ربيع الأول 11 هـ
حزيران 632 م
ذِكرُ وفاتِه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]

ابْتَدَأَ بِهِ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] مرضُه الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَهُوَ وجَعُ الرَّأْس، فِي بَيت مَيْمُونة أُمِّ الْمُؤمنِينَ، …

وَقيل: فِي بَيت زَينب بنت جَحْش، وَقيل: فِي بَيت رَيْحانة، وَهُوَ ضعيفٌ لِأَن الصَّحِيح أنّ رَيْحَانَة مَاتَت فِي حَيَاته [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] كَمَا قدّمنا.
ويروى أنّ النبيَّ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] خرج يَوْم الْخَمِيس وَقد شدّ رأسَه بعصابةٍ دَسْماء، وَكَانَ قد لبسَ عِمَامَة دسماء، فرقي المنبرَ فجلسَ عَلَيْهِ، ثمَّ دَعَا بِلَالًا فَأمره أنْ يُنَادي فِي النَّاس: أَن اجْتَمعُوا لوصيِّة رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَإِنَّهَا آخر وصيّته لكم. فَنَادَى بلالٌ فَاجْتمعُوا، صَغِيرهمْ وَكَبِيرهمْ، وَتركُوا أَبواب بيوِتهم مُفتَّحةً، وأسواقَهم على حَالهَا، حَتَّى خرج العَذارى من الْبيُوت ليسمعوا وصيّة رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] حَتَّى غصَّ الْمَسْجِد بأَهْله، والنبيّ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يَقُول: أَوسعوا لِمن وراءَكم. ثمَّ قَامَ فخطبهم خطْبَة بليغةً طَوِيلَة، ذرفت مِنْهَا الْعُيُون، ووجلت مِنْهَا الْقُلُوب. ثمَّ اسْتَأْذن نِسَاءَهُ فِي أنْ يُمرَّضَ فِي بَيت عَائِشَة، فأَذِنَّ لَهُ فِي ذَلِك، فَدخل على عَائِشَة، وَهِي تَقول: وارأساه. فَقَالَ: «لَو كَانَ ذَلِك وَأَنا حيٌّ فأستغفر لَك وأدعو لكِ، وأُكفّنكِ وأَدفنكِ». فَقَالَت واثَكَلاه. وَالله إنّكَ لَتحبّ موتِي، وَلَو كَانَ ذَلِك لظَللْتَ يومَك مُعرِّساً بِبَعْض نِسَائِك. فَقَالَ النبيُّ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : «بل أَنا وارأساه، لقد هممتُ أَو أردْت أنْ أُرسِل إِلَى أبيكِ وَإِلَى أخيكِ فأمضي أَمْرِي وأعهَدُ عهدي، فَلَا يطْمع فِي الْأَمر طامعٌ، وَلَا يَقُول الْقَائِلُونَ أَوْ يَتَمنَّى المتمنّون».
ثمّ قَالَ: « كَلَّا يَأْبَى الله، وَيدْفَع الْمُؤْمِنُونَ إلاّ أَبَا بكر» وصلّى النبيُّ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَرَاء أبي بكر فِي الصَّفَّ صَلَاة تامَّةً، قَالَه ابْن حزم. وصلّى أَبُو بكر بِالنَّاسِ تِلْكَ الأيامَ، بِعَهْد رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِلَيْهِ فِي ذَلِك، وخرجَ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي بعض تِلْكَ الْأَيَّام وَهُوَ مُتوكِّئٌ على عليٍّ والعبَّاس، وَقد أَخذ أَبُو بكر فِي الصَّلَاة بِالنَّاسِ  فَقعدَ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] عَن يَسار أبي بكرٍ، وَأَبُو بكرٍ فِي مَوضِع الإِمام، وَصَارَ أَبُو بكر وَاقِفًا عَن يَمينه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي مَوضِع الْمَأْمُوم يُسمِعُ الناسَ تكبيرَ رسولِ الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فصلَّى النبيُّ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بِالنَّاسِ، يَؤُمُّهم قَاعِدا وهُمْ خَلْفَه قيامٌ، وَهِي آخر صلاةٍ صلّاها رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بِالنَّاسِ.
واشتدّ بِهِ وجَعُهُ، وَقَالَ: «إِنِّي أوعَكُ كَمَا يوعَكُ رجلَانِ مِنْكُم» وَذَلِكَ لعَظيم أجره [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . ولمّا حَضرته الْوَفَاة كَانَ عِنْده قَدَحٌ فِيهِ مَاء، فَجعل يُدْخل يدَه المكرَّمةَ فِيهِ ويمسحُ وَجهه وَيَقُول: «اللهمَّ أَعِنِّي على سَكَرات الْمَوْت».
وَقَالَت أُمُّ سَلَمة – رَضِي الله عَنْهَا -: عامُّةُ وصيّة رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] عِنْد الْمَوْت: الصلاةَ وَمَا مَلكت أَيْمانُكم، وخيّره اللهُ فَاخْتَارَ لقاءَه. وَقَالَ: «اللهمَّ الرفيقَ الأَعلى». وقُبضَ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] مُستنداً إِلَى صدر عَائِشَة – رَضِي الله عَنْهَا – وَهُوَ ابْن ثلاثٍ وَسِتِّينَ سنة على الصَّحِيح. وَقيل: خمسٍ وَسِتِّينَ. وَقيل: سِتِّينَ. وَقيل غير ذَلِك.
فعظُم الخطْبُ، ودُهش جماعةٌ من الصَّحَابَة، وَلم يكن فيهم أثبتُ من العبّاس وَأبي بكر. وخطب أَبُو بكر الناسَ، وتلا عَلَيْهِم قَوْله تَعَالَى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزمر: 31] فثابَتْ عُقُولهمْ. وسُجِّيَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بِبُرْدِ حِبَرةٍ وَقيل: إنَّ الْمَلَائِكَة سَجَّته.
وَجَاءَت التعزِيَة، يَسمعون الصوتَ وَلَا يرونَ الشخْص السلامُ عَلَيْكُم أَهلَ الْبَيْت ورحمةُ الله وَبَرَكَاته، {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ} [آل عمران: 185] إنَّ فِي اللهِ عَزَاءً عَن كلِّ مُصيبةٍ، وخَلَفاً من كلِّ هالكٍ ودَرَكاً مِن كلِّ مَا فَاتَ، فبالله فَثِقُوا، وإيّاه فارْجُوا، فإنّ المُصابَ مَنْ حُرِم الثوابَ. والسلامُ عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته. وَكَانُوا يَرونَ أنَّ هَذِه التَعزية من الخَضِر عَلَيْهِ السَّلَام.
ويروى أَنه سمِعَ الناسُ من بَاب الحُجرة حِين ذكرُوا غُسلَه: لَا تَغسلوه فَإِنَّهُ طاهرٌ مُطهَّرٌ. ثمَّ سمعُوا صَوتا بعده: اغسلوه فإنّ ذَلِك إِبْلِيس، وَأَنا الخَضِر. وَاخْتلفُوا فِي غُسله. هَل يكون وَهُوَ نائمٌ فِي ثِيَابه، أَو مُجرَّدٌ عَنْهَا. فَألْقى الله تَعَالَى عَلَيْهِم النومَ. فَقَالَ قَائِل لَا يعْرفُونَ مَنْ هُوَ: اغسلوه فِي ثِيَابه فَفَعَلُوا ذَلِك. وغُسِل فِي قَمِيصه الَّذِي مَاتَ فِيهِ من بئرٍ يُقال لَهَا: الغَرْس. بوصيّةٍ مِنْهُ. وَكَانَت هَذِه البِئر لِسعْد بن خَيْثمة بقُبَاء. وَكَانَ النبيُّ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يشربُ مِنْهَا. ووَلِيَ غَسله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] عليٌّ. وَكَانَت على يَده خِرْقة يُغسّلُه بهَا من تَحت الْقَمِيص.
وَكَانَ العبّاس وابناه الْفضل وقُثَم يقلّبونه مَعَ عليٍّ. وَكَانَ أسامةُ وشُقْران موليَاهُ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يصبّان المَاء. وَقيل: كَانَ الفضلُ يصبُّ الماءَ. وحَضرهم أَوْس بن خَوْليّ الْأنْصَارِيّ لم يلِ شَيْئا. وَقيل: كَانَ يحملُ المَاء. وَقيل: كَانَ العبّاسُ بِالْبَابِ لم يحضر غُسْلَه. وَالْمَشْهُور أَنه كَانَ حَاضرا. وكُفِّنَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي ثَلَاثَة أثوابٍ بيضٍ سَحُولِيّة، لَيْسَ فِيهَا قميصٌ، وَلَا عِمامة. أُدْرِج فِيهَا إدْرَاجاً. وَقيل: نُزع قميصُه الَّذِي غُسِل فِيهِ. وَقيل: لم يُنزَع. وَقيل: كَانَ فِي حَنوطِه المِسْكُ.
وصلّى عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ أفذاذاً لم يَؤُمّهم أَحدٌ. وَقد روى الْبَزَّار وَالْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك بإسنادٍ ضَعِيف: أنَّ النبيَّ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أوصى بذلك. فأوّل مَنْ صلّى عَلَيْهِ العبّاس، ثمَّ بَنو هَاشم، ثمَّ الْمُهَاجِرُونَ، ثمَّ الْأَنْصَار، ثمَّ سائرُ النَّاس. وَدخل الصّبيان ثمَّ النِّسَاء. وَقيل: إِنَّهُم اخْتلفُوا فِي مَكَان الدّفن  فَقيل: فِي مُصلاّه، وَقيل: بالبَقِيع. فَقَالَ أَبُو بكر – رَضِي الله عَنهُ -: سَمِعتُ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يَقُول: مَا دُفن نبيٌّ قطُّ إلاّ فِي الْمَكَان الَّذِي تُوفي فِيهِ. وَاخْتلفُوا أيُلْحَد لَهُ أم يُضرَح. وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ حَفَّاران أَحدهما يَلْحدُ، وَهُوَ أَبُو طَلْحَة الأنصاريّ، وَالْآخر يَضْرح وَهُوَ أَبو عُبيدة بن الجرّاح، فاتفقوا على أنّ مَنْ جَاءَ مِنْهُمَا أَولا عمل عَملَه. فجَاء أَبُو طَلْحَة أَولا فحفرَ لَهُ قبراً، ولُحِد فِي جَانِبه، ودُفن [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي الْموضع الَّذِي توفّاه الله فِيهِ تَحت فراشِه، فِي بَيت عَائِشَة – رَضِي الله عَنْهَا – وفُرش تَحْتَهُ فِي الْقَبْر قَطيفةٌ لَهُ حَمراءُ، كَانَ يفترشها. وَدخل قبرَه العبّاسُ وعليٌ والفضلُ وقُثَمُ، ابْنا العبّاس، وشُقْران مَوْلَاهُ، وَيُقَال: كَانَ أُسامةُ وَأَوْس بن خَوليّ مَعَهم.
وَيُقَال: إنَّ المُغيرة بن شُعْبَة نزل قَبره، وَلَا يصحّ. قَالَه الْحَاكِم أَبُو أَحْمد. وأُطبق على لَحده تسع لبنات، ثمَّ هِيل عَلَيْهِ الترابُ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ثمَّ دُفن بعده بِالْبَيْتِ أَبُو بكر ثمَّ عمر – رَضِي الله عَنْهُمَا -. واختَلفوا فِي مدّة مَرضه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وتأريخ وَفَاته وَدَفنه. فَقيل: اشْتَكَى يَوْم الْأَرْبَعَاء لإِحدى عشرَة لَيْلَة بقيت من صَفَر سنة إِحْدَى عشرَة من الهِجرة، فاشتكى ثلاثَ عشرةَ لَيْلَة. وَقيل: اثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة.
وَتُوفِّي يَوْم الإِثنين لِليلتين مَضَتا من شهر ربيعٍ الأول. وَقيل: اشْتَكَى يَوْم السبت لاثْنَتَيْنِ وَعشْرين خَلونَ من صَفَر، وَتُوفِّي يَوْم الِاثْنَيْنِ لِاثْنَتَيْ عشرَة مَضَت من ربيعٍ الأول. وَلَا يصحُّ أَنه اشْتَكَى يَوْم الْأَرْبَعَاء لِليلة بقيت من صَفَر، لِأَن ذَلِك يَقْتَضِي أَن مُستهل صَفَر يَوْم الْأَرْبَعَاء، وَذَلِكَ لَا يُتصوَّر، لِأَن أول ذِي الحجّة كَانَ يَوْم الْخَمِيس. وَقيل: توفِّي يَوْم الِاثْنَيْنِ لثمانٍ خلت من ربيع الأول. وَهُوَ الرَّاجِح عِنْد ابْن حزم وَجَمَاعَة. وَقيل: توفّي يَوْم الِاثْنَيْنِ مُستَهَل ربيعٍ الأول. وَالرَّاجِح عِنْد الْجُمْهُور أَنه تُوفي يَوْم الِاثْنَيْنِ لِاثْنَتَيْ عشرَة مَضَت من ربيعٍ الأول. وَلَا يصحّ كَمَا قَالَ السُّهيليُ ثمَّ أَبُو الرّبيع بن سَالم لأنَّ وقفته [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بعرفةَ فِي حجّة الوَدَاع كَانَت يَوْم الْجُمُعَة، وَلَا يُتصوَّر مَعَ ذَلِك أَنْ يكون الِاثْنَيْنِ، الثَّانِي عشر من شهرِ ربيعٍ الأول.
وَالْمَنْقُول عَن الْأَكْثَرين أَنه توفّي حِين اشتدّ الضُّحَى من يَوْم الِاثْنَيْنِ. وَبِه حزم عبد الْغَنِيّ. وقيلَ: حِين زاغت الشَّمْس. وَفِي صَحِيح البخاريّ: أَنه توُفي آخر ذَلِك الْيَوْم. وصحّح الْحَاكِم فِي الإِكليل أَنه توفّي حِين زاغت الشَّمْس فِي يَوْم الِاثْنَيْنِ. ودُفن تِلْكَ السَّاعَة. وَقَالَ: إِنَّه أثبت الْأَقَاوِيل. وَقيل: دُفن لَيْلَة الثُّلَاثَاء. وَقيل: يَوْم الثُّلَاثَاء. وَقيل: لَيْلَة الْأَرْبَعَاء. وَهُوَ المُرجَّح. وَقيل: يَوْم الْأَرْبَعَاء.
صلى الله عَلَيْهِ، وعَلى آله وَصَحبه وسَلَّم تَسْلِيمًا كثيرا دَائِما.
تمّ الْمُخْتَصر بِحَمْد الله وعونه ومَنَّه وَكَرمه وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل. وَلَا حول وَلَا قوّة إلاّ بِاللَّه العليّ الْعَظِيم. اللهمَّ صَلَّ على سيِّدنا مُحَمَّد النبيِّ الأميِّ وعَلى آله وَأَصْحَابه وسَلِّمْ تَسْلِيمًا كثيرا.