي عبيد! إن استطعت أَلا توضع فِي الضلال ليكن صاحبهم غيرك، فإن صاحب الْفِتْنَة أقرب شَيْء أجلا، وأسوأ الناس عملا، فَقَالَ لَهُ المختار: إني لا أدعو إِلَى الْفِتْنَة إنما أدعو إِلَى الهدى والجماعة، ثُمَّ وثب فخرج وركب رواحله، فأقبل نحو الْكُوفَة حَتَّى إذا كَانَ بالقرعاء لقيه سلمة بن مرثد أخو بنت مرثد القابضي من همدان- وَكَانَ من أشجع العرب، وَكَانَ ناسكا- فلما التقيا تصافحا وتساءلا، فخبره المختار، ثُمَّ قَالَ لسلمة بن مرثد: حَدَّثَنِي عن الناس بالكوفة، قَالَ: هم كغنم ضل راعيها، فَقَالَ المختار بن أبي عبيد: أنا الَّذِي أحسن رعايتها، وأبلغ نهايتها، فَقَالَ لَهُ سلمة: اتق اللَّه واعلم أنك ميت ومبعوث، ومحاسب ومجزي بعملك إن خيرا فخير وإن شرا فشر، ثُمَّ افترقا وأقبل المختار حَتَّى انتهى إِلَى بحر الحيرة يوم الجمعة، فنزل فاغتسل فِيهِ، وادهن دهنا يسيرا، ولبس ثيابه واعتم، وتقلد سيفه، ثُمَّ ركب راحلته فمر بمسجد السكون وجبانة كندة، لا يمر بمجلس إلا سلم عَلَى أهله، وَقَالَ: أبشروا بالنصر والفلج، أتاكم مَا تحبون، وأقبل حَتَّى مر بمسجد بني ذهل وبني حجر، فلم يجد ثَمَّ أحدا، ووجد الناس قَدْ راحوا إِلَى الجمعة، فأقبل حَتَّى مر ببني بداء، فوجد عبيدة بن عَمْرو البدى من كنده، فسلم عليه، ثُمَّ قَالَ: أبشر بالنصر واليسر والفلج، إنك أبا عَمْرو عَلَى رأي حسن، لن يدع اللَّه لك مَعَهُ مأثما إلا غفره، وَلا ذنبا إلا ستره- قَالَ: وَكَانَ عبيدة من أشجع الناس وأشعرهم، وأشدهم حبا لعلي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ لا يصبر عن الشراب- فلما قَالَ لَهُ المختار هَذَا القول قَالَ لَهُ عبيدة: بشرك اللَّه بخير إنك قَدْ بشرتنا، فهل أنت مفسر لنا؟ قَالَ: نعم، فالقني فِي الرحل الليلة ثُمَّ مضى.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي فضيل بن خديج، عن عبيدة بن عَمْرو قَالَ: قَالَ لي المختار هَذِهِ المقالة، ثُمَّ قَالَ لي: القني فِي الرحل، وبلغ أهل مسجدكم هَذَا عنى أَنَّهُمْ قوم أخذ اللَّه ميثاقهم عَلَى طاعته، يقتلون المحلين، ويطلبون بدماء أولاد النبيين، ويهديهم للنور المبين، ثُمَّ مضى فَقَالَ لي:
كيف الطريق إِلَى بني هند؟ فقلت لَهُ: أنظرني أدلك، فدعوت بفرسي وَقَدْ أسرج لي فركبته، قَالَ: ومضيت مَعَهُ إِلَى بني هند، فَقَالَ: دلتنى عَلَى منزل إِسْمَاعِيل بن كثير قَالَ: فمضيت بِهِ إِلَى منزله، فاستخرجته، فحياه ورحب بِهِ، وصافحه وبشره، وَقَالَ لَهُ: القني أنت وأخوك الليلة وأبو عَمْرو فإني قَدْ أتيتكم بكل مَا تحبون، قَالَ: ثُمَّ مضى ومضينا مَعَهُ حَتَّى مر بمسجد جهينة الباطنة، ثُمَّ مضى إِلَى باب الفيل، فأناخ راحلته، ثُمَّ دخل المسجد واستشرف لَهُ الناس، وَقَالُوا: هَذَا المختار قَدْ قدم، فقام المختار إِلَى جنب سارية من سواري المسجد، فصلى عندها حَتَّى أقيمت الصَّلاة، فصلى مع الناس ثُمَّ ركد إِلَى سارية أخرى فصلى مَا بين الجمعة والعصر، فلما صلى العصر مع الناس انصرف.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي الْمُجَالِد بن سَعِيدٍ، عن عَامِر الشَّعْبِيّ، أن المختار مر عَلَى حلقة همدان وعليه ثياب السفر، فَقَالَ: أبشروا، فإني قَدْ قدمت عَلَيْكُمْ بِمَا يسركم، ومضى حَتَّى نزل داره، وَهِيَ الدار الَّتِي تدعى دار سلم ابن المسيب، وكانت الشيعة تختلف إِلَيْهَا وإليه فِيهَا.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي فضيل بن خديج، عن عبيد بْنِ عَمْرو، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ كَثِيرٍ مِنْ بَنِي هند، قَالا: أتيناه من الليل كما وعدنا، فلما دخلنا عَلَيْهِ وجلسنا ساءلنا عن أمر الناس وعن حال الشيعة، فقلنا لَهُ: إن الشيعة قَدِ اجتمعت لسُلَيْمَان بن صرد الخزاعي، وإنه لن يلبث إلا يسيرا حَتَّى يخرج، قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وصلى عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: أَمَّا بَعْدُ، فإن المهدي ابن الوصي، مُحَمَّد بن علي، بعثني إليكم أمينا ووزيرا ومنتخبا وأميرا، وأمرني بقتال الملحدين، والطلب بدماء أهل بيته والدفع عن الضعفاء.
قَالَ أَبُو مخنف: قَالَ فضيل بن خديج: فَحَدَّثَنِي عبيدة بن عَمْرو وإسماعيل بن كثير، أنهما كانا أول خلق اللَّه إجابة وضربا عَلَى يده، وبايعاه.
قَالَ: وأقبل المختار يبعث إِلَى الشيعة وَقَدِ اجتمعت عِنْدَ سُلَيْمَان بن صرد، فيقول لَهُمْ: إني قَدْ جئتكم من قبل ولي الأمر، ومعدن الفضل، ووصي الوصي والإمام المهدي، بأمر فِيهِ الشفاء، وكشف الغطاء، وقتل الأعداء، وتمام النعماء، أن سُلَيْمَان بن صرد يرحمنا اللَّه وإياه إنما هُوَ عشمة من العشم وحفش بال، ليس بذي تجربة للأمور، وَلا لَهُ علم بالحروب، إنما يريد أن يخرجكم فيقتل نفسه ويقتلكم إني إنما أعمل عَلَى مثال قَدْ مثل لي، وأمر قَدْ بين لي، فِيهِ عز وليكم، وقتل عدوكم، وشفاء صدوركم، فاسمعوا مني قولي، وأطيعوا أمري، ثُمَّ أبشروا وتباشروا، فإني لكم بكل مَا تأملون خير زعيم.
قال: فو الله مَا زال بهذا القول ونحوه حَتَّى استمال طائفة من الشيعة، وكانوا يختلفون إِلَيْهِ ويعظمونه، وينظرون أمره، وعظم الشيعة يَوْمَئِذٍ ورؤساؤهم مع سُلَيْمَان بن صرد، وَهُوَ شيخ الشيعة وأسنهم، فليس يعدلون بِهِ أحدا، إلا أن المختار قَدِ استمال مِنْهُمْ طائفة ليسوا بالكثير، فسُلَيْمَان بن صرد أثقل خلق اللَّه عَلَى المختار، وَقَدِ اجتمع لابن صرد يَوْمَئِذٍ أمره، وَهُوَ يريد الخروج والمختار لا يريد أن يتحرك، وَلا أن يهيج أمرا حَتَّى ينظر إِلَى مَا يصير إِلَيْهِ أمر سُلَيْمَان، رجاء أن يستجمع لَهُ أمر الشيعة، فيكون أقوى لَهُ عَلَى درك مَا يطلب، فلما خرج سُلَيْمَان بن صرد ومضى نحو الجزيرة قَالَ عُمَر بن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاص وشبث بن ربعي ويزيد بن الْحَارِث بن رويم لعبد الله ابن يَزِيدَ الخطمي وإبراهيم بن مُحَمَّد بْنِ طَلْحَة بن عُبَيْد اللَّهِ: إن المختار أشد عَلَيْكُمْ من سُلَيْمَان بن صرد، إن سُلَيْمَان إنما خرج يقاتل عدوكم، ويذللهم لكم، وَقَدْ خرج عن بلادكم، وإن المختار إنما يريد أن يثب عَلَيْكُمْ فِي مصركم، فسيروا إِلَيْهِ فأوثقوه فِي الحديد، وخلدوه فِي السجن حَتَّى يستقيم أمر الناس، فخرجوا إِلَيْهِ فِي الناس، فما شعر بشيء حَتَّى أحاطوا بِهِ وبداره فاستخرجوه، فلما رَأَى جماعتهم قَالَ: مَا بالكم! فو الله بعد مَا ظفرت أكفكم! قَالَ:
فَقَالَ إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بْنِ طَلْحَة بن عُبَيْد اللَّهِ لعبد اللَّه بن يَزِيدَ: شده كتافا، ومشه حافيا، فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ: سبحان اللَّه! مَا كنت لأمشيه وَلا لأحفيه وَلا كنت لأفعل هَذَا برجل لم يظهر لنا عداوة وَلا حربا، وإنما أخذناه عَلَى الظن فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد: ليس بعشك فادرجي، مَا أنت وما يبلغنا عنك يا بن أبي عبيد! فَقَالَ لَهُ: مَا الَّذِي بلغك عني إلا باطل، وأعوذ بِاللَّهِ من غش كغش ابيك وجدك! قال: قال فضيل: فو الله إني لأنظر إِلَيْهِ حين أخرج وأسمع هَذَا القول حين قَالَ لَهُ، غير أني لا أدري أسمعه مِنْهُ إِبْرَاهِيم أم لم يسمعه، فسكت حين تكلم بِهِ، قَالَ: وأتى المختار ببغلة دهماء يركبها، فَقَالَ إِبْرَاهِيم لعبد اللَّه بن يَزِيدَ: أَلا تشد عَلَيْهِ القيود؟ فَقَالَ: كفى لَهُ بالسجن قيدا.
قَالَ أَبُو مخنف: وأما يَحْيَى بن أبي عِيسَى فَحَدَّثَنِي أنه قَالَ: دخلت إِلَيْهِ مع حميد بن مسلم الأَزْدِيّ نزوره ونتعاهده، فرأيته مقيدا، قَالَ: فسمعته يقول: أما ورب البحار، والنخيل والأشجار، والمهامه والقفار، والملائكة الأبرار، والمصطفين الأخيار، لأقتلن كل جبار، بكل لدن خطار، ومهند بتار، فِي جموع من الأنصار، ليسوا بميل أغمار، وَلا بعزل أشرار، حَتَّى إذا أقمت عمود الدين، ورأبت شعب صدع الْمُسْلِمِينَ، وشفيت غليل صدور الْمُؤْمِنِينَ، وأدركت بثأر النبيين، ولم يكبر علي زوال الدُّنْيَا ولم أحفل بالموت إذا أتى.
قَالَ: فكان إذا أتيناه وَهُوَ فِي السجن ردد علينا هَذَا القول حَتَّى خرج مِنْهُ، قَالَ: وَكَانَ يتشجع لأَصْحَابه بعد ما خرج ابن صرد.

ذكر الخبر عن هدم ابن الزبير الكعبه
قَالَ أَبُو جَعْفَر: وفي هَذِهِ السنة هدم ابن الزُّبَيْر الكعبة، وكانت قَدْ مال حيطانها مما رميت بِهِ من حجارة المجانيق، فذكر مُحَمَّد بن عُمَرَ الْوَاقِدِيّ أن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى حدثه عَنْ عِكْرِمَةَ بن خَالِدٍ، قَالَ: هدم ابن الزُّبَيْر البيت حَتَّى سواه بالأرض، وحفر أساسه وأدخل الحجر فِيهِ، وَكَانَ الناس يطوفون من وراء الأساس، ويصلون إِلَى موضعه، وجعل الركن الأسود عنده فِي تابوت فِي سرقة من حرير، وجعل مَا كَانَ من حلي البيت وما وجد فِيهِ من ثياب أو طيب عِنْدَ الحجبة فِي خزانة البيت، حَتَّى أعادها لما أعاد بناءه.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عمر: وَحَدَّثَنِي معقل بن عَبْدِ اللَّهِ، عن عطاء، قَالَ: رأيت ابن الزُّبَيْر هدم البيت كله حَتَّى وضعه بالأرض.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ.
وَكَانَ عامله عَلَى الْمَدِينَة فِيهَا أخوه عبيدة بن الزبير، وعلى الكوفه عبد الله ابن يَزِيدَ الخطمي، وعلى قضائها سَعِيد بن نمران.
وأبى شريح أن يقضي فِيهَا، وَقَالَ فِيمَا ذكر عنه: أنا لا أقضي فِي الْفِتْنَة.
وعلى الْبَصْرَة عُمَر بن عُبَيْد اللَّهِ بن معمر التيمي، وعلى قضائها هِشَام بن هبيرة، وعلى خراسان عبد الله ابن خازم.