8 جمادي الأول 8 هـ
2 أيلول 629 م
سرية مؤتة

سبب الغزوة …

وهي – أي غزوة مؤتة – بأدنى البلقاء من أرض الشام، في جمادى الأولى سنة ثمانٍ، وكان سببها أن رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم بعث الحارث بن عمير الأزدي أحد بني لهب بكتابه إلى الشام إلى ملك الروم وقيل: إلى ملك بصُرى، فعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني، فأوثقه رباطًا، ثم قدَّمه فضرب عنقه صَبْرًا ، ولم يقُْتلَ لرسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم رسولٌ غيره، فاشتد ذلك عليه حين بلغه الخبر عنه.

أمراء الغزوة

عن عروة بن الزبير، قال: “بعث رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم بعثه إلى مؤتة في جمادى الأولى من سنة ثمانٍ، وأَمّرَ عليهم زيد بن حارثة ، وقال: إن أصيب زيد، ف جعفر بن أبي طالب على الناس، وإن أصيب جعفر، ف عبد اللّٰه بن رواحة على الناس“.

توديع الرسول للجيش

فتجهز الناس ثم تهيئوا للخروج وهم ثلاثة آلاف، فلما حضر خروجهم وَدَّع الناس أمراء رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم وسلموا عليهم.

بكاء ابن رواحة

فلما ودع عبد اللّٰه بن رواحة بكى، فقالوا: ما يبكيك؟ فقال: أما واللّٰه ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم، ولكني سمعت رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم يقرأ آية من كتاب اللّٰه يذكر فيها النار: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً} [مريم: 71] فلست أدري كيف لي بالصَّدَر بعد الورود ؟ فقال المسلمون: صحبكم اللّٰه ودفع عنكم وَرَدَّكم إلينا صالحين.

شعر لابن رواحة

فقال عبد اللّٰه بن رواحة:
لكني أسأل الرحمن مغفرة … وضربة ذات فرَْغ تقذف الزَّبدَا
أو طعنة بيديْ حَرّان مُجهزة … بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقال إذا مروا على جدثي … أرشده اللّٰه من غازٍ وقد رَشَدا

مكان نزول الجيش

ثم مضوا حتى نزلوا معان من أرض الشام.

مكان نزول هرقل

فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء.

عدد جيش الروم

في مائة ألف من الروم، وانضم إليهم من لخم وجُذام والقَينْ وبهراء وبلَِيٍّ مائة ألف منهم، عليهم رجلٌ من بلَيٍّ، يقال له: ملك بن رافلة.

تقدير الموقف

فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين ينظرون في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له.

حثُّ المسلمين على القتال

قال: فشجع الناس عبد اللّٰه بن رواحة، وقال: يا قوم، واللّٰه إن الذي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس، بعدد ولا قوة ولا كثرة، وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا اللّٰه به، فانطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهورٌ وإما شهادة.
وعن زيد بن أرقم، قال: كنت يتيمًا لعبد اللّٰه بن رواحة، فخرج في سفره ذلك مُردفي على حقيبة رحله، فوالله إنه ليسير ليلة إذا سمعته وهو ينشد، ويقول:
إذا  أدنيتني وحملتِ رحْلي … مسيرة أربعٍ بعد الحساء
فشأنكُِ فانعمي وخَلاكِ ذَمٌّ … ولا أرجع إلى أهلي ورائي
وجاء المسلمون وغادروني … بأرض الشام مُنتهيَ الَثّواء 

في أبيات. فلما سمعتهن بكيت، فخفقني بالدِّرة وقال: ما عليك يا لكع، أن يرزقني اللّٰه شهادة وترجع بين شعبتي الرحل، قال: ثم قال عبد اللّٰه بن رواحة في سفره ذلك وهو يرتجز:
يا زيدُ  زِيدَ اليعَْمَلات الذُّبل … تطاول الليل هُديتَ فانزل

التقاء الجيشين

ثم مضى الناس، حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء، لقيتهم جموعُ هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها مَشَارف ، ثم دنا العدو.

انحياز الجيش إلى مؤتة

وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة، فالتقى الناس عندها، فتعبأ لهم المسلمون.

خطة الجيش

فجعلوا على ميمنتهم رجلاً من بني عذرة، يقال له: قطبة بن قتادة، وعلى ميسرتهم رجل من الأنصار يقال له: عَبابة بن مالك، ويقال: عُبادة.

المعركة

ثم التقى الناس فاقتتلوا، فقاتل زيد بن حارثة براية رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم حتى شاط في رماح القوم، ثم أخذها جعفر فقاتل بها، حتى إذا ألحمه القتال اقتحم عن فرس له شقراء، فعقرها، ثم قاتل القوم حتى قتل، فكان جعفر أول من عرقب فرسًا في سبيل اللّٰه وقاتل.

صلابة جعفر رضي اللّٰه عنه

وروي أنه أخذ اللواء بيمينه فقاتل به حتى قطعت يمينه، فأخذ الراية بيساره فقطعت يساره، فاحتضن الراية وقاتل حتى قتل رحمه اللّٰه وسنه ثلاث وثلاثون أو أربع وثلاثون سنة.

الراية بيد ابن رواحة

ثم أخذها عبد اللّٰه بن رواحة وتقدم بها وهو على فرسه فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد، ثم نزل، فلما نزل أتاه ابن عم له بعرق من لحم فقال: شد بها صلبك، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من ده، فانتهس منه نهسة، ثم سمع الحطَْمة في ناحية الناس، فقال: وأنت في الدنيا، ثم ألقاه من يده، ثم أخذ سيفه فتقدم فقاتل حتى قتل.

الراية بيد خالد بن الوليد

ثم أخذ الراية ثابت بن أقرم أخو بني العجلان، فقال: يا قوم، اصطلحوا على رجل منكم، فقالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد ، فلما أخذ الراية دافع القومَ، وخاشى بهم ، ثم انحاز وانحيز عنه، حتى انصرف بالناس.

تحقيق القول في الهزيمة

وقد حكى ابن سعد وغيره: أن الهزيمة كانت على المسلمين، وحكى أيضًا أن الهزيمة كانت على الروم. وكذا في صحيح البخاري. والمختار من ذلك ما ذكره ابن إسحاق من انحياز كل فئة عن الأخرى من غير هزيمة، وقد وقع ذلك في شعر لقيس بن المسحَّر اليعمري كذلك.

إخبار الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم بالأحداث

وأطلع اللّٰه رسوله صلى اللّٰه عليه وسلم على ذلك من يومه، فأخبر به عليه السلام أصحابه رضي اللّٰه عنهم بالمدينة قبل ورود الخبر بأيام. وقال: “لقد رُفعوا لي في الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب، فرأيت في سرير عبد اللّٰه بن رواحة ازورارًا عن سريرَيْ صاحبيه، فقلت: عمَّ هذا؟ فقيل لي: مضيا، وتردد عبد اللّٰه بعض التردد ثم مضى“.

خاتمة الشهداء

وعن ابن المسيب، قال: قال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم: “مُثِّلَ لي جعفر وزيد وابن رواحة في خيمة من دُرٍّ، كل واحد منهم على سريره، فرأيت زيدًا وابن رواحة في أعناقهما صدود، ورأيت جعفرًا مستقيمًا ليس فيه صدود، قال: فسألت – أو: قيل لي- إنهما حين غشيهما الموت أعرَضا، أو كأنهما صَدَّا بوجوههما، وأما جعفر فإنه لم يفعل“.

جعفر ذو الجناحين

وقال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم في جعفر: “إن اللّٰه أبدله بيديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء“.
قال أبو عمر: وروينا عن ابن عمر، أنه قال: وجدنا ما بين صدر جعفر ومَنكبيْه وما أقبلَ منه تسعين جراحة، ما بين ضربة بالسيف وطعنة بالرمح. وقد روي: أربع وخمسون، والأول أثبت.

وفود يعلى بن منية بالخبر

وقال موسى بن عقبة: “قدم يعَلى بن مَنْيةَ على رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم بخبر أهل مؤتة، فقال له رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم: إن شئتَ فأخبرني، وإن شئتَ أخبرتك. قال: فأخبرني يا رسول اللّٰه. فأخبره صلى اللّٰه عليه وسلم خبرَهم كله، ووصفه له. فقال: والذي بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفاً واحدًا لم تذكره، وإن أمرهم لكما ذكرت. فقال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم: إن اللّٰه رفعَ لي الأرض حتى رأيتُ معتركهم“.

شهداء يوم مُؤتة

ذكر ابن إسحاق، منهم: من بني هاشم: جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة. ومن بني عدي بن كعب: مسعود بن الأوس بن حارثة بن نضلة . ومن بني مالك بن حِسل: وهب بن سعد بن أبي سرح . ومن الأنصار: من بني الحارث بن الخزرج: عبد اللّٰه بن رواحة، و عباد بن قيس . ومن بني غنم بن مالك بن النجار: الحارث بن النعمان بن أساف بن نضلة بن عبد بن عوف بن غنم . ومن بني مازن بن النجار: سرُاقة بن عمرو بن عطية بن خنساء . وزاد ابن هشام، عن الزهري فيهم: أبا كليب و جابرًا ابني عمرو بن زيد بن عوف بن مبذول، وهما لأب وأم. وفي بني مالك بن أفصى: عمرًا و عامرًا ابني سعد بن الحارث بن عباد بن سعد بن الحارث بن عباد بن سعد بن عامر بن ثعلة بن مالك بن أفصى.
قال: وقد أحسن كل الإحسان، كأنه يقول: لست أحتاج أن أرحل إلى غيره، قال: وقد عاب بعض الرواة قوله: (فاشرقي بدم الوتين) قال: وكان ينبغي أن ينظر لها بعد استغنائه عنها، وذكر قصة الأنصارية التي نجت على الناقة وقالت: “إني نذرت إن نجوت عليها أن أنحرها، فقال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم « بئس ما جزيتيها »“. الحديث قلت: وقد سلم بيت ابن رواحة من هذا. : وخَلاكِ ذَمٌّ: أي أعذرت وسقط عنك الذم. انظر: النهاية: 2 /76.