35 هـ
655 م
ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث

فمما كَانَ فِيهَا من ذَلِكَ نزول أهل مصر ذا خشب، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أحمد بن ثابت، عمن حدثه، عن إسحاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر، قَالَ:  …

كَانَ ذو خشب سنة خمس وثلاثين، وكذلك قَالَ الْوَاقِدِيُّ.

ذكر مسير من سار إِلَى ذي خشب من أهل مصر

وسبب مسير من سار إِلَى ذي المروة من أهل العراق
فيما كتب به إلي السري، عن شعيب، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ يَزِيدَ الْفَقْعَسِيِّ، قَالَ: كَانَ عَبْد اللَّهِ بن سبأ يهوديا من أهل صنعاء، أمه سوداء، فأسلم زمان عُثْمَان، ثُمَّ تنقل فِي بلدان الْمُسْلِمِينَ، يحاول ضلالتهم، فبدأ بالحجاز، ثُمَّ الْبَصْرَةِ، ثُمَّ الْكُوفَة، ثُمَّ الشام، فلم يقدر عَلَى مَا يريد عِنْدَ أحد من أهل الشام، فأخرجوه حَتَّى أتى مصر، فاعتمر فِيهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ فِيمَا يقول: لعجب ممن يزعم أن عِيسَى يرجع، ويكذب بأن محمدا يرجع، وَقَدْ قَالَ اللَّه عز وجل: {إِنَّ ٱلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ لَرَآدُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ} [القصص: 85].
فمحمد أحق بالرجوع من عِيسَى قَالَ: فقبل ذَلِكَ عنه، ووضع لَهُمُ الرجعة، فتكلموا فِيهَا ثُمَّ قَالَ لَهُمْ بعد ذَلِكَ: إنه كَانَ ألف نبي، ولكل نبي وصي، وَكَانَ علي وصي مُحَمَّد، ثُمَّ قَالَ: مُحَمَّد خاتم الأنبياء، وعلي خاتم الأوصياء، ثُمَّ قَالَ بعد ذَلِكَ: من أظلم ممن لم يجز وصية رَسُول الله صَلَّىى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووثب على وصى رسول الله صَلَّىى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتناول أمر الأمة! ثُمَّ قَالَ لَهُمْ بعد ذَلِكَ: إن عُثْمَان أخذها بغير حق، وهذا وصى رسول الله صَلَّىى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فانهضوا فِي هَذَا الأمر فحركوه، وابدءوا بالطعن عَلَى أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، تستميلوا الناس، وادعوهم إِلَى هَذَا الأمر.
فبث دعاته، وكاتب من كَانَ استفسد فِي الأمصار وكاتبوه، ودعوا فِي السر إِلَى مَا عَلَيْهِ رأيهم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعلوا يكتبون إِلَى الأمصار بكتب يضعونها فِي عيوب ولاتهم، ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذَلِكَ، ويكتب أهل كل مصر مِنْهُمْ إِلَى مصر آخر بما يصنعون، فيقرؤه أُولَئِكَ فِي أمصارهم وهؤلاء فِي أمصارهم، حَتَّى تناولوا بِذَلِكَ الْمَدِينَة، وأوسعوا الأرض إذاعة، وهم يريدون غير مَا يظهرون، ويسرون غير مَا يبدون، فيقول أهل كل مصر: إنا لفي عافيه مما ابتلي بِهِ هَؤُلاءِ، إلا أهل الْمَدِينَة فإنهم جاءهم ذَلِكَ عن جميع الأمصار، فَقَالُوا: إنا لفي عافية مما فِيهِ الناس، وجامعه مُحَمَّد وَطَلْحَة من هَذَا المكان، قَالُوا: فأتوا عُثْمَان، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أيأتيك عن الناس الَّذِي يأتينا؟ قَالَ: لا وَاللَّهِ، مَا جاءني إلا السلامة، قَالُوا: فإنا قَدْ أتانا وأخبروه بِالَّذِي أسقطوا إِلَيْهِم، قَالَ: فأنتم شركائي وشهود الْمُؤْمِنِينَ، فأشيروا علي، قَالُوا: نشير عَلَيْك أن تبعث رجالا ممن تثق بهم إِلَى الأمصار حَتَّى يرجعوا إليك بأخبارهم.
فدعا مُحَمَّد بن مسلمة فأرسله إِلَى الْكُوفَةِ، وأرسل أُسَامَة بن زَيْد إِلَى الْبَصْرَة، وأرسل عمار بن ياسر إِلَى مصر، وأرسل عَبْد اللَّهِ بن عُمَرَ إِلَى الشام، وفرق رجالا سواهم، فرجعوا جميعا قبل عمار، فَقَالُوا: أَيُّهَا النَّاسُ، مَا أنكرنا شَيْئًا، وَلا أنكره أعلام الْمُسْلِمِينَ وَلا عوامهم، وَقَالُوا جميعا: الأمر أمر الْمُسْلِمِينَ، إلا أن امراءهم يقسطون بينهم، ويقومون عَلَيْهِم واستبطأ الناس عمارا حَتَّى ظنوا أنه قَدِ اغتيل، فلم يفجأهم الا كتاب من عبد الله ابن سَعْدِ بْنِ أبي سرح يخبرهم أن عمارا قَدِ استماله قوم بمصر، وَقَدِ انقطعوا إِلَيْهِ، مِنْهُمْ عَبْد اللَّهِ بن السوداء، وخالد بن ملجم، وسودان بن حمران، وكنانة بن بشر.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَعَطِيَّةَ، قَالُوا: كَتَبَ عُثْمَانُ إِلَى أَهْلِ الأَمْصَارِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي آخُذُ الْعُمَّالَ بِمُوَافَاتِي فِي كُلِّ مَوْسِمٍ، وَقَدْ سَلَّطْتُ الأُمَّةَ مُنْذُ وُلِّيتُ عَلَى الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَلا يُرْفَعُ عَلَيَّ شَيْءٌ وَلا عَلَى أَحَدٍ مِنْ عُمَّالِي إِلا أَعْطَيْتُهُ، وَلَيْسَ لِي وَلِعِيَالِي حَقٌّ قِبَلَ الرَّعِيَّةِ إِلا مَتْرُوكٌ لَهُمْ، وَقَدْ رَفَعَ إِلَيَّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أَنَّ أقواما يشتمون، وآخرون يضربون، فيأمن ضَرَبَ سِرًّا، وَشَتَمَ سِرًّا، مَنِ ادَّعَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلِيُوَافِ الْمَوْسِمَ فَلْيَأْخُذْ بِحَقِّهِ حَيْثُ كَانَ، مِنِّي أَوْ مِنْ عُمَّالِي، أَوْ تَصَدَّقُوا فان الله يجزى المتصدقين فَلَمَّا قُرِئَ فِي الأَمْصَارِ أَبْكَى النَّاسَ، وَدَعَوْا لِعُثْمَانَ وَقَالُوا: إِنَّ الأُمَّةَ لَتَمَخَّضُ بِشَرٍّ وَبَعَثَ إِلَى عُمَّالِ الأَمْصَارِ فَقَدِمُوا عَلَيْهِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ، وَمُعَاوِيَةُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ، وَأَدْخَلَ مَعَهُمْ فِي الْمَشُورَةِ سَعْيِدًا وَعَمْرًا، فَقَالَ: وَيْحَكُمْ! مَا هَذِهِ الشِّكَايَةُ؟
وَمَا هَذِهِ الإِذَاعَةُ؟ إِنِّي وَاللَّهِ لَخَائِفٌ أَنْ تَكُونُوا مَصْدُوقًا عَلَيْكُمْ، وَمَا يَعْصِبُ هَذَا إِلا بِي، فَقَالُوا لَهُ: أَلَمْ تَبْعَثْ! أَلَمْ نَرْجِعْ إِلَيْكَ الْخَبَرَ عَنِ الْقَوْمِ! أَلَمْ يَرْجِعُوا وَلَمْ يُشَافِهْهُمْ أَحَدٌ بِشَيْءٍ! لا وَاللَّهِ مَا صَدَقُوا وَلا بَرُّوا، وَلا نَعْلَمُ لِهَذَا الأَمْرِ أَصْلا، وَمَا كُنْتَ لِتَأْخُذَ بِهِ أَحَدًا فَيُقِيمُكَ عَلَى شَيْءٍ، وَمَا هِيَ إِلا إِذَاعَةً لا يَحِلُّ الأَخْذُ بِهَا، وَلا الانْتِهَاءُ إِلَيْهَا.
قَالَ: فَأَشِيرُوا عَلَيَّ، فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ: هَذَا أَمْرٌ مَصْنُوعٌ يُصْنَعُ فِي السِّرِّ، فَيُلْقَى بِهِ غَيْرُ ذِي الْمَعْرِفَةِ، فَيُخْبَرُ بِهِ، فَيُتَحَدَّثُ بِهِ فِي مَجَالِسِهِمْ، قَالَ: فَمَا دَوَاءُ ذَلِكَ؟ قَالَ: طَلَبُ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ، ثُمَّ قَتْلُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يخَرْجُ هَذَا مِنْ عِنْدِهِمْ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ: خُذْ مِنَ النَّاسِ الَّذِي عَلَيْهِمْ إِذَا أَعْطَيْتَهُمُ الَّذِي لَهُمْ، فَإِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعْهُمْ قَالَ مُعَاوِيَةُ: قَدْ وَلَّيْتَنِي فَوَلَّيْتُ قَوْمًا لا يَأْتِيكَ عَنْهُمْ إِلا الْخَيْرَ، وَالرَّجُلانِ أَعْلَمُ بِنَاحِيَتَيْهِمَا، قَالَ: فَمَا الرَّأْيُ؟ قَالَ: حُسْنُ الأَدَبِ، قَالَ: فَمَا تَرَى يَا عَمْرُو؟ قَالَ: أَرَى أَنَّكَ قَدْ لِنْتَ لهم، وتراخيت عَنْهُمْ، وَزِدْتَهُمْ عَلَى مَا كَانَ يَصْنَعُ عُمَرُ، فَأَرَى أَنْ تَلْزَمَ طَرِيقَةَ صَاحِبَيْكَ، فَتَشْتَدَّ فِي مَوْضِعِ الشِّدَّةِ، وَتَلِينَ فِي مَوْضِعِ اللِّينِ إِنَّ الشِّدَّةَ تَنْبَغِي لِمَنْ لا يَأْلُو النَّاسَ شَرًّا، وَاللِّينُ لِمَنْ يَخْلُفُ النَّاسَ بِالنُّصْحِ، وَقَدْ فَرَشْتَهُمَا جَمِيعًا اللِّينَ.
وَقَامَ عُثْمَانُ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: كُلُّ مَا أَشَرْتُمْ بِهِ عَلَيَّ قَدْ سَمِعْتُ، وَلِكُلِّ أَمْرٍ بَابٌ يُؤْتَى مِنْهُ، إِنَّ هَذَا الأَمْرَ الَّذِي يُخَافُ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ كَائِنٌ، وَإِنَّ بَابَهُ الَّذِي يُغْلَقُ عَلَيْهِ فَيُكَفْكَفُ بِهِ اللِّينُ وَالْمُؤَاتَاةُ وَالْمُتَابَعَةُ، إِلا فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ، الَّتِي لا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُبَادِيَ بِعَيْبِ أَحَدِهَا، فَإِنْ سَدَّهُ شَيْءٌ فَرَفُقَ، فَذَاكَ وَاللَّهِ لَيُفْتَحَنَّ، وَلَيْسَتْ لأَحَدٍ عَلَيَّ حُجَّةُ حَقٍّ، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنِّي لم آل الناس خيرا، ولا نفسي وو الله إِنَّ رَحَا الْفِتْنَةِ لَدَائِرَةٌ، فَطُوبَى لِعُثْمَانَ إِنْ مَاتَ وَلَمْ يُحَرِّكْهَا كَفْكِفُوا النَّاسَ، وَهَبُوا لَهُمْ حُقُوقَهُمْ، وَاغْتَفِرُوا لَهُمْ، وَإِذَا تُعُوطِيَتْ حُقُوقُ اللَّهِ فَلا تُدْهِنُوا فِيهَا.
فَلَمَّا نَفَرَ عُثْمَانُ أَشْخَصَ مُعَاوِيَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَرَجَعَ ابْنُ عَامِرٍ وَسَعِيدٍ مَعَهُ وَلَمَّا اسْتَقَلَّ عُثْمَانُ رَجَزَ الْحَادِي:

قَدْ عَلِمَتْ ضَوَامِرُ الْمَطِيِّ *** وَضَامِرَاتُ عَوَّجَ الْقَسِيُّ
أَنَّ الأَمِيرَ بَعْدَهُ عَلِيُّ *** وَفِي الزُّبَيْرِ خَلَفٌ رَضِيُّ
وَطَلْحَةَ الْحَامِي لَهَا وَلِيُّ.

فَقَالَ كَعْبٌ وَهُوَ يَسِيرُ خَلْفَ عُثْمَانَ: الأَمِيرُ وَاللَّهِ بَعْدَهُ صَاحِبُ الْبَغْلَةِ- وَأَشَارَ إِلَى مُعَاوِيَةَ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن بدر بن الخليل بن عُثْمَانَ بن قطبة الأسدي، عن رجل من بني أسد، قَالَ: مَا زال مُعَاوِيَة يطمع فِيهَا بعد مقدمه عَلَى عُثْمَانَ حين جمعهم، فاجتمعوا إِلَيْهِ بالموسم، ثُمَّ ارتحل، فحدا بِهِ الراجز:

أن الأمير بعده علي *** وفي الزبير خلف رضي

قَالَ كعب: كذبت! صاحب الشهباء بعده- يعني مُعَاوِيَة- فأخبر مُعَاوِيَة، فسأله عن الَّذِي بلغه، قَالَ: نعم، أنت الأمير بعده، ولكنها وَاللَّهِ لا تصل إليك حَتَّى تكذب بحديثي هَذَا فوقعت فِي نفس مُعَاوِيَة.
وشاركهم فِي هَذَا المكان أَبُو حَارِثَة وأبو عُثْمَان، عن رجاء بن حيوة وغيره قَالُوا: فلما ورد عُثْمَان الْمَدِينَة رد الأمراء إِلَى أعمالهم، فمضوا جميعا، وأقام سَعِيد بعدهم، فلما ودع مُعَاوِيَة عُثْمَان خرج من عنده وعليه ثياب السفر متقلدا سيفه، متنكبا قوسه، فإذا هُوَ بنفر من الْمُهَاجِرِينَ، فِيهِمْ طَلْحَة وَالزُّبَيْر وعلي، فقام عَلَيْهِم، فتوكأ عَلَى قوسه بعد مَا سلم عَلَيْهِم، ثُمَّ قَالَ:
إنكم قَدْ علمتم أن هَذَا الأمر كَانَ إذ الناس يتغالبون إِلَى رجال، فلم يكن منكم احد الا وفي فصيلته من يرئسه، ويستبد عَلَيْهِ، ويقطع الأمر دونه، وَلا يشهده، وَلا يؤامره، حَتَّى بعث اللَّه جَلَّ وَعَزَّ نبيه صَلَّىى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأكرم بِهِ من اتبعه، فكانوا يرئسون من جَاءَ من بعده، وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ، يتفاضلون بالسابقة والقدمة والاجتهاد، فإن أخذوا بِذَلِكَ وقاموا عَلَيْهِ كَانَ الأمر أمرهم، والناس تبع لَهُمْ، وإن أصغوا إِلَى الدُّنْيَا وطلبوها بالتغالب سلبوا ذلك، ورده الله الى من كان يرئسهم وإلا فليحذروا الغير، فإن اللَّه عَلَى البدل قادر، وله المشيئة فِي ملكه وأمره إني قَدْ خلفت فيكم شيخا فاستوصوا بِهِ خيرا، وكانفوه تكونوا أسعد مِنْهُ بِذَلِكَ ثُمَّ ودعهم ومضى، فَقَالَ علي: مَا كنت أَرَى أن فِي هَذَا خيرا، فَقَالَ الزُّبَيْر: لا وَاللَّهِ، مَا كَانَ قط أعظم فِي صدرك وصدورنا مِنْهُ الغداة حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ شَبُّوَيْهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، قَالَ: أَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى طَلْحَةَ يَدْعُوهُ، فَخَرَجْتُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ، وَإِذْ عَلِيٌّ وَسَعْدٌ وَالزُّبَيْرُ وَعُثْمَانُ وَمُعَاوِيَةُ، فَحَمِدَ اللَّهَ مُعَاوِيَةُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَنْتُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّىى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخِيرَتُهُ فِي الأَرْضِ، وَوُلاةُ أَمْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ، لا يَطْمَعُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ غَيْرُكُمْ، اخْتَرْتُمْ صَاحِبَكُمْ عَنْ غَيْرِ غَلَبَةٍ وَلا طَمَعٍ، وَقَدْ كَبِرَتْ سِنُّهُ، وَوَلَّى عُمُرُهُ، وَلَوِ انْتَظَرْتُمْ بِهِ الْهِرَمَ كَانَ قَرِيبًا، مَعَ أَنِّي أَرْجُو أَنْ يَكُونَ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَبْلُغَ بِهِ ذَلِكَ، وَقَدْ فَشَتْ قَالَةٌ خِفْتُهَا عَلَيْكُمْ، فَمَا عَتَبْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَهَذِهِ يَدِي لَكُمْ به، ولا تطمعوا الناس في امركم، فو الله لَئِنْ طَمِعُوا فِي ذَلِكَ لا رَأَيْتُمْ فِيهَا ابدا الا ادبارا قال على: ومالك وَذَلِكَ! وَمَا أَدْرَاكَ لا أُمَّ لَكَ! قَالَ: دَعْ أُمِّي مَكَانَهَا، لَيْسَتْ بِشَّرِّ أُمَّهَاتِكُمْ، قَدْ اسلمت وبايعت النبي صَلَّىى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَجِبْنِي فِيمَا أَقُولُ لَكَ فَقَالَ عُثْمَانُ: صَدَقَ ابْنُ أَخِي، إِنِّي أُخْبِرُكُمْ عَنِّي وَعَمَّا وُلِّيتُ، إِنَّ صَاحِبَيَّ اللَّذَيْنِ كَانَا قَبْلِي ظَلَمَا أَنْفُسَهُمَا وَمَنْ كَانَ مِنْهُمَا بِسَبِيلٍ احْتِسَابًا، وَإِنَّ رَسُولَ الله صَلَّىى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعْطِي قَرَابَتَهُ، وَأَنَا فِي رَهْطِ أَهْلِ عَيْلَةٍ، وَقِلَّةِ مِعَاشٍ، فَبَسَطْتُ يَدِي فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ، لِمَكَانِ مَا أَقُومُ بِهِ فِيهِ، وَرَأَيْتُ أَنَّ ذَلِكَ لِي، فَإِنْ رَأَيْتُمْ ذَلِكَ خَطَأً فَرُدُّوهُ، فَأَمْرِي لأَمْرِكُمْ تَبَعٌ قَالُوا: أَصَبْتَ وَأَحْسَنْتَ، قَالُوا: أَعْطَيْتَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ وَمَرْوَانَ- وَكَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ أَعْطَى مَرْوَانَ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَابْنَ أُسَيْدٍ خَمْسِينَ أَلْفًا- فَرَدُّوا مِنْهُمَا ذَلِكَ، فَرَضَوْا وَقَبِلُوا، وَخَرَجُوا رَاضِينَ.

رجع الحديث إِلَى حديث سيف، عن شيوخه:
وَكَانَ مُعَاوِيَة قَدْ قَالَ لِعُثْمَانَ غداة ودعه وخرج: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، انطلق معي إِلَى الشام قبل أن يهجم عَلَيْك من لا قبل لك بِهِ، فإن أهل الشام عَلَى الأمر لم يزالوا فَقَالَ: أنا لا أبيع جوار رسول الله صَلَّىى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيء، وإن كَانَ فِيهِ قطع خيط عنقي قَالَ: فأبعث إليك جندا مِنْهُمْ يقيم بين ظهراني أهل الْمَدِينَةِ لنائبة إن نابت الْمَدِينَةِ أو إياك قَالَ: أنا أقتر عَلَى جيران رسول الله صَلَّىى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأرزاق بجند تساكنهم، وأضيق عَلَى أهل دار الهجرة والنصرة! قَالَ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لتغتالن أو لتغزين، قَالَ: حسبي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَقَالَ مُعَاوِيَة: يَا أيسار الجزور، وأين أيسار الجزور! ثُمَّ خرج حَتَّى وقف عَلَى النفر، ثُمَّ مضى وَقَدْ كَانَ أهل مصر كاتبوا أشياعهم من أهل الْكُوفَة وأهل الْبَصْرَة وجميع من أجابهم أن يثوروا خلاف أمرائهم واتعدوا يَوْمًا حَيْثُ شخص أمراؤهم، فلم يستقم ذَلِكَ لأحد مِنْهُمْ، ولم ينهض إلا أهل الْكُوفَة، فإن يَزِيد بن قيس الأرحبي ثار فِيهَا، واجتمع إِلَيْهِ أَصْحَابه، وعلى الحرب يَوْمَئِذٍ القعقاع بن عَمْرو، فأتاه فأحاط الناس بهم وناشدوهم، فَقَالَ يَزِيد للقعقاع: ما سبيلك على وعلى هؤلاء! فو الله انى لسامع مطيع، وانى للازم لجماعتى إلا أني أستعفي ومن ترى من إمارة سَعِيد، فَقَالَ: استعفى الخاصة من أمر قَدْ رضيته العامة؟ قَالَ: فذاك إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فتركهم والاستعفاء، ولم يستطيعوا أن يظهروا غير ذَلِكَ، فاستقبلوا سعيدا، فردوه من الجرعة، واجتمع الناس عَلَى أبي مُوسَى، وأقره عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ولما رجع الأمراء لَمْ يَكُنْ للسبئية سبيل إِلَى الخروج إِلَى الأمصار، وكاتبوا أشياعهم من أهل الأمصار أن يتوافوا بِالْمَدِينَةِ لينظروا فِيمَا يريدون، وأظهروا أَنَّهُمْ يأمرون بالمعروف، ويسألون عُثْمَان عن أشياء لتطير فِي الناس، ولتحقق عَلَيْهِ، فتوافوا بِالْمَدِينَةِ، وأرسل عُثْمَان رجلين:
مخزوميا وزهريا، فَقَالَ: انظرا مَا يريدون، واعلما علمهم- وكانا ممن قَدْ ناله من عُثْمَان أدب، فاصطبرا للحق، ولم يضطغنا- فلما رأوهما باثوهما وأخبروهما بِمَا يريدون، فقالا: من معكم عَلَى هَذَا من أهل الْمَدِينَة؟ قَالُوا:
ثلاثة نفر، فقالا: هل إلا؟ قَالُوا لا! قَالا: فكيف تريدون أن تصنعوا؟ قَالُوا: نريد أن نذكر لَهُ أشياء قَدْ زرعناها فِي قلوب الناس، ثُمَّ نرجع إِلَيْهِم فنزعم لَهُمْ أنا قررناه بِهَا، فلم يخرج منها ولم يتب، ثُمَّ نخرج كأنا حجاج حَتَّى نقدم فنحيط بِهِ فنخلعه، فإن أبى قتلناه وكانت إياها، فرجعا إِلَى عُثْمَانَ بالخبر، فضحك وَقَالَ: اللَّهُمَّ سلم هَؤُلاءِ، فإنك إن لم تسلمهم شقوا.
أما عمار فحمل عَلَى عباس بن عتبة بن أبي لهب وعركه واما محمد ابن أبي بكر فإنه أعجب حَتَّى رَأَى أن الحقوق لا تلزمه، وأما ابن سهلة فإنه يتعرض للبلاء فأرسل إِلَى الكوفيين والبصريين، ونادى: الصَّلاة جامعة! وهم عنده فِي أصل الْمِنْبَر، فاقبل اصحاب رسول الله صَلَّىى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أحاطوا بهم، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وأخبرهم خبر القوم، وقام الرجلان، فَقَالُوا جميعا: اقتلهم،فان رسول الله صَلَّىى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «من دعا إِلَى نفسه أو إِلَى أحد وعلى الناس إمام فعليه لعنة اللَّه فاقتلوه»  وَقَالَ عُمَر بن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لا أحل لكم إلا مَا قتلتموه وأنا شريككم.
فَقَالَ عُثْمَان: بل نعفو ونقبل ونبصرهم بجهدنا، وَلا نحاد أحدا حَتَّى يركب حدا، أو يبدي كفرا إن هَؤُلاءِ ذكروا أمورا قَدْ علموا منها مثل الَّذِي علمتم، إلا أَنَّهُمْ زعموا أَنَّهُمْ يذاكرونيها ليوجبوها علي عِنْدَ من لا يعلم.
وَقَالُوا: أتم الصَّلاة فِي السفر، وكانت لا تتم، أَلا وإني قدمت بلدا فِيهِ أهلي، فأتممت لهذين الأمرين، أو كذلك؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ.
وَقَالُوا: وحميت حمى، وإني وَاللَّهِ مَا حميت، حمي قبلي، وَاللَّهِ مَا حموا شيئا لأحد ما حموا الا غلب عَلَيْهِ أهل الْمَدِينَة، ثُمَّ لم يمنعوا من رعية أحدا، واقتصروا لصدقات الْمُسْلِمِينَ يحمونها لئلا يكون بين من يليها وبين أحد تنازع، ثُمَّ مَا منعوا وَلا نحوا منها أحدا الا من ساق درهما، وما لي من بعير غير راحلتين، وما لي ثاغية وَلا راغية، وإني قَدْ وليت، وإني أكثر العرب بعيرا وشاء، فمالي الْيَوْم شاة وَلا بعير غير بعيرين لحجي، أكذلك؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ.
وَقَالُوا: كَانَ القرآن كتبا، فتركتها إلا واحدا أَلا وإن القرآن واحد، جَاءَ من عِنْدَ واحد، وإنما أنا فِي ذَلِكَ تابع لهؤلاء، أكذلك؟ قَالُوا: نعم، وسألوه أن يقيلهم.
وَقَالُوا: إني رددت الحكم وَقَدْ سيره رَسُول الله صَلَّىى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والحكم مكي، سيره رسول الله صَلَّىى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الطائف، ثُمَّ رده رَسُول الله صَلَّىى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرسول الله صَلَّىى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيره، ورسول الله صَلَّىى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رده، «أكذلك؟» قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ.
وَقَالُوا: استعملت الأحداث ولم أستعمل إلا مجتمعا محتملا مرضيا، وهؤلاء أهل عملهم، فسلوهم عنه، وهؤلاء أهل بلده، وَلَقَدْ ولى من قبلي أحدث مِنْهُمْ، وقيل في ذلك لرسول الله صَلَّىى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشد مما قيل لي فِي استعماله أُسَامَة، أكذلك؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، يعيبون لِلنَّاسِ مَا لا يفسرون.
وَقَالُوا: إني أعطيت ابن أبي سرح مَا أفاء اللَّه عَلَيْهِ وإني إنما نفلته خمس مَا أفاء اللَّه عَلَيْهِ من الخمس، فكان مائة ألف، وَقَدْ أنفذ مثل ذَلِكَ أَبُو بَكْر وعمر رضي اللَّه عنهما، فزعم الجند أَنَّهُمْ يكرهون ذَلِكَ، فرددته عَلَيْهِم وليس ذاك لهم، اكذاك؟ قَالُوا: نعم.
وَقَالُوا: إني أحب أهل بيتي وأعطيهم، فأما حبي فإنه لم يمل معهم عَلَى جور، بل أحمل الحقوق عَلَيْهِم، وأما إعطاؤهم فإني مَا أعطيهم من مالي، وَلا أستحل أموال الْمُسْلِمِينَ لنفسي، وَلا لأحد مِنَ النَّاسِ، وَلَقَدْ كنت أعطي العطية الكبيرة الرغيبة من صلب مالي ازمان رسول الله صَلَّىى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما، وأنا يَوْمَئِذٍ شحيح حريص، أفحين أتيت عَلَى أسنان أهل بيتي، وفني عمري، وودعت الَّذِي لي فِي أهلي، قَالَ الملحدون مَا قَالُوا! وإني وَاللَّهِ مَا حملت عَلَى مصر من الأمصار فضلا فيجوز ذَلِكَ لمن قاله، وَلَقَدْ رددته عَلَيْهِم، وما قدم علي إلا الأخماس، وَلا يحل لي منها شَيْء، فولي الْمُسْلِمُونَ وضعها فِي أهلها دوني، وَلا يتلفت من مال اللَّه بفلس فما فوقه، وما أتبلغ مِنْهُ مَا آكل إلا مالي.

وَقَالُوا: أعطيت الأرض رجالا، وإن هَذِهِ الأرضين شاركهم فِيهَا الْمُهَاجِرُونَ والأنصار أيام افتتحت، فمن أقام بمكان من هَذِهِ الفتوح فهو إسوة أهله، ومن رجع إِلَى أهله لم يذهب ذَلِكَ مَا حوى اللَّه لَهُ، فنظرت فِي الَّذِي يصيبهم مما أفاء اللَّه عَلَيْهِم فبعته لَهُمْ بأمرهم من رجال أهل عقار ببلاد العرب فنقلت إِلَيْهِم نصيبهم، فهو فِي أيديهم دوني.
وَكَانَ عُثْمَان قَدْ قسم ماله وأرضه فِي بني أُمَيَّة، وجعل ولده كبعض من يعطى، فبدأ ببني أبي العاص، فأعطى آل الحكم رجالهم عشرة آلاف، عشرة آلاف، فأخذوا مائة ألف، وأعطى بني عُثْمَان مثل ذَلِكَ، وقسم فِي بني العاص وفي بني العيص وفي بني حرب، ولانت حاشية عُثْمَان لأولئك الطوائف، وأبى الْمُسْلِمُونَ إلا قتلهم، وأبى إلا تركهم، فذهبوا ورجعوا الى بلادهم على ان يغزوه مع الحجاج كالحجاج، فتكاتبوا وَقَالُوا: موعدكم ضواحي الْمَدِينَة فِي شوال، حَتَّى إذا دخل شوال من سنة اثنتي عشرة، ضربوا كالحجاج فنزلوا قرب الْمَدِينَة.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن محمد وطلحة وأبي حارثة وَأَبِي عُثْمَانَ، قَالُوا: لما كَانَ فِي شوال سنة خمس وثلاثين خرج أهل مصر فِي أربع رفاق عَلَى أربعة أمراء: المقلل يقول: ستمائه، والمكثر يقول: ألف عَلَى الرفاق عبد الرَّحْمَن بن عديس البلوى، وكنانه بن بشر التجيبى، وعروه بن شيبم الليثى، وابو عمرو بن بديل بن ورقاء الخزاعي وسواد بن رومان الأصبحي، وزرع بن يشكر اليافعى، وسودان ابن حمران السكوني، وقتيرة بن فلان السكوني، وعلى القوم جميعا الغافقي بن حرب العكي، ولم يجترئوا أن يعلموا الناس بخروجهم إِلَى الحرب، وإنما اخرجوا كالحجاج، ومعهم ابن السوداء وخرج أهل الْكُوفَة فِي أربع رفاق، وعلى الرفاق زَيْد بن صُوحَانَ العبدي، والأشتر النخعي، وزياد بن النضر الحارثي، وعبد اللَّه بن الأصم، أحد بني عَامِر بن صعصعة، وعددهم كعدد أهل مصر، وعليهم جميعا سبعا عَمْرو بن الأصم وخرج أهل الْبَصْرَة فِي أربع رفاق، وعلى الرفاق حكيم بن جبلة العبدى، وذريح ابن عباد العبدي، وبشر بن شريح الحطم بن ضبيعه القيسى وابن المحرش ابن عبد بن عَمْرو الحنفي وعددهم كعدد أهل مصر وأميرهم جميعا حرقوص ابن زهير السعدي، سوى من تلاحق بهم مِنَ الناس فاما اهل مصر فإنهم كانوا يشتهون عَلِيًّا، وأما أهل الْبَصْرَة فإنهم كَانُوا يشتهون طَلْحَة، وأما أهل الْكُوفَة فإنهم كَانُوا يشتهون الزُّبَيْر فخرجوا وهم عَلَى الخروج جميع وفي الناس شتى، لا تشك كل فرقة إلا أن الفلج معها، وأن أمرها سيتم دون الأخريين، فخرجوا حَتَّى إذا كَانُوا مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى ثلاث تقدم ناس من أهل الْبَصْرَة فنزلوا ذا خشب، وناس من أهل الْكُوفَة فنزلوا الأعوص، وجاءهم ناس من أهل مصر، وتركوا عامتهم بذي المروة ومشى فِيمَا بين أهل مصر وأهل الْبَصْرَة زياد بن النضر وعبد اللَّه بن الأصم، وقالا: لا تعجلوا وَلا تعجلونا حَتَّى ندخل لكم الْمَدِينَة ونرتاد، فإنه بلغنا أَنَّهُمْ قَدْ عسكروا لنا، فو الله إن كَانَ أهل الْمَدِينَة قَدْ خافونا واستحلوا قتالنا ولم يعلموا علمنا فهم إذا علموا علمنا أشد، وإن أمرنا هَذَا لباطل، وإن لم يستحلوا قتالنا ووجدنا الَّذِي بلغنا باطلا لنرجعن إليكم بالخبر.
قَالُوا: اذهبا، فدخل الرجلان فلقيا ازواج النبي صَلَّىى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليا وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر، وقالا: إنما نأتم هَذَا البيت، ونستعفي هَذَا الوالي من بعض عمالنا، مَا جئنا إلا لذلك، واستأذناهم لِلنَّاسِ بالدخول، فكلهم أبى، ونهى وَقَالَ: بيض مَا يفرخن، فرجعا إِلَيْهِم فاجتمع من أهل مصر نفر فأتوا عَلِيًّا ومن أهل الْبَصْرَة نفر فأتوا طَلْحَة، ومن أهل الْكُوفَة نفر فأتوا الزُّبَيْر، وَقَالَ كل فريق مِنْهُمْ: إن بايعوا صاحبنا وإلا كدناهم وفرقنا جماعتهم، ثُمَّ كررنا حَتَّى نبغتهم، فأتى الْمِصْرِيُّونَ عَلِيًّا وَهُوَ فِي عسكر عِنْدَ أحجار الزيت، عَلَيْهِ حلة أفواف معتم بشقيقة حمراء يمانية، متقلد السيف، ليس عَلَيْهِ قميص، وَقَدْ سرح الْحَسَن إِلَى عُثْمَانَ فيمن اجتمع إِلَيْهِ فالحسن جالس عِنْدَ عُثْمَان، وعلي عِنْدَ أحجار الزيت، فسلم عَلَيْهِ الْمِصْرِيُّونَ وعرضوا لَهُ، فصاح بهم واطردهم، وَقَالَ: لقد علم الصالحون أن جيش ذي المروة وذي خشب ملعونون على لسان محمد صَلَّىى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فارجعوا لاصحبكم اللَّه! قَالُوا: نعم، فانصرفوا من عنده عَلَى ذَلِكَ.
وأتى الْبَصْرِيُّونَ طَلْحَة وَهُوَ فِي جماعة أخرى إِلَى جنب علي، وَقَدْ أرسل ابنيه إِلَى عُثْمَانَ، فسلم الْبَصْرِيُّونَ عَلَيْهِ وعرضوا لَهُ، فصاح بهم واطردهم، وَقَالَ: لقد علم المؤمنون أن جيش ذي المروة وذي خشب والأعوص ملعونون على لسان محمد صَلَّىى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأتى الْكُوفِيُّونَ الزُّبَيْر وَهُوَ فِي جماعة أخرى، وَقَدْ سرح ابنه عَبْد اللَّهِ إِلَى عُثْمَانَ، فسلموا عَلَيْهِ وعرضوا لَهُ، فصاح بهم واطردهم، وَقَالَ: لقد علم الْمُسْلِمُونَ أن جيش ذي المروة وذي خشب والأعوص ملعونون عَلَى لسان محمد صَلَّىى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فخرج القوم وأروهم أَنَّهُمْ يرجعون، فانفشوا عن ذي خشب والأعوص، حَتَّى انتهوا إِلَى عساكرهم، وَهِيَ ثلاث مراحل، كي يفترق أهل الْمَدِينَة، ثُمَّ يكروا راجعين فافترق أهل الْمَدِينَة لخروجهم.
فلما بلغ القوم عساكرهم كروا بهم، فبغتوهم، فلم يفجأ أهل الْمَدِينَة إلا والتكبير فِي نواحي الْمَدِينَة، فنزلوا فِي مواضع عساكرهم، وأحاطوا بعثمان، وَقَالُوا: من كف يده فهو آمن.
وصلى عُثْمَان بِالنَّاسِ أياما، ولزم الناس بيوتهم، ولم يمنعوا أحدا من كلام، فأتاهم الناس فكلموهم، وفيهم علي، فَقَالَ: مَا ردكم بعد ذهابكم ورجوعكم عن رأيكم؟ قَالُوا: أخذنا مع بريد كتابا بقتلنا، وأتاهم طَلْحَة فَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ مثل ذَلِكَ، وأتاهم الزُّبَيْر فَقَالَ الْكُوفِيُّونَ مثل ذَلِكَ، وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ وَالْبَصْرِيُّونَ: فنحن ننصر إخواننا ونمنعهم جميعا، كأنما كَانُوا عَلَى ميعاد.
فَقَالَ لَهُمْ علي: كيف علمتم يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ ويا أهل الْبَصْرَة بِمَا لقي أهل مصر، وَقَدْ سرتم مراحل، ثُمَّ طويتم نحونا؟ هَذَا وَاللَّهِ أمر أبرم بِالْمَدِينَةِ! قَالُوا: فضعوه عَلَى مَا شئتم، لا حاجة لنا فِي هذا الرجل، ليعتزلنا وَهُوَ فِي ذَلِكَ يصلي بهم، وهم يصلون خلفه، ويغشى من شاء عُثْمَان وهم فِي عينه أدق من التراب، وكانوا لا يمنعون أحدا من الكلام، وكانوا زمرا بِالْمَدِينَةِ، يمنعون الناس من الاجتماع.
وكتب عُثْمَان إِلَى أهل الأمصار يستمدهم:
بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فإن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بعث محمدا {بِٱلْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً} [البقرة: 119]، فبلغ عن اللَّه مَا أمره بِهِ، ثُمَّ مضى وَقَدْ قضى الَّذِي عَلَيْهِ، وخلف فينا كتابه، فِيهِ حلاله وحرامه، وبيان الأمور الَّتِي قدر، فأمضاها عَلَى مَا أحب العباد وكرهوا، فكان الخليفة أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ أدخلت فِي الشورى عن غير علم وَلا مسألة عن ملإ من الأمة، ثُمَّ أجمع أهل الشورى عن ملإ مِنْهُمْ ومن الناس علي، عَلَى غير طلب مني وَلا محبة، فعملت فِيهِمْ مَا يعرفون وَلا ينكرون، تابعا غير مستتبع، متبعا غير مبتدع، مقتديا غير متكلف.
فلما انتهت الأمور، وانتكث الشر بأهله، بدت ضغائن وأهواء عَلَى غير إجرام وَلا ترة فِيمَا مضى إلا إمضاء الكتاب، فطلبوا أمرا وأعلنوا غيره بغير حجة وَلا عذر، فعابوا علي أشياء مما كَانُوا يرضون، وأشياء عن ملإ من أهل الْمَدِينَة لا يصلح غيرها، فصبرت لَهُمْ نفسي وكففتها عَنْهُمْ منذ سنين وأنا أَرَى وأسمع، فازدادوا عَلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ جرأة، حَتَّى أغاروا علينا فِي جوار رسول الله صَلَّىى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحرمه وأرض الهجرة، وثابت إِلَيْهِم الأعراب، فهم كالأحزاب أيام الأحزاب أو من غزانا بأحد إلا مَا يظهرون، فمن قدر عَلَى اللحاق بنا فليلحق.
فأتى الكتاب أهل الأمصار، فخرجوا عَلَى الصعبة والذلول، فبعث مُعَاوِيَة حبيب بن مسلمة الفهري، وبعث عَبْد اللَّهِ بن سَعْد مُعَاوِيَة بن حديج السكوني، وخرج من أهل الْكُوفَة القعقاع بن عَمْرو.
وَكَانَ المحضضين بالكوفة عَلَى إعانة أهل الْمَدِينَة عقبة بن عَمْرو وعبد الله ابن أبي أوفى وحنظلة بن الربيع التميمي، فِي أمثالهم من اصحاب النبي صَلَّىى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ المحضضين بالكوفة من التابعين أَصْحَاب عَبْد اللَّهِ مسروق بن الأجدع، والأسود بن يَزِيدَ، وشريح بن الْحَارِث، وعبد اللَّه بن عكيم، فِي أمثالهم، يسيرون فِيهَا، ويطوفون عَلَى مجالسها، يقولون: يا ايها النَّاسُ، إن الكلام الْيَوْم وليس بِهِ غدا، وإن النظر يحسن الْيَوْم ويقبح غدا، وإن القتال يحل الْيَوْم ويحرم غدا، انهضوا إِلَى خليفتكم، وعصمة أمركم.
وقام بِالْبَصْرَةِ عِمْرَان بن حصين وأنس بن مَالِكٍ، وهشام بن عَامِر في أمثالهم من اصحاب النبي صَلَّىى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولون مثل ذَلِكَ، ومن التابعين كعب بن سور وهرم بن حيان العبدي، وأشباه لهما يقولون ذَلِكَ! وقام بِالشَّامِ عبادة بن الصامت وأبو الدرداء وأبو أمامة فِي أمثالهم من اصحاب النبي ص يقولون مثل ذَلِكَ، ومن التابعين شريك بن خباشة النميري، وأبو مسلم الخولاني، وعبد الرَّحْمَن بن غنم بمثل ذَلِكَ، وقام بمصر خارجة فِي أشباه لَهُ، وَقَدْ كَانَ بعض المحضضين قَدْ شهد قدومهم، فلما رأوا حالهم انصرفوا إِلَى أمصارهم بِذَلِكَ وقاموا فِيهِمْ.
ولما جاءت الجمعة الَّتِي عَلَى أثر نزول المصريين مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج عُثْمَان فصلى بِالنَّاسِ ثُمَّ قام عَلَى الْمِنْبَر فقال: يا هؤلاء العدى، الله الله! فو الله، إن أهل الْمَدِينَة ليعلمون أنكم ملعونون عَلَى لسان محمد صَلَّىى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فامحوا الخطايا بالصواب، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لا يَمْحُو السَّيِّئَ إلا بالحسن.
فقام مُحَمَّد بن مسلمة، فَقَالَ: أنا أشهد بِذَلِكَ، فأخذه حكيم بن جبلة فأقعده، فقام زَيْد بن ثَابِت فَقَالَ: ابغني الكتاب، فثار إِلَيْهِ من ناحية أخرى مُحَمَّد بن أبي قتيرة فأقعده، وَقَالَ فأفظع، وثار القوم بأجمعهم، فحصبوا الناس حَتَّى أخرجوهم من المسجد، وحصبوا عُثْمَان حَتَّى صرع عن الْمِنْبَر مغشيا عَلَيْهِ، فاحتمل فأدخل داره، وَكَانَ الْمِصْرِيُّونَ لا يطمعون فِي أحد من أهل الْمَدِينَة أن يساعدهم إلا فِي ثلاثة نفر، فإنهم كَانُوا يراسلونهم:
مُحَمَّد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حُذَيْفَة، وعمار بن ياسر، وشمر أناس مِنَ النَّاسِ فاستقتلوا، مِنْهُمْ سعد بن مَالِكٍ، وأبو هُرَيْرَة، وزَيْد بن ثَابِت، والحسن بن علي، فبعث إِلَيْهِم عُثْمَان بعزمه لما انصرفوا فانصرفوا، وأقبل علي ع حَتَّى دخل عَلَى عُثْمَانَ، وأقبل طَلْحَة حَتَّى دخل عَلَيْهِ، وأقبل الزُّبَيْر حَتَّى دخل عَلَيْهِ، يعودونه من صرعته، ويشكون بثهم، ثُمَّ رجعوا إِلَى منازلهم.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن أبي عمرو، عن الحسن، قَالَ: قلت لَهُ: هل شهدت حصر عُثْمَان؟ قَالَ: نعم، وأنا يَوْمَئِذٍ غلام فِي أتراب لي فِي المسجد، فإذا كثر اللغط جثوت عَلَى ركبتي أو قمت، فأقبل القوم حين أقبلوا حَتَّى نزلوا المسجد وما حوله، فاجتمع إِلَيْهِم أناس من أهل الْمَدِينَة، يعظمون مَا صنعوا وأقبلوا عَلَى أهل الْمَدِينَة يتوعدونهم، فبينا هم كذلك فِي لغطهم حول الباب، فطلع عُثْمَان، فكأنما كَانَتْ نار طفئت، فعمد إِلَى الْمِنْبَر فصعده فَحَمِدَ اللَّهَ وأثنى عَلَيْهِ، فثار رجل، فأقعده رجل، وقام آخر فأقعده آخر، ثُمَّ ثار القوم فحصبوا عُثْمَان حَتَّى صرع، فاحتمل فأدخل، فصلى بهم عشرين يَوْمًا، ثُمَّ منعوه من الصَّلاة.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وأَبِي حَارِثَةَ وَأَبِي عُثْمَانَ، قَالُوا: صَلَّى عُثْمَانُ بِالنَّاسِ بَعْدَ مَا نَزَلُوا بِهِ فِي الْمَسْجِدِ ثَلاثِينَ يَوْمًا، ثُمَّ إِنَّهُمْ مَنَعُوهُ الصَّلاةَ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ أَمِيرُهُمُ الْغَافِقِيُّ، دَانَ لَهُ الْمِصْرِيُّونَ وَالْكُوفِيُّونَ وَالْبَصْرِيُّونَ، وَتَفَرَّقَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِي حِيطَانِهِمْ، وَلَزِمُوا بُيُوتَهُمْ، لا يَخْرُجُ أَحَدٌ وَلا يَجْلِسُ إِلا وَعَلَيْهِ سَيْفُهُ يَمْتَنِعُ بِهِ مِنْ رَهَقِ الْقَوْمِ وَكَانَ الْحِصَارُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَفِيهِنَّ كَانَ الْقَتْلُ، وَمَنْ تَعَرَّضَ لَهُمْ وَضَعُوا فِيهِ السِّلاحَ، وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ ثَلاثِينَ يَوْمًا يَكُفُّونَ وَأَمَّا غَيْرُ سَيْفٍ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كَانَتْ مُنَاظَرَةُ الْقَوْمِ عُثْمَانَ وَسَبَبُ حِصَارِهِمْ إِيَّاهُ مَا حَدَّثَنِي بِهِ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي أُسَيْدٍ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: سَمِعَ عُثْمَانُ أَنَّ وَفْدَ أَهْلِ مِصْرَ قَدْ أَقْبَلُوا، قَالَ: فَاسْتَقْبَلَهُمْ، وَكَانَ فِي قَرْيَةٍ لَهُ خَارِجَةً مِنَ الْمَدِينَةِ- أَوْ كَمَا قَالَ- فَلَمَّا سَمِعُوا بِهِ، أَقْبَلُوا نَحْوَهُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ- قَالَ: وَكَرِهَ أَنْ يَقْدَمُوا عَلَيْهِ الْمَدِينَةَ أَوْ نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ- قَالَ: فَأَتَوْهُ، فَقَالُوا لَهُ: ادْعُ بِالْمُصْحَفِ، قَالَ: فَدَعَا بِالْمُصْحَفِ، قَالَ: فَقَالُوا لَهُ: افْتَحِ التَّاسِعَةَ- قَالَ: وَكَانُوا يُسَمُّونَ سُورَةَ يُونُسَ التَّاسِعَةَ- قَالَ: فَقَرَأَهَا حَتَّى أَتَى عَلَى هَذِهِ الآيةِ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى ٱللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] قَالَ: قَالُوا لَهُ: قِفْ، فَقَالُوا لَهُ: أَرَأَيْتَ مَا حَمَيْتَ مِنَ الْحِمَى؟ آللَّهُ أَذِنَ لَكَ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرِي! قَالَ: فَقَالَ: امْضِهِ، نَزَلَتْ فِي كَذَا وَكَذَا قَالَ: وَأَمَّا الْحِمَى فان عمر حمى الحمى قبلي لا بل الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا وُلِّيتُ زَادَتْ إِبِلُ الصَّدَقَةِ فَزِدْتُ فِي الْحِمَى لِمَا زَادَ فِي إِبِلِ الصَّدَقَةِ، امْضِهِ قَالَ: فَجَعَلُوا يَأْخُذُونَهُ بِالآيَةِ، فَيَقُولُ: امْضِهِ، نَزَلَتْ فِي كَذَا وَكَذَا- قَالَ: وَالَّذِي يَتَوَلَّى كَلامَ عُثْمَانَ يَوْمَئِذٍ فِي سِنِّكَ، قَالَ: يَقُولُ أَبُو نَضْرَةَ، يَقُولُ ذَاكَ لِي أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ أَبُو نَضْرَةَ: وَأَنَا فِي سِنِّكَ يَوْمَئِذٍ، قَالَ: وَلَمْ يَخْرُجْ وَجْهِي يَوْمَئِذٍ، لا أَدْرِي، وَلَعَلَّهُ قَدْ قَالَ مَرَّةً أُخْرَى: وَأَنَا يَوْمَئِذٍ ابْنُ ثَلاثِينَ سَنَةً- ثُمَّ أَخَذُوهُ بِأَشْيَاءَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْهَا مَخْرَجٌ قَالَ: فَعَرَفَهَا، فَقَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ قَالَ: فَقَالَ لَهُمْ: مَا تُرِيدُونَ؟ قَالَ: فَأَخَذُوا مِيثَاقَهُ- قَالَ: وَأَحْسَبُهُ قَالَ: وَكَتَبُوا عَلَيْهِ شَرْطًا- قَالَ: وَأَخَذَ عليهم أَلا يَشُقُّوا عَصًا، وَلا يُفَارِقُوا جَمَاعَةً مَا قَامَ لَهُمْ بِشَرْطِهِمْ- أَوْ كَمَا أَخَذُوا عَلَيْهِ- قَالَ: فَقَالَ لَهُمْ: مَا تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: نُرِيدُ أَلا يَأْخُذَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَطَاءً، فَإِنَّمَا هَذَا الْمَالُ لِمَنْ قَاتَلَ عَلَيْهِ وَلِهَؤُلاءِ الشُّيُوخِ مِنْ اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَرَضُوا بِذَلِكَ، وَأَقْبَلُوا مَعَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ رَاضِينَ.
قَالَ: فَقَامَ فَخَطَبَ، فَقَالَ: إِنِّي مَا رَأَيْتُ وَاللَّهِ وَفْدًا فِي الأَرْضِ هُمْ خَيْرٌ لِحَوْبَاتِي مِنْ هَذَا الْوَفْدِ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَيَّ وَقَدْ قَالَ مَرَّةً أُخْرَى: خَشِيتُ مِنْ هَذَا الْوَفْدِ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، أَلا مَنْ كَانَ لَهُ زَرْعٌ فَلْيَلْحَقْ بِزَرْعِهِ، وَمَنْ كَانَ لَهُ ضَرْعٌ فَلْيَحْتَلِبْ، إِلا إِنَّهُ لا مَالَ لَكُمْ عِنْدَنَا، إِنَّمَا هَذَا الْمَالُ لِمَنْ قَاتَلَ عَلَيْهِ ولهؤلاء الشيوخ من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَغَضِبَ النَّاسُ، وَقَالُوا: هَذَا مَكْرُ بَنِي أُمَيَّةَ.
قَالَ: ثُمَّ رَجَعَ الْوَفْدُ الْمِصْرِيُّونَ رَاضِينَ، فَبَيْنَا هُمْ فِي الطَّرِيقِ إِذَا هُمْ بِرَاكِبٍ يَتَعَرَّضُ لَهُمْ ثُمَّ يُفَارِقُهُمْ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ، ثم يفارقهم ويتبينهم قَالَ: قَالُوا لَهُ: مَا لَكَ؟ إِنَّ لَكَ لأَمْرًا! مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: فَقَالَ: أَنَا رَسُولُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى عَامِلِهِ بِمِصْرَ، فَفَتَّشُوهُ، فَإِذَا هُمْ بِالْكِتَابِ عَلَى لِسَانِ عُثْمَانَ، عَلَيْهِ خَاتَمُهُ إِلَى عَامِلِهِ بِمِصْرَ أَنْ يُصَلِّبَهُمْ أَوْ يُقَتِّلَهُمْ أَوْ يُقَطِّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلافٍ.
قَالَ: فَأَقْبَلُوا حَتَّى قَدِمُوا الْمَدِينَةَ، قَالَ: فَأَتَوْا عَلِيًّا، فَقَالُوا: أَلَمْ تَرَ إِلَى عَدُوِّ اللَّهِ! إِنَّهُ كَتَبَ فِينَا بِكَذَا وَكَذَا، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَلَّ دَمَهُ، قُمْ مَعَنَا إِلَيْهِ، قَالَ:
وَاللَّهِ لا أَقُومُ مَعَكُمْ، إِلَى أَنْ قَالُوا: فَلِمَ كَتَبْتَ إِلَيْنَا؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ كِتَابًا قَطُّ، قَالَ: فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ:
أَلِهَذَا تُقَاتِلُونَ، أَوْ لِهَذَا تَغْضَبُونَ! قَالَ: فَانْطَلَقَ عَلِيٌّ، فَخَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى قَرْيَةٍ قَالَ: فَانْطَلَقُوا حَتَّى دَخَلُوا عَلَى عُثْمَانَ، فَقَالُوا: كَتَبْتَ فِينَا بِكَذَا وَكَذَا! قَالَ: فَقَالَ: إِنَّمَا هُمَا اثْنَتَانِ: أَنْ تُقِيمُوا عَلَيَّ رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ يَمِينِي بالله الذي لا إله إلا هو ما كَتَبْتُ وَلا أَمْلَلْتُ وَلا عَلِمْتُ قَالَ: وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الْكِتَابَ يُكْتَبُ عَلَى لِسَانِ الرَّجُلِ، وَقَدْ يُنْقَشُ الْخَاتَمُ عَلَى الْخَاتَمِ قَالَ: فَقَالُوا: فَقَدْ وَاللَّهِ أَحَلَّ اللَّهُ دَمَكَ، وَنَقَضْتَ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ قَالَ: فَحَاصَرُوهُ.
وَأَمَّا الْوَاقِدِيُّ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي سَبَبِ مَسِيرِ الْمِصْرِيِّينَ إِلَى عُثْمَانَ وَنُزُولِهِمْ ذَا خَشَبٍ أُمُورًا كَثِيرَةً، مِنْهَا مَا قَدْ تقدم ذكريه، وَمِنْهَا مَا أَعْرَضْتُ عَنْ ذِكْرِهِ كَرَاهَةً مِنِّي لِبَشَاعَتِهِ وَمِنْهَا مَا ذَكَرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي عَوْنٍ مَوْلَى الْمسورِ، قَالَ: كَانَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عَلَى مِصْرَ عَامِلا لِعُثْمَانَ، فَعَزَلَهُ عَنِ الْخَرَاجِ، وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى الصَّلاةِ، وَاسْتَعْمَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدٍ عَلَى الْخَرَاجِ، ثُمَّ جَمَعَهُمَا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ، فَلَمَّا قَدِمَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ الْمَدِينَةَ جَعَلَ يَطْعَنُ عَلَى عُثْمَانَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَوْمًا عثمان خاليا به، فقال: يا بن النَّابِغَةِ، مَا أَسْرَعَ مَا قَمِلَ جِرْبَانُ جُبَّتِكَ! إِنَّمَا عَهْدُكَ بِالْعَمَلِ عَاما أَوَّل.
أَتَطْعَنُ عَلَيَّ وَتَأْتِينِي بِوَجْهٍ وَتَذْهَبُ عَنِّي بِآخَرَ! وَاللَّهِ لَوْلا أَكْلَةٌ مَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَالَ: فَقَالَ عَمْرٌو: إِنَّ كَثِيرًا مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ وَيَنْقُلُونُ إِلَى وُلاتِهِمْ بَاطِلٌ، فَاتَّقِ اللَّهَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي رَعِيَّتِكَ! فَقَالَ عُثْمَانُ: وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَعْمَلْتُكَ عَلَى ظَلْعِكَ، وَكَثْرَةِ الْقَالَةِ فِيكَ فَقَالَ عَمْرٌو: قَدْ كُنْتُ عَامِلا لِعَمُرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَفَارَقَنِي وَهُوَ عَنِّي رَاضٍ قَالَ: فَقَالَ عُثْمَانُ: وَأَنَا وَاللَّهِ لَوْ آخَذْتُكَ بِمَا آخَذَكَ بِهِ عُمَرُ لاسْتَقَمْتَ، وَلَكِنِّي لِنْتُ عَلَيْكَ فَاجْتَرَأْتَ عَلَيَّ، أَمَا وَاللَّهِ لأَنَا أَعَزُّ مِنْكَ نَفَرًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَبْلَ أَنْ أَلِيَ هَذَا السُّلْطَانَ فَقَالَ عَمْرٌو: دَعْ عَنْكَ هَذَا، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَكْرَمَنَا بمحمد صلى الله عليه وسلم وَهَدَانَا بِهِ، قَدْ رَأَيْتُ الْعَاصِيَ بْنَ وَائِلٍ ورايت اباك عفان، فو الله لَلْعَاصُ كَانَ أَشْرَفَ مِنْ أَبِيكَ قَالَ: فَانْكَسَرَ عُثْمَانُ، وَقَالَ: مَا لَنَا وَلِذِكْرِ الْجَاهِلِيَّةِ! قَالَ: وَخَرَجَ عَمْرٌو وَدَخَلَ مَرْوَانُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ بَلَغْتَ مَبْلَغًا يَذْكُرُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ أَبَاكَ! فَقَالَ عُثْمَانُ: دَعْ هَذَا عَنْكَ، مِنْ ذِكْرِ آبَاءِ الرِّجَالِ ذَكَرُوا أَبَاهُ
قَالَ: فَخَرَجَ عَمْرٌو مِنْ عِنْدِ عُثْمَانَ وَهُوَ مُحْتَقِدٌ عَلَيْهِ، يَأْتِي عَلِيًّا مَرَّةً فَيُؤَلِّبُهُ عَلَى عُثْمَانَ، وَيَأْتِي الزُّبَيْرَ مَرَّةً فَيُؤَلِّبُهُ عَلَى عُثْمَانَ، وَيَأْتِي طَلْحَةَ مَرَّةً فَيُؤَلِّبُهُ عَلَى عُثْمَانَ، وَيَعْتَرِضَ الْحَاجَّ فَيُخْبِرُهُمْ بِمَا أَحْدَثَ عُثْمَانُ، فَلَمَّا كَانَ حَصْرُ عُثْمَانَ الأَوَّلُ، خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى أَرْضٍ لَهُ بِفِلَسْطِينَ يُقَالُ لَهَا السَّبْعُ، فَنَزَلَ فِي قَصْرٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ الْعَجْلانُ، وَهُوَ يَقُولُ: الْعَجَبُ مَا يَأْتِينَا عَنِ ابْنِ عَفَّانَ! قَالَ: فَبَيْنَا هُوَ جَالِسٌ فِي قَصْرِهِ ذَلِكَ، وَمَعَهُ ابْنَاهُ مُحَمَّدٌ وَعَبْدُ اللَّهِ، وسلامه ابن رَوْحٍ الْجُذَامِيُّ، إِذْ مَرَّ بِهِمْ رَاكِبٌ، فَنَادَاهُ عَمْرٌو: مِنْ أَيْنَ قَدِمَ الرَّجُلُ؟ فَقَالَ: مِنَ الْمَدِينَةِ، قَالَ: مَا فَعَلَ الرَّجُلُ؟ يَعْنِي عُثْمَانَ، قَالَ: تَرَكْتُهُ مَحْصُورًا شَدِيدَ الْحِصَارِ قَالَ عَمْرٌو: أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، قَدْ يَضْرُطُ الْعِيرُ وَالْمِكْوَاةُ فِي النَّارِ فَلَمْ يَبْرَحْ مَجْلِسُهُ ذَلِكَ حَتَّى مَرَّ بِهِ رَاكِبٌ آخَرُ، فَنَادَاهُ عَمْرٌو: مَا فَعَلَ الرَّجُلُ؟ يَعْنِي عُثْمَانَ، قَالَ: قُتِلَ، قَالَ: أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، إِذَا حَكَكْتُ قَرْحَةً نَكَأْتُهَا، إِنْ كُنْتُ لأُحَرِّضَ عَلَيْهِ، حَتَّى إِنِّي لأُحَرِّضَ عَلَيْهِ الرَّاعِي فِي غَنَمِهِ فِي رَأْسِ الْجَبَلِ فَقَالَ لَهُ سَلامَةُ بْنُ رَوْحٍ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّهُ كَانَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْعَرَبِ بَابٌ وَثِيقٌ فَكَسَرْتُمُوهُ، فَمَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ فَقَالَ: أَرَدْنَا أَنْ نُخْرِجَ الْحَقَّ مِنْ حَافِرَةِ الْبَاطِلِ، وَأَنْ يَكُونَ النَّاسُ فِي الْحَقِّ شَرْعًا سَوَاءٌ وَكَانَتْ عِنْدَ عَمْرٍو أُخْتُ عُثْمَانَ لأُمِّهِ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، فَفَارَقَهَا حِينَ عَزَلَهُ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عمر: وحدثنى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ بِمِصْرَ يُحَرِّضَانِ عَلَى عُثْمَانَ، فَقَدِمَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَأَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ بِمِصْرَ، فَلَمَّا خَرَجَ الْمِصْرِيُّونَ خَرَجَ عبد الرحمن بن عديس البلوى في خمسمائة، وَأَظْهَرُوا أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْعُمْرَةَ، وَخَرَجُوا فِي رَجَبَ، وَبَعَثَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ رَسُولا سَارَ إِحْدَى عَشْرَةَ لَيْلَةً يُخْبِرُ عُثْمَانَ أَنَّ ابْنَ عُدَيْسٍ وَأَصْحَابَهُ قَدْ وَجَّهُوا نَحْوَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي حُذَيْفَةَ شَيَّعَهُمْ إِلَى عَجْرُودٍ، ثُمَّ رَجَعَ وَأَظْهَرَ مُحَمَّدٌ إِنْ قَالَ: خَرَجَ الْقَوْمُ عَمَّارًا، وَقَالَ فِي السِّرِّ: خَرَجَ الْقَوْمُ إِلَى إِمَامِهِمْ فَإِنْ نَزَعَ وَإِلا قَتَلُوهُ، وَسَارَ الْقَوْمُ الْمَنَازِلَ لَمْ يَعُدُّوهَا حَتَّى نَزَلُوا ذَا خَشَبٍ وَقَالَ عُثْمَانُ قَبْلَ قُدُومِهِمْ حِينَ جَاءَهُ رَسُولُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ: هَؤُلاءِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ يُرِيدُونَ- بِزَعْمِهِمُ- الْعُمْرَةَ، وَاللَّهِ مَا أَرَاهُمْ يُرِيدُونَهَا، وَلَكِنَّ النَّاسَ قَدْ دَخَلَ بِهِمْ، وَأَسْرَعُوا إِلَى الْفِتْنَةِ، وَطَالَ عَلَيْهِمْ عُمْرَى، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ فَارَقْتُهُمْ لَيَتَمَنَّوْنَ أَنَّ عُمْرَى كَانَ طَالَ عَلَيْهِمْ مَكَانَ كُلَّ يَوْمٍ بِسَنَةٍ مِمَّا يَرَوْنَ مِنَ الدِّمَاءِ الْمَسْفُوكَةِ، وَالإِحَنِ وَالأَثْرَةِ الظَّاهِرَةِ، وَالأَحْكَامِ الْمُغَيِّرَةِ قَالَ: فَلَمَّا نَزَلَ الْقَوْمُ ذَا خَشَبٍ جَاءَ الْخَبَرُ أَنَّ الْقَوْمَ يُرِيدُونَ قَتْلَ عُثْمَانَ إِنْ لَمْ يَنْزَعْ، وَأَتَى رَسُولُهُمْ إِلَى عَلِيٍّ لَيْلا، وَإِلَى طَلْحَةَ، وَإِلَى عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ.
وَكَتَبَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ مَعَهُمْ إِلَى عَلِيٍّ كِتَابًا، فَجَاءُوا بِالْكِتَابِ إِلَى عَلِيٍّ، فَلَمْ يَظْهَرَ عَلَى مَا فِيهِ، فَلَمَّا رَأَى عُثْمَانَ مَا رَأَى جَاءَ عَلِيًّا فَدَخَلَ عليه بيته، فقال: يا بن عَمِّ، إِنَّهُ لَيْسَ لِي مترك، وَإِنَّ قَرَابَتِي قَرِيبَةٌ، وَلِي حَقٌّ عَظِيمٌ عَلَيْكَ، وَقَدْ جَاءَ مَا تَرَى مِنْ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ، وَهُمْ مُصَبِّحِي، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ لَكَ عِنْدَ النَّاسِ قَدْرًا، وَأَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ مِنْكَ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَرْكَبَ إِلَيْهِمْ فَتَرُدَّهُمْ عَنِّي، فَإِنِّي لا أُحِبُّ أَنْ يَدْخُلُوا عَلَيَّ، فَإِنَّ ذَلِكَ جَرْأَةً مِنْهُمْ عَلَيَّ، وَلْيَسْمَعْ بِذَلِكَ غَيْرُهُمْ فَقَالَ عَلِيٌّ: عَلامَ أَرُدُّهُمْ؟ قَالَ: عَلَى أَنْ أَصِيرَ إِلَى مَا أَشَرْتَ بِهِ عَلَيَّ وَرَأَيْتَهُ لِي، وَلَسْتُ أَخْرُجُ مِنْ يَدَيْكَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنِّي قَدْ كُنْتُ كَلَّمْتُكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فَكُلُّ ذَلِكَ نَخْرُجُ فَتَكَلَّمَ، وَنَقُولُ وَتَقُولُ، وَذَلِكَ كُلُّهُ فِعْلُ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ وَسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَابْنِ عَامِرٍ وَمُعَاوِيَةَ، أَطَعْتَهُمْ وَعَصَيْتَنِي.
قَالَ عُثْمَانُ: فَإِنِّي أَعْصِيهِمْ وَأُطِيعُكَ قَالَ: فَأَمَرَ النَّاسَ، فَرَكِبُوا مَعَهُ: الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارِ قَالَ: وَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، يُكَلِّمُهُ أَنْ يَرْكَبَ مَعَ عَلِيٍّ فَأَبَى، فَأَرْسَلَ عثمان الى سعد بن ابى وقاص، فكلمه أَنْ يَأْتِيَ عَمَّارًا فَيُكَلِّمُهُ أَنْ يَرْكَبَ مَعَ عَلِيٍّ، قَالَ: فَخَرَجَ سَعْدٌ حَتَّى دَخَلَ عَلَى عَمَّارٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ، أَلا تَخْرُجُ فِيمَنْ يَخْرُجُ! وَهَذَا عَلِيٌّ يَخْرُجُ فَاخْرُجْ مَعَهُ، وَارْدُدْ هَؤُلاءِ الْقَوْمَ عَنْ إِمَامِكَ، فَإِنِّي لأَحْسَبُ أَنَّكَ لَمْ تَرْكَبْ مَرْكَبًا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ.
قَالَ: وَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ الْكِنْدِيِّ- وَكَانَ مِنْ أَعْوَانِ عُثْمَانَ- فَقَالَ: انْطَلِقْ فِي إِثْرِ سَعْدٍ فَاسْمَعْ مَا يَقُولُ سَعْدٌ لِعَمَّارٍ، وَمَا يَرُدُّ عَمَّارٌ عَلَى سَعْدٍ، ثُمَّ ائْتِنِي سَرِيعًا.
قَالَ: فَخَرَجَ كَثِيرٌ حَتَّى يَجِدَ سَعْدًا عِنْدَ عَمَّارٍ مَخْلِيًّا بِهِ، فَأَلْقَمَ عَيْنَهُ جُحْرَ الْبَابِ، فَقَامَ إِلَيْهِ عَمَّارٌ وَلا يَعْرِفُهُ، وَفِي يَدِهِ قَضِيبٌ، فَأَدْخَلَ الْقَضِيبُ الْجُحْرَ الَّذِي أَلْقَمَهُ كَثِيرٌ عَيْنَهُ، فَأَخْرَجَ كَثِيرٌ عَيْنَهُ مِنَ الْجُحْرِ، وَوَلَّى مُدْبِرًا مُتَقَنِّعًا فَخَرَجَ عَمَّارٌ فَعَرَفَ أَثَرَهُ، وَنَادَى: يَا قَلِيلُ ابْنَ أُمِّ قَلِيلٍ! أَعَلَيَّ تَطَّلِعُ وَتَسْتَمِعُ حَدِيثِي! وَاللَّهِ لَوْ دَرِيتُ أَنَّكَ هُوَ لَفَقَأْتُ عَيْنَكَ بِالْقَضِيبِ، فان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ أَحَلَّ ذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَ عَمَّارٌ إِلَى سَعْدٍ، فَكَلَّمَهُ سَعْدٌ وَجَعَلَ يَفْتِلُهُ بِكُلِّ وَجْهٍ، فَكَانَ آخَرُ ذَلِكَ أَنْ قَالَ عَمَّارٌ: وَاللَّهِ لا أَرُدُّهُمْ عَنْهُ أَبَدًا فَرَجَعَ سَعْدٌ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ عَمَّارٌ، فَاتَّهَمَ عُثْمَانُ سَعْدًا أَنْ يَكُونَ لَمْ يُنَاصِحْهُ، فَأَقْسَمَ لَهُ سَعْدٌ بِاللَّهِ، لَقَدْ حُرِّضَ فَقَبِلَ مِنْهُ عُثْمَانُ.
قَالَ: وركب على ع إِلَى أَهْلِ مِصْرَ، فَرَدَّهُمْ عَنْهُ، فَانْصَرَفُوا رَاجِعِينَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ صالح، عن عاصم بن عمر، عن محمود بْنِ لبيد، قَالَ: لما نزلوا ذا خشب، كلم عثمان عليا واصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردوهم عنه، فركب علي وركب مَعَهُ نفر من الْمُهَاجِرِينَ، فِيهِمْ سَعِيد بن زَيْدٍ، وأبو جهم العدوي، وجبير بن مطعم، وحكيم بن حزام، ومروان بن الحكم، وسعيد بن الْعَاصِ، وعبد الرَّحْمَن بن عتاب بن أسيد، وخرج من الأنصار أَبُو أسيد الساعدي وأبو حميد الساعدي، وزَيْد بن ثَابِت، وحسان بن ثَابِت، وكعب بن مَالِكٍ، ومعهم من العرب نيار بن مكرم وغيرهم ثلاثون رجلا، وكلمهم علي ومحمد بن مسلمة- وهما اللذان قدما- فسمعوا مقالتهما، ورجعوا قَالَ محمود: فأخبرني مُحَمَّد بن مسلمة، قَالَ: مَا برحنا من ذي خشب حَتَّى رحلوا راجعين إِلَى مصر، وجعلوا يسلمون علي، فما أنسى قول عبد الرَّحْمَن بن عديس: أتوصينا يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن بحاجة؟ قَالَ: قلت: تتقي اللَّه وحده لا شريك له، وترد من قبلك عن إمامه، فإنه قَدْ وعدنا أن يرجع وينزع قَالَ ابن عديس: أفعل إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ: فرجع القوم إِلَى الْمَدِينَةِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
لما رجع على عليه السلام إِلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ قَدْ رَجَعُوا، وَكَلَّمَهُ عَلِيٌّ كَلامًا فِي نَفْسِهِ، قَالَ لَهُ: اعْلَمْ أَنِّي قَائِلٌ فِيكَ أَكْثَرَ مِمَّا قُلْتُ.
قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ إِلَى بَيْتِهِ، قَالَ: فَمَكَثَ عُثْمَانُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدُ جَاءَهُ مَرْوَانُ، فَقَالَ لَهُ: تَكَلَّمْ وَأَعْلِمِ النَّاسَ أَنَّ أَهْلَ مِصْرَ قَدْ رَجَعُوا، وَأَنَّ مَا بَلَغَهُمْ عَنْ إِمَامِهِمْ كَانَ بَاطِلا، فَإِنَّ خُطْبَتَكَ تَسِيرُ فِي الْبِلادِ قَبْلَ أَنْ يَتَحَلَّبَ النَّاسُ عَلَيْكَ مِنْ أَمْصَارِهِمْ، فَيَأْتِيكَ مَنْ لا تَسْتَطِيعُ دَفْعَهُ قَالَ: فَأَبَى عُثْمَانُ أَنْ يَخْرُجَ قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ بِهِ مَرْوَانُ حَتَّى خَرَجَ فَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ هَؤُلاءِ الْقَوْمَ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ كَانَ بَلَغَهُمْ عَنْ إِمَامِهِمْ أَمْرٌ، فَلَمَّا تَيَقَّنُوا أَنَّهُ بَاطِلٌ مَا بَلَغَهُمْ عَنْهُ رَجَعُوا إِلَى بِلادِهِمْ قَالَ: فَنَادَاهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ: اتَّقِ اللَّهَ يَا عُثْمَانُ، فَإِنَّكَ قَدْ رَكِبْتَ نَهَابِيرَ وَرَكِبْنَاهَا مَعَكَ، فَتُبْ إِلَى اللَّهِ نَتُبْ.
قَالَ: فناداه عثمان، وانك هناك يا بن النَّابِغَةِ! قَمِلَتْ وَاللَّهِ جُبَّتُكَ مُنْذُ تَرَكْتُكَ مِنَ الْعَمَلِ قَالَ: فَنُودِيَ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى: تُبْ إِلَى اللَّهِ وَأَظْهِرِ التَّوْبَةَ يَكُفَّ النَّاسُ عَنْكَ قَالَ: فَرَفَعَ عُثْمَانُ يَدَيْهِ مَدًّا وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَقَالَ:
اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ تَائِبٍ تَابَ إِلَيْكَ وَرَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَخَرَجَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ حَتَّى نَزَلَ مَنْزِلَهُ بِفِلَسْطِينَ، فَكَانَ يَقُولُ: وَاللَّهِ انى كُنْتُ لأَلْقَى الرَّاعِيَ فَأُحَرِّضُهُ عَلَيْهِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: فَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: ثُمَّ إِنَّ عَلِيًّا جَاءَ عُثْمَانُ بَعْدَ انْصِرَافِ الْمِصْرِيِّينَ، فَقَالَ لَهُ: تَكَلَّمْ كَلامًا يَسْمَعُهُ النَّاسُ مِنْكَ وَيَشْهَدُونَ عَلَيْهِ، وَيَشْهَدُ اللَّهُ عَلَى مَا فِي قَلْبِكَ مِنَ النُّزُوعِ وَالإِنَابَةِ، فَإِنَّ الْبِلادَ قَدْ تَمَخَّضَتْ عَلَيْكَ، فَلا آمَنُ رَكْبًا آخَرِينَ يَقْدَمُونَ مِنَ الْكُوفَةِ، فَتَقُولُ: يَا عَلِيُّ، ارْكَبْ إِلَيْهِمْ، وَلا أَقْدِرُ أَنْ أَرْكَبَ إِلَيْهِمْ، وَلا أَسْمَعُ عُذْرًا.
وَيَقْدُمُ رَكْبٌ آخَرُونَ مِنَ الْبَصْرَةِ، فَتَقُولُ: يَا عَلِيُّ ارْكَبْ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ رَأَيْتُنِي قَدْ قَطَعْتُ رَحِمَكَ، وَاسْتَخْفَفْتُ بِحَقِّكَ.
قَالَ: فَخَرَجَ عُثْمَانُ فَخَطَبَ الْخُطْبَةَ الَّتِي نَزَعَ فِيهَا، وَأَعْطَى النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ التَّوْبَةَ، فَقَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا الناس، فو الله مَا عَابَ مَنْ عَابَ مِنْكُمْ شَيْئًا أَجْهَلُهُ، وَمَا جِئْتُ شَيْئًا إِلا وَأَنَا أَعْرِفُهُ، وَلَكِنِّي مَنَّتْنِي نَفْسِي وَكَذَّبَتْنِي، وَضَلَّ عَنِي رُشْدِي، وَلَقَدْ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ زَلَّ فَلْيَتُبْ، وَمَنْ أَخْطَأَ فَلْيَتُبْ، ولا يتماد فِي الْهَلَكَةِ، إِنَّ مَنْ تَمَادَى فِي الْجَوْرِ كَانَ أَبْعَدَ مِنَ الطَّرِيقِ» فَأَنَا أَوَّلُ مَنِ اتَّعَظَ، أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِمَّا فَعَلْتُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، فَمِثْلِي نَزَعَ وَتَابَ، فَإِذَا نَزَلْت فَلْيَأْتِنِي أَشَرَافُكُمْ فليرونى رأيهم، فو الله لَئِنْ رَدَّنِي الْحَقُّ عَبْدًا لأَسْتَنُّ بِسُنَّةِ الْعَبْدِ، وَلأَذِلَّنَّ ذُلَّ الْعَبْدِ، وَلأَكُونَنَّ كَالْمَرْقُوقِ، إِنْ مُلِكَ صَبَرَ، وَإِنْ عُتِقَ شَكَرَ، وَمَا عَنِ اللَّهِ مَذْهَبٌ إِلا إِلَيْهِ، فَلا يَعْجَزَنَّ عَنْكُمْ خِيَارُكُمْ أَنْ يَدْنُوا إِلَيَّ، لَئِنْ أَبَتْ يَمِينِي لِتُتَابِعَنِي شِمَالِي.
قَالَ: فَرَقَّ النَّاسُ لَهُ يَوْمَئِذٍ، وَبَكَى من بكى منهم، وقام اليه سعيد ابن زَيْدٍ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَيْسَ بِوَاصِلٍ لَكَ مَنْ لَيْسَ مَعَكَ، اللَّهَ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ! فَأَتْمِمْ عَلَى مَا قُلْتَ فَلَمَّا نَزَلَ عُثْمَانُ وَجَدَ فِي مَنْزِلِهِ مَرْوَانَ وَسَعِيدًا وَنَفَرًا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، وَلَمْ يَكُونُوا شَهِدُوا الْخُطْبَةَ، فَلَمَّا جَلَسَ قَالَ مَرْوَانُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَتَكَلَّمُ أَمْ أَصْمُتُ؟ فَقَالَتْ نَائِلَةُ ابْنَةُ الْفُرَافِصَةِ، امْرَأَةُ عُثْمَانَ الْكَلْبِيَّةُ: لا بَلِ اصْمُتْ، فَإِنَّهُمْ وَاللَّهِ قَاتِلُوهُ وَمُؤْثِمُوهُ، إِنَّهُ قَدْ قَالَ مَقَالَةً لا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْزِعَ عَنْهَا فَأَقْبَلَ عليها مروان، فقال: ما أنت وذاك! فو الله لَقَدْ مَاتَ أَبُوكِ وَمَا يُحْسِنُ يتوضأ، فَقَالَتْ لَهُ: مَهْلا يَا مَرْوَانُ عَنْ ذِكْرِ الآبَاءِ، تُخْبِرُ عَنْ أَبِي وَهُوَ غَائِبٌ تَكْذِبُ عَلَيْهِ! وَإِنَّ أَبَاكَ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْلا أَنَّهُ عَمُّهُ، وَأَنَّهُ يَنَالُهُ غَمُّهُ، أَخْبَرْتُكَ عَنْهُ مَا لَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ قَالَ: فَأَعْرَضَ عَنْهَا مَرْوَانُ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَتَكَلَّمُ أَمْ أَصْمُتُ؟ قَالَ: بَلْ تَكَلَّمْ، فَقَالَ مَرْوَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ مَقَالَتَكَ هَذِهِ كَانَتْ وَأَنْتَ مُمْتَنِعٌ مَنِيعٌ فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ رَضِيَ بِهَا، وَأَعَانَ عَلَيْهَا، وَلَكِنَّكَ قُلْتَ مَا قُلْتَ حِينَ بَلَغَ الْحِزَامُ الطُّبْيَيْنِ، وَخَلَفَ السَّيْلُ الزُّبَى، وَحِينَ أَعْطَى الْخُطَّةَ الْذَلِيلَةَ الذَّلِيلُ، وَاللَّهِ لإِقَامَةٌ عَلَى خَطِيئَةٍ تَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْهَا أَجْمَلُ مِنْ تَوْبَةٍ تُخَوَّفُ عَلَيْهَا، وَإِنَّكَ إِنْ شِئْتَ تَقَرَّبْتَ بِالتَّوْبَةِ وَلَمْ تُقْرِرْ بِالْخَطِيئَةِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ إِلَيْكَ عَلَى الْبَابِ مِثْلُ الْجِبَالِ مِنَ النَّاسِ فَقَالَ عُثْمَانُ: فَاخْرُجْ اليهم فكلمهم، فانى استحى أَنْ أُكَلِّمَهُمْ قَالَ: فَخَرَجَ مَرْوَانُ إِلَى الْبَابِ وَالنَّاسُ يَرْكَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ قَدِ اجْتَمَعْتُمْ كَأَنَّكُمْ قَدْ جِئْتُمْ لِنَهْبٍ! شَاهَتِ الْوُجُوهِ! كُلُّ إِنْسَانٍ آخِذٌ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ أَلا مَنْ أُرِيدَ! جِئْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَنْزَعُوا مُلْكَنَا مِنْ أَيْدِينَا! اخْرُجُوا عَنَّا، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رُمْتُمُونَا لَيَمُرَّنَّ عَلَيْكُمْ مِنَّا أَمْرٌ لا يَسُرُّكُمْ، وَلا تَحْمَدُوا غِبَّ رَأْيِكُمْ ارْجِعُوا إِلَى مَنَازِلِكُمْ، فَإِنَّا وَاللَّهِ مَا نَحْنُ مَغْلُوبِينَ عَلَى مَا فِي أَيْدِينَا قَالَ: فَرَجَعَ النَّاسُ وَخَرَجَ بَعْضُهُمْ حَتَّى أَتَى عَلِيًّا فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، [فَجَاءَ عَلِيٌّ ع مُغْضَبًا، حَتَّى دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ: أَمَا رَضِيتَ مِنْ مَرْوَانَ وَلا رَضِيَ مِنْكَ إِلا بِتَحَرُّفِكَ عَنْ دِينِكَ وَعَنْ عَقْلِكَ، مِثْلَ جَمَلِ الظَّعِينَةِ يُقَادُ حَيْثُ يُسَارُ بِهِ، وَاللَّهِ مَا مَرْوَانُ بِذِي رَأْيٍ فِي دِينِهِ وَلا نَفْسِهِ، وَايْمُ اللَّهِ إِنِّي لأَرَاهُ سَيُورِدُكَ ثُمَّ لا يُصْدِرُكَ، وَمَا أَنَا بِعَائِدٍ بَعْدَ مُقَامِي هَذَا لِمُعَاتَبَتِكَ، أَذْهَبْتَ شَرَفَكَ، وَغَلَبْتَ عَلَى أَمْرِكَ] فَلَمَّا خَرَجَ عَلِيٌّ دَخَلَتْ عَلَيْهِ نَائِلَةُ ابْنَةُ الْفُرَافِصَةِ امْرَأَتُهُ، فَقَالَتْ: أَتَكَلَّمُ أَوْ أَسْكُتُ؟ فَقَالَ: تَكَلَّمِي، فقالت: قد سمعت قول على لك، وانه لَيْسَ يُعَاوِدُكَ، وَقَدْ أَطَعْتَ مَرْوَانَ يَقُودُكَ حَيْثُ شَاءَ قَالَ: فَمَا أَصْنَعُ؟ قَالَتْ: تَتَّقِي اللَّهَ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَتَتَّبِع سُنَّةَ صَاحِبَيْكَ مِنْ قَبْلِكَ، فَإِنَّكَ مَتَى أَطَعْتَ مَرْوَانَ قَتَلَكَ، وَمَرْوَانُ لَيْسَ لَهُ عِنْدَ النَّاسِ قَدْرٌ وَلا هَيْبَةٌ وَلا مَحَبَّةٌ، وَإِنَّمَا تَرَكَكَ النَّاسُ لِمَكَانِ مَرْوَانَ، فَأَرْسِلْ إِلَى عَلِيٍّ فَاسْتَصْلِحْهُ، فَإِنَّ لَهُ قَرَابَةً مِنْكَ، وَهُوَ لا يُعْصَى قَالَ: فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى عَلِيٍّ، فَأَبَى أَنْ يَأْتِيَهُ، وَقَالَ: قَدْ أَعْلَمْتُهُ أَنِّي لَسْتُ بِعَائِدٍ.
قَالَ: فَبَلَغَ مَرْوَانَ مَقَالَةُ نَائِلَةَ فِيهِ، قَالَ: فَجَاءَ إِلَى عُثْمَانَ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: أَتَكَلَّمُ أَوْ أَسْكُتُ؟ فَقَالَ: تَكَلَّمْ، فَقَالَ: إِنَّ بِنْتَ الْفُرَافِصَةِ فَقَالَ عُثْمَانُ: لا تَذْكُرَنَّهَا بِحَرْفٍ فاسوى لَكَ وَجْهَكَ، فَهِيَ وَاللَّهِ أَنْصَحُ لِي مِنْكَ. قَالَ: فَكَفَّ مَرْوَانُ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: وَحَدَّثَنِي شُرَحْبِيلُ بْنُ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ يَذْكُرُ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ، قَالَ: قَبَّحَ اللَّهُ مَرْوَانَ! خَرَجَ عُثْمَانُ إِلَى النَّاسِ فَأَعْطَاهُمُ الرِّضَا، وَبَكَى عَلَى الْمِنْبَرِ وَبَكَى النَّاسُ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى لِحْيَةِ عُثْمَانَ مُخَضَّلَةً مِنَ الدُّمُوعِ، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَتُوبُ إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَتُوبُ إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَتُوبُ إِلَيْكَ! وَاللَّهِ لَئِنْ رَدَّنِي الْحَقُّ إِلَى أَنْ أَكُونَ عَبْدًا قِنًّا لأَرْضَيَنَّ بِهِ، إِذَا دَخَلْتُ منزلي فادخلوا على، فو الله لا احتجب منكم، وَلأُعْطِيَنَّكُمُ الرِّضَا، وَلأَزِيدَنَّكُمْ عَلَى الرِّضَا، وَلأُنْحِيَنَّ مَرْوَانَ وَذَوِيهِ قَالَ: فَلَمَّا دَخَلَ أَمَرَ بِالْبَابِ فَفُتِحَ، وَدَخَلَ بَيْتَهُ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ مَرْوَانُ، فَلَمْ يَزَلْ يَفْتِلُهُ فِي الذِّرْوَةِ وَالْغَارِبِ حَتَّى فَتَلَهُ عَنْ رَأْيِهِ، وَأَزَالَهُ عَمَّا كَانَ يُرِيدُ، فَلَقَدْ مَكَثَ عُثْمَانُ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ مَا خَرَجَ اسْتِحْيَاءً مِنَ النَّاسِ، وَخَرَجَ مَرْوَانُ إِلَى النَّاسِ، فَقَالَ: شَاهَتِ الْوُجُوهُ! أَلا مَنْ أُرِيدَ! ارْجِعُوا إِلَى مَنَازِلِكُمْ، فَإِنْ يَكُنْ لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ حَاجَةٌ بِأَحَدٍ مِنْكُمْ يُرْسِلْ إِلَيْهِ، وَإِلا قَرَّ فِي بَيْتِهِ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَجِئْتُ إِلَى عَلِيٍّ فَأَجِدُهُ بَيْنَ الْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ، وَأَجِدُ عِنْدَهُ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَمُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ وَهُمَا يَقُولانِ:
صَنَعَ مَرْوَانُ بِالنَّاسِ وَصَنَعَ قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيَّ عَلِيٌّ، فَقَالَ: أَحَضَرْتَ خُطْبَةَ عُثْمَانَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: أَفَحَضَرْتَ مَقَالَةَ مَرْوَانَ لِلنَّاسِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ عَلِيٌّ: عِيَاذُ اللَّهِ، يَا لِلْمُسْلِمِينَ! إِنِّي إِنْ قَعَدْتُ فِي بَيْتِي قَالَ لِي: تَرَكْتَنِي وَقَرَابَتِي وَحَقِّي، وَإِنِّي إِنْ تَكَلَّمْتُ فَجَاءَ مَا يُرِيدُ يَلْعَبُ بِهِ مَرْوَانُ، فَصَارَ سِيقَةً لَهُ يَسُوقُهُ حَيْثُ شَاءَ بَعْدَ كِبَرِ السِّنِّ وَصُحْبَةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَسْوَدِ: فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى جَاءَ رَسُولُ عُثْمَانَ: ائْتِنِي، فَقَالَ عَلِيٌّ بَصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ عَالٍ مُغْضَبٍ: قُلْ لَهُ: مَا أَنَا بِدَاخِلٍ عَلَيْكَ وَلا عَائِدٍ.
قَالَ: فَانْصَرَفَ الرَّسُولُ قَالَ: فَلَقِيتُ عُثْمَانَ بَعْدَ ذَلِكَ بِلَيْلَتَيْنِ خَائِبًا، فَسَأَلْتُ نَاتِلا غُلامَهُ: مِنْ أَيْنَ جَاءَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: كَانَ عِنْدَ عَلِيٍّ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَسْوَدِ: فَغَدَوْتُ فَجَلَسْتُ مَعَ على عليه السلام، فَقَالَ لِي:
جَاءَنِي عُثْمَانُ الْبَارِحَةَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: إِنِّي غَيْرُ عَائِدٍ، وَإِنِّي فَاعِلٌ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: بَعْدَ مَا تَكَلَّمْتَ بِهِ عَلَى مِنْبَرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَأَعْطَيْتَ مِنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ دَخَلْتَ بَيْتَكَ، وَخَرَجَ مَرْوَانُ إِلَى النَّاسِ فَشَتَمَهُمْ عَلَى بَابِكَ وَيُؤْذِيهِمْ! قَالَ: فَرَجَعَ وَهُوَ يَقُولُ: قَطَعْتَ رَحِمِي وَخَذَلْتَنِي، وَجَرَّأْتَ النَّاسَ عَلَيَّ.
فَقُلْتُ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَذُبُّ الناس عنك، ولكنى كلا جِئْتُكَ بِهَنَةٍ أَظُنُّهَا لَكَ رِضًا جَاءَ بِأُخْرَى، فَسَمِعْتَ قَوْلَ مَرْوَانَ عَلَيَّ، وَاسْتَدْخَلْتَ مَرْوَانَ.
قَالَ: ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى بَيْتِهِ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَسْوَدِ: فَلَمْ أَزَلْ أَرَى عَلِيًّا مُنْكِبًا عَنْهُ لا يَفْعَلُ مَا كَانَ يَفْعَلُ، إِلا أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ كَلَّمَ طَلْحَةَ حِينَ حُصِرَ فِي أَنْ يُدْخِلَ عَلَيْهِ الرَّوَايَا، وَغَضِبَ فِي ذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا، حَتَّى دَخَلَتِ الرَّوَايَا عَلَى عُثْمَانَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَنَّ عُثْمَانَ صَعِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَقِمْ كِتَابَ اللَّهِ، فَقَالَ عُثْمَانُ: اجْلِسْ، فَجَلَسَ حَتَّى قَامَ ثَلاثًا، فَأَمَرَ بِهِ عُثْمَانُ فَجَلَسَ، فَتَحَاثَوْا بِالْحَصْبَاءِ حَتَّى مَا تُرَى السَّمَاءُ، وَسَقَطَ عَنِ الْمِنْبَرِ، وَحُمِلَ فَأُدْخِلَ دَارَهُ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِنْ حُجَّابِ عُثْمَانَ، وَمَعَهُ مُصْحَفٌ فِي يَدِهِ وَهُوَ يُنَادِي: {إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى ٱللَّهِ} [الأنعام: 159] وَدَخَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ مَغْشِيٌّ عَلَيْهِ، وَبَنُو أُمَيَّةَ حَوْلَهُ، فَقَالَ: مالك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَأَقْبَلَتْ بَنُو أُمَيَّةَ بِمَنْطِقٍ وَاحِدٍ، فَقَالُوا: يَا عَلِيُّ أَهْلَكْتَنَا وَصَنَعْتَ هَذَا الصَّنِيعَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ! أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ بَلَغْتَ الَّذِي تُرِيدُ لَتَمُرَّنَّ عَلَيْكَ الدُّنْيَا فَقَامَ عَلِيٌّ مغضبا.

ذكر الخبر عن قتل عثمان رضى الله عنه
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ عُثْمَانُ بْن عَفَّانَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
ذكر الخبر عن قتله وكيف قتل:
قَالَ أَبُو جَعْفَر رحمه اللَّه: قَدْ ذكرنا كثيرا من الأسباب الَّتِي ذكر قاتلوه أَنَّهُمْ جعلوها ذريعة إِلَى قتله، فأعرضنا عن ذكر كثير منها لعلل دعت إِلَى الإعراض عنها، ونذكر الآن كيف قتل، وما كَانَ بدء ذَلِكَ وافتتاحه، ومن كَانَ المبتدئ به والمفتتح للجرأة عَلَيْهِ قبل قتله.
ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ حَدَّثَهُ عَنِ أُمِّ بَكْرٍ بِنْتِ الْمُسَوَّرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، عَنْ أَبِيهَا، قَالَ: قَدِمَتْ إِبِلٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ عَلَى عُثْمَانَ، فَوَهَبَهَا لِبَعْضِ بَنِي الْحَكَمِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، فأرسل الى المسور ابن مَخْرَمَةَ وَإِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ فَأَخَذَاهَا، فَقَسَمَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ فِي النَّاسِ وَعُثْمَانُ فِي الدَّارِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ صالح، عَنْ عُبَيْدِ الله بن رافع ابن نقاخة، عن عُثْمَان بن الشريد، قَالَ: مر عُثْمَان عَلَى جبلة بن عَمْرو الساعدي وَهُوَ بفناء داره، وَمَعَهُ جامعة، فَقَالَ: يَا نعثل، وَاللَّهِ لأقتلنك، ولأحملنك عَلَى قلوص جرباء، ولأخرجنك إِلَى حرة النار ثُمَّ جاءه مرة أخرى وعثمان عَلَى الْمِنْبَر فأنزله عنه.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: كَانَ أَوَّلَ مَنِ اجْتَرَأَ عَلَى عُثْمَانَ بِالْمَنْطِقِ السَّيِّئِ جبله ابن عَمْرٍو السَّاعِدِيَّ، مَرَّ بِهِ عُثْمَانُ وَهُوَ جَالِسٌ فِي نَدِيِّ قَوْمِهِ، وَفِي يَدِ جَبَلَةَ بْنِ عَمْرٍو جَامِعَةٌ، فَلَمَّا مَرَّ عُثْمَانُ سَلَّمَ، فَرَدَّ الْقَوْمُ، فَقَالَ جَبَلَةُ: لِمَ تَرُدُّونَ عَلَى رَجُلٍ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا! قَالَ: ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لأَطْرَحَنَّ هَذِهِ الْجَامِعَةَ فِي عُنُقِكَ أَوْ لَتَتْرُكَنَّ بِطَانَتَكَ هَذِهِ قَالَ عُثْمَانُ: اى بطانه! فو الله إِنِّي لأَتَخَيَّرُ النَّاسَ، فَقَالَ: مَرْوَانُ تَخَيَّرْتَهُ! وَمُعَاوِيَةُ تَخَيَّرْتَهُ! وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ تَخَيَّرْتَهُ! وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ تَخَيَّرْتَهُ! مِنْهُمْ من نزل القرآن بدمه، وأباح رسول الله صلى الله عليه وسلم دَمَهُ.
قَالَ: فَانْصَرَفَ عُثْمَانُ، فَمَا زَالَ النَّاسُ مُجْتَرِئِينَ عَلَيْهِ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عمر: وَحَدَّثَنِي ابن أبي الزناد، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي حَبِيبَةَ، قَالَ: خَطَبَ عُثْمَانُ النَّاسَ فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّكَ قَدْ رَكِبْتَ نَهَابِيرَ وَرَكِبْنَاهَا مَعَكَ، فَتُبْ نَتُبْ فَاسْتَقْبَلَ عُثْمَانُ الْقِبْلَةَ وَشَهَرَ يَدَيْهِ- قَالَ أَبُو حَبِيبَةَ: فَلَمْ أَرَ يَوْمًا أَكْثَرَ بَاكِيًا وَلا بَاكِيَةً مِنْ يَوْمَئِذٍ- ثُمَّ لَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ خَطَبَ النَّاسَ، فَقَامَ إِلَيْهِ جَهْجَاهٌ الْغِفَارِيُّ، فَصَاحَ: يَا عُثْمَانُ، أَلا إِنَّ هَذِهِ شَارِفٌ قَدْ جِئْنَا بِهَا، عَلَيْهَا عَبَاءَةٌ وَجَامِعَةٌ، فَانْزِلْ فَلْنُدْرِعْكَ الْعَبَاءَةَ، وَلْنَطْرَحَكَ فِي الْجَامِعَةِ، وَلْنَحْمِلَكَ عَلَى الشَّارِفِ، ثُمَّ نَطْرَحُكَ فِي جَبَلِ الدُّخَانِ فَقَالَ عُثْمَانُ: قَبَّحَكَ اللَّهُ وَقَبَّحَ مَا جِئْتَ بِهِ! قَالَ أَبُو حَبِيبَةَ: وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُ إِلا عَنْ مَلإٍ مِنَ النَّاسِ، وَقَامَ إِلَى عُثْمَانَ خِيرَتِهِ وَشِيعَتِهِ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ فَحَمَلُوهُ فَأَدْخَلُوهُ الدَّارَ.
قَالَ أَبُو حَبِيبَةَ: فَكَانَ آخِرُ مَا رَأَيْتُهُ فِيهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَحَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْد اللَّيْثِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عبد الرحمن ابن خاطب، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أنا أنظر إِلَى عثمان يخطب على عصا النبي صلى الله عليه وسلم الَّتِي كَانَ يخطب عَلَيْهَا وأبو بكر وعمر رضي اللَّه عنهما، فَقَالَ لَهُ جَهْجَاه: قم يَا نعثل، فانزل عن هَذَا الْمِنْبَر، وأخذ العصا فكسرها عَلَى ركبته اليمنى، فدخلت شظية منها فِيهَا، فبقي الجرح حَتَّى أصابته الأكلة، فرأيتها تدود، فنزل عُثْمَان وحملوه وأمر بالعصا فشدوها، فكانت مضببة، فما خرج بعد ذَلِكَ الْيَوْم إلا خرجة أو خرجتين حَتَّى حصر فقتل.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ادريس، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، أن جهجاها الْغِفَارِيّ، أخذ عصا كَانَتْ فِي يد عُثْمَان، فكسرها عَلَى ركبته، فرمي فِي ذَلِكَ المكان بأكلة حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُحَمَّدِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرو، عن مُحَمَّد ابن إِسْحَاق بن يسار المدني، عن عمه عبد الرَّحْمَن بن يسار، أنه قَالَ: لما رَأَى الناس مَا صنع عُثْمَان كتب من بِالْمَدِينَةِ من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إِلَى من بالآفاق مِنْهُمْ- وكانوا قَدْ تفرقوا فِي الثغور: إنكم إنما خرجتم أن تجاهدوا فِي سبيل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، تطلبون دين محمد صلى الله عليه وسلم، فإن دين مُحَمَّد قَدْ أفسد من خلفكم وترك، فهلموا فأقيموا دين مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأقبلوا من كل أفق حَتَّى قتلوه.
وكتب عُثْمَان إِلَى عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ أبي سرح عامله عَلَى مصر- حين تراجع الناس عنه، وزعم أنه تائب- بكتاب فِي الَّذِينَ شخصوا من مصر، وكانوا أشد أهل الأمصار عَلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ، فانظر فلانا وفلانا فاضرب أعناقهم إذا قدموا عَلَيْك، فانظر فلانا وفلانا فعاقبهم بكذا وكذا- مِنْهُمْ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنهم قوم من التابعين- فكان رسوله فِي ذَلِكَ أَبُو الأعور بن سُفْيَان السلمي، حمله عُثْمَان عَلَى جمل لَهُ، ثُمَّ أمره أن يقبل حَتَّى يدخل مصر قبل أن يدخلها القوم، فلحقهم أَبُو الأعور ببعض الطريق، فسألوه: أين يريد؟ قَالَ: أريد مصر، وَمَعَهُ رجل من أهل الشام من خولان، فلما رأوه عَلَى جمل عُثْمَان، قَالُوا لَهُ: هل معك كتاب؟ قَالَ: لا، قَالُوا: فيم أرسلت؟ قَالَ: لا علم لي، قَالُوا: ليس معك كتاب وَلا علم لك بِمَا أرسلت! إن أمرك لمريب! ففتشوه، فوجدوا مَعَهُ كتابا فِي إداوة يابسة، فنظروا فِي الكتاب، فإذا فِيهِ قتل بعضهم وعقوبة بعضهم فِي أنفسهم وأموالهم فلما رأوا ذَلِكَ رجعوا إِلَى الْمَدِينَةِ، فبلغ الناس رجوعهم، والذي كَانَ من أمرهم فتراجعوا من الآفاق كلها، وثار أهل الْمَدِينَةِ.
حَدَّثَنِي جَعْفَرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو وَعَلِيٌّ، قالا: حدثنا حسين، عن أبيه، عن محمد بْنِ السَّائِبِ الْكَلْبِيِّ، قَالَ: إِنَّمَا رَدَّ أَهْلَ مِصْرَ إِلَى عُثْمَانَ بَعْدَ انْصِرَافِهِمْ عَنْهُ أَنَّهُ أَدْرَكَهُمْ غُلامٌ لِعُثْمَانَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ بِصَحِيفَةٍ إِلَى أَمِيرِ مِصْرَ أَنْ يُقَتِّلَ بَعْضَهُمْ، وَأَنْ يُصَلِّبَ بَعْضَهُمْ فَلَمَّا أَتَوْا عُثْمَانَ، قَالُوا: هَذَا غُلامُكَ، قَالَ: غُلامِي انْطَلَقَ بِغَيْرِ عِلْمِي، قَالُوا: جَمَلَكَ، قَالَ: أَخَذَهُ مِنَ الدَّارِ بِغَيْرِ أَمْرِي، قَالُوا: خَاتَمُكَ، قَالَ: نُقِشَ عَلَيْهِ، فَقَالَ عَبْدُ الرحمن ابن عُدَيْسٍ التُّجِيبِيُّ حِينَ أَقْبَلَ أَهْلُ مِصْرَ:

أَقْبَلْنَ مِنْ بُلْبَيسَ وَالصَّعِيدْ *** خُوصًا كَأَمْثَالِ الْقِسِيِّ قُودْ
مستحقبات حلق الحديد *** يطلبن حق الله في الْوَلِيدْ
وَعِنْدَ عُثْمَانَ وَفِي سَعِيدْ *** يَا رَبِّ فَارْجِعْنَا بِمَا نُرِيدْ

فَلَمَّا رَأَى عُثْمَانُ مَا قَدْ نَزَلَ بِهِ، وَمَا قَدِ انْبَعَثَ عَلَيْهِ مِنَ النَّاسِ، كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ بِالشَّامِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ قَدْ كَفَرُوا وَأَخْلَفُوا الطَّاعَةَ، وَنَكَثُوا الْبَيْعَةَ، فَابْعَثْ إِلَيَّ مِنْ قِبَلِكَ مِنْ مُقَاتِلَةِ أَهْلِ الشَّامِ عَلَى كُلِّ صَعْبٍ وَذَلُولٍ.
فَلَمَّا جَاءَ مُعَاوِيَةَ الْكِتَابُ تَرَبَّصَ بِهِ، وَكَرِهَ إِظْهَارَ مُخَالَفَةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ عَلِمَ اجْتِمَاعَهُمْ، فَلَمَّا أَبْطَأَ أَمْرُهُ عَلَى عُثْمَانَ كَتَبَ إِلَى يَزِيدَ بْنِ أَسَدِ بْنِ كُرْزٍ، وَإِلَى أَهْلِ الشَّامِ يَسْتَنْفِرُهُمْ وَيُعَظِّمُ حَقَّهُ عَلَيْهِمْ، وَيَذْكُرُ الْخُلَفَاءَ وَمَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ مِنْ طَاعَتِهِمْ وَمُنَاصَحَتِهِمْ، وَوَعَدَهُمْ أَنْ يَنْجُدَهُمْ جُنْدٌ أَوْ بِطَانَةٌ دُونَ النَّاسِ، وَذَكَّرَهُمْ بَلاءَهُ عِنْدَهُمْ، وَصَنِيعَهُ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَكُمْ غِيَاثٌ فَالْعَجَلَ الْعَجَلَ، فَإِنَّ الْقَوْمَ مُعَاجِلِيَّ.
فَلَمَّا قُرِئَ كِتَابُهُ عَلَيْهِمْ قَامَ يَزِيدُ بْنُ أَسَدِ بْنِ كُرْزٍ الْبَجَلِيُّ ثُمَّ الْقَسْرِيُّ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ عُثْمَانَ، فَعَظَّمَ حَقَّهُ، وَحَضَّهُمْ عَلَى نَصْرِهِ، وَأَمَرَهُمْ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ فَتَابَعَهُ نَاسٌ كَثِيرٌ، وَسَارُوا مَعَهُ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِوَادِي الْقُرَى، بَلَغَهُمْ قَتْلُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَرَجَعُوا.
وَكَتَبَ عُثْمَانُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ، أَنِ انْدُبْ إِلَيَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ، نُسْخَةَ كِتَابِهِ إِلَى أَهْلِ الشَّامِ فَجَمَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ النَّاسَ، فَقَرَأَ كِتَابَهُ عَلَيْهِمْ، فَقَامَتْ خُطَبَاءُ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَحُضُّونَهُ عَلَى نَصْرِ عُثْمَانَ وَالْمَسِيرِ إِلَيْهِ، فِيهِمْ مُجَاشِعُ بْنُ مَسْعُودٍ السُّلَمِيُّ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ قَيْسٍ بِالْبَصْرَةِ وَقَامَ أيضا قيس ابن الْهَيْثَمِ السُّلَمِيُّ، فَخَطَبَ وَحَضَّ النَّاسَ عَلَى نَصْرِ عُثْمَانَ، فَسَارَعَ النَّاسُ إِلَى ذَلِكَ، فَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ مُجَاشِعَ بْنَ مَسْعُودٍ فَسَارَ بِهِمْ، حَتَّى إِذَا نَزَلَ النَّاسُ الرَّبَذَةَ، وَنَزَلَتْ مُقَدِّمَتُهُ عِنْدَ صِرَارَ- نَاحِيَةٍ مِنَ الْمَدِينَةِ- أَتَاهُمْ قَتْلُ عُثْمَانَ.
حَدَّثَنِي جَعْفَرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو وَعَلِيٌّ، قَالا: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، عَنْ أَبِيهِ، عن مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن يسار المدني، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كتب أهل مصر بالسقيا- أو بذي خشب- إِلَى عُثْمَانَ بكتاب، فَجَاءَ بِهِ رجل مِنْهُمْ حَتَّى دخل بِهِ عَلَيْهِ، فلم يرد عَلَيْهِ شَيْئًا، فأمر بِهِ فأخرج من الدار، وَكَانَ أهل مصر الذين ساروا الى عثمان ستمائه رجل عَلَى أربعة ألوية لها رءوس أربعة، مع كل رجل مِنْهُمْ لواء، وَكَانَ جماع أمرهم جميعا إِلَى عَمْرو بن بديل بن ورقاء الخزاعي- وكان من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- وإلى عبد الرَّحْمَن بن عديس التُّجِيبِيّ، فكان فِيمَا كتبوا إِلَيْهِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَمَّا بَعْدُ، فاعلم {إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، فاللَّه اللَّه! ثُمَّ اللَّه اللَّه! فإنك عَلَى دنيا فاستتم إِلَيْهَا معها آخرة، وَلا تلبس نصيبك من الآخرة، فلا تسوغ لك الدُّنْيَا.
واعلم أنا وَاللَّهِ لِلَّهِ نغضب، وفي اللَّه نرضى، وأنا لن نضع سيوفنا عن عواتقنا حتى تأتينا منك توبه مصرحه، اضلاله مجلحة مبلجة، فهذه مقالتنا لك، وقضيتنا إليك، وَاللَّه عذيرنا مِنْكَ والسلام.
وكتب أهل الْمَدِينَةِ إِلَى عُثْمَانَ يدعونه إِلَى التوبة، ويحتجون ويقسمون لَهُ بِاللَّهِ لا يمسكون عنه أبدا حَتَّى يقتلوه، أو يعطيهم مَا يلزمه من حق اللَّه.
فلما خاف القتل شاور نصحاءه وأهل بيته، فَقَالَ لَهُمْ: قَدْ صنع القوم مَا قَدْ رأيتم، فما المخرج؟ فأشاروا عَلَيْهِ أن يرسل إِلَى عَلِيّ بن أَبِي طَالِبٍ فيطلب إِلَيْهِ أن يردهم عنه، ويعطيهم مَا يرضيهم ليطاولهم حَتَّى يأتيه أمداد، فَقَالَ: إن القوم لن يقبلوا التعليل، وهم محملي عهدا، وَقَدْ كَانَ مني فِي قدمتهم الأولى مَا كَانَ، فمتى أعطهم ذَلِكَ يسألوني الوفاء بِهِ! فَقَالَ مَرْوَان بن الحكم: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مقاربتهم حَتَّى تقوى أمثل من مكاثرتهم عَلَى القرب، فأعطهم مَا سألوك، وطاولهم مَا طاولوك، فإنما هم بغوا عَلَيْك، فلا عهد لَهُمْ.
فأرسل إِلَى علي فدعاه، فلما جاءه قَالَ: يَا أَبَا حسن، إنه قَدْ كَانَ مِنَ النَّاسِ مَا قَدْ رأيت، وَكَانَ مني مَا قَدْ علمت، ولست آمنهم عَلَى قتلي، فارددهم عني، فإن لَهُمُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أن أعتبهم من كل مَا يكرهون، وأن أعطيهم الحق من نفسي ومن غيري، وإن كَانَ فِي ذَلِكَ سفك دمي فَقَالَ لَهُ علي: الناس إِلَى عدلك أحوج مِنْهُمْ إِلَى قتلك، وإني لأرى قوما لا يرضون إلا بالرضا، وَقَدْ كنت أعطيتهم فِي قدمتهم الأولى عهدا من اللَّه: لترجعن عن جميع مَا نقموا، فرددتهم عنك، ثُمَّ لم تف لَهُمْ بشيء من ذَلِكَ، فلا تغرني هَذِهِ المرة من شَيْء فإني معطيهم عَلَيْك الحق قال: نعم، فأعطهم، فو الله لأفين لَهُمْ فخرج علي إِلَى النَّاسِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إنكم إنما طلبتم الحق فقد أعطيتموه، إن عُثْمَان قَدْ زعم أنه منصفكم من نفسه ومن غيره، وراجع عن جميع مَا تكرهون، فاقبلوا مِنْهُ ووكدوا عَلَيْهِ قَالَ الناس: قَدْ قبلنا فاستوثق مِنْهُ لنا، فإنا وَاللَّهِ لا نرضى بقول دون فعل فَقَالَ لَهُمْ علي: ذَلِكَ لكم ثُمَّ دخل عَلَيْهِ فأخبره الخبر، فَقَالَ عُثْمَان: اضرب بيني وبينهم أجلا يكون لي فِيهِ مهلة، فإني لا أقدر عَلَى رد مَا كرهوا فِي يوم واحد، قَالَ لَهُ علي: مَا حضر بِالْمَدِينَةِ فلا أجل فِيهِ، وما غاب فأجله وصول أمرك، قَالَ: نعم، ولكن أجلني فِيمَا بِالْمَدِينَةِ ثلاثة أيام قَالَ علي: نعم، فخرج إِلَى النَّاسِ فأخبرهم بِذَلِكَ، وكتب بينهم وبين عُثْمَان كتابا أجله فِيهِ ثلاثا، عَلَى أن يرد كل مظلمة، ويعزل كل عامل كرهوه، ثُمَّ أخذ عَلَيْهِ فِي الكتاب أعظم مَا أخذ اللَّه عَلَى أحد من خلقه من عهد وميثاق، وأشهد عَلَيْهِ ناسا من وجوه الْمُهَاجِرِينَ والأنصار، فكف الْمُسْلِمُونَ عنه ورجعوا إِلَى أن يفي لَهُمْ بِمَا أعطاهم من نفسه، فجعل يتأهب للقتال، ويستعد بالسلاح- وَقَدْ كَانَ اتخذ جندا عظيما من رقيق الخمس- فلما مضت الأيام الثلاثة- وَهُوَ عَلَى حاله لم يغير شَيْئًا مما كرهوه، ولم يعزل عاملا- ثار بِهِ الناس.
وخرج عَمْرو بن حزم الأَنْصَارِيّ حَتَّى أتى المصريين وهم بذي خشب، فأخبرهم الخبر، وسار معهم حَتَّى قدموا الْمَدِينَةَ، فأرسلوا إِلَى عُثْمَانَ: ألم نفارقك عَلَى أنك زعمت أنك تائب من أحداثك، وراجع عما كرهنا مِنْكَ، وأعطيتنا عَلَى ذَلِكَ عهد اللَّه وميثاقه! قَالَ: بلى، أنا عَلَى ذَلِكَ، قَالُوا: فما هَذَا الكتاب الَّذِي وجدنا مع رسولك، وكتبت بِهِ إِلَى عاملك؟
قَالَ: مَا فعلت وَلا لي علم بِمَا تقولون قَالُوا: بريدك عَلَى جملك، وكتاب كاتبك عَلَيْهِ خاتمك، قَالَ: أما الجمل فمسروق، وَقَدْ يشبه الخط الخط، وأما الخاتم فانتقش عَلَيْهِ، قَالُوا: فإنا لا نعجل عَلَيْك، وإن كنا قَدِ اتهمناك، اعزل عنا عمالك الفساق، وَاسْتَعْمَلَ علينا من لا يتهم عَلَى دمائنا وأموالنا، واردد علينا مظالمنا قَالَ عُثْمَان: مَا أراني إذا فِي شَيْءٍ إن كنت أستعمل من هويتم، وأعزل من كرهتم، الأمر إذا أمركم! قَالُوا: وَاللَّهِ لتفعلن أو لتعزلن أو لتقتلن، فانظر لنفسك اودع فأبى عَلَيْهِم وَقَالَ: لم أكن لأخلع سربالا سربلنيه اللَّه، فحصروه أربعين ليلة، وَطَلْحَة يصلي بِالنَّاسِ.
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيمَ، عن ابن عون، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَن، قَالَ: أنبأني وثاب- قَالَ: وَكَانَ فيمن أدركه عتق أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: ورأيت بحلقه أثر طعنتين، كأنهما كتبان طعنهما يَوْمَئِذٍ يوم الدار- قَالَ: بعثني عُثْمَان، فدعوت لَهُ الأَشْتَر، فَجَاءَ- قَالَ ابن عون: فأظنه قَالَ: فطرحت لأمير الْمُؤْمِنِينَ وسادة وله وسادة- فَقَالَ: يَا أشتر، مَا يريد الناس مني؟ قَالَ: ثلاثا ليس من إحداهن بد، قَالَ: مَا هن؟ قَالَ: يخيرونك بين أن تخلع لَهُمْ أمرهم فتقول: هَذَا أمركم فاختاروا لَهُ من شئتم، وبين أن تقص من نفسك، فإن أبيت هاتين فإن القوم قاتلوك فَقَالَ: أما من إحداهن بد! قَالَ: مَا من إحداهن بد، فَقَالَ: أما أن أخلع لَهُمْ أمرهم فما كنت لأخلع سربالا سربلنيه اللَّه عَزَّ وَجَلَّ- قَالَ: وَقَالَ غيره: وَاللَّهِ لأن أقدم فتضرب عنقي أحب إلي من ان أخلع قميصا قمصنيه اللَّه وأترك أمة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم يعد وبعضها عَلَى بعض قَالَ ابن عون: وهذا أشبه بكلامه- واما ان أقص من نفسي، فو الله لقد علمت أن صاحبي بين يدي قَدْ كانا يعاقبان وما يقوم بدني بالقصاص، وإما ان تقتلوني، فو الله لَئِنْ قتلتموني لا تتحابون بعدي أبدا، وَلا تصلون جميعا بعدي أبدا، وَلا تقاتلون بعدي عدوا جميعا أبدا قَالَ: فقام الأَشْتَر فانطلق، فمكثنا أياما قَالَ: ثُمَّ جَاءَ رويجل كأنه ذئب، فاطلع من باب، ثُمَّ رجع وجاء مُحَمَّد بن أبي بكر وثلاثة عشر حَتَّى انتهى إِلَى عُثْمَانَ، فأخذ بلحيته، فَقَالَ بِهَا حَتَّى سمعت وقع أضراسه، وَقَالَ: مَا أغنى عنك مُعَاوِيَة، مَا أغنى عنك ابن عَامِر، مَا أغنت عنك كتبك! قَالَ: أرسل لحيتي يا بن أخي، أرسل لحيتي قَالَ: وأنا رأيته استعدى رجلا من القوم بعينه، فقام إِلَيْهِ بمشقص حَتَّى وجأ بِهِ فِي رأسه قلت: ثُمَّ مه، قَالَ: تغاووا عَلَيْهِ حَتَّى قتلوه.
وذكر الْوَاقِدِيّ أن يَحْيَى بن عَبْدِ الْعَزِيزِ حدثه عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مَحْمُودٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مسلمة، قَالَ: خرجت فِي نفر من قومي إِلَى المصريين وَكَانَ رؤساؤهم أربعة: عبد الرَّحْمَن بن عديس البلوي، وسودان بن حمران المرادي، وعمرو بن الحمق الخزاعي- وَقَدْ كَانَ هَذَا الاسم غلب حَتَّى كَانَ يقال: حبيس بن الحمق- وابن النباع قَالَ: فدخلت عَلَيْهِم وهم فِي خباء لَهُمْ أربعتهم، ورأيت الناس لَهُمْ تبعا، قَالَ: فعظمت حق عُثْمَان وما فِي رقابهم من البيعة، وخوفتهم بالفتنة، وأعلمتهم أن فِي قتله اختلافا وأمرا عظيما، فلا تكونوا أول من فتحه، وإنه ينزع عن هَذِهِ الخصال الَّتِي نقمتم منها عَلَيْهِ، وأنا ضامن لذلك قَالَ القوم: فإن لم ينزع؟ قَالَ: قلت: فأمركم إليكم. قَالَ: فانصرف القوم وهم راضون، فرجعت إِلَى عُثْمَانَ، فقلت: أخلني فأخلاني، فقلت: اللَّه اللَّه يَا عُثْمَانُ فِي نفسك! إن هَؤُلاءِ القوم إنما قدموا يريدون دمك، وأنت ترى خذلان أَصْحَابك لك، لا بل هم يقوون عدوك عَلَيْك قَالَ: فأعطاني الرضا، وجزاني خيرا قَالَ: ثُمَّ خرجت من عنده، فأقمت مَا شاء اللَّه أن أقيم.
قَالَ: وَقَدْ تكلم عُثْمَان برجوع المصريين، وذكر أَنَّهُمْ جاءوا لأمر، فبلغهم غيره فانصرفوا، فأردت أن آتيه فأعنفه بهما، ثُمَّ سكت فإذا قائل يقول:
قَدْ قدم الْمِصْرِيُّونَ وهم بالسويداء، قَالَ: قلت: أحق مَا تقول؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فأرسل إلي عُثْمَان.
قَالَ: وإذا الخبر قَدْ جاءه، وَقَدْ نزل القوم من ساعتهم ذا خشب، فَقَالَ: يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن، هَؤُلاءِ القوم قَدْ رجعوا، فما الرأي فِيهِمْ؟
قَالَ: قلت: وَاللَّهِ مَا أدري، إلا أني أظن أَنَّهُمْ لم يرجعوا لخير قَالَ: فارجع إِلَيْهِم فارددهم، قَالَ: قلت: لا وَاللَّهِ مَا أنا بفاعل، قَالَ: ولم؟ قَالَ: لأني ضمنت لَهُمْ أمورا تنزع عنها فلم تنزع عن حرف واحد منها قَالَ: فَقَالَ:
اللَّه المستعان.
قَالَ: وخرجت وقدم القوم وحلوا بالأسواف، وحصروا عُثْمَان.
قَالَ: وجاءني عبد الرَّحْمَن بن عديس وَمَعَهُ سودان بن حمران وصاحباه، فَقَالُوا: يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن، ألم تعلم أنك كلمتنا ورددتنا وزعمت أن صاحبنا نازع عما نكره؟ فقلت: بلى، قَالَ: فإذا هم يخرجون إلي صحيفة صغيرة.
قَالَ: وإذا قصبة من رصاص، فإذا هم يقولون: وجدنا جملا من إبل الصدقة عَلَيْهِ غلام عُثْمَان، فأخذنا متاعه ففتشناه، فوجدنا فِيهِ هَذَا الكتاب، فإذا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَمَّا بَعْدُ، فإذا قدم عليك عبد الرحمن ابن عديس فاجلده مائة جلدة، واحلق رأسه ولحيته، وأطل حبسه حَتَّى يأتيك أمري، وعمرو بن الحمق فافعل بِهِ مثل ذَلِكَ، وسودان بن حمران مثل ذَلِكَ، وعروة بن النباع اللَّيْثِيّ مثل ذَلِكَ قَالَ: فقلت: وما يدريكم أن عُثْمَان كتب بهذا؟ قَالُوا: فيفتات مَرْوَان عَلَى عُثْمَانَ بهذا! فهذا شر، فيخرج نفسه من هَذَا الأمر ثُمَّ قَالُوا: انطلق معنا إِلَيْهِ، فقد كلمنا عَلِيًّا، ووعدنا أن يكلمه إذا صلى الظهر وجئنا سعد بن أَبِي وَقَّاص، فَقَالَ: لا أدخل فِي أمركم وجئنا سَعِيد بن زَيْد بن عَمْرو بن نفيل فَقَالَ مثل هَذَا، فَقَالَ مُحَمَّد: فأين وعدكم علي؟ قَالُوا: وعدنا إذا صلى الظهر أن يدخل عَلَيْهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: فصليت مع علي، قَالَ: ثُمَّ دخلت أنا وعلي عَلَيْهِ، فقلنا: إن هَؤُلاءِ المصريين بالباب، فأذن لَهُمْ- قَالَ: ومروان عنده جالس- قَالَ:
فَقَالَ مَرْوَان: دعني جعلت فداك أكلمهم! قَالَ: فَقَالَ عُثْمَان: فض اللَّه فاك! اخرج عني، وما كلامك فِي هَذَا الأمر! قَالَ: فخرج مَرْوَان، قَالَ: وأقبل علي عَلَيْهِ- قَالَ: وَقَدْ أنهى الْمِصْرِيُّونَ إِلَيْهِ مثل الَّذِي أنهوا إلي- قَالَ: فجعل علي يخبره مَا وجدوا فِي كتابهم قَالَ: فجعل يقسم بِاللَّهِ مَا كتب وَلا علم وَلا شوور فِيهِ قَالَ: فَقَالَ مُحَمَّد بن مسلمة: وَاللَّهِ إنه لصادق، ولكن هَذَا عمل مَرْوَان، فَقَالَ علي: فأدخلهم عَلَيْك، فليسمعوا عذرك، قَالَ: ثُمَّ أقبل عُثْمَان عَلَى علي، فَقَالَ: إن لي قرابة ورحما، وَاللَّهِ لو كنت فِي هَذِهِ الحلقة لحللتها عنك، فاخرج إِلَيْهِم، فكلمهم، فإنهم يسمعون مِنْكَ قَالَ علي: وَاللَّهِ مَا أنا بفاعل، ولكن أدخلهم حَتَّى تعتذر إِلَيْهِم، قَالَ: فأدخلوا.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مسلمة: فدخلوا يَوْمَئِذٍ، فما سلموا عَلَيْهِ بالخلافة، فعرفت أنه الشر بعينه، قَالُوا: سلام عَلَيْكُمْ، فقلنا: وعَلَيْكُمُ السلام، قَالَ: فتكلم القوم وَقَدْ قدموا فِي كلامهم ابن عديس، فذكر مَا صنع ابن سعد بمصر، وذكر تحاملا مِنْهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وأهل الذمة، وذكر استئثارا مِنْهُ فِي غنائم الْمُسْلِمِينَ، فإذا قيل لَهُ فِي ذَلِكَ، قَالَ: هَذَا كتاب أَمِير الْمُؤْمِنِينَ إلي، ثُمَّ ذكروا أشياء مما أحدث بِالْمَدِينَةِ، وما خالف بِهِ صاحبيه قَالَ: فرحلنا من مصر ونحن لا نريد إلا دمك أو تنزع، فردنا علي ومحمد بن مسلمة، وضمن لنا مُحَمَّد النزوع عن كل مَا تكلمنا فِيهِ- ثُمَّ أقبلوا عَلَى مُحَمَّد بن مسلمة، فَقَالُوا: هل قلت ذاك لنا؟ قَالَ مُحَمَّدٌ: فقلت: نعم- ثُمَّ رجعنا إِلَى بلادنا نستظهر بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْك ويكون حجة لنا بعد حجة حَتَّى إذا كنا بالبويب أخذنا غلامك فأخذنا كتابك وخاتمك إِلَى عَبْد اللَّهِ بن سَعْدٍ، تأمره فِيهِ بجلد ظهورنا، والمثل بنا فِي أشعارنا، وطول الحبس لنا، وهذا كتابك.
قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ عُثْمَان وأثنى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ مَا كتبت وَلا أمرت، وَلا شوورت وَلا علمت قَالَ: فقلت وعلي جميعا: قَدْ صدق قَالَ: فاستراح إِلَيْهَا عُثْمَان، فَقَالَ الْمِصْرِيُّونَ: فمن كتبه؟ قَالَ: لا أدري، قَالَ: أفيجترأ عَلَيْك فيبعث غلامك وجمل من صدقات الْمُسْلِمِينَ، وينقش عَلَى خاتمك، ويكتب إِلَى عاملك بهذه الأمور العظام وأنت لا تعلم! قَالَ: نعم، قَالُوا: فليس مثلك يلي، اخلع نفسك من هَذَا الأمر كما خلعك اللَّه مِنْهُ قَالَ: لا أنزع قميصا ألبسنيه اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: وكثرت الأصوات واللغط، فما كنت أظن أَنَّهُمْ يخرجون حَتَّى يواثبوه قَالَ: وقام علي فخرج، قَالَ: فلما قام علي قمت، قَالَ: وَقَالَ للمصريين: اخرجوا، فخرجوا.
قَالَ: ورجعت إِلَى منزلي ورجع علي إِلَى منزله، فما برحوا محاصريه حَتَّى قتلوه.
قال محمد بن عمر: وحدثني عبد الله بن الحارث بن الفضيل، عن أبيه، عن سُفْيَان بن أبي العوجاء، قَالَ: قدم الْمِصْرِيُّونَ القدمة الأولى، فكلم عُثْمَان مُحَمَّد بن مسلمة، فخرج فِي خمسين راكبا من الأنصار، فأتوهم بذي خشب فردهم، ورجع القوم حَتَّى إذا كَانُوا بالبويب، وجدوا غلاما لِعُثْمَانَ مَعَهُ كتاب إِلَى عَبْد اللَّهِ بن سَعْدٍ، فكروا، فانتهوا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَدْ تخلف بِهَا مِنَ النَّاسِ الأَشْتَر وحكيم بن جبلة، فأتوا بالكتاب، فأنكر عُثْمَان أن يكون كتبه، وَقَالَ: هَذَا مفتعل، قَالُوا: فالكتاب كتاب كاتبك! قَالَ: أجل، ولكنه كتبه بغير أمري، قَالُوا: فإن الرسول الَّذِي وجدنا مَعَهُ الكتاب غلامك، قَالَ: أجل، ولكنه خرج بغير إذني، قَالُوا: فالجمل جملك، قَالَ: أجل، ولكنه أخذ بغير علمي، قَالُوا: مَا أنت إلا صادق أو كاذب، فإن كنت كاذبا فقد استحققت الخلع لما أمرت بِهِ من سفك دمائنا بغير حقها، وإن كنت صادقا فقد استحققت أن تخلع لضعفك وغفلتك وخبث بطانتك، لأنه لا ينبغي لنا أن نترك عَلَى رقابنا من يقتطع مثل هَذَا الأمر دونه لضعفه وغفلته وَقَالُوا لَهُ: إنك ضربت رجالا من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم حين يعظونك ويأمرونك بمراجعه الحق عند ما يستنكرون من اعمالك، فاقدمن نفسك من ضربته وأنت لَهُ ظالم، فَقَالَ: الإمام يخطئ ويصيب، فلا أقيد من نفسي، لأني لو أقدت كل من أصبته بخطإ آتي عَلَى نفسي، قَالُوا: إنك قَدْ أحدثت أحداثا عظاما فاستحققت بِهَا الخلع، فإذا كلمت فِيهَا أعطيت التوبة ثُمَّ عدت إِلَيْهَا وإلى مثلها، ثُمَّ قدمنا عَلَيْك فأعطيتنا التوبة والرجوع الى الحق، ولامنا فيك محمد ابن مسلمة، وضمن لنا مَا حدث من أمر، فأخفرته فتبرأ مِنْكَ، وَقَالَ: لا أدخل فِي أمره، فرجعنا أول مرة لنقطع حجتك ونبلغ أقصى الأعذار إليك، نستظهر بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْك، فلحقنا كتاب مِنْكَ إِلَى عاملك علينا تأمره فينا بالقتل والقطع والصلب وزعمت أنه كتب بغير علمك وَهُوَ مع غلامك وعلى جملك وبخط كاتبك وعليه خاتمك، فقد وقعت عَلَيْك بِذَلِكَ التهمة القبيحة، مع مَا بلونا مِنْكَ قبل ذَلِكَ من الجور فِي الحكم والأثرة فِي القسم والعقوبة للأمر بالتبسط مِنَ النَّاسِ، والإظهار للتوبة، ثُمَّ الرجوع إِلَى الخطيئة، وَلَقَدْ رجعنا عنك وما كَانَ لنا أن نرجع حَتَّى نخلعك ونستبدل بك من أَصْحَاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يحدث مثل مَا جربنا مِنْكَ، ولم يقع عَلَيْهِ من التُّهْمَة مَا وقع عَلَيْك، فاردد خلافتنا، واعتزل أمرنا، فإن ذَلِكَ أسلم لنا مِنْكَ، وأسلم لك منا فَقَالَ عُثْمَان: فرغتم من جميع مَا تريدون؟ قَالُوا: نعم، قال: الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأومن بِهِ، وأتوكل عَلَيْهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أرسله بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ* أَمَّا بَعْدُ، فإنكم لم تعدلوا فِي المنطق، ولم تنصفوا فِي القضاء، أما قولكم: تخلع نفسك، فلا أنزع قميصا قمصنيه اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وأكرمني بِهِ، وخصني بِهِ عَلَى غيري، ولكني أتوب وأنزع وَلا أعود لشيء عابه الْمُسْلِمُونَ، فإني وَاللَّهِ الفقير إِلَى اللَّهِ الخائف مِنْهُ قَالُوا: إن هَذَا لو كَانَ أول حدث أحدثته ثُمَّ تبت مِنْهُ ولم تقم عَلَيْهِ، لكان علينا أن نقبل مِنْكَ، وأن ننصرف عنك، ولكنه قَدْ كَانَ مِنْكَ من الإحداث قبل هَذَا مَا قَدْ علمت، وَلَقَدِ انصرفنا عنك فِي المرة الأولى، وما نخشى أن تكتب فينا، وَلا من اعتللت بِهِ بِمَا وجدنا فِي كتابك مع غلامك وكيف نقبل توبتك وَقَدْ بلونا مِنْكَ أنك لا تعطي من نفسك التوبة من ذنب إلا عدت إِلَيْهِ، فلسنا منصرفين حَتَّى نعزلك ونستبدل بك، فإن حال من معك من قومك وذوي رحمك وأهل الانقطاع إليك دونك بقتال قاتلناهم، حَتَّى نخلص إليك فنقتلك أو تلحق أرواحنا بِاللَّهِ فَقَالَ عُثْمَان: أما أن أتبرأ من الإمارة، فأن تصلبوني أحب إلي من أن أتبرأ من أمر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وخلافته وأما قولكم: تقاتلون من قاتل دوني، فإني لا آمر أحدا بقتالكم، فمن قاتل دوني فإنما قاتل بغير أمري، ولعمري لو كنت أريد قتالكم، لقد كنت كتبت إِلَى الأجناد فقادوا الجنود، وبعثوا الرجال، أو لحقت ببعض أطرافي بمصر أو عراق، فاللَّه اللَّه فِي أنفسكم فأبقوا عَلَيْهَا إن لم تبقوا علي، فإنكم مجتلبون بهذا الأمر- إن قتلتموني- دما قَالَ: ثُمَّ انصرفوا عنه وآذنوه بالحرب، وأرسل إِلَى مُحَمَّد بن مسلمة فكلمه أن يردهم، فَقَالَ: وَاللَّهِ لا أكذب اللَّه فِي سنة مرتين.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي حَبِيبَةَ، قَالَ: نَظَرْتُ إِلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ يَوْمَ قُتِلَ عُثْمَانُ، دَخَلَ عَلَيْهِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ يَسْتَرْجِعُ مِمَّا يَرَى عَلَى الْبَابِ، فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ:
الآنَ تَنْدَمُ! أَنْتَ أَشْعَرْتَهُ فَأَسْمَعُ سَعْدًا يَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ النَّاسَ يَجْتَرِئُونَ هَذِهِ الْجُرْأَةَ، وَلا يَطْلُبُونَ دَمَهُ، وَقَدْ دَخَلْتُ عَلَيْهِ الآنَ فَتَكَلَّمَ بِكَلامٍ لَمْ تَحْضُرْهُ أَنْتَ وَلا أَصْحَابُكَ، فَنَزَعَ عَنْ كُلِّ مَا كُرِهَ مِنْهُ، وَأَعْطَى التَّوْبَةَ، وَقَالَ: لا أَتَمَادَى فِي الْهَلَكَةِ، إِنَّ مَنْ تَمَادَى فِي الْجَوْرِ كَانَ أَبْعَدَ مِنَ الطَّرِيقِ، فَأَنَا أَتُوبُ وَأَنْزِعُ فَقَالَ مَرْوَانُ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَذُبَّ عَنْهُ، فَعَلَيْكَ بِابْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنَّهُ مُتَسَتِّرٌ، وَهُوَ لا يُجِبْهُ، فَخَرَجَ سَعْدٌ حَتَّى أَتَى عَلِيًّا وَهُوَ بَيْنَ الْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ، فَقَالَ: يَا أَبَا حَسَنٍ، قُمْ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي! جِئْتُكَ وَاللَّهِ بِخَيْرِ مَا جَاءَ بِهِ أَحَدٌ قَطُّ إِلَى أَحَدٍ، تَصِلُ رَحِمَ ابْنِ عَمِّكَ، وَتَأْخُذُ بِالْفَضْلِ عَلَيْهِ، وَتَحْقِنُ دَمَهُ، وَيَرْجِعُ الأَمْرُ عَلَى مَا نُحِبُّ، قَدْ أَعْطَى خليفتك مِنْ نَفْسِهِ الرِّضَا [فَقَالَ عَلِيٌّ: تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُ يَا أَبَا إِسْحَاقَ! وَاللَّهِ مَا زِلْتُ أَذُبُّ عَنْهُ حَتَّى إِنِّي لأَسْتَحِي، وَلَكِنَّ مَرْوَانَ ومعاويه وعبد الله بن عامر وسعيد ابن الْعَاصِ هُمْ صَنَعُوا بِهِ مَا تَرَى، فَإِذَا نَصَحْتُهُ وَأَمَرْتُهُ أَنْ يُنَحِّيهِمْ استغشني حَتَّى جَاءَ مَا تَرَى] قَالَ: فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ جَاءَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، فَسَارَّ عَلِيًّا، فَأَخَذَ عَلِيٌّ بِيَدِي، وَنَهَضَ عَلِيٌ وَهُوَ يَقُولُ: وَأَيُّ خير توبته هذه! فو الله مَا بَلَغْتُ دَارِي حَتَّى سَمِعْتُ الْهَائِعَةَ، أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ، فَلَمْ نَزَلْ وَاللَّهِ فِي شَرٍّ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: وَحَدَّثَنِي شُرَحْبِيلُ بْنُ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عن أبي الخير، قَالَ: لما خرج الْمِصْرِيُّونَ إِلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بعث عَبْد اللَّهِ بن سَعْد رسولا أسرع السير يعلم عُثْمَان بمخرجهم، ويخبره أَنَّهُمْ يظهرون أَنَّهُمْ يريدون العمرة فقدم الرسول على عثمان بن عفان، يخبرهم فتكلم عُثْمَان، وبعث إِلَى أهل مكة يحذر من هُنَاكَ هَؤُلاءِ المصريين، ويخبرهم أَنَّهُمْ قَدْ طعنوا عَلَى إمامهم ثُمَّ إن عَبْد اللَّهِ بن سَعْدٍ خرج إِلَى عُثْمَانَ فِي آثار المصريين- وَقَدْ كَانَ كتب إِلَيْهِ يستأذنه فِي القدوم عَلَيْهِ، فأذن لَهُ- فقدم ابن سعد، حَتَّى إذا كَانَ بأيلة بلغه أن المصريين قَدْ رجعوا إِلَى عُثْمَانَ، وأنهم قَدْ حصروه، ومحمد بن أبي حُذَيْفَة بمصر، فلما بلغ محمدا حصر عُثْمَان وخروج عَبْد اللَّهِ بن سَعْد عنه غلب عَلَى مصر، فاستجابوا لَهُ، فأقبل عَبْد اللَّهِ بن سَعْد يريد مصر، فمنعه ابن أبي حُذَيْفَة، فوجه إِلَى فلسطين، فأقام بِهَا حَتَّى قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وأقبل الْمِصْرِيُّونَ حَتَّى نزلوا بالأسواف، فحصروا عُثْمَان، وقدم حكيم بن جبلة مِنَ الْبَصْرَةِ فِي ركب، وقدم الأَشْتَر فِي أهل الْكُوفَة، فتوافوا بِالْمَدِينَةِ، فاعتزل الأَشْتَر، فاعتزل حكيم بن جبلة، وَكَانَ ابن عديس وأَصْحَابه هم الَّذِينَ يحصرون عثمان، فكانوا خمسمائة، فأقاموا عَلَى حصاره تسعة وأربعين يَوْمًا حَتَّى قتل يوم الجمعة لثمان عشرة ليلة مضت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَحَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَتَحَدَّثْتُ عِنْدَهُ سَاعَةً، فَقَالَ: يا بن عَيَّاشٍ، تَعَالَ.
فَأَخَذَ بِيَدِي، فَأَسْمَعَنِي كَلامَ مَنْ عَلَى بَابِ عُثْمَانَ، فَسَمِعْنَا كَلامًا، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مَا تَنْتَظِرُونَ بِهِ؟ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: انْظُرُوا عَسَى أَنْ يُرَاجِعَ، فَبَيْنَا أَنَا وَهُوَ وَاقِفَانِ إِذْ مَرَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَوَقَفَ فَقَالَ: أَيْنَ ابْنُ عُدَيْسٍ؟
فَقِيلَ: هَا هُوَ ذَا، قَالَ: فَجَاءَهُ ابْنُ عُدَيْسٍ، فَنَاجَاهُ بِشَيْءٍ، ثُمَّ رَجَعَ ابْنُ عُدَيْسٍ فَقَالَ لأَصْحَابِهِ: لا تَتَرْكُوا أَحَدًا يَدْخُلُ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ، وَلا يَخْرُجُ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ: فَقَالَ لِي عُثْمَانُ: هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ.
ثُمَّ قَالَ عُثْمَانُ: اللَّهُمَّ اكْفِنِي طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ حَمَلَ عَلَيَّ هَؤُلاءِ وَأَلَّبَهُمْ، وَاللَّهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَكُونَ مِنْهَا صِفْرًا، وَأَنْ يُسْفَكَ دَمُهُ، إِنَّهُ انْتَهَكَ مِنِّي مَا لا يَحِلُّ لَهُ، سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلا فِي إِحْدَى ثَلاثٍ: رَجُلٍ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلامِهِ فَيُقْتَلُ، أَوْ رَجُلٍ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانِهِ فَيُرْجَمُ، أَوْ رَجُلٍ {قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ} [المائدة: 32]» فَفِيمَ أُقْتَلُ! قَالَ: ثُمَّ رَجَعَ عُثْمَانُ قَالَ ابْنُ عَيَّاشٍ: فَأَرَدْتُ أَنْ أَخْرُجَ فَمَنَعُونِي حَتَّى مَرَّ بي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: خَلُّوهُ، فَخَلُّونِي.
قَالَ مُحَمَّدٌ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَشْعَرِيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: رَأَيْتُ الْيَوْمَ الَّذِي دُخِلَ فِيهِ عَلَى عُثْمَانَ، فَدَخَلُوا مِنْ دَارِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ خَوْخَةٍ هُنَاكَ حَتَّى دَخَلُوا الدَّارَ، فَنَاوَشُوهُمْ شيئا من مناوشه ودخلوا، فو الله مَا نَسِينَا أَنْ خَرَجَ سُودَانُ بْنُ حُمْرَانَ، فَأَسْمَعُهُ يَقُولُ: أَيْنَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ؟ قَدْ قَتَلْنَا ابْنَ عَفَّانَ!
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: وَحَدَّثَنِي شُرَحْبِيلُ بْنُ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ أَبِيهِ، عن أبي حفصة اليماني، قَالَ: كنت لرجل من أهل البادية من العرب، فأعجبته- يعني مَرْوَان- فاشتراني واشترى امرأتي وولدي فأعتقنا جميعا، وكنت أكون مَعَهُ، فلما حصر عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، شمرت مَعَهُ بنو أُمَيَّة، ودخل مَعَهُ مَرْوَان الدار قَالَ: فكنت مَعَهُ فِي الدار، قَالَ: فأنا وَاللَّهِ أنشبت القتال بين الناس، رميت من فوق الدار رجلا من أسلم فقتلته، وَهُوَ نيار الأسلمي، فنشب القتال، ثُمَّ نزلت، فاقتتل الناس عَلَى الباب، وقاتل مَرْوَان حَتَّى سقط فاحتملته، فأدخلته بيت عجوز، وأغلقت عَلَيْهِ، وألقى الناس النيران فِي أبواب دار عُثْمَان، فاحترق بعضها، فَقَالَ عُثْمَان: مَا احترق الباب إلا لما هُوَ أعظم مِنْهُ، لا يحركن رجل منكم يده، فو الله لو كنت أقصاكم لتخطوكم حَتَّى يقتلوني، ولو كنت أدناكم ما جاوزونى إِلَى غيري، وإني لصابر كما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأصرعن مصرعي الَّذِي كتب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ مَرْوَان: وَاللَّهِ لا تقتل وأنا أسمع الصوت، ثُمَّ خرج بالسيف عَلَى الباب يتمثل بهذا الشعر:

قَدْ علمت ذات القرون الميل *** والكف والأنامل الطفول
أني أروع أول الرعيل *** بفاره مثل قطا الشليل

قَالَ مُحَمَّدٌ: وَحَدَّثَنِي عبد الله بن الحارث بن الفضيل، عن أَبِيهِ، عن أبي حفصة، قَالَ: لما كَانَ يوم الخميس دليت حجرا من فوق الدار، فقتلت رجلا من أسلم يقال لَهُ نيار، فأرسلوا إِلَى عُثْمَانَ: أن أمكنا من قاتله قَالَ: وَاللَّهِ مَا أعرف لَهُ قاتلا، فباتوا ينحرفون علينا ليلة الجمعة بمثل النيران، فلما أصبحوا غدوا، فأول من طلع علينا كنانة بن عتاب، فِي يده شعلة من نار عَلَى ظهر سطوحنا، قَدْ فتح لَهُ من دار آل حزم، ثُمَّ دخلت الشعل عَلَى أثره تنضح بالنفط، فقاتلناهم ساعة عَلَى الخشب، وَقَدِ اضطرم الخشب، فأسمع عُثْمَان يقول لأَصْحَابه: مَا بعد الحريق شَيْء! قَدْ أحترق الخشب، واحترقت الأبواب، ومن كَانَتْ لي عَلَيْهِ طاعة فليمسك داره، فإنما يريدني القوم، وسيندمون عَلَى قتلي، وَاللَّهِ لو تركوني لظننت أني لا أحب الحياة، وَلَقَدْ تغيرت حالي، وسقط أسناني، ورق عظمي.
قَالَ: ثُمَّ قَالَ لمروان: اجلس فلا تخرج، فعصاه مَرْوَان، فَقَالَ:
وَاللَّهِ لا تقتل، وَلا يخلص إليك، وأنا أسمع الصوت، ثُمَّ خرج إِلَى النَّاسِ.
فقلت: مَا لمولاي مترك! فخرجت مَعَهُ أذب عنه، ونحن قليل، فأسمع مَرْوَان يتمثل:

قَدْ علمت ذات القرون الميل *** والكف والأنامل الطفول

ثُمَّ صاح: من يبارز؟ وَقَدْ رفع أسفل درعه، فجعله فِي منطقته قَالَ: فيثب إِلَيْهِ ابن النباع فضربه ضربة عَلَى رقبته من خلفه فأثبته، حَتَّى سقط، فما ينبض مِنْهُ عرق، فأدخلته بيت فاطمة ابنة أوس جدة إِبْرَاهِيم بن العدي قَالَ: فكان عَبْد الْمَلِكِ وبنو أُمَيَّة يعرفون ذَلِكَ لآل العدي.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شَرِيكٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عتبة بن الأخنس، عن ابن الْحَارِث بن أبي بكر، عَنْ أَبِيهِ أبي بكر بن الْحَارِث بن هِشَام، قَالَ:
كأني أنظر إِلَى عبد الرَّحْمَن بن عديس البلوي وَهُوَ مسند ظهره الى مسجد نبى الله صلى الله عليه وسلم وعثمان بن عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ محصور، فخرج مَرْوَان بن الحكم، فَقَالَ: من يبارز؟ فقال عبد الرحمن بن عديس لفلان ابن عروة: قم إِلَى هَذَا الرجل، فقام إِلَيْهِ غلام شاب طوال، فأخذ رفرف الدرع فغرزه في منطقته، فاعور لَهُ عن ساقه، فأهوى لَهُ مَرْوَان وضربه ابن عروة عَلَى عنقه، فكأني أنظر إِلَيْهِ حين استدار وقام إِلَيْهِ عبيد بن رفاعة الزرقي ليدفف عَلَيْهِ، قَالَ: فوثبت عَلَيْهِ فاطمة ابنه أوس جده ابراهيم ابن عدي- قَالَ: وكانت أرضعت مَرْوَان وأرضعت لَهُ- فَقَالَتْ: إن كنت إنما تريد قتل الرجل فقد قتل، وإن كنت تريد أن تلعب بلحمه فهذا قبيح.
قَالَ: فكف عنه، فما زالوا يشكرونها لها، فاستعملوا ابنها إِبْرَاهِيم بعد وَقَالَ ابن إِسْحَاق: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن عديس البلوي حين سار إِلَى الْمَدِينَةِ من مصر:

أقبلن من بلبيس والصعيد ***مستحقبات حلق الحديد
يطلبن حق اللَّه فِي سَعِيد *** حَتَّى رجعن بِالَّذِي نريد

حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ الله المحمدي، قال: حدثنا عمرو بن حماد وعلى ابن حُسَيْن، قَالا: حَدَّثَنَا حُسَيْن بن عِيسَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لما مضت أيام التشريق أطافوا بدار عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وأبى إلا الإقامة عَلَى أمره، وأرسل إِلَى حشمه وخاصته فجمعهم، فقام رجل من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال لَهُ نيار بن عياض- وَكَانَ شيخا كبيرا- فنادى: يَا عُثْمَانُ، فأشرف عَلَيْهِ من أعلى داره، فناشده اللَّه، وذكره اللَّه لما اعتزلهم! فبينا هُوَ يراجعه الكلام إذ رماه رجل من أَصْحَاب عُثْمَان فقتله بسهم، وزعموا أن الَّذِي رماه كثير بن الصلت الكندي، فَقَالُوا لِعُثْمَانَ عِنْدَ ذَلِكَ: ادفع إلينا قاتل نيار بن عياض فلنقتله بِهِ، فَقَالَ: لم أكن لأقتل رجلا نصرني وَأَنْتُمْ تريدون قتلي، فلما رأوا ذَلِكَ ثاروا إِلَى بابه فأحرقوه، وخرج عَلَيْهِم مَرْوَان بن الحكم من دار عُثْمَان فِي عصابة، وخرج سَعِيد بن الْعَاصِ فِي عصابة، وخرج الْمُغِيرَةُ بن الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة فِي عصابة، فاقتتلوا قتالا شديدا، وكان الذى حداهم عَلَى القتال أنه بلغهم أن مددا من أهل الْبَصْرَةِ قَدْ نزلوا صرارا- وَهِيَ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى ليلة- وأن أهل الشام قَدْ توجهوا مقبلين، فقاتلوهم قتالا شديدا عَلَى باب الدار، فحمل الْمُغِيرَةُ بن الأخنس الثقفي عَلَى القوم وَهُوَ يقول مرتجزا:

قَدْ علمت جارية عطبول *** لها وشاح ولها حجول
أني بنصل السيف خنشليل.

فحمل عَلَيْهِ عَبْد اللَّه بْن بديل بْن ورقاء الخزاعي، وَهُوَ يقول:

إن تك بالسيف كما تقول *** فاثبت لقرن ماجد يصول
بمشرفي حده مصقول

فضربه عَبْد اللَّهِ فقتله، وحمل رفاعة بن رافع الأَنْصَارِيّ ثُمَّ الزرقي عَلَى مَرْوَان بن الحكم، فضربه فصرعه، فنزل عنه وهو يرى انه قتله، وجرح عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ جراحات، وانهزم القوم حَتَّى لجئوا إِلَى القصر، فاعتصموا ببابه، فاقتتلوا عَلَيْهِ قتالا شديدا، فقتل فِي المعركة عَلَى الباب زياد بن نعيم الفهري فِي ناس من أَصْحَاب عُثْمَان، فلم يزل الناس يقتتلون حتى فتح عمرو ابن حزم الأَنْصَارِيّ باب داره وَهُوَ إِلَى جنب دار عُثْمَان بن عَفَّانَ، ثُمَّ نادى الناس فأقبلوا عَلَيْهِ من داره، فقاتلوهم فِي جوف الدار حَتَّى انهزموا، وخلى لَهُمْ عن باب الدار، فخرجوا هرابا فِي طرق الْمَدِينَةِ، وبقي عُثْمَان فِي أناس من أهل بيته وأَصْحَابه فقتلوا مَعَهُ، وقتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي أُسَيْدٍ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ:
السَّلامُ عَلَيْكُمْ، قَالَ فَمَا سَمِعَ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ رَدَّ عَلَيْهِ إِلا أَنْ يَرُدَّ رَجُلٌ فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ عَلِمْتُمْ أَنِّي اشْتَرَيْتُ رُومَةَ مِنْ مَالِي يُسْتَعْذَبُ بِهَا، فَجَعَلْتُ رِشَائِي مِنْهَا كَرِشَاءِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ! قَالَ: قِيلَ: نَعَمْ.
قَالَ: فَمَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَشْرَبَ مِنْهَا حَتَّى أُفْطَرَ عَلَى مَاءِ الْبَحْرِ! قَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ هَلْ عَلِمْتُمْ أَنِّي اشْتَرَيْتُ كَذَا وَكَذَا مِنَ الأَرْضِ فَزِدْتُهُ فِي الْمَسْجِدِ؟ قِيلَ: نَعَمْ، قَالَ: فَهَلْ عَلِمْتُمْ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ مُنِعَ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ قَبْلِي! قَالَ:
أَنْشُدُكُمُ الله، هل سمعتم نبى الله صلى الله عليه وسلم يذكر كذا وكذا، أشياء في شانه، وَذِكْرِ اللَّهِ إِيَّاهُ أَيْضًا فِي كِتَابِهِ الْمُفَصَّلِ قَالَ: فَفَشَا النَّهْيُ.
قَالَ: فَجَعَلَ النَّاسُ يَقُولُونَ: مَهْلا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: وَفَشَا النَّهْيُ.
قَالَ: وَقَامَ الأَشْتَرُ- قَالَ: وَلا أَدْرِي يَوْمَئِذٍ أَوْ فِي يَوْمٍ آخَرَ- فَقَالَ: لَعَلَّهُ قَدْ مُكِرَ بِهِ وَبِكُمْ! قَالَ: فَوَطِئَهُ النَّاسُ، حَتَّى لَقِيَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: فَرَأَيْتُهُ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مَرَّةً أُخْرَى، فَوَعَظَهُمْ وَذَكَّرَهُمْ، فَلَمْ تَأْخُذْ فِيهِمُ الْمَوْعِظَةُ.
وَكَانَ النَّاسُ تَأْخُذُ فِيهِمُ الْمَوْعِظَةُ أَوَّلَ مَا يَسْمَعُونَهَا، فَإِذَا أُعِيدَتْ عَلَيْهِمْ لَمْ تَأْخُذْ فِيهِمْ قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُ فَتَحَ الْبَابَ وَوَضَعَ الْمُصْحَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ: وَذَاكَ أَنَّهُ رَأَى من الليل ان نبى الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «أَفْطِرْ عِنْدَنَا اللَّيْلَةَ».
قَالَ أَبُو الْمُعْتَمِرِ: فَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ: أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ دخل عليه فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ قَالَ: فَقَالَ لَهُ: قَدْ أَخَذْتَ مِنَّا مَأْخَذًا، وَقَعَدْتَ مِنِّي مَقْعَدًا مَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ لِيَقْعُدَهُ أَوْ لِيَأْخُذَهُ قَالَ: فَخَرَجَ وَتَرَكَهُ قَالَ: وَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْمَوْتُ الأَسْوَدُ قَالَ: فَخَنَقَهُ ثُمَّ خَفَقَهُ قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا قَطُّ أَلْيَنَ مِنْ حَلْقِهِ، وَاللَّهِ لَقَدْ خَنَقْتُهُ حتى رايت نفسه يتردد فِي جَسَدِهِ كَنَفْسِ الْجَانِّ قَالَ: فَخَرَجَ.
قَالَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ رَجُلٌ، فَقَالَ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ كِتَابُ اللَّهِ- قَالَ: وَالْمُصْحَفُ بَيْنَ يَدَيْهِ- قَالَ: فَيَهْوِي لَهُ بِالسَّيْفِ، فَاتَّقَاهُ بِيَدِهِ، فَقَطَعَهَا، فَقَالَ: لا أَدْرِي أَبَانَهَا أَمْ قَطَعَهَا وَلَمْ يَبِنْهَا قَالَ: فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ إِنَّهَا لأَوَّلُ كَفٍّ خَطَّتِ الْمُفَصَّلَ وَقَالَ فِي غَيْرِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: فَدَخَلَ عَلَيْهِ التُّجِيبِيُّ، فَأَشْعَرَهُ مِشْقَصًا فَانْتُضِحَ الدَّمُ عَلَى هَذِهِ الآية: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ ٱللَّهُ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ} [البقرة:137] قَالَ: فَإِنَّهَا فِي الْمُصْحَفِ مَا حُكَّتْ.
قَالَ وَأَخَذَتِ ابْنَةُ الْفُرَافِصَةِ- فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ- حُلِيَّهَا فَوَضَعَتْهُ فِي حِجْرِهَا، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ، قَالَ: فَلَمَّا أُشْعِرَ- أَوْ قَالَ: قُتِلَ- نَاحَتْ عَلَيْهِ قَالَ:
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَاتَلَهَا اللَّهُ! مَا أَعْظَمَ عَجِيزَتَهَا! قَالَ: فَعَلِمْتُ أَنَّ عَدُوَّ اللَّهِ لَمْ يُرِدْ إِلا الدُّنْيَا.
وَأَمَّا سَيْفٌ، فَإِنَّهُ قَالَ- فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْهُ: ذَكَرَ عَنْ بَدْرِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ عَمِّهِ، قَالَ: آخِرُ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي جَمَاعَةٍ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا أَعْطَاكُمُ الدُّنْيَا لِتَطْلُبُوا بِهَا الآخِرَةَ، وَلَمْ يُعْطِكُمُوهَا لِتَرْكَنُوا إِلَيْهَا، إِنَّ الدُّنْيَا تفنى، والآخرة تبقى، فلا تبطرنكم الفانية، ولا تَشْغَلَنَّكُمْ عَنِ الْبَاقِيَةِ، فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى، فَإِنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ، وَإِنَّ الْمَصِيرَ إِلَى اللَّهِ اتَّقُوا اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ، فَإِنَّ تَقْوَاهُ جُنَّةٌ مِنْ بَأْسِهِ، وَوَسِيلَةٌ عِنْدَهُ، وَاحْذَرُوا مِنَ اللَّهِ الْغِيَرَ، وَالْزَمُوا جَمَاعَتَكُمْ، لا تَصِيرُوا أَحْزَابًا، {وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران: 103].
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان، قَالُوا: لَمَّا قَضَى عُثْمَانُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ حاجاته وعزم وَعَزَمَ لَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الصَّبْرِ وَالامْتِنَاعِ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانِ اللَّهِ، قَالَ: اخْرُجُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ فَكُونُوا بِالْبَابِ، وَلْيُجَامِعْكُمْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ حُبِسُوا عَنِّي وَأَرْسَلَ إِلَى طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَعَلِيٍّ وَعِدَّةٍ: أَنِ ادْنُوا فاجتمعوا فأشرف عليهم، فقال: يا ايها النَّاسُ، اجْلِسُوا، فَجَلَسُوا جَمِيعًا، الْمُحَارِبُ الطَّارِئُ، وَالْمُسَالِمُ الْمُقِيمُ، فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، إِنِّي أَسْتَوْدِعُكُمُ اللَّهَ، وَأَسْأَلُهُ أَنْ يُحْسِنَ عَلَيْكُمُ الْخِلافَةَ مِنْ بعدي، وانى وَاللَّهِ لا أَدْخُلُ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ يَوْمِي هَذَا حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيَّ قَضَاءَهُ، وَلأَدَعَنَّ هَؤُلاءِ وَمَا وَرَاءَ بَابِي غَيْرَ مُعْطِيهِمْ شَيْئًا يَتَّخِذُونَهُ عَلَيْكُمْ دَخَلا فِي دِينِ اللَّهِ أَوْ دُنْيَا حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الصَّانِعَ فِي ذَلِكَ مَا أَحَبَّ وَأَمَرَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِالرُّجُوعِ وَأَقْسَمَ عَلَيْهِمْ، فَرَجَعُوا إِلا الْحَسَنَ وَمُحَمَّدًا وَابْنَ الزُّبَيْرِ وَأَشْبَاهًا لَهُمْ، فَجَلَسُوا بِالْبَابِ عَنْ أَمْرِ آبَائِهِمْ، وَثَابَ إِلَيْهِمْ نَاسٌ كَثِيرٌ، وَلَزِمَ عُثْمَانُ الدَّارَ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن أبي حارثة وأبي عثمان ومحمد وَطَلْحَة، قَالُوا: كَانَ الحصر أربعين ليلة والنزول سبعين، فلما مضت من الأربعين ثمان عشرة، قدم ركبان من الوجوه فأخبروا خبر من قَدْ تهيأ إِلَيْهِم من الآفاق: حبيب من الشام، ومعاوية من مصر، والقعقاع من الْكُوفَة، ومجاشع مِنَ الْبَصْرَةِ، فعندها حالوا بين الناس وبين عُثْمَان، ومنعوه كل شَيْء حَتَّى الماء، وَقَدْ كَانَ يدخل علي بالشيء مما يريد وطلبوا العلل فلم تطلع عَلَيْهِم علة، فعثروا فِي داره بالحجارة ليرموا، فيقولوا: قوتلنا- وَذَلِكَ ليلا- فناداهم: أَلا تتقون اللَّه! أَلا تعلمون أن فِي الدار غيري! قَالُوا: لا وَاللَّهِ مَا رميناك.
قَالَ: فمن رمانا؟ قَالُوا: اللَّه، قَالَ: كذبتم، إن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لو رمانا لم يخطئنا وَأَنْتُمْ تخطئوننا وأشرف عُثْمَان عَلَى آل حزم وهم جيرانه، فسرح ابنا لعمرو إِلَى علي بأنهم قَدْ منعونا الماء، فإن قدرتم أن ترسلوا إلينا شَيْئًا من الماء فافعلوا وإلى طَلْحَةَ وإلى الزُّبَيْر، وإلى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وأزواج النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فكان أولهم إنجادا لَهُ علي وأم حبيبة، جاء على في الغلس، فقال: يا ايها الناس، إن الَّذِي تصنعون لا يشبه أمر الْمُؤْمِنِينَ وَلا أمر الكافرين، لا تقطعوا عن هَذَا الرجل المادة، فإن الروم وفارس لتأسر فتطعم وتسقي، وما تعرض لكم هَذَا الرجل، فبم تستحلون حصره وقتله! قَالُوا: لا وَاللَّهِ وَلا نعمة عين، لا نتركه يأكل وَلا يشرب، فرمى بعمامته فِي الدار بأني قَدْ نهضت فِيمَا أنهضتني، فرجع وجاءت أم حبيبة عَلَى بغلة لها برحالة مشتملة عَلَى إداوة، فقيل: أم الْمُؤْمِنِينَ أم حبيبة، فضربوا وجه بغلتها، فَقَالَتْ: إن وصايا بني أُمَيَّة إِلَى هَذَا الرجل، فأحببت أن ألقاه فأسأله عن ذَلِكَ كيلا تهلك أموال أيتام وأرامل قَالُوا: كاذبة، وأهووا لها وقطعوا حبل البغلة بالسيف، فندت بأم حبيبة، فتلقاها الناس، وَقَدْ مالت رحالتها، فتعلقوا بِهَا وأخذوها وَقَدْ كادت تقتل، فذهبوا بِهَا إِلَى بيتها وتجهزت عَائِشَةُ خارجة إِلَى الحج هاربة، واستتبعت أخاها، فأبى، فَقَالَتْ: أما وَاللَّهِ لَئِنِ استطعت أن يحرمهم اللَّه مَا يحاولون لأفعلن.
وجاء حنظلة الكاتب حَتَّى قام عَلَى مُحَمَّد بن أبي بكر، فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، تستتبعك أم الْمُؤْمِنِينَ فلا تتبعها، وتدعوك ذؤبان العرب إِلَى مَا لا يحل فتتبعهم! فقال: ما أنت وذاك يا بن التميمية! فقال: يا بن الخثعمية، إن هَذَا الأمر إن صار إِلَى التغالب غلبتك عَلَيْهِ بنو عبد مناف، وانصرف وَهُوَ يقول:

عجبت لما يخوض الناس فِيهِ *** يرومون الخلافة أن تزولا
ولو زالت لزال الخير عَنْهُمْ *** ولاقوا بعدها ذلا ذليلا
وكانوا كاليهود أو النصارى ***سواء كلهم ضلوا السبيلا

ولحق بالكوفة وخرجت عَائِشَةُ وَهِيَ ممتلئة غيظا عَلَى أهل مصر، وجاءها مَرْوَان بن الحكم فَقَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، لو أقمت كَانَ أجدر أن يراقبوا هَذَا الرجل، فَقَالَتْ: أتريد أن يصنع بي كما صنع بأم حبيبة، ثُمَّ لا أجد من يمنعني! لا وَاللَّهِ وَلا أعير وَلا أدري إلام يسلم أمر هَؤُلاءِ! وبلغ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْر مَا لقي علي وأم حبيبة، فلزموا بيوتهم، وبقي عُثْمَان يسقيه آل حزم فِي الغفلات، عَلَيْهِم الرقباء، فأشرف عُثْمَان عَلَى الناس، فقال: يا عبد الله ابن عباس- فدعى لَهُ- فَقَالَ: اذهب فأنت عَلَى الموسم- وَكَانَ ممن لزم الباب- فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لجهاد هَؤُلاءِ أحب إلي من الحج، فأقسم عَلَيْهِ لينطلقن فانطلق ابن عَبَّاس عَلَى الموسم تِلَكَ السنة، ورمى عُثْمَان إِلَى الزُّبَيْر بوصيته، فانصرف بِهَا- وفي الزُّبَيْر اختلاف: أأدرك مقتله أو خرج قبله- وَقَالَ عثمان:{وَيٰقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِيۤ أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ} [هود: 89] الآية، اللَّهُمَّ حل بين الأحزاب وبين مَا يأملون كما فعل بأشياعهم من قبل.
وَكَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عَمْرو بن مُحَمَّدٍ، قَالَ: بعثت لَيْلَى ابنة عميس إِلَى مُحَمَّد بن أبي بكر ومحمد بن جَعْفَر، فَقَالَتْ:
إن المصباح يأكل نفسه، ويضيء لِلنَّاسِ، فلا تأثما فِي أمر تسوقانه إِلَى من لا يأثم فيكما، فإن هَذَا الأمر الَّذِي تحاولون الْيَوْم لغيركم غدا، فاتقوا أن يكون عملكم الْيَوْم حسرة عَلَيْكُمْ، فلجا وخرجا مغضبين يقولان: لا ننسى مَا صنع بنا عُثْمَان، وتقول: مَا صنع بكما! أَلا الزمكما الله! فلقيهما سعيد ابن الْعَاصِ، وَقَدْ كَانَ بين مُحَمَّد بن أبي بكر وبينه شَيْء، فأنكره حين لقيه خارجا من عِنْدَ لَيْلَى، فتمثل لَهُ فِي تِلَكَ الحال بيتا:

استبق ودك للصديق وَلا تكن *** فيئا يعض بخاذل ملجاجا

فأجابه سَعِيد متمثلا:

ترون إذا ضربا صميما من الَّذِي *** لَهُ جانب ناء عن الجرم معور

كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وَطَلْحَةَ وَأَبِي حَارِثَةَ وَأَبِي عُثْمَانَ، قَالُوا: فَلَمَّا بُويِعَ النَّاسُ جَاءَ السَّابِقُ فَقَدِمَ بِالسَّلامَةِ، فَأَخْبَرَهُمْ مِنَ الْمَوْسِمِ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ جَمِيعًا الْمِصْرِيِّينَ وَأَشْيَاعَهُمْ، وَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَجْمَعُوا ذَلِكَ إِلَى حَجِّهِمْ، فَلَمَّا أَتَاهُمْ ذَلِكَ مَعَ مَا بَلَغَهُمْ مِنْ نُفُورِ أَهْلِ الأَمْصَارِ، أَعْلَقَهُمُ الشَّيْطَانُ، وَقَالُوا: لا يُخْرِجَنَّا مِمَّا وَقَعْنَا فِيهِ إِلا قَتْلُ هَذَا الرَّجُلِ، فَيَشْتَغِلُ بِذَلِكَ النَّاسُ عَنَّا، وَلَمْ يُبْقَ خَصْلَةٌ يَرْجُونَ بِهَا النَّجَاةَ إِلا قَتْلُهُ فَرَامُوا الْبَابَ، فَمَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْحَسَنُ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَمُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ ومروان بن الحكم وسعيد ابن الْعَاصِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَبْنَاءِ الصَّحَابَةِ أَقَامَ مَعَهُمْ، وَاجْتَلَدُوا، فَنَادَاهُمْ عُثْمَانُ: اللَّهَ اللَّهَ! أَنْتُمْ فِي حِلٍّ مِنْ نُصْرَتِي فَأَبَوْا، فَفَتَحَ الْبَابَ، وَخَرَجَ وَمَعَهُ التُّرْسُ وَالسَّيْفُ لِيُنَهْنِهَهُمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ أَدْبَرَ الْمِصْرِيُّونَ، وَرَكْبُهُمْ هَؤُلاءِ، وَنَهْنَهَهُمْ فَتَرَاجَعُوا وَعَظُمَ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ، وَأَقْسَمَ عَلَى الصَّحَابَةِ لَيَدْخُلُنَّ، فَأَبَوْا أَنْ يَنْصَرِفُوا، فَدَخَلُوا فَأَغْلَقَ الْبَابَ دُونَ الْمِصْرِيِّينَ- وَقَدْ كَانَ الْمُغِيرَةُ بْنُ الأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ فِيمَنْ حَجَّ، ثُمَّ تَعَجَّلَ فِي نَفَرٍ حَجُّوا مَعَهُ، فَأَدْرَكَ عُثْمَانَ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ وَشَهِدَ الْمُنَاوَشَةَ، وَدَخَلَ الدَّارَ فِيمَنْ دَخَلَ وَجَلَسَ عَلَى الْبَابِ مِنْ دَاخِلٍ، وَقَالَ: مَا عُذْرُنَا عِنْدَ اللَّهِ إِنْ تَرَكْنَاكَ وَنَحْنُ نَسْتَطِيعُ أَلا نَدَعْهُمْ حَتَّى نَمُوتَ! فَاتَّخَذَ عُثْمَانُ تِلَكَ الأَيَّامَ الْقُرْآنَ نَحْبًا، يُصَلِّي وَعِنْدَهُ الْمُصْحَفُ، فَإِذَا أَعْيَا جَلَسَ فَقَرَأَ فِيهِ- وَكَانُوا يَرَوْنَ الْقِرَاءَةَ فِي الْمُصْحَفِ مِنَ الْعِبَادَةِ- وَكَانَ الْقَوْمُ الَّذِينَ كَفْكَفَهُمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَابِ، فَلَمَّا بَقِيَ الْمِصْرِيُّونَ لا يَمْنَعُهُمْ أَحَدٌ مِنَ الْبَابِ وَلا يَقْدِرُونَ عَلَى الدُّخُولِ جَاءُوا بِنَارٍ، فَأَحْرَقُوا الْبَابَ وَالسَّقِيفَةَ، فَتَأَجَّجَ الْبَابُ وَالسَّقِيفَةُ، حَتَّى إِذَا احْتَرَقَ الْخَشَبُ خَرَّتِ السَّقِيفَةُ عَلَى الْبَابِ، فَثَارَ أَهْلُ الدَّارِ وَعُثْمَانُ يُصَلِّي، حَتَّى مَنَعُوهُمُ الدُّخُولَ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَرَزَ لَهُمُ الْمُغِيرَةُ بْنُ الأَخْنَسِ، وَهُوَ يَرْتَجِزُ:

قَدْ عَلِمَتْ جَارِيَةٌ عُطْبُول *** ذَاتُ وِشَاحٍ وَلَهَا جَدِيل
أَنِّي بِنَصْلِ السَّيْفِ خَنْشَلِيل لأَمْنَعَنَّ مِنْكُمْ خَلِيلِي
بِصَارِمٍ لَيْسَ بِذِي فُلُولِ.

وَخَرَجَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَهُوَ يَقُولُ:

لا دِينُهُمْ دِينِي وَلا أَنَا مِنْهُمُ ***حَتَّى أَسِيرُ إِلَى طَمَارِ شَمَّامٍ

وَخَرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ وَهُوَ يَقُولُ:

أَنَا ابْنُ مَنْ حَامَى عَلَيْهِ بِأُحُد *** وَرَدَّ أَحْزَابًا عَلَى رَغْمِ مَعَد

وَخَرَجَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ وَهُوَ يَقُولُ:

صَبَرْنَا غَدَاةَ الدَّارِ وَالْمَوْتُ وَاقِبُ *** بِأَسْيَافِنَا دُونَ ابْنِ أَرْوَى نُضَارِبُ
وَكُنَّا غَدَاةَ الرَّوْعِ فِي الدَّارِ نُصْرَةً *** نُشَافِهُهُمْ بِالضَّرْبِ وَالْمَوْتُ ثَاقِبُ

فَكَانَ آخِرَ من خرج عبد الله بن الزبير، وامره عُثْمَانُ أَنْ يَصِيرَ إِلَى أَبِيهِ فِي وَصِيَّةٍ بِمَا أَرَادَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَ الدَّارِ فَيَأْمُرُهُمْ بِالانْصِرَافِ إِلَى مَنَازِلِهْمِ، فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ آخِرَهُمْ، فَمَا زَالَ يَدَّعِي بِهَا، وَيُحَدِّثُ النَّاسَ عَنْ عُثْمَانَ بِآخِرِ مَا مَاتَ عَلَيْهِ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عُثْمَانَ، قَالُوا: وَأَحْرَقُوا الْبَابَ وَعُثْمَانُ فِي الصَّلاةِ، وقد افتتح {طه * مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ} [طه: 1-2] – وَكَانَ سَرِيعَ الْقِرَاءَةِ، فَمَا كَرَثَهُ مَا سَمِعَ، وَمَا يُخْطِئُ وَمَا يَتَتَعْتَعُ حَتَّى أَتَى عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يَصِلُوا إِلَيْهِ- ثُمَّ عَادَ فَجَلَسَ إِلَى عِنْدِ الْمُصْحَفِ وَقَرَأَ: {ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] .
وَارْتَجَزَ الْمُغِيرَةُ بْنُ الأَخْنَسِ وَهُوَ دُونَ الدَّارِ فِي أَصْحَابِهِ:

قَدْ عَلِمَتْ ذَاتُ الْقُرُونِ الْمِيلِ *** وَالْحُلِيِّ وَالأَنَامِلِ الطَّفُولِ
لَتَصْدُقَنَّ بَيْعَتِي خَلِيلِي *** بِصَارِمٍ ذِي رَوْنَقٍ مَصْقُولِ
لا أَسْتَقِيلُ إِنْ أُقِلْتُ قَيْلِي.

وَأَقْبَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَالنَّاسُ مُحْجِمُونَ عَنِ الدَّارِ إِلا أُولَئِكَ الْعُصْبَةَ، فَدَسَرُوا فَاسْتَقْتَلُوا، فَقَامَ مَعَهُمْ، وَقَالَ: أَنَا أُسْوَتُكُمْ، وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ طَابَ امْضَرْبُ- يَعْنِي أَنَّهُ حَلَّ الْقِتَالُ، وَطَابَ وهذه لغة حمير- ونادى: {وَيٰقَوْمِ مَا لِيۤ أَدْعُوكُـمْ إِلَى ٱلنَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِيۤ إِلَى ٱلنَّارِ} [غافر:41] وَبَادَرَ مَرْوَانُ يَوْمَئِذٍ وَنَادَى: رَجُلٌ رَجُلٌ، فَبَرَزَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ يُدْعَى النَّبَّاعَ، فاختلفا، فضربه مَرْوَانُ أَسْفَلَ رِجْلَيْهِ، وَضَرَبَهُ الآخَرُ عَلَى أَصْلِ الْعُنُقِ فَقَلَبَهُ، فَانْكَبَّ مَرْوَانُ، وَاسْتَلْقَى، فَاجْتَرَّ هَذَا أَصْحَابَهُ، وَاجْتَرَّ الآخَرُ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ الْمِصْرِيُّونَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْلا أَنْ تَكُونُوا حُجَّةً عَلَيْنَا فِي الأُمَّةِ لَقَدْ قَتَلْنَاكُمْ بَعْدَ تَحْذِيرٍ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَبَرَزَ لَهُ رَجُلٌ فَاجْتَلَدَ، وَهُوَ يَقُولُ:

أَضْرِبُهُمْ بِالْيَابِسِ *** ضَرْبَ غُلامٍ بَائِسِ
مِنَ الْحَيَاةِ آيِسِ.

فَأَجَابَهُ صَاحِبُهُ وَقَالَ النَّاسُ: قُتِلَ الْمُغِيرَةُ بْنُ الأَخْنَسِ، فَقَالَ الَّذِي قَتَلَهُ: إِنَّا لِلَّهِ! فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُدَيْسٍ: مَا لَكَ؟ قَالَ: إِنِّي أُتِيتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ، فَقِيلَ لِي: بَشِّرْ قَاتِلَ الْمُغِيرَةِ بْنِ الأَخْنَسِ بِالنَّارِ، فَابْتُلِيتُ بِهِ، وَقَتَلَ قُبَاثٌ الْكِنَانِيُّ نِيَارَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَسْلَمِيَّ، وَاقْتَحَمَ النَّاسُ الدَّارَ مِنَ الدُّورِ الَّتِي حَوْلَهَا حَتَّى مَلَئُوهَا وَلا يَشْعُرُ الَّذِينَ بِالْبَابِ، وَأَقْبَلَتِ الْقَبَائِلُ عَلَى أَبْنَائِهِمْ، فَذَهَبُوا بِهِمْ إِذْ غُلِبُوا عَلَى أَمِيرِهِمْ، وَنَدَبُوا رَجُلا لِقَتْلِهِ، فَانْتُدِبَ لَهُ رَجُلٌ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ الْبَيْتَ، فَقَالَ: اخْلَعْهَا وَنَدَعَكَ، فَقَالَ: وَيْحَكَ! وَاللَّهِ مَا كَشَفْتُ امْرَأَةً فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلا إِسْلامٍ، وَلا تَغَنَّيْتُ وَلا تَمَنَّيْتُ، وَلا وَضَعْتُ يَمِينِي عَلَى عَوْرَتِي مُنْذُ بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَسْتُ خَالِعًا قَمِيصًا كَسَانِيهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَا عَلَى مَكَانِي حَتَّى يُكْرِمَ اللَّهُ أَهْلَ السَّعَادَةِ، وَيُهِينَ أَهْلَ الشَّقَاءِ.
فَخَرَجَ وَقَالُوا: مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: علقنا وَاللَّهِ، وَاللَّهِ مَا يُنْجِينَا مِنَ النَّاسِ إِلا قَتْلُهُ، وَمَا يَحِلُّ لَنَا قَتْلُهُ، فَأَدْخَلُوا عَلَيْهِ رَجُلا مِنْ بَنِي لَيْثٍ، فَقَالَ:
مِمَّنِ الرَّجُلُ؟ فَقَالَ: لَيْثِيٌّ، فَقَالَ: لَسْتَ بِصَاحِبِي، قَالَ: وَكَيْفَ؟ فَقَالَ:
أَلَسْتَ الَّذِي دَعَا لك النبي صلى الله عليه وسلم فِي نَفَرٍ أَنْ تَحْفَظُوا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَلَنْ تُضَيِّعَ، فَرَجَعَ وَفَارَقَ الْقَوْمَ، فَأَدْخَلُوا عَلَيْهِ رَجُلا مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَ: يَا عُثْمَانُ، إِنِّي قَاتِلُكَ، قَالَ: كَلا يَا فُلانُ، لا تَقْتُلْنِي، قَالَ: وَكَيْفَ؟ قَالَ: إِنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اسْتَغْفَرَ لَكَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَلَنْ تُقَارِفَ دَمًا حَرَامًا فَاسْتَغْفَرَ وَرَجَعَ، وَفَارَقَ أَصْحَابَهُ.
فَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ حَتَّى قَامَ عَلَى بَابِ الدَّارِ يَنْهَاهُمْ عَنْ قَتْلِهِ، وَقَالَ: يَا قَوْمِ لا تَسُلُّوا سَيْفَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، فو الله إِنْ سَلَلْتُمُوهُ لا تَغْمِدُوهُ، وَيْلَكُمْ! إِنَّ سُلْطَانَكُمُ اليوم يقوم بالدرة، فان قتلتموه لا يقوم إِلا بِالسَّيْفِ.
وَيْلَكُمْ! إِنَّ مَدِينَتَكُمْ مَحْفُوفَةٌ بِمَلائِكَةِ الله، والله لئن قتلتموه لتتركنها، فقالوا:
يا بن الْيَهُودِيَّةِ، وَمَا أَنْتَ وَهَذَا! فَرَجَعَ عَنْهُمْ.
قَالُوا: وَكَانَ آخِرَ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ مِمَّنْ رَجَعَ إِلَى الْقَوْمِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: وَيْلَكَ! أَعَلَى اللَّهِ تَغْضَبُ! هَلْ لي إليك جرم الا حقه أَخَذْتَهُ مِنْكَ! فَنَكَلَ وَرَجَعَ.
قَالُوا: فَلَمَّا خَرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَعَرَفُوا انْكِسَارَهُ، ثَارَ قتيرة وسودان ابن حُمْرَانَ السَّكُونِيَّانِ وَالْغَافِقِيُّ، فَضَرَبَهُ الْغَافِقِيُّ بِحَدِيدَةٍ مَعَهُ، وَضَرَبَ الْمُصْحَفَ بِرِجْلِهِ فَاسْتَدَارَ الْمُصْحَفُ، فَاسْتَقَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَسَالَتْ عَلَيْهِ الدِّمَاءُ، وَجَاءَ سُودَانُ بْنُ حُمْرَانَ لِيَضْرِبَهُ، فَانْكَبَّتْ عَلَيْهِ نَائِلَةُ ابْنَةُ الْفُرَافِصَةِ، وَاتَّقَتِ السَّيْفَ بِيَدِهَا، فَتَعَمَّدَهَا، وَنَفَحَ أَصَابِعَهَا، فَأَطَنَّ أَصَابِعَ يَدِهَا وَوَلَّتْ، فَغَمَزَ أَوْرَاكَهَا، وَقَالَ: إِنَّهَا لَكَبِيرَةُ الْعَجِيزَةِ، وَضَرَبَ عُثْمَانَ فَقَتَلَهُ، وَدَخَلَ غُلْمَةٌ لِعُثْمَانَ مَعَ الْقَوْمِ لِيَنْصُرُوهُ- وَقَدْ كَانَ عُثْمَانُ أَعْتَقَ مَنْ كَفَّ مِنْهُمْ- فَلَمَّا رَأَوْا سُودَانَ قَدْ ضَرَبَهُ، أَهْوَى لَهُ بَعْضُهُمْ فَضَرَبَ عُنُقَهُ فَقَتَلَهُ، وَوَثَبَ قُتَيْرَةُ عَلَى الْغُلامِ فَقَتَلَهُ، وَانْتَهَبُوا مَا فِي الْبَيْتِ، وَأَخْرَجُوا مَنْ فِيهِ، ثُمَّ أَغْلَقُوهُ عَلَى ثَلاثَةِ قَتْلَى فَلَمَّا خَرَجُوا إِلَى الدَّارِ، وَثَبَ غُلامٌ لِعُثْمَانَ آخَرُ عَلَى قُتَيْرَةَ فَقَتَلَهُ، وَدَارَ الْقَوْمُ فَأَخَذُوا مَا وَجَدُوا، حَتَّى تَنَاوَلُوا مَا عَلَى النِّسَاءِ، وَأَخَذَ رَجُلٌ مُلاءَةَ نَائِلَةَ- وَالرَّجُلُ يُدْعَى كُلْثُومَ بْنَ تُجِيبَ- فَتَنَحَّتْ نَائِلَةُ، فَقَالَ: وَيْحَ أُمُّكِ مِنْ عَجِيزَةٍ مَا اتمك! وَبَصَرَ بِهِ غُلامٌ لِعُثْمَانَ فَقَتَلَهُ وَقُتِلَ، وَتَنَادَى الْقَوْمُ: أَبْصَرَ رَجُلٌ مَنْ صَاحِبُهُ، وَتَنَادَوْا فِي الدَّارِ: أَدْرِكُوا بَيْتَ الْمَالِ لا تُسْبَقُوا إِلَيْهِ، وَسَمِعَ أَصْحَابُ بَيْتِ الْمَالِ أَصْوَاتَهُمْ، وَلَيْسَ فِيهِ إِلا غِرَارَتَانِ، فَقَالُوا: النَّجَاءَ، فَإِنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا يُحَاوِلُونَ الدُّنْيَا، فَهَرَبُوا وَأَتَوْا بَيْتَ الْمَالِ فَانْتَهَبُوهُ، وماج النَّاسُ فِيهِ، فَالتَّانِئُ يَسْتَرْجِعُ وَيَبْكِي، وَالطَّارِئُ يَفْرَحُ وَنَدِمَ الْقَوْمُ، وَكَانَ الزُّبَيْرُ قَدْ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَأَقَامَ عَلَى طَرِيقِ مَكَّةَ لِئَلا يَشْهَدَ مَقْتَلَهُ، فَلَمَّا أَتَاهُ الْخَبَرُ بِمَقْتَلِ عُثْمَانَ وَهُوَ بِحَيْثُ هُوَ، قَالَ: {إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156]! رَحِمَ اللَّهُ عُثْمَانَ وَانْتَصَرَ لَهُ، وَقِيلَ: إِنَّ الْقَوْمَ نَادِمُونَ، فَقَالَ: دَبِّرُوا دَبِّرُوا، {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ: 54] الآيَةَ وَأَتَى الْخَبَرُ طَلْحَةَ، فَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ عُثْمَانَ! وَانْتَصَرَ لَهُ وَلِلإِسْلامِ، وَقِيلَ لَهُ:
إِنَّ الْقَوْمَ نَادِمُونَ، فَقَالَ تَبًّا لَهُمْ! وَقَرَأَ: {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَىٰ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس: 50] وَأَتَى عَلِيٌّ فَقِيلَ: قُتِلَ عُثْمَانُ، فَقَالَ رَحِمَ الله عثمان، وخلف علينا بخير! وقيل: ندم الْقَوْمِ، فَقَرَأَ: {كَمَثَلِ ٱلشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ ٱكْفُرْ} [الحشر: 16] ، الآيَةَ وَطُلِبَ سَعْدٌ، فَإِذَا هُوَ فِي حَائِطِهِ، وَقَدْ قَالَ: لا أَشْهَدُ قَتْلَهُ، فَلَمَّا جَاءَهُ قتله قال: فررنا الى المدينة تدنينا، وَقَرَأَ: {ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 104] اللَّهُمَّ أَنْدِمْهُمْ ثُمَّ خُذْهُمْ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْمُجَالِدِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيٍّ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ مَقْتُولٌ، وَإِنَّهُ إِنْ قُتِلَ وَأَنْتَ بِالْمَدِينَةِ اتَّخَذُوا فِيكَ، فَاخْرُجْ فَكُنْ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ وَكُنْتَ فِي غَارٍ بِالْيَمَنِ طَلَبَكَ النَّاسُ، فَأَبَى وَحُصِرَ عثمان اثنين وَعِشْرِينَ يَوْمًا، ثُمَّ أَحْرَقُوا الْبَابَ، وَفِي الدَّارِ أُنَاسٌ كَثِيرٌ، فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَمَرْوَانُ، فَقَالُوا: ائْذَنْ لَنَا، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عَهِدَ إِلَيَّ عَهْدًا، فَأَنَا صَابِرٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَحْرِقُوا بَابَ الدَّارِ إِلا وَهُمْ يَطْلُبُونَ مَا هُوَ أَعْظَمَ مِنْهُ، فَأُحَرِّجُ عَلَى رجل يستقتل وَيُقَاتِلُ، وَخَرَجَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، وَدَعَا بِالْمُصْحَفِ يَقْرَأُ فِيهِ وَالْحَسَنُ عِنْدَهُ، فَقَالَ: إِنَّ أَبَاكَ الآنَ لَفِي أَمْرٍ عَظِيمٍ، فَأَقْسَمْتُ عَلَيْكَ لَمَا خَرَجْتَ! وَأَمَرَ عُثْمَانُ أَبَا كَرِبٍ- رَجُلا مِنْ هَمْدَانَ- وَآخَرَ مِنَ الأَنْصَارِ أَنْ يَقُومَا عَلَى بَابِ بَيْتِ الْمَالِ، وَلَيْسَ فِيهِ إِلا غِرَارَتَانِ مِنْ وَرَقٍ، فَلَمَّا أُطْفِئَتِ النَّارُ بَعْدَ مَا نَاوَشَهُمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَمَرْوَانُ، وَتَوَعَّدَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَمَرْوَانَ، فَلَمَّا دُخِلَ عَلَى عُثْمَانَ هَرَبَا وَدَخَلَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى عُثْمَانَ، فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، فَقَالَ: أَرْسِلْ لِحْيَتِي، فَلَمْ يَكُنْ أَبُوكَ لِيَتَنَاوَلَهَا فَأَرْسَلَهَا، وَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَجَؤُهُ بِنَعْلِ سَيْفِهِ، وَآخَرُ يَلْكِزُهُ، وَجَاءَهُ رَجُلٌ بِمَشَاقِصَ مَعَهُ، فَوَجَأَهُ فِي تُرقُوَتِهِ، فَسَالَ الدَّمُ عَلَى الْمُصْحَفِ وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَهَابُونَ فِي قَتْلِهِ، وَكَانَ كَبِيرًا، وَغُشِيَ عَلَيْهِ وَدَخَلَ آخَرُونَ فَلَمَّا رَأَوْهُ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ جَرُّوا بِرِجْلِهِ، فَصَاحَتْ نَائِلَةُ وَبَنَاتُهُ، وَجَاءَ التُّجِيبِيُّ مُخْتَرِطًا سَيْفَهُ لِيَضَعَهُ فِي بَطْنِهِ، فَوَقَتْهُ نَائِلَةُ، فَقَطَعَ يَدَهَا، وَاتَّكَأَ بِالسَّيْفِ عَلَيْهِ فِي صَدْرِهِ وَقُتِلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَنَادَى مُنَادٍ: مَا يَحِلُّ دَمُهُ وَيُحَرَّجُ مَالُهُ، فَانْتَهَبُوا كُلَّ شَيْءٍ، ثُمَّ تَبَادَرُوا بَيْتَ الْمَالِ، فَأَلْقَى الرَّجُلانِ الْمَفَاتِيحَ وَنَجَوْا، وَقَالُوا: الْهَرَبَ الْهَرَبَ! هَذَا مَا طَلَبَ الْقَوْمُ.
وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ حدثه عن عبد الرحمن ابن مُحَمَّدٍ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ تَسَوَّرَ عَلَى عُثْمَانَ مِنْ دَارِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَمَعَهُ كِنَانَةُ بْنُ بِشْرِ بْنِ عَتَّابٍ، وَسُودَانُ بْنُ حُمْرَانَ، وَعَمْرُو بْنُ الْحَمِقِ، فَوَجَدُوا عُثْمَانَ عِنْدَ امْرَأَتِهِ نَائِلَةَ وَهُوَ يَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَتَقَدَّمَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، فَأَخَذَ بِلِحْيَةِ عُثْمَانَ، فَقَالَ: قَدْ أَخْزَاكَ اللَّهُ يَا نَعْثَلُ! فَقَالَ عُثْمَانُ: لَسْتُ بِنَعْثَلٍ، وَلَكِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ مُحَمَّدٌ: مَا أَغْنَى عَنْكَ مُعَاوِيَةُ وَفُلانُ وَفُلانُ! فَقَالَ عثمان: يا بن أَخِي، دَعْ عَنْكَ لِحْيَتِي، فَمَا كَانَ أَبُوكَ لِيَقْبِضَ عَلَى مَا قَبَضْتَ عَلَيْهِ فَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَوْ رَآكَ أَبِي تَعْمَلُ هَذِهِ الأَعْمَالَ أَنْكَرَهَا عَلَيْكَ، وَمَا أُرِيدُ بِكَ أَشَدَّ مِنْ قَبْضِي عَلَى لِحْيَتِكَ، قَالَ عُثْمَانُ: أَسْتَنْصِرُ اللَّهَ عَلَيْكَ وَأَسْتَعِينُ بِهِ ثُمَّ طَعَنَ جَبِينَهُ بِمِشْقَصٍ فِي يَدِهِ وَرَفَعَ كِنَانَةُ بْنُ بِشْرٍ مَشَاقِصَ كَانَتْ فِي يَدِهِ، فَوَجَأَ بِهَا فِي أَصْلِ أُذُنِ عُثْمَانَ، فَمَضَتْ حَتَّى دَخَلَتْ فِي حَلْقِهِ، ثُمَّ عَلاهُ بِالسَّيْفِ حَتَّى قَتَلَهُ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: سَمِعْتُ أَبَا عَوْنٍ يَقُولُ: ضَرَبَ كِنَانَةُ بْنُ بشر جبينه وَمُقَدَّمِ رَأْسِهِ بِعَمُودِ حَدِيدٍ، فَخَرَّ لِجَبِينِهِ، فَضَرَبَهُ سُودَانُ بْنُ حُمْرَانَ الْمُرَادِيُّ بَعْدَ مَا خَرَّ لِجَبِينِهِ فَقَتَلَهُ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ عَبْدِ الرحمن ابن الْحَارِثِ، قَالَ: الَّذِي قَتَلَهُ كِنَانَةُ بْنُ بِشْرِ بْنِ عَتَّابٍ التُّجِيبِيُّ وَكَانَتِ امْرَأَةُ مَنْظُورِ بْنِ سَيَّارٍ الْفَزَارِيِّ تَقُولُ: خَرَجْنَا إِلَى الْحَجِّ، وَمَا عَلِمْنَا لِعُثْمَانَ بِقَتْلٍ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْعَرْجِ سَمِعْنَا رَجُلا يَتَغَنَّى تَحْتَ اللَّيْلِ:

أَلا إِنَّ خير الناس بعد ثلاثة *** قتيل التجيبي الذي جَاءَ مِنْ مِصْرَ

قَالَ: وَأَمَّا عَمْرُو بْنُ الْحَمِقِ فَوَثَبَ عَلَى عُثْمَانَ، فَجَلَسَ عَلَى صَدْرِهِ وَبِهِ رَمَقٌ، فَطَعَنَهُ تِسْعَ طَعْنَاتٍ قَالَ عَمْرٌو: فاما ثلاث منهن فانى طعنتهن اياه الله، وَأَمَّا سِتٌّ فَإِنِّي طَعَنْتُهُنَّ إِيَّاهُ لِمَا كَانَ فِي صَدْرِي عَلَيْهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بن يحيى، عن موسى بن طلحة، قال: رَأَيْتُ عُرْوَةَ بْنَ شُيَيْمٍ ضَرَبَ مَرْوَانَ يَوْمَ الدَّارِ بِالسَّيْفِ عَلَى رَقَبَتِهِ، فَقَطَعَ إِحْدَى عِلْبَاوَيْهِ، فَعَاشَ مَرْوَانُ أَوْقَصَ، وَمَرْوَانُ الَّذِي يَقُولُ:

مَا قُلْتُ يَوْمَ الدَّارِ لِلْقَوْمِ حَاجِزُوا *** رُوَيْدًا وَلا اسْتَبْقُوا الْحَيَاةَ عَلَى الْقَتْلِ
وَلَكِنَّنِي قَدْ قُلْتُ لِلْقَوْمِ مَاصِعُوا *** بِأَسْيَافِكُمْ كَيْمَا يَصِلْنَ إِلَى الْكَهْلِ

قَالَ مُحَمَّد الْوَاقِدِيّ: وَحَدَّثَنِي يُوسُف بن يَعْقُوب، عن عُثْمَان بن مُحَمَّد الأخنسي، قَالَ: كَانَ حصر عُثْمَان قبل قدوم أهل مصر، فقدم أهل مصر يوم الجمعة، وقتلوه فِي الجمعة الأخرى.
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: حدثني أبي، قال: حدثني سُلَيْمَان، قال: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، عن حرملة بن عِمْرَان، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، قَالَ: ولي قتل عُثْمَان نهران الأصبحي، وَكَانَ قاتل عَبْد اللَّهِ بن بسرة، وَهُوَ رجل من بني عبد الدار.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: وَحَدَّثَنِي الحكم بن الْقَاسِم، عن أبي عون مولى المسور بن مخرمة، قَالَ: مَا زال الْمِصْرِيُّونَ كافين عن دمه وعن القتال، حَتَّى قدمت أمداد العراق مِنَ الْبَصْرَةِ ومن الْكُوفَة ومن الشام، فلما جاءوا شجعوا القوم، وبلغهم أن البعوث قَدْ فصلت من العراق ومن مصر من عِنْدَ ابن سعد، ولم يكن ابن سعد بمصر قبل ذَلِكَ، كَانَ هاربا قَدْ خرج إِلَى الشام، فَقَالُوا: نعاجله قبل أن تقدم الأمداد قَالَ مُحَمَّدٌ: وَحَدَّثَنِي الزُّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ، قَالَ: أَشْرَفَ عُثْمَانُ عَلَيْهِمْ وَهُوَ مَحْصُورٌ، وَقَدْ أَحَاطُوا بِالدَّارِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، فَقَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ دَعَوْتُمُ اللَّهَ عِنْدَ مُصَابِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُخَيِّرَ لَكُمْ، وَأَنْ يَجْمَعَكُمْ عَلَى خَيْرِكُمْ! فَمَا ظَنُّكُمْ بِاللَّهِ! أَتَقُولُونَهُ: لَمْ يَسْتَجِبْ لَكُمْ، وَهُنْتُمْ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَأَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ أَهْلُ حَقِّهِ مِنْ خَلْقِهِ، وَجَمِيعُ أُمُورِكُمْ لَمْ تَتَفَرَّقْ! أَمْ تَقُولُونَ: هَانَ عَلَى اللَّهِ دِينُهُ فَلَمْ يُبَالِ مَنْ وَلاهُ، وَالدِّينُ يَوْمَئِذٍ يُعْبَدُ بِهِ اللَّهُ وَلَمْ يَتَفَرَّقْ أَهْلُهُ، فَتَوَكَّلُوا أَوْ تُخْذَلُوا، وَتُعَاقَبُوا! أَمْ تَقُولُونَ: لَمْ يَكُنْ أُخِذَ عَنْ مَشُورَةٍ، وَإِنَّمَا كَابَرْتُمْ مُكَابَرَةً، فَوَكَّلَ اللَّهُ الأُمَّةَ إِذَا عَصَتْهُ لَمْ تُشَاوِرُوا فِي الإِمَامِ، وَلَمْ تَجْتَهِدُوا فِي مَوْضِعِ كَرَاهَتِهِ! أَمْ تَقُولُونَ: لَمْ يَدْرِ اللَّهُ مَا عَاقِبَةُ أَمْرِي، فَكُنْتُ فِي بَعْضِ أَمْرِي مُحْسِنًا، وَلأَهْلِ الدِّينِ رِضًا، فَمَا أَحْدَثْتُ بَعْدُ فِي أَمْرِي مَا يُسْخِطُ اللَّهَ، وَتَسْخَطُونَ مِمَّا لَمْ يَعْلِمِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ يَوْمَ اخْتَارَنِي وَسَرْبَلَنِي سِرْبَالَ كَرَامَتِهِ! وَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ، هَلْ تَعْلَمُونَ لِي مِنْ سَابِقَةِ خَيْرٍ وَسَلَفِ خَيْرٍ قَدَّمَهُ اللَّهُ لِي، وَأَشْهَدَنِيهِ مِنْ حَقِّهِ! وَجِهَادِ عَدُوِّهِ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مَنْ جَاءَ بَعْدِي أَنْ يَعْرِفُوا لِي فَضْلَهَا فَمَهْلا، لا تَقْتُلُونِي، فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ إِلا قَتْلُ ثَلاثَةٍ: رَجُلٍ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانِهِ، أَوْ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلامِهِ، أَوْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ فَيُقْتَلُ بِهَا، فَإِنَّكُمْ إِنْ قَتَلْتُمُونِي وَضَعْتُمُ السَّيْفَ عَلَى رِقَابِكُمْ، ثُمَّ لَمْ يَرْفَعْهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلا تَقْتُلُونِي فَإِنَّكُمْ إِنْ قَتَلْتُمُونِي لَمْ تصلوا مِنْ بَعْدِي جَمِيعًا أَبَدًا، وَلَمْ تَقْتَسِمُوا بَعْدِي فَيْئًا جَمِيعًا أَبَدًا، وَلَنْ يَرْفَعَ اللَّهُ عَنْكُمُ الاخْتِلافَ أَبَدًا.
قَالُوا لَهُ: أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنَ اسْتِخَارَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ النَّاس بَعْدَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَنْ يُوَلُّونَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ وَلُّوكَ بَعْدَ اسْتِخَارَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ كُلَّ مَا صَنَعَ اللَّهُ الْخِيَرَةُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ أَمْرَكَ بَلِيَّةً ابْتَلَى بِهَا عِبَادَهُ وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ من قدمك وسبقك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّكَ قَدْ كُنْتَ ذَا قَدَمٍ وَسَلَفٍ، وَكُنْتَ أَهْلا لِلْوِلايَةِ، وَلَكِنْ بَدَّلْتَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَحْدَثْتَ مَا قَدْ عَلِمْتَ وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِمَّا يُصِيبُنَا إِنْ نَحْنُ قَتَلْنَاكَ مِنَ الْبَلاءِ، فَإِنَّهُ لا يَنْبَغِي تَرْكُ إِقَامَةِ الْحَقِّ عَلَيْكَ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ عَامًا قَابِلا وَأَمَّا قَوْلُكَ: إِنَّهُ لا يَحِلُّ إِلا قَتْلَ ثَلاثَةٍ، فَإِنَّا نَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَتْلُ غَيْرِ الثَّلاثَةِ الَّذِينَ سَمَّيْتَ، قَتْلُ مَنْ سَعَى فِي الأَرْضِ فَسَادًا، وَقَتْلُ مَنْ بَغَى ثُمَّ قَاتَلَ عَلَى بَغْيِهِ، وَقَتْلُ مَنْ حَالَ دُونَ شَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ وَمَنَعَهُ ثُمَّ قَاتَلَ دُونَهُ وَكَابَرَ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَغَيْتَ، وَمَنَعْتَ الْحَقَّ، وَحِلْتَ دُونَهُ، وَكَابَرْتَ عَلَيْهِ، تَأْبَى أَنْ تُقِيدَ مِنْ نَفْسِكَ مَنْ ظَلَمْتَ عَمْدًا، وَتَمَسَّكْتَ بِالإِمَارَةِ عَلَيْنَا وَقَدْ جُرْتَ فِي حُكْمِكَ وَقَسْمِكَ! فَإِنْ زَعَمْتَ أَنَّكَ لَمْ تُكَابِرْنَا عَلَيْهِ، وَأَنَّ الَّذِينَ قَامُوا دُونَكَ وَمَنَعُوكَ مِنَّا إِنَّمَا يُقَاتِلُونَ بِغَيْرِ أَمْرِكَ، فَإِنَّمَا يُقَاتِلُونَ لِتَمَسُّكِكَ بِالإِمَارَةِ، فَلَوْ أَنَّكَ خَلَعْتَ نَفْسَكَ لانْصَرَفُوا عَنِ الْقِتَالِ دُونَكَ.

ذِكْرُ بَعْضِ سِيَرِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
حَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قال: زعم أبو المقدام، عن الحسن بن أبي الحسن، قال: دخلت الْمَسْجِدَ، فَإِذَا أَنَا بِعُثْمَانَ بن عَفَّانَ مُتَّكِئًا عَلَى رِدَائِهِ، فَأَتَاهُ سَقَّاءَانِ يَخْتَصِمَانِ، فَقَضَى بَيْنَهُمَا.
وفيما كتب إلي السري، عن شعيب، عن سَيْفٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَدْ حَجَرَ عَلَى أَعْلامِ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْخُرُوجَ فِي الْبِلْدَانِ إِلا بِإِذْنٍ وَأَجَلٍ، فَشَكَوْهُ فَبَلَغَهُ، فَقَامَ فَقَالَ: أَلا إِنِّي قَدْ سَنَنْتُ الإِسْلامَ سَنَّ الْبَعِيرِ، يَبْدَأُ فَيَكُونُ جَذَعًا، ثُمَّ ثَنِيًّا، ثُمَّ رُبَاعِيًّا، ثُمَّ سَدِيسًا، ثُمَّ بَازِلا، أَلا فهل ينتظر بالبازل إِلا النُّقْصَانَ! أَلا فَإِنَّ الإِسْلامَ قَدْ بَزَلَ أَلا وَإِنَّ قُرَيْشًا يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا مَالَ اللَّهِ مَعُونَاتٍ دُونَ عِبَادَةٍ، أَلا فَأَمَّا وَابْنُ الْخَطَّابِ حَيٌّ فَلا، إِنِّي قَائِمٌ دُونَ شِعْبِ الْحَرَّةِ، آخِذٌ بِحَلاقِيمِ قُرَيْشٍ وَحُجُزِهَا أَنْ يَتَهَافَتُوا فِي النَّارِ.
وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ، قَالا: فلما ولي عُثْمَان لم يأخذهم بِالَّذِي كَانَ يأخذهم بِهِ عمر، فانساحوا فِي البلاد، فلما رأوها ورأوا الدُّنْيَا، ورآهم الناس، انقطع إليهم من لَمْ يَكُنْ لَهُ طول وَلا مزية فِي الإِسْلام، فكان مغموما فِي الناس، وصاروا أوزاعا إِلَيْهِم وأملوهم، وتقدموا فِي ذَلِكَ فَقَالُوا: يملكون فنكون قَدْ عرفناهم، وتقدمنا فِي التقرب والانقطاع إِلَيْهِم، فكان ذَلِكَ أول وهن دخل عَلَى الإِسْلام، وأول فتنة كَانَتْ فِي العامة، ليس إلا ذَلِكَ.
وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن عمرو، عن الشعبي قال: لم يمت عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى ملته قريش، وَقَدْ كَانَ حصرهم بِالْمَدِينَةِ، فامتنع عَلَيْهِم، وَقَالَ: إن أخوف مَا أخاف عَلَى هَذِهِ الأمة انتشاركم فِي البلاد، فإن كَانَ الرجل ليستأذنه فِي الغزو- وَهُوَ ممن حبس بِالْمَدِينَةِ من الْمُهَاجِرِينَ، ولم يكن فعل ذَلِكَ بغيرهم من أهل مكة- فيقول: قَدْ كَانَ في غزوك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مَا يبلغك، وخير لك من الغزو الْيَوْم أَلا ترى الدُّنْيَا وَلا تراك، فلما ولي عُثْمَان خلى عَنْهُمْ، فاضطربوا فِي البلاد، وانقطع إِلَيْهِم الناس، فكان أحب إِلَيْهِم من عمر.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُبَشِّرِ بْنِ الْفُضَيْلِ، عَنْ سَالِمِ بن عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لما ولي عُثْمَان حج سنواته كلها إلا آخر حجة، وحج بأزواج رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا كان يصنع عمر، فكان عبد الرحمن ابن عوف فِي موضعه، وجعل فِي موضع نفسه سَعِيد بن زَيْدٍ، هَذَا فِي مؤخر القطار، وهذا فِي مقدمه، وأمن الناس، وكتب فِي الأمصار أن يوافيه العمال فِي كل موسم ومن يشكونهم وكتب إِلَى النَّاسِ إِلَى الأمصار، أن ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، وَلا يذل المؤمن نفسه، فإني مع الضعيف عَلَى القوي مَا دام مظلوما إِنْ شَاءَ اللَّهُ فكان الناس بِذَلِكَ، فجرى ذَلِكَ إِلَى ان اتخذه اقوام وسيلة إِلَى تفريق الأمة.
وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قَالا: لم تمض سنة من إمارة عُثْمَان حَتَّى اتخذ رجال من قريش أموالا فِي الأمصار، وانقطع إِلَيْهِم الناس، وثبتوا سبع سنين، كل قوم يحبون أن يلي صاحبهم.
ثُمَّ إن ابن السوداء أسلم، وتكلم وَقَدْ فاضت الدُّنْيَا، وطلعت الأحداث عَلَى يديه، فاستطالوا عمر عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن عُثْمَان بن حكيم ابن عباد بن حنيف، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أول منكر ظهر بِالْمَدِينَةِ حين فاضت الدُّنْيَا، وانتهى وسع الناس طيران الحمام والرمي عَلَى الجلاهقات، فاستعمل عَلَيْهَا عُثْمَان رجلا من بني ليث سنة ثمان، فقصها وكسر الجلاهقات وَكَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن عبد اللَّهِ، عن عَمْرو بن شعيب، قَالَ أول من منع الحمام الطيارة والجلاهقات عُثْمَان، ظهرت بِالْمَدِينَةِ فأمر عَلَيْهَا رجلا، فمنعهم منها.
وَكَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ نحوا مِنْهُ، وزاد: وحدث بين الناس النشو.
قَالَ: فأرسل عُثْمَان طائفا يطوف عَلَيْهِم بالعصا، فمنعهم من ذَلِكَ، ثُمَّ اشتد ذَلِكَ فأفشى الحدود، ونبأ ذَلِكَ عُثْمَان، وشكاه إِلَى النَّاسِ، فاجتمعوا عَلَى أن يجلدوا فِي النبيذ، فأخذ نفر مِنْهُمْ فجلدوا.
وَكَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُبَشِّرِ بْنِ الْفُضَيْلِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لما حدثت الأحداث بِالْمَدِينَةِ خرج منها رجال إِلَى الأمصار مجاهدين، وليدنوا من العرب، فمنهم من أتى الْبَصْرَةَ، ومنهم من أتى الكوفه، ومنهم من أتى الشام، فهجموا جميعا من أبناء الْمُهَاجِرِينَ بالأمصار عَلَى مثل مَا حدث فِي أبناء الْمَدِينَةِ إلا مَا كَانَ من أبناء الشام، فرجعوا جميعا إِلَى الْمَدِينَةِ إلا من كَانَ بِالشَّامِ، فأخبروا عُثْمَان بخبرهم، فقام عُثْمَان فِي الناس خطيبا، فَقَالَ: يَا أهل الْمَدِينَةِ، أنتم أصل الإِسْلام، وإنما يفسد الناس بفسادكم، ويصلحون بصلاحكم، وَاللَّهِ وَاللَّهِ وَاللَّهِ لا يبلغني عن أحد مِنْكم حدث أحدثه إلا سيرته، أَلا فلا أعرفن أحدا عرض دون أُولَئِكَ بكلام وَلا طلب، فإن من كَانَ قبلكم كَانَتْ تقطع أعضاؤهم دون أن يتكلم أحد مِنْهُمْ بِمَا عَلَيْهِ وَلا لَهُ وجعل عُثْمَان لا يأخذ أحدا مِنْهُمْ عَلَى شر أو شهر سلاح: عصا فما فوقها إلا سيره، فضج آباؤهم من ذَلِكَ حَتَّى بلغه أَنَّهُمْ يقولون: مَا أحدث التسيير إلا أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سير الحكم بن أبي العاص، فَقَالَ: إن الحكم كان مكيا، فسيره رسول الله صلى الله عليه وسلم  منها إِلَى الطائف، ثُمَّ رده إِلَى بلده، فرسول الله صلى الله عليه وسلم سيره بذنبه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم رده بعفوه وَقَدْ سير الخليفة من بعده، وعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ من بعد الخليفة، وايم اللَّه لأخذن العفو من أخلاقكم، ولأبذلنه لكم من خلقي، وَقَدْ دنت أمور، وَلا أحب أن تحل بنا وبكم، وأنا عَلَى وجل وحذر، فاحذروا واعتبروا.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن سعيد ابن ثَابِت ويحيى بن سَعِيدٍ، قَالا: سأل سائل سَعِيد بْنُ الْمُسَيِّبِ عن مُحَمَّد بن أبي حُذَيْفَة: مَا دعاه إِلَى الخروج عَلَى عُثْمَانَ؟ فَقَالَ: كَانَ يتيما فِي حجر عُثْمَان، فكان عُثْمَان والي أيتام أهل بيته، ومحتمل كلهم، فسأل عُثْمَان العمل حين ولي، فَقَالَ: يَا بني، لو كنت رضا ثُمَّ سألتني العمل لاستعملتك، ولكن لست هُنَاكَ! قَالَ: فأذن لي فلأخرج فلأطلب مَا يقوتني، قَالَ: اذهب حَيْثُ شئت، وجهزه من عنده، وحمله وأعطاه، فلما وقع إِلَى مصر كَانَ فيمن تغير عَلَيْهِ أن منعه الولاية قيل: فعمار بن ياسر؟ قَالَ: كَانَ بينه وبين عباس بن عتبة بن أبي لهب كلام، فضربهما عُثْمَان، فأورث ذاك بين آل عمار وآل عتبة شرا حَتَّى اليوم، وكنى عما ضربا عَلَيْهِ وفيه.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن سعيد ابن ثَابِت، قَالَ: فسألت ابن سُلَيْمَان بن أبي حثمة، فأخبرني أنه تقاذف كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن مبشر، قَالَ: سالت سَالم بن عَبْدِ اللَّهِ عن مُحَمَّد بن أبي بكر: مَا دعاه إِلَى ركوب عُثْمَان؟ فَقَالَ: الغضب والطمع، قلت: مَا الغضب والطمع؟ قَالَ: كَانَ من الإِسْلام بالمكان الَّذِي هُوَ بِهِ، وغره أقوام فطمع وكانت لَهُ دالة فلزمه حق، فأخذه عُثْمَان من ظهره، ولم يدهن، فاجتمع هَذَا إِلَى هَذَا، فصار مذمما بعد أن كَانَ محمدا.

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن مبشر، عن سالم ابن عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لما ولي عُثْمَان لان لَهُمْ، فانتزع الحقوق انتزاعا، ولم يعطل حقا، فأحبوه عَلَى لينه، فأسلمهم ذَلِكَ إِلَى أمر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن سهل، عَنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: كَانَ مما أحدث عُثْمَان فرضي بِهِ مِنْهُ أنه ضرب رجلا فِي منازعة استخف فِيهَا بالعباس بن عبد المطلب، فقيل لَهُ، فقال: نعم، ايفخم رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه، وأرخص فِي الاستخفاف بِهِ! لقد خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعل ذَلِكَ، ومن رضي بِهِ مِنْهُ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عَنْ رُزَيْقِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ حُمْرَانَ بْنِ أَبَانٍ، قَالَ: أَرْسَلَنِي عُثْمَانُ إِلَى الْعَبَّاسِ بَعْدَ مَا بُويِعَ، فَدَعَوْتُهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا لَكَ تَعَبَّدْتَنِي! قَالَ: لَمْ أَكُن قَطُّ أَحْوَجَ إِلَيْكَ مِنِّي الْيَوْمَ، قَالَ: الْزَمْ خَمْسًا، لا تُنَازِعُكَ الأُمَّةُ خَزَائِمَهَا مَا لَزِمْتَهَا، قَالَ: وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الصَّبْرُ عَنِ الْقَتْلِ، وَالتَّحُبُّبُ، وَالصَّفْحُ، وَالْمُدَارَاةُ، وَكِتْمَانُ السِّرِّ.
وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْن عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ، قَالَ: إِنَّ قُرَيْشًا كَانَ مَنْ أَسَنَّ مِنْهُمْ مُولَعًا بِأَكْلِ الْخَزِيرَةِ، وَإِنِّي كُنْتُ أَتَعَشَّى مَعَ عُثْمَانَ خَزِيرًا مِنْ طَبْخٍ مِنْ أَجْوَدِ مَا رَأَيْتُ قَطُّ، فِيهَا بُطُونُ الْغَنَمِ، وَأُدْمُهَا اللَّبَنُ وَالسَّمْنُ، فَقَالَ عُثْمَانُ: كَيْفَ تَرَى هَذَا الطَّعَامَ؟ فَقُلْتُ: هَذَا أَطْيَبُ مَا أَكَلْتُ قَطُّ، فَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ ابْنَ الْخَطَّابِ! أَكَلْتَ مَعَهُ هَذِهِ الْخَزِيرَةَ قَطُّ؟ قُلتُ: نَعَمْ، فَكَادَتِ اللُّقْمَةُ تَفْرُثُ فِي يَدِي حِينَ أَهْوِي بِهَا إِلَى فَمِي، وَلَيْسَ فِيهَا لَحْمٌ، وَكَانَ أُدْمَهَا السَّمْنُ وَلا لَبَنَ فِيهَا.
فَقَالَ عُثْمَانُ: صَدَقْتَ، إِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَتْعَبَ وَاللَّهِ مَنْ تَبِعَ أَثَرَهُ، وَإِنَّهُ كَانَ يَطْلُبُ بِثَنْيِهِ عَنْ هَذِهِ الأُمُورِ ظَلَفًا أَمَا وَاللَّهِ مَا آكُلُهُ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنِّي آكُلُهُ مِنْ مَالِي، أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أَكْثَرَ قُرَيْشٍ مَالا، وَأَجَدَّهُمْ فِي التِّجَارَةِ، وَلَمْ أَزَلْ آكُلُ مِنَ الطَّعَامِ مَا لانَ مِنْهُ، وَقَدْ بَلَغْتُ سِنًّا فَأَحَبُّ الطَّعَامِ إِلَيَّ أَلْيَنُهُ، وَلا أَعْلَمُ لأَحَدٍ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ تِبْعَةً.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَحَدَّثَنِي ابن أبي سبرة، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله ابن عَامِر، قَالَ: كنت أفطر مع عُثْمَان فِي شهر رمضان، فكان يأتينا بطعام هُوَ ألين من طعام عمر، قَدْ رأيت عَلَى مائدة عُثْمَان الدرمك الجيد وصغار الضأن كل ليلة، وما رأيت عمر قط أكل من الدقيق منخولا، وَلا أكل من الغنم إلا مسانها، فقلت لِعُثْمَانَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: يرحم اللَّه عمر! ومن يطيق مَا كَانَ عمر يطيق! قَالَ مُحَمَّدٌ: وَحَدَّثَنِي عَبْد الْمَلِكِ بن يَزِيدَ بن السَّائِب، عن عَبْد اللَّهِ بن السَّائِب، قَالَ: أَخْبَرَنِي أبي، قَالَ: أول فسطاط رأيته بمنى فسطاط لِعُثْمَانَ، وآخر لعبد اللَّه بن عَامِر بن كريز، وأول من زاد النداء الثالث يوم الجمعة عَلَى الزوراء عُثْمَان، وأول من نخل لَهُ الدقيق من الولاة عُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ، قَالا: بلغ عُثْمَان أن ابن ذي الحبكة النهدي يعالج نيرنجا- قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سلمة: إنما هُوَ نيرج- فأرسل إِلَى الْوَلِيدِ بن عُقْبَةَ ليسأله عن ذَلِكَ، فإن أقر بِهِ فأوجعه، فدعا بِهِ فسأله، فَقَالَ: إنما هُوَ رفق وأمر يعجب مِنْهُ، فأمر بِهِ فعزر، وأخبر الناس خبره، وقرأ عَلَيْهِم كتاب عُثْمَان: إنه قَدْ جد بكم، فعَلَيْكُمْ بالجد، وإياكم والهزال، فكان الناس عَلَيْهِ، وتعجبوا من وقوف عُثْمَان عَلَى مثل خبره، فغضب، فنفر فِي الَّذِينَ نفروا، فضرب معهم، فكتب إِلَى عُثْمَانَ فِيهِ، فلما سير إِلَى الشام من سير، سير كعب بن ذي الحبكه ومالك ابن عَبْدِ اللَّهِ- وَكَانَ دينه كدينه- إِلَى دنباوند، لأنها أرض سحرة، فَقَالَ فِي ذَلِكَ كعب بن ذي الحبكة للوليد:

لعمري لَئِنْ طردتني مَا إِلَى الَّتِي *** طمعت بِهَا من سقطتي لسبيل
رجوت رجوعى يا بن أروى ورجعتي *** إِلَى الحق دهرا غال ذَلِكَ غول
وإن اغترابي فِي البلاد وجفوتي *** وشتمي فِي ذات الإله قليل
وإن دعائي كل يوم وليله *** عليك بدنباوند كم لطويل

فلما ولي سَعِيد أقفله، وأحسن إِلَيْهِ واستصلحه، فكفره، فلم يزدد إلا فسادا واستعار ضابئ بن الْحَارِث البرجمي فِي زمان الْوَلِيد بن عُقْبَةَ من قوم من الأنصار كلبا يدعى قرحان، يصيد الظباء، فحبسه عَنْهُمْ، فنافره الأنصاريون، واستغاثوا عَلَيْهِ بقومه فكاثروه، فانتزعوه مِنْهُ وردوه عَلَى الأنصار، فهجاهم وَقَالَ فِي ذَلِكَ:

تحشم دوني وفد قرحان خطة **** تضل لها الوجناء وَهِيَ حسير
فباتوا شباعا ناعمين كأنما *** حباهم ببيت المرزبان أَمِير
فكلبكم لا تتركوا فهو أمكم *** فإن عقوق الأمهات كبير

فاستعدوا عَلَيْهِ عُثْمَان، فأرسل إِلَيْهِ، فعزره وحبسه كما كَانَ يصنع بالمسلمين، فاستثقل ذَلِكَ، فما زال فِي الحبس حَتَّى مات فِيهِ وَقَالَ فِي الفتك يعتذر إِلَى أَصْحَابه:

هممت ولم أفعل وكدت وليتني *** فعلت ووليت البكاء حلائله
وقائلة قَدْ مات فِي السجن ضابئ *** أَلا من لخصم لم يجد من يجادله!وقائلة لا يبعد اللَّه ضابئا *** فنعم الفتى تخلو بِهِ وتحاوله

فلذلك صار عمير بن ضابئ سبئيا.

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن المستنير، عن أخيه، قَالَ: وَاللَّهِ مَا علمت وَلا سمعت بأحد غزا عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلا ركب إِلَيْهِ إلا قتل، لقد اجتمع بالكوفة نفر، فِيهِمُ الأَشْتَر وزَيْد بن صوحان وكعب ابن ذي الحبكه وابو زينب وأبو مورع وكميل بن زياد وعمير بن ضابئ، فَقَالُوا: لا وَاللَّهِ لا يرفع رأس مَا دام عُثْمَان عَلَى الناس، فَقَالَ عمير بن ضابئ وكميل بن زياد: نحن نقتله فركبا إِلَى الْمَدِينَةِ، فأما عمير فإنه نكل عنه، وأما كميل بن زياد فإنه جسر وثاوره، وَكَانَ جالسا يرصده حَتَّى أتى عَلَيْهِ عُثْمَان، فوجأ عُثْمَان وجهه، فوقع عَلَى استه، وَقَالَ: أوجعتني يا امير المؤمنين! قال: او لست بفاتك! قَالَ: لا وَاللَّهِ الَّذِي لا إله إلا هُوَ، فحلف وَقَدِ اجتمع عَلَيْهِ الناس، فَقَالُوا: نفتشه يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: لا، قَدْ رزق اللَّه العافية، وَلا أشتهي أن أطلع مِنْهُ عَلَى غير مَا قَالَ وَقَالَ: إن كَانَ كما قلت يَا كميل فاقتد منى- وجثا- فو الله مَا حسبتك إلا تريدني، وَقَالَ: إن كنت صادقا فأجزل اللَّه، وإن كنت كاذبا فأذل اللَّه وقعد لَهُ عَلَى قدميه وَقَالَ:
دونك! قال: قد تركت فبقيا حَتَّى أكثر الناس فِي نجائهما، فلما قدم الحجاج قَالَ: من كَانَ من بعث المهلب فليواف مكتبه، وَلا يجعل عَلَى نفسه سبيلا.
فقام إِلَيْهِ عمير، وَقَالَ: إني شيخ ضعيف، ولي ابنان قويان، فأخرج أحدهما مكاني أو كليهما، فَقَالَ: من أنت؟ قَالَ: أنا عمير بن ضابئ، فَقَالَ:
وَاللَّهِ لقد عصيت اللَّه عز وجل منذ اربعين سنه، وو الله لأنكلن بك الْمُسْلِمِينَ، غضبت لسارق الكلب ظالما، إن أباك إذ غل لَهُمْ، وإنك هممت ونكلت، وإني أهم ثُمَّ لا أنكل فضربت عنقه.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا رجل من بني أسد، قَالَ: كَانَ من حديثه أنه كَانَ قَدْ غزا عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فيمن غزاه، فلما قدم الحجاج ونادى بِمَا نادى بِهِ، عرض رجل عَلَيْهِ مَا عوض نفسه، فقبل منه، فلما ولى قَالَ أسماء بن خارجة: لقد كَانَ شأن عمير مما يهمني، قَالَ: ومن عمير؟ قَالَ: هَذَا الشيخ، قَالَ: ذكرتني الطعن وكنت ناسيا
أليس فيمن خرج إِلَى عُثْمَانَ؟ قَالَ: بلى، قَالَ: فهل بالكوفة أحد غيره؟ قَالَ: نعم، كميل، قَالَ: علي بعمير، فضرب عنقه، ودعا بكميل فهرب، فأخذ النخع بِهِ، فَقَالَ لَهُ الأسود بن الهيثم: مَا تريد من شيخ قَدْ كفاكه الكبر! فَقَالَ: أما وَاللَّهِ لتحبسن عني لسانك أو لأحسن رأسك بالسيف قَالَ: افعل فلما رَأَى كميل مَا لقي قومه من الخوف وهم ألفا مقاتل، قَالَ: الموت خير من الخوف إذا أخيف ألفان من سببي وحرموا.
فخرج حَتَّى أتى الحجاج، فَقَالَ لَهُ الحجاج: أنت الَّذِي أردت ثُمَّ لم يكشفك امير المؤمنين، ولم ترض حتى اقعدته للقصاص إذ دفعك عن نفسه؟ فَقَالَ:
عَلَى أي ذَلِكَ تقتلني! تقتلني عَلَى عفوه أو عَلَى عافيتي؟ قَالَ: يَا أدهم بن المحرز، اقتله، قَالَ: والأجر بيني وبينك؟ قَالَ: نعم، قَالَ أدهم: بل الأجر لك، وما كَانَ من إثم فعلي وَقَالَ مالك بن عَبْدِ اللَّهِ- وَكَانَ من المسيرين:

مضت لابن أروى فِي كميل ظلامة *** عفاها لَهُ والمستقيد يلام
وَقَالَ لَهُ لا أقبح الْيَوْم مثلة *** عَلَيْك أبا عَمْرو وأنت إمام
رويدك رأسي والذي نسكت لَهُ *** قريش بنا عَلَى الكبير حرام
وللعفو أمن يعرف الناس فضله *** وليس علينا فِي القصاص أثام
ولو علم الفاروق مَا أنت صانع *** نهى عنك نهيا ليس فِيهِ كلام

حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عن سحيم بن حفص، قَالَ: كَانَ رَبِيعَةُ بن الْحَارِث بن عبد المطلب شريك عُثْمَان فِي الْجَاهِلِيَّة، فَقَالَ العباس بن رَبِيعَةَ لِعُثْمَانَ: اكتب لي إِلَى ابن عَامِر يسلفني مائة ألف، فكتب، فأعطاه مائة ألف وصله بِهَا، وأقطعه داره، دار العباس ابن رَبِيعَةَ الْيَوْم.
وَحَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، عن إسحاق بن يحيى، عن موسى ابن طَلْحَةَ، قَالَ: كَانَ لِعُثْمَانَ عَلَى طَلْحَةَ خَمْسُونَ أَلْفًا، فَخَرَجَ عُثْمَانُ يَوْمًا إِلَى الْمَسْجِدِ، فَقَالَ لَهُ طَلْحَةُ: قَدْ تَهَيَّأَ مَالُكَ فَاقْبِضْهُ، قَالَ: هُوَ لَكَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ مَعُونَةً لَكَ عَلَى مُرُوءَتِكَ.
وَحَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ ابن أَبِي خَالِدٍ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ لِطَلْحَةَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ أَلا رَدَدْتَ النَّاسَ عَنْ عُثْمَانَ! قَالَ: لا وَاللَّهِ حَتَّى تُعْطِيَ بَنُو أُمَيَّةَ الْحَقَّ مِنْ أَنْفُسِهَا.
وَحَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْبَكْرِيُّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ، عَنِ الْحَسَنِ، أَنَّ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بَاعَ أرضا له من عثمان بسبعمائة أَلْفٍ، فَحَمَلَهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ طَلْحَةُ: إِنَّ رَجُلا تَتَّسِقُ هَذِهِ عِنْدَهُ وَفِي بَيْتِهِ لا يَدْرِي مَا يَطْرُقُهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَغَرِيرٌ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ! فَبَاتَ وَرَسُولُهُ يَخْتَلِفُ بِهَا فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ يَقْسِمُهَا حَتَّى أَصْبَحَ، فَأَصْبَحَ وَمَا عِنْدَهُ مِنْهَا دِرْهَمٌ قَالَ الْحَسَنُ: وَجَاءَ هَاهُنَا يَطْلُبُ الدِّينَارَ وَالدِّرْهَمَ- أَوْ قَالَ: الصَّفْرَاءَ وَالْبَيْضَاءَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلاثِينَ- عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ بِأَمْرِ عُثْمَانَ إِيَّاهُ بِذَلِكَ، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَدُ بْن ثابت الرازي، عمن حدثه، عن إسحاق بْن عِيسَى، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ.

ذِكْرُ الْخَبَرِ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ أَمَرَ عُثْمَانُ رضى الله عنه عبد الله ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَحُجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ حَدَّثَهُ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا حُصِرَ عُثْمَانُ الْحَصْرَ الآخِرَ قال عكرمه: فقلت لابن عباس: او كانا حَصْرَيْنِ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَعَمْ، الْحَصْرُ الأَوَّلُ، حَصْرُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ- وَقَدِمَ الْمِصْرِيُّونَ فَلَقِيَهُمْ عَلِيٌّ بِذِي خَشَبٍ، فَرَدَّهُمْ عَنْهُ، وَقَدْ كَانَ وَاللَّهِ عَلِيٌّ لَهُ صَاحِبُ صِدْقٍ، حَتَّى أَوْغَرَ نَفْسَ عَلِيٍّ عَلَيْهِ، جَعَلَ مَرْوَانُ وَسَعِيدٌ وَذَوُوهُمَا يَحْمِلُونَهُ عَلَى عَلِيٍّ فَيَتَحَمَّلُ، وَيَقُولُونَ: لَوْ شَاءَ مَا كَلَّمَكَ أَحَدٌ، وَذَلِكَ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ يُكَلِّمُهُ وَيَنْصَحُهُ وَيَغْلُظُ عَلَيْهِ فِي الْمَنْطِقِ فِي مَرْوَانَ وَذَوِيهِ، فَيَقُولُونَ لِعُثْمَانَ: هَكَذَا يَسْتَقْبِلُكَ وَأَنْتَ إِمَامُهُ وَسَلَفُهُ وَابْنُ عَمِّهِ وَابْنُ عَمَّتِهِ، فَمَا ظَنُّكَ بِمَا غَابَ عَنْكَ مِنْهُ! فَلَمْ يَزَالُوا بِعَلِيٍّ حَتَّى أَجْمَعَ أَلا يَقُومَ دُونَهُ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ الْيَوْم الَّذِي خَرَجْتُ فِيهِ إِلَى مَكَّةَ، فَذَكَرْتُ لَهُ أَنَّ عُثْمَانَ دَعَانِي إِلَى الْخُرُوجِ فَقَالَ لِي: مَا يُرِيدُ عُثْمَانُ أَنْ يَنْصَحَهُ أَحَدٌ، اتَّخَذَ بِطَانَةَ أَهْلِ غِشٍّ لَيْسَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلا قَدْ تَسَبَّبَ بِطَائِفَةٍ مِنَ الأَرْضِ يَأْكُلُ خَرَاجَهَا وَيَسْتَذِلُّ أَهْلَهَا، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ لَهُ رَحِمًا وَحَقًّا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَقُومَ دُونَهُ فَعَلْتَ، فَإِنَّكَ لا تُعْذَرُ إِلا بِذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي رَأَيْتُ فِيهِ الانْكِسَارَ وَالرِّقَّةَ لِعُثْمَانَ، ثُمَّ إِنِّي لأَرَاهُ يُؤْتَى إِلَيْهِ عَظِيمٌ ثُمَّ قَالَ عِكْرِمَةُ: وَسَمِعْتُ ابْنَ عباس يقول: قال لي عثمان: يا بن عَبَّاسٍ، اذْهَبْ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْعَاصِ وَهُوَ بِمَكَّةَ، فَقُلْ لَهُ: يَقْرَأُ عَلَيْكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ السَّلامُ، وَيَقُولُ لَكَ: إِنِّي مَحْصُورٌ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا يَوْمًا، لا أَشْرَبُ إِلا مِنَ الأُجَاجِ مِنْ دَارِي، وَقَدْ مُنِعْتُ بِئْرًا اشْتَرَيْتُهَا مِنْ صُلْبِ مَالِي، رُومَةَ، فَإِنَّمَا يَشْرَبُهَا النَّاسُ وَلا أَشْرَبُ مِنْهَا شَيْئًا، وَلا آكُلُ إِلا مِمَّا فِي بَيْتِي، مُنِعْتُ أَنْ آكُلَ مِمَّا فِي السُّوقِ شَيْئًا وَأَنَا مَحْصُورٌ كَمَا تَرَى، فَآمِرْهُ وقل له: فليحج بالناس، وليس بفاعل، فَإِنْ أَبَى فَاحْجُجْ أَنْتَ بِالنَّاسِ. فَقَدِمْتُ الْحَجَّ فِي الْعَشْرِ، فَجِئْتُ خَالِدَ بْنَ الْعَاصِ، فَقُلْتُ لَهُ مَا قَالَ لِي عُثْمَانُ، فَقَالَ لِي: هَلْ طَاقَةٌ بِعَدَاوَةِ مَنْ تَرَى؟ فَأَبَى أَنْ يَحُجَّ وَقَالَ: فَحُجَّ أَنْتَ بِالنَّاسِ: فَأَنْتَ ابْنُ عَمِّ الرَّجُلِ، وَهَذَا الأَمْرُ لا يُفْضِي إِلا إِلَيْهِ- يَعْنِي عَلِيًّا- وَأَنْتَ أَحَقُّ أَنْ تَحْمِلَ لَهُ ذَلِكَ، فَحَجَجْتُ بِالنَّاسِ، ثُمَّ قَفَلْتُ فِي آخِرِ الشَّهْرِ، فَقَدِمْتُ الْمَدِينَةَ وَإِذَا عُثْمَانُ قَدْ قُتِلَ، وَإِذَا النَّاسُ يَتَوَاثَبُونَ عَلَى رَقَبَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَلَمَّا رَآنِي عَلِيٌّ تَرَكَ النَّاسَ، وَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَانْتَجَانِي، فَقَالَ: مَا تَرَى فِيمَا وَقَعَ؟ فَإِنَّهُ قَدْ وَقَعَ أَمْرٌ عَظِيمٌ كَمَا تَرَى لا طَاقَةَ لأَحَدٍ بِهِ، فَقُلْتُ: أَرَى أَنَّهُ لا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْكَ الْيَوْمَ، فَأَرَى أَنَّهُ لا يُبَايَعُ الْيَوْمَ أَحَدٌ إِلا اتُّهِمَ بِدَمِ هَذَا الرَّجُلِ، فَأَبَى إِلا أَنْ يُبَايَعَ فَاتُّهِمَ بِدَمِهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: فَحَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ لِي عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنِّي قَدِ اسْتَعْمَلْتُ خَالِدَ بْنَ الْعَاصِ بْنِ هِشَامٍ عَلَى مَكَّةَ، وَقَدْ بَلَغَ أَهْلُ مَكَّةَ مَا صَنَعَ النَّاسُ، فَأَنَا خَائِفٌ أَنْ يَمْنَعُوهُ الْمَوْقِفَ فَيَأْبَى، فَيُقَاتِلْهُمْ فِي حَرَمِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ وَأَمْنِهِ وَإِنَّ قَوْمًا جَاءُوا {كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ * لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ} [سورة الحج: 26-27]، فَرَأَيْتُ أَنْ أُوَلِّيَكَ أَمْرَ الْمَوْسِمِ وَكَتَبَ مَعَهُ إِلَى أَهْلِ الْمَوْسِمِ بِكِتَابٍ يَسْأَلُهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا لَهُ بِالْحَقِّ مِمَّنْ حَصَرَهُ فَخَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فمر بعائشة في الصلصل، فقالت: يا بن عَبَّاسٍ، أَنْشُدُكَ اللَّهَ- فَإِنَّكَ قَدْ أُعْطِيتَ لِسَانًا إِزْعِيلا- أَنْ تُخَذِّلَ عَنْ هَذَا الرَّجُلِ، وَأَنْ تُشَكِّكَ فِيهِ النَّاسَ، فَقَدْ بَانَتْ لَهُمْ بَصَائِرُهُمْ وَأَنْهَجَتْ، وَرَفَعَتْ لَهُمُ الْمَنَارَ، وَتَحَلَّبُوا مِنَ الْبِلْدَانِ لامر قد حم، وَقَدْ رَأَيْتُ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ قَدِ اتَّخَذَ عَلَى بُيُوتِ الأَمْوَالِ وَالْخَزَائِنِ مَفَاتِيحَ، فَإِنْ يَلِ يَسِرْ بِسِيرَةِ ابْنِ عَمِّهِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: قُلْتُ يَا أُمَّهْ لَوْ حَدَثَ بِالرَّجُلِ حَدَثٌ مَا فَزِعَ النَّاسُ إِلا إِلَى صَاحِبِنَا.
فَقَالَتْ: إِيهًا عَنْكَ! إِنِّي لَسْتُ أُرِيدُ مُكَابَرَتَكَ وَلا مُجَادَلَتَكَ.
قَالَ ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ: فَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَجِيدِ بْنُ سُهَيْلٍ، أَنَّهُ انْتَسَخَ رِسَالَةَ عُثْمَانَ الَّتِي كَتَبَ بِهَا مِنْ عِكْرِمَةَ، فَإِذَا فِيهَا:
بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ عَبْدِ اللَّه عُثْمَانَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، سلام عليكم، فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإني أُذَكِّرُكُمْ بِاللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ وَعَلَّمَكُمُ الإِسْلامَ، وَهَدَاكُمْ مِنَ الضَّلالَةِ، وَأَنْقَذَكُمْ مِنَ الْكُفْرِ، وَأَرَاكُمُ الْبَيِّنَاتِ، وَأَوْسَعَ عَلَيْكُمْ مِنَ الرزق، ونصركم على العدو، واسبغ عليكم نعمته، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ٱلإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34] وقال عز وجل: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} * {وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً}| [آل عمران: 102-103] الى قوله:{لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105]  وقال وقوله الحق: {وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ ٱلَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [المائدة: 7] وقال وقوله الحق: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [الحجرات: 6] إِلَى قَوْلِهِ: {فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَنِعْمَةً وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات 8] وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} [آل عمران: 77] إِلَى {وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 10] وَقَالَ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ: {فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] الى {فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 8] وَقَالَ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ: {وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } [النحل: 91] إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَنَجْزِيَنَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُوۤاْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النحل: 96] وَقَالَ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ: {أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]  الى {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [الإسراء: 35] وَقَالَ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ: {وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ} [النور: 55] إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ} [النور:: 55] وَقَالَ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ} [الفتح: 10]   الى {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [الفتح: 10].
اما بعد، فان الله عز وجل رَضِيَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ وَالْجَمَاعَةَ، وَحَذَّرَكُمُ الْمَعْصِيَةَ وَالْفُرْقَةَ وَالاخْتِلافَ، وَنَبَّأَكُمْ مَا قَدْ فَعَلَهُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْكُمْ فِيهِ لِيَكُونَ لَهُ الْحُجَّةُ عَلَيْكُمْ إِنْ عَصَيْتُمُوهُ، فَاقْبَلُوا نَصِيحَةَ اللَّهِ عز وجل وَاحْذَرُوا عَذَابَهُ، فَإِنَّكُمْ لَنْ تَجِدُوا أُمَّةً هَلَكَتْ إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ تَخْتَلِفَ، إِلا أَنْ يَكُونَ لَهَا رَأْسٌ يَجْمَعُهَا، وَمَتَى مَا تَفْعَلُوا ذَلِكَ لا تُقِيمُوا الصَّلاةَ جَمِيعًا، وَسَلَّطَ عَلَيْكُمْ عَدُوَّكُمْ، وَيَسْتَحِلُّ بَعْضُكُمْ حُرُمَ بَعْضٍ، وَمَتَى يُفْعَلُ ذَلِكَ لا يَقُمْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ دِينٌ، وَتَكُونُوا شِيَعًا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159]. وَإِنِّي أُوصِيكُمْ بِمَا أَوْصَاكُمُ اللَّهُ، وَأُحُذِّرُكُمْ عَذَابَهُ، فان شعيبا صلى الله عليه وسلم قَالَ لِقَوْمِهِ: {وَيٰقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِيۤ أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ} [هود: 89] الى قوله: {رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود: 90].
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ أَقْوَامًا مِمَّنْ كَانَ يَقُولُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، أَظْهَرُوا لِلنَّاسِ أَنَّمَا يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْحَقِّ، وَلا يُرِيدُونَ الدُّنْيَا وَلا مُنَازَعَةً فِيهَا، فَلَمَّا عُرِضَ عَلَيْهِمُ الْحَقُّ إِذَا النَّاسُ فِي ذَلِكَ شَتَّى، مِنْهُمْ آخِذٌ لِلْحَقِّ، وَنَازِعُ عَنْهُ حِينَ يُعْطَاهُ، وَمِنْهُمْ تَارِكٌ لِلْحَقِّ وَنَازِلٌ عَنْهُ فِي الأَمْرِ، يُرِيدُ أَنْ يَبْتَزَّهُ بِغَيْرِ الْحَقِّ، طَالَ عَلَيْهِمْ عُمُرِي، وَرَاثَ عَلَيْهِمْ أَمَلُهُمُ الإِمْرَة، فَاسْتَعْجَلُوا الْقَدَرَ، وَقَدْ كَتَبُوا إِلَيْكُمْ أَنَّهُمْ قَدْ رَجَعُوا بِالَّذِي أَعْطَيْتُهُمْ، وَلا أَعْلَمُ أَنِّي تَرَكْتُ مِنَ الَّذِي عَاهَدْتُهُمْ عَلَيْهِ شَيْئًا، كَانُوا زَعَمُوا أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ الْحُدُودَ، فَقُلْتُ: أَقِيمُوهَا عَلَى مَنْ عَلِمْتُمْ تَعَدَّاهَا في احد، أَقِيمُوهَا عَلَى مَنْ ظَلَمَكُمْ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ.
قَالُوا: كِتَابَ اللَّهِ يُتْلَى، فَقُلْتُ: فَلْيَتْلُهُ مِنْ تَلاهُ غَيْرُ غَالٍّ فِيهِ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي الْكِتَابِ وَقَالُوا: الْمَحْرُومُ يُرْزَقُ، وَالْمَالُ يُوفَى لِيُسْتَنَّ فِيهِ السُّنَّةَ الْحَسَنَةَ، وَلا يُعْتَدَى فِي الْخُمُسِ وَلا فِي الصَّدَقَةِ، وَيُؤَمَّرُ ذُو الْقُوَّةِ وَالأَمَانَةِ، وَتُرَدُّ مَظَالِمُ النَّاسِ إِلَى أَهْلِهَا، فَرَضِيتُ بِذَلِكَ واصطبرت له، وجئت نسوه النبي صلى الله عليه وسلم حَتَّى كَلَّمْتُهُنَّ، فَقُلْتُ: مَا تَأْمُرْنَنِي؟ فَقُلْنَ:
تُؤَمِّرُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ وَتَدَعُ مُعَاوِيَةَ، فَإِنَّمَا أَمَّرَهُ أَمِيرٌ قَبْلَكَ، فَإِنَّهُ مُصْلِحٌ لأَرْضِهِ، رَاضٍ بِهِ جُنْدَهُ، وَارْدُدْ عَمْرًا، فَإِنَّ جُنْدَهُ رَاضُونَ بِهِ، وَأَمِّرْهُ فَلْيُصْلِحْ أَرْضَهُ، فَكُلُّ ذَلِكَ فَعَلْتُ وَإِنَّهُ اعْتُدِيَ عَلَيَّ بَعْدَ ذلك، وعدى عَلَى الْحَقِّ.
كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ وَأَصْحَابِي الَّذِينَ زَعَمُوا فِي الأَمْرِ، اسْتَعْجَلُوا الْقَدَرَ، وَمَنَعُوا مِنِّي الصَّلاةَ، وَحَالُوا بَيْنِي وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ، وَابْتَزُّوا مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ.
كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ كِتَابِي هَذَا، وَهُمْ يُخَيِّرُونَنِي إِحْدَى ثَلاثٍ: إِمَّا يُقِيدُونَنِي بِكُلِّ رَجُلٍ أَصَبْتُهُ خَطَأً أَوْ صَوَابًا، غَيْرَ مَتْرُوكٍ مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِمَّا أَعْتَزِلُ الأَمْرَ فَيُؤَمِّرُونَ آخَرَ غَيْرِي، وَإِمَّا يُرْسِلُونَ إِلَى مَنْ أَطَاعَهُمْ مِنَ الأَجْنَادِ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ فَيَتَبَرَّءُونَ مِنَ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِي عَلَيْهِم مِنَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فَقُلْتُ لَهُمْ: أَمَّا إِقَادَتِي مِنْ نَفْسِي فَقَدْ كَانَ مِنْ قَبْلِي خُلَفَاءُ تُخْطِئُ وَتُصِيبُ، فَلَمْ يُسْتَقَدْ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّمَا يُرِيدُونَ نَفْسِي، وَأَمَّا أَنْ أَتَبَرَّأَ مِنَ الإِمَارَةِ فَأَنْ يُكَلِّبُونِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَبَرَّأَ مِنْ عَمَلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَخِلافَتِهِ وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: يُرْسِلُونَ إِلَى الأَجْنَادِ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ فَيَتَبَرَّءُونَ مِنْ طَاعَتِي، فَلَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ، وَلَمْ أَكُنِ اسْتَكْرَهْتُهُمْ مَنْ قَبْلُ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَلَكِنْ أَتَوْهَا طَائِعِينَ، يَبْتَغُونَ مَرْضَاةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِصْلاحَ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَمَنْ يَكُنْ مِنْكُمْ إِنَّمَا يَبْتَغِي الدُّنْيَا فَلَيْسَ بِنَائِلٍ مِنْهَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ، وَمَنْ يَكُنْ إِنَّمَا يُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الآخِرَةَ وَصَلاحَ الأُمَّةِ وَابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالسُّنَّةَ الْحَسَنَةَ التي استن بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وَالْخَلِيفَتَانِ مِنْ بَعْدِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَإِنَّمَا يُجْزِي بِذَلِكُمُ اللَّهُ، وَلَيْسَ بِيَدِي جَزَاؤُكُمْ، وَلَوْ أَعْطَيْتُكُمُ الدُّنْيَا كُلَّهَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ثَمَنٌ لِدِينِكُمْ، وَلَمْ يُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاحْتَسِبُوا مَا عِنْدَهُ، فَمَنْ يَرْضَ بِالنُّكْثِ مِنْكُمْ فَإِنِّي لا أَرْضَاهُ لَهُ، وَلا يَرْضَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ تنكثوا عهده واما الذى يخيروننى فَإِنَّمَا كُلَّهُ النَّزْعُ وَالتَّأْمِيرُ فَمَلَكْتُ نَفْسِي وَمَنْ مَعِي، وَنَظَرْتُ حُكْمَ اللَّهِ وَتَغْيِيرَ النِّعْمَةِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَكَرِهْتُ سُنَّةَ السُّوءِ وَشِقَاقَ الأُمَّةِ وَسَفْكَ الدِّمَاءِ، فَإِنِّي أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ وَالإِسْلامِ أَلا تَأْخُذُوا إِلا الْحَقَّ وَتُعْطَوْهُ مِنِّي وَتَرْكَ الْبَغْيِ عَلَى أَهْلِهِ، وَخُذُوا بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنِّي أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ الذى جعل عليكم العهد والموازره فِي أَمْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 34]، فَإِنَّ هَذِهِ مَعْذِرَةٌ إِلَى اللَّهِ وَلَعَلَّكُمْ تَذْكُرُونَ.
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي لا أُبَرِّئُ نَفْسِي، {وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيۤ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [يوسف: 53]، وَإِنْ عَاقَبْتُ أَقْوَامًا فَمَا أَبْتَغِي بِذَلِكَ إِلا الْخَيْرَ، وَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ من كُلَّ عَمَلٍ عَمِلْتُهُ، وَأَسْتَغْفِرُهُ إِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا هُوَ، إِنَّ رَحْمَةَ رَبِّي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ*، إِنَّهُ لا يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمَ الضَّالُّونَ، وَإِنَّهُ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ مَا يَفْعَلُونَ وَأَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَغْفِرَ لِي وَلَكُمْ، وَأَنْ يُؤَلِّفَ قُلُوبَ هَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى الْخَيْرِ، وَيُكَرِّهَ إِلَيْهَا الْفِسْقَ، وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُسْلِمُونَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَرَأْتُ هَذَا الْكِتَابَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِمَكَّةَ بِيَوْمٍ قَالَ: وَحَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: دَعَانِي عُثْمَانُ، فَاسْتَعْمَلَنِي عَلَى الْحَجِّ قَالَ: فَخَرَجْتُ إِلَى مَكَّةَ، فَأَقَمْتُ لِلنَّاسِ الْحَجَّ، وَقَرَأْتُ عَلَيْهِمْ كِتَابَ عُثْمَانَ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ وَقَدْ بُويِعَ لِعَلِيٍّ.

ذكر الخبر عن الموضع الَّذِي دفن فِيهِ عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ومن صلى عَلَيْهِ وولي أمره بعد مَا قتل إِلَى أن فرغ من أمره ودفنه
حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عبد الله المحمدي، قال: حدثنا عمرو بن حماد وعلى ابن حُسَيْن، قَالا: حَدَّثَنَا حُسَيْن بن عِيسَى، عَنْ أبيه، عن أبي ميمونة، عن أبي بشير العابدي، قَالَ: نبذ عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثلاثة أيام لا يدفن، ثُمَّ إن حكيم بن حزام القرشي ثُمَّ أحد بني أسد بن عبد العزى، وجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، كلما عَلِيًّا فِي دفنه، وطلبا إِلَيْهِ أن يأذن لأهله فِي ذَلِكَ، ففعل، وأذن لَهُمْ علي، فلما سمع بِذَلِكَ قعدوا لَهُ فِي الطريق بالحجارة، وخرج بِهِ ناس يسير من أهله، وهم يريدون بِهِ حائطا بِالْمَدِينَةِ، يقال لَهُ: حش كوكب، كَانَتِ اليهود تدفن فِيهِ موتاهم، فلما خرج بِهِ عَلَى الناس رجموا سريره، وهموا بطرحه، فبلغ ذَلِكَ عَلِيًّا، فأرسل إِلَيْهِم يعزم عَلَيْهِم ليكفن عنه، ففعلوا، فانطلق حَتَّى دفن رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حش كوكب، فلما ظهر مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَانَ عَلَى الناس أمر بهدم ذَلِكَ الحائط حَتَّى أفضى بِهِ إِلَى البقيع، فأمر الناس أن يدفنوا موتاهم حول قبره حَتَّى اتصل ذَلِكَ بمقابر الْمُسْلِمِينَ.
وَحَدَّثَنِي جَعْفَر، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو وَعَلِيٌّ قَالا: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، عَنْ أَبِيهِ، عن الْمُجَالِد بن سَعِيد الهمداني، عن يسار بن أبي كرب، عَنْ أَبِيهِ.
– وَكَانَ أَبُو كرب عاملا عَلَى بيت مال عُثْمَان- قَالَ: دفن عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بين المغرب والعتمة، ولم يشهد جنازته إلا مَرْوَان بن الحكم وثلاثة من مواليه وابنته الخامسة، فناحت ابنته ورفعت صوتها تندبه، وأخذ الناس الحجارة وَقَالُوا: [نعثل نعثل!] وكادت ترجم، فَقَالُوا: الحائط الحائط، فدفن فِي حائط خارجا.
وأما الْوَاقِدِيّ فإنه ذكر أن سعد بن راشد حدثه عن صالح بن كيسان، أنه قال: لما قتل عثمان رضي الله عنه قَالَ رجل: يدفن بدير سلع مقبرة اليهود، فَقَالَ حكيم بن حزام: وَاللَّهِ لا يكون هَذَا أبدا وأحد من ولد قصي حي، حَتَّى كاد الشر يلتحم، فَقَالَ ابن عديس البلوي: أيها الشيخ، وما يضرك أين يدفن! فَقَالَ حكيم بن حزام: لا يدفن إلا ببقيع الغرقد حَيْثُ دفن سلفه وفرطه، فخرج بِهِ حكيم بن حزام فِي اثني عشر رجلا، وفيهم الزُّبَيْر، فصلى عَلَيْهِ حكيم بن حزام قَالَ الْوَاقِدِيُّ: الثبت عندنا أنه صلى عَلَيْهِ جبير بن مطعم قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: وَحَدَّثَنِي الضحاك بن عُثْمَانَ، عن مخرمة بن سُلَيْمَانَ الوالبي، قَالَ: قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يوم الجمعة ضحوة، فلم يقدروا عَلَى دفنه، وأرسلت نائلة ابنة الْفُرَافِصَة إِلَى حويطب بن عبد العزى وجبير بن مطعم وأبي جهم بن حُذَيْفَة وحكيم بن حزام ونيار الأسلمي، فَقَالُوا: إنا لا نقدر أن نخرج بِهِ نهارا، وهؤلاء الْمِصْرِيُّونَ عَلَى الباب، فأمهلوا حَتَّى كَانَ بين المغرب والعشاء، فدخل القوم، فحيل بينهم وبينه، فَقَالَ أَبُو جهم: وَاللَّهِ لا يحول بيني وبينه أحد إلا مت دونه، احملوه، فحمل إِلَى البقيع، قَالَ: وتبعتهم نائلة بسراج استسرجته بالبقيع وغلام لِعُثْمَانَ، حَتَّى انتهوا إِلَى نخلات عَلَيْهَا حائط، فدقوا الجدار، ثُمَّ قبروه فِي تِلَكَ النخلات، وصلى عَلَيْهِ جبير ابن مطعم، فذهبت نائلة تريد أن تتكلم، فزبرها القوم، وَقَالُوا: إنا نخاف عَلَيْهِ من هَؤُلاءِ الغوغاء أن ينبشوه، فرجعت نائلة إِلَى منزلها.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْهُذَلِيّ، عن عَبْد اللَّهِ بن ساعدة، قَالَ: لبث عُثْمَان بعد مَا قتل ليلتين لا يستطيعون دفنه، ثُمَّ حمله أربعة:
حكيم بن حزام، وجبير بن مطعم، ونيار بن مكرم، وأبو جهم بن حُذَيْفَة، فلما وضع ليصلى عَلَيْهِ، جَاءَ نفر من الأنصار يمنعونهم الصَّلاة عَلَيْهِ، فِيهِمْ أسلم بن أوس بن بجرة الساعدي، وأبو حية المازني، فِي عدة، ومنعوهم أن يدفن بالبقيع، فَقَالَ أَبُو جهم: ادفنوه، فقد صلى اللَّه عَلَيْهِ وملائكته، فَقَالُوا:
لا وَاللَّهِ، لا يدفن فِي مقابر الْمُسْلِمِينَ أبدا، فدفنوه فِي حش كوكب فلما ملكت بنو أُمَيَّة أدخلوا ذَلِكَ الحش فِي البقيع، فهو الْيَوْم مقبرة بني أُمَيَّة قَالَ مُحَمَّدٌ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى المخزومي، قَالَ: لما قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أرادوا حز رأسه، فوقعت عَلَيْهِ نائلة وأم البنين، فمنعنهم، وصحن وضربن الوجوه، وخرقن ثيابهن، فَقَالَ ابن عديس: اتركوه، فأخرج عُثْمَان ولم يغسل إِلَى البقيع، وأرادوا أن يصلوا عَلَيْهِ فِي موضع الجنائز، فأبت الأنصار، وأقبل عمير بن ضابئ وعثمان موضوع عَلَى باب، فنزا عَلَيْهِ، فكسر ضلعا من أضلاعه، وَقَالَ: سجنت ضابئا حَتَّى مات فِي السجن.
وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي أويس، قَالَ: حَدَّثَنِي عم جدي الربيع بن مالك بن أبي عَامِر، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كنت أحد حملة عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حين قتل: حملناه عَلَى باب، وإن رأسه لتقرع الباب لإسراعنا بِهِ، وإن بنا من الخوف لأمرا عظيما حَتَّى واريناه فِي قبره فِي حش كوكب.
وأما سيف، فإنه روى فِيمَا كتب بِهِ إلي السري، عَنْ شُعَيْبٍ، عنه، عَنْ أَبِي حَارِثَةَ وَأَبِي عُثْمَانَ ومحمد وَطَلْحَة، أن عُثْمَان لما قتل أرسلت نائلة إِلَى عبد الرَّحْمَن ابن عديس، فَقَالَتْ لَهُ: إنك أمس القوم رحما، وأولاهم بأن تقوم بأمري، أغرب عني هَؤُلاءِ الأموات قَالَ: فشتمها وزجرها، حَتَّى إذا كَانَ فِي جوف الليل خرج مَرْوَان حَتَّى أتى دار عُثْمَان، فأتاه زَيْد بن ثَابِت وَطَلْحَة بن عُبَيْد اللَّهِ وعلي والحسن وكعب بن مَالِكٍ وعامة من ثُمَّ من صحابه، فتوافى إِلَى موضع الجنائز صبيان ونساء، فأخرجوا عُثْمَان فصلى عَلَيْهِ مَرْوَان، ثُمَّ خرجوا بِهِ حَتَّى انتهوا إِلَى البقيع، فدفنوه فِيهِ مما يلي حش كوكب، حَتَّى إذا أصبحوا أتوا أعبد عُثْمَان الَّذِينَ قتلوا مَعَهُ فأخرجوهم فرأوهم فمنعوهم من ان يدفنوا، فأدخلوهم حش كوكب، فلما أمسوا خرجوا بعبدين مِنْهُمْ فدفنوهما إِلَى جنب عُثْمَان، ومع كل واحد منهما خمسة نفر وامرأة، فاطمة أم إِبْرَاهِيم بن عدي، ثُمَّ رجعوا فأتوا كنانة بن بشر، فَقَالُوا: إنك أمس القوم بنا رحما، فأمر بهاتين الجيفتين اللتين فِي الدار أن تخرجا، فكلمهم فِي ذَلِكَ، فأبوا، فَقَالَ: أنا جار لآل عُثْمَان من أهل مصر ومن لف لفهم، فاخرجوهما فارموا بهما، فجرا بأرجلهما فرمى بهما على البلاط، فأكلتهما الكلاب، وَكَانَ العبدان اللذان قتلا يوم الدار يقال لهما نجيح وصبيح، فكان اسماهما الغالب عَلَى الرقيق لفضلهما وبلائهما، ولم يحفظ الناس اسم الثالث، ولم يغسل عُثْمَان، وكفن فِي ثيابه ودمائه وَلا غسل غلاماه.
وَكَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُجَالِد، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: دفن عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ من الليل، وصلى عَلَيْهِ مَرْوَان بن الحكم، وخرجت ابنته تبكي فِي أثره، ونائلة ابنة الْفُرَافِصَة، رحمهم اللَّه.

ذكر الخبر عن الوقت الَّذِي قتل فِيهِ عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
اختلف فِي ذَلِكَ بعد إجماع جميعهم عَلَى أنه قتل فِي ذي الحجة، فَقَالَ بعضهم: قتل لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة ست وثلاثين من الهجرة، فَقَالَ الجمهور مِنْهُمْ: قتل لثماني عشرة ليلة مضت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين.
ذكر الرواية بِذَلِكَ عن بعض من قَالَ إنه قتل فِي سنة ست وثلاثين:
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سعد، قال: أخبرنا محمد ابن عمر، قال: حدثني أبو بكر بن إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وقاص، عن عُثْمَان بن مُحَمَّد الأخنسي، قَالَ الْحَارِث: وَحَدَّثَنَا ابن سعد، قَالَ:
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْر بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي سبرة، عن يَعْقُوب بن زَيْد، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة ست وثلاثين بعد العصر، وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة غير اثني عشر يَوْمًا، وَهُوَ ابن اثنتين وثمانين سنة.
وَقَالَ أَبُو بَكْر: أَخْبَرَنَا مُصْعَب بن عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة ست وثلاثين بعد العصر وَقَالَ آخرون: قتل فِي ذي الحجة سنة خمس وثلاثين لثماني عشرة ليلة خلت مِنْهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرو بن حماد وعلي، قالا:
حدثنا حسين، عن أبيه، عن الْمُجَالِد بن سَعِيد الهمداني، عن عَامِر الشَّعْبِيّ، أنه قَالَ: حصر عُثْمَان بن عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الدار اثنتين وعشرين ليلة، وقتل صبحه ثماني عشرة ليلة مضت من ذي الحجة سنة خمس وعشرين من وفاة رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَحَدَّثَنِي أَحْمَد بْن ثَابِت الرازي، عمن حدثه، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر، قَالَ: قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة مضت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة إلا اثني عشر يَوْمًا.
وَكَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان، قالوا: قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة مضت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين عَلَى رأس إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهرا واثنين وعشرين يَوْمًا من مقتل عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وحدثت عن زكرياء بن عدي، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ ابن عقيل، قَالَ: قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سنة خمس وثلاثين.
وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن أبي حارثة وأبي عثمان ومحمد وَطَلْحَة، قَالُوا: قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة يوم الجمعة فِي آخر ساعة.
وَقَالَ آخرون: قتل يوم الجمعة ضحوة.
ذكر من قَالَ ذَلِكَ:
ذكر عن هِشَام بن الكلبي، أنه قَالَ: قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صبيحة الجمعة لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، فكانت خلافته اثنتي عشرة سنة إلا ثمانية أيام.
حَدَّثَنَا الْحَارِثُ، عَنِ ابْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي الضحاك بن عُثْمَانَ، عن مخرمة بن سُلَيْمَانَ الوالبي، قَالَ: قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يوم الجمعة ضحوة لثماني عشرة ليلة مضت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين.
وَقَالَ آخرون: قتل فِي أيام التشريق ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنِي أحمد بْن زهير، قال: حدثنا أبي أبو خيثمة، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: سمعت أبي قال: سمعت يونس بن يَزِيدَ الأيلي، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فزعم بعض الناس أنه قتل فِي أيام التشريق.
وَقَالَ بعضهم: قتل يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة
ذكر الخبر عن قدر مدة حياته
اختلف السلف قبلنا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بعضهم: كَانَتْ مدة ذَلِكَ اثنتين وثمانين سنة.
ذكر من قَالَ ذلك:
حدثني الحارث، قَالَ: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عُمَرَ، أن عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قتل وَهُوَ ابن اثنتين وثمانين سنة.
قَالَ مُحَمَّد بن عمر: وحدثني الضحاك بن عثمان، عن مخرمة بن سُلَيْمَانَ الوالبي، قَالَ: قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ ابن اثنتين وثمانين سنه قَالَ مُحَمَّد: وَحَدَّثَنِي سعد بن راشد عن صالح بن كيسان، قَالَ: قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ ابن اثنتين وثمانين سنة وأشهر.
وَقَالَ آخرون: قتل وَهُوَ ابن تسعين أو ثمان وثمانين.
ذكر من قَالَ ذَلِكَ:
حدثت عن الْحَسَن بن مُوسَى الأشيب، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هلال، عن قَتَادَة: أن عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قتل وَهُوَ ابن تسعين أو ثمان وثمانين سنة.
وَقَالَ آخرون: قتل وَهُوَ ابن خمس وسبعين سنة، وَذَلِكَ قول ذكر عن هِشَام بن مُحَمَّد.
وَقَالَ بعضهم: قتل وَهُوَ ابن ثلاث وستين، وهذا قول نسبه سيف بن عُمَرَ إِلَى جماعة.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، أن أبا حَارِثَةَ وأبا عُثْمَان ومحمدا وَطَلْحَة، قَالُوا: قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ ابن ثلاث وستين سنة.
وَقَالَ آخرون: قتل وَهُوَ ابن ست وثمانين.
ذكر من قَالَ ذَلِكَ:
حدثني محمد بن موسى الحرشي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ:
حَدَّثَنِي أبي، عن قَتَادَة، قَالَ: قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ ابن ست وثمانين

ذكر الخبر عن صفة عُثْمَان
حَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قال: زعم أبو المقدام، عن الحسن بن أبي الحسن، قال: دخلت المسجد، فإذا أنا بعثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ متكئا عَلَى ردائه، فنظرت إِلَيْهِ، فإذا رجل حسن الوجه، وإذا بوجهه نكتات من جدري، وإذا شعره قَدْ كسا ذراعيه.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن عُمَرَ، قَالَ: سألت عَمْرو بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عنبسة وعروة بن خالد بن عبد الله ابن عَمْرو بن عُثْمَانَ وعبد الرَّحْمَن بن أبي الزناد عن صفة عُثْمَان، فلم أر بينهم اختلافا، قَالُوا: كَانَ رجلا ليس بالقصير وَلا بالطويل، حسن الوجه، رقيق البشره، كث اللحية عظيمها، أسمر اللون، عظيم الكراديس، عظيم مَا بين المنكبين، كثير شعر الرأس، يصفر لحيته.
وَحَدَّثَنِي أَحْمَد بن زهير، قَالَ: حَدَّثَنَا أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا وهب بن جرير بن حازم، قَالَ: سمعت أبي يقول: سمعت يونس بن يزيد الأيلي، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: كَانَ عُثْمَان رجلا مربوعا، حسن الشعر، حسن الوجه، أصلع، أروح الرجلين.

ذكر الخبر عن وقت إسلامه وهجرته
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: كَانَ إسلام عثمان قديما قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم قَالَ: وَكَانَ ممن هاجر مِنْ مَكَّةَ إِلَى أرض الحبشة الهجرة الأولى والهجرة الثانية، وَمَعَهُ فيهما جميعا امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 ذكر الخبر عما كَانَ يكنى بِهِ عُثْمَان بن عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أخبرنا محمد ابن عُمَرَ أن عُثْمَان بن عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يكنى فِي الْجَاهِلِيَّة أبا عَمْرو، فلما كَانَ فِي الإِسْلام ولد لَهُ من رقيه بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم غلام فسماه عَبْد اللَّهِ، واكتنى بِهِ، فكناه الْمُسْلِمُونَ أبا عَبْد اللَّهِ، فبلغ عَبْد اللَّهِ ست سنين، فنقره ديك عَلَى عينه، فمرض فمات فِي جمادى الأولى سنة أربع من الهجره، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل فِي حفرته عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ هِشَام بن مُحَمَّد: كَانَ يكنى أبا عَمْرو.

ذكر نسبه
هُوَ عُثْمَان بن عَفَّانَ بْن العاص بْن أُمَيَّة بْن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي وأمه أروى ابنة كريز بن رَبِيعَة بن حبيب بن عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ، وأمها أم حكيم بنت عبد المطلب.

ذكر أولاده وأزواجه
رقيه وأم كلثوم ابنتا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولدت لَهُ رقية عَبْد اللَّهِ.
وفاختة ابنة غزوان بن جابر بن نسيب بن وهيب بن زيد بن مالك ابن عبد بن عوف بن الْحَارِث بن مازن بن مَنْصُور بن عِكْرِمَة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر ولدت لَهُ ابنا فسماه عَبْد اللَّهِ، وَهُوَ عَبْد اللَّهِ الأصغر، هلك.
وأم عَمْرو بنت جندب بن عَمْرو بن حممة بن الْحَارِث بن رفاعة بن سَعْدِ بْنِ ثعلبة بن لؤي بن عَامِر بن غنم بن دهمان بن منهب بن دوس، من الأزد، ولدت لَهُ عمرا وخالدا وأبانا وعمر ومريم.
وفاطمة ابنة الْوَلِيد بن عبد شمس بْن الْمُغِيرَةِ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن عُمَرَ بن مخزوم، ولدت لَهُ الْوَلِيد وسعيدا وأم سَعِيد، بني عُثْمَان.
وأم البنين بنت عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ الفزاري، ولدت لَهُ عَبْد الْمَلِكِ بن عُثْمَانَ، هلك.
ورملة ابنة شيبة بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مناف بن قصي، ولدت لَهُ عَائِشَةَ وأم أبان وأم عَمْرو، بنات عُثْمَان.
ونائلة ابنة الْفُرَافِصَة بن الأحوص بن عَمْرو بن ثعلبة بن الْحَارِث بن حصن بن ضمضم بن عدي بن جناب بن كلب، ولدت لَهُ مريم ابنة عُثْمَان.
وَقَالَ هِشَام بن الكلبي: ولدت أم البنين بنت عيينة بن حصن لِعُثْمَانَ عَبْد الْمَلِكِ وعتبة وَقَالَ أَيْضًا: ولدت نائلة عنبسة.
وزعم الْوَاقِدِيّ أن لِعُثْمَانَ ابنة تدعى أم البنين بنت عُثْمَان من نائلة، قَالَ:
وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ بن أَبِي سُفْيَانَ.
وقتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وعنده رملة ابنة شيبة ونائلة وأم البنين بنت عيينة وفاختة ابنة غزوان، غير أنه- فِيمَا زعم عَلِيّ بن مُحَمَّدٍ- طلق أم البنين وَهُوَ محصور.
فهؤلاء أزواجه اللواتي كن لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّة والإسلام، وأولاده: رجالهم ونساؤهم.

 ذكر أسماء عمال عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي هَذِهِ السنة عَلَى البلدان
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وعماله عَلَى الأمصار- فِيمَا حَدَّثَنِي عبد الرَّحْمَن بن أبي الزناد- عَلَى مكة عَبْد اللَّهِ بن الحضرمي، وعلى الطائف الْقَاسِم بن رَبِيعَةَ الثقفى، وعلى صنعاء يعلى بن منية، وعلى الجند عَبْد اللَّهِ بن أَبِي رَبِيعَةَ، وعلى الْبَصْرَةِ عَبْد اللَّهِ بن عَامِر بن كريز- خرج منها فلم يول عَلَيْهَا عُثْمَان أحدا- وعلى الْكُوفَة سَعِيد بن الْعَاصِ- أخرج منها فلم يترك يدخلها- وعلى مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح- قدم عَلَى عُثْمَانَ، وغلب مُحَمَّد بن أبي حُذَيْفَة عَلَيْهَا وَكَانَ عَبْد اللَّهِ بن سَعْد استخلف على مصر السائب ابن هِشَام بن عَمْرو العامري، فأخرجه مُحَمَّد بن ابى حذيفة- وعلى الشام معاويه ابن أَبِي سُفْيَانَ.
وفيما كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن أبي حارثة وأبي عُثْمَانَ، قَالا: مات عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وعلى الشام مُعَاوِيَة، وعامل مُعَاوِيَة عَلَى حمص عبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن الْوَلِيد، وعلى قنسرين حبيب بن مسلمة، وعلى الأردن أَبُو الأعور بن سُفْيَان، وعلى فلسطين عَلْقَمَةُ بن حكيم الكناني، وعلى البحر عَبْد اللَّهِ بن قيس الفزاري وعلى القضاء أَبُو الدرداء.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ عَطِيَّةَ، قَالَ: مات عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وعلى الْكُوفَة، عَلَى صلاتها أَبُو مُوسَى، وعلى خراج السواد جابر بن عمرو المزني- وَهُوَ صاحب المسناة إِلَى جانب الْكُوفَة- وسماك الأَنْصَارِيّ.
وعلى حربها القعقاع بن عَمْرو، وعلى قرقيسياء جرير بن عَبْدِ اللَّهِ، وعلى أذربيجان الأشعث بن قيس، وعلى حلوان عتيبة بن النهاس، وعلى ماه مالك بن حبيب، وعلى همذان النسير، وعلى الري سَعِيد بن قيس، وعلى إصبهان السَّائِب بن الأقرع، وعلى ماسبذان حبيش، وعلى بيت المال عقبه ابن عَمْرو وَكَانَ عَلَى قضاء عُثْمَان يَوْمَئِذٍ زَيْد بن ثَابِت.

 ذكر بعض خطب عُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: خَطَبَ عُثْمَانُ النَّاسَ بَعْدَ مَا بُويِعَ، فَقَالَ:
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدْ حُمِّلْتُ وَقَدْ قَبِلْتُ، أَلا وَإِنِّي مُتَّبِعٌ وَلَسْتُ بِمُبْتَدِعٍ، أَلا وَإِنَّ لَكُمْ عَلَيَّ بَعْدَ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وسنه نبيه صلى الله عليه وسلم ثَلاثًا:
اتِّبَاعُ مَنْ كَانَ قَبْلِي فِيمَا اجْتَمَعْتُمْ عَلَيْهِ وَسَنَنْتُمْ، وَسَنُّ سُنَّةَ أَهْلِ الْخَيْرِ فِيمَا لَمْ تَسِنُّوا عَنْ مَلإٍ، وَالْكَفُّ عَنْكُمْ إِلا فِيمَا اسْتَوْجَبْتُمْ أَلا وَإِنَّ الدُّنْيَا خَضِرَةٌ قَدْ شُهِّيَتْ إِلَى النَّاسِ، وَمَالَ إِلَيْهَا كَثِيرٌ مِنْهُمْ، فَلا تَرْكَنُوا إِلَى الدُّنْيَا وَلا تَثِقُوا بِهَا، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِثَقَةٍ، وَاعْلَمُوا أَنَّهَا غَيْرُ تَارِكَةٍ إِلا مَنْ تَرَكَهَا.
وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ بَدْرِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ عَمِّهِ، قَالَ: آخِرُ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي جَمَاعَةٍ:
إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا أَعْطَاكُمُ الدُّنْيَا لِتَطْلُبُوا بِهَا الآخِرَةَ، وَلَمْ يُعْطِكُمُوهَا لِتَرْكَنُوا إِلَيْهَا، إِنَّ الدُّنْيَا تفنى والآخرة تبقى، فلا تبطرنكم الفانية، ولا تَشْغَلَنَّكُمْ عَنِ الْبَاقِيَةِ، فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى، فَإِنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ، وَإِنَّ الْمَصِيرَ إِلَى اللَّهِ اتَّقُوا اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ، فَإِنَّ تَقْوَاهُ جُنَّةٌ مِنْ بَأْسِهِ، وَوَسِيلَةٌ عِنْدَهُ، وَاحْذَرُوا مِنَ اللَّهِ الْغِيَرَ، وَالْزَمُوا جَمَاعَتَكُمْ لا تَصِيرُوا أَحْزَابًا، {وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران: 103] إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ.

ذِكْرُ الْخَبَرِ عَمَّنْ كَانَ يصلى بالناس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حِينَ حُصِرَ عُثْمَانُ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ: جَاءَ الْمُؤَذِّنُ، سَعْدٌ الْقَرَظُ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَقَالَ: مَنْ يُصَلِّي بِالنَّاسِ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: نَادِ خَالِدَ بْنَ زَيْدٍ، فَنَادَى خَالِدَ بْنَ زَيْدٍ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ- فَإِنَّهُ لأَوَّلُ يَوْمٍ عَرَفَ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ- فَكَانَ يُصَلِّي بِهِمْ أَيَّامًا، ثُمَّ صَلَّى عَلِيٌّ بَعْدَ ذَلِكَ بِالنَّاسِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، قَالَ: جَاءَ الْمُؤَذِّنُ إِلَى عُثْمَانَ فَآذَنَهُ بِالصَّلاةِ، فَقَالَ: لا أَنْزِلُ أُصَلِّي، اذْهَبْ إِلَى مَنْ يُصَلِّي فَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ إِلَى عَلِيٍّ، فَأَمَرَ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ، فَصَلَّى الْيَوْمَ الَّذِي حُصِرَ فِيهِ عُثْمَانُ الْحَصْرَ الآخر، وهو ليله رئى هِلالِ ذِي الْحِجَّةِ، فَصَلَّى بِهِمْ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الْعِيدُ صَلَّى عَلِيٌّ الْعِيدَ، ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ حَتَّى قُتِلَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عن ابن عمر، قَالَ: لما حصر عُثْمَان صلى بِالنَّاسِ أَبُو أيوب أياما، ثُمَّ صلى بهم علي الجمعة والعيد، حَتَّى قتل رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

ذكر مَا رثي بِهِ من الأشعار
وتقاول الشعراء بعد مقتله فِيهِ، فمن مادح وهاج، ومن نائح باك، ومن سار فرح، فكان ممن يمدحه حسان بن ثَابِت وكعب بن مالك الأنصاريان وتميم بن أبي بن مقبل فِي آخرين غيرهم.
مما مدحه بِهِ وبكاه حسان وهجا بِهِ قاتله:

أتركتم غزو الدروب وراءكم *** وغزوتمونا عِنْدَ قبر مُحَمَّد!
فلبئس هدي الْمُسْلِمِينَ هديتم *** ولبئس أمر الفاجر المتعمد!
إن تقدموا نجعل قرى سرواتكم *** حول الْمَدِينَةِ كل لين مذود
أو تدبروا فلبئس مَا سافرتم *** ولمثل أمر أميركم لم يرشد
وكأن أَصْحَاب النَّبِيّ عشية *** بدن تذبح عِنْدَ باب المسجد
أبكي أبا عَمْرو لحسن بلائه *** أمسى مقيما فِي بقيع الغرقد.

وَقَالَ أَيْضًا:

إن تمس دار ابن أروى مِنْهُ خاوية*** باب صريع وباب محرق خرب
فقد يصادف باغي الخير حاجته *** فِيهَا ويهوى إليها الذكر والحسب
يا ايها الناس أبدوا ذات أنفسكم ***لا يستوي الصدق عِنْدَ اللَّه والكذب
قوموا بحق مليك الناس تعترفوا *** بغارة عصب من خلفها عصب
فِيهِمْ حبيب شهاب الموت يقدمهم *** مستلئما قَدْ بدا فِي وجهه الغضب

وله فِيهِ أشعار كثيرة …

وَقَالَ كعب بن مالك الأَنْصَارِيّ:

يَا للرجال للبك المخطوف *** ولدمعك المترقرق المنزوف
ويح لأمر قَدْ أتاني رائع *** هد الجبال فأنقضت برجوف
قتل الخليفة كَانَ أمرا مفظعا *** قامت لذاك بلية التخويف
قتل الإمام لَهُ النجوم خواضع *** والشمس بازغة لَهُ بكسوف
يَا لهف نفسي إذ تولوا غدوة *** بالنعش فوق عواتق وكتوف! 
ولوا ودلوا فِي الضريح أخاهم ***ماذا أجن ضريحه المسقوف!
من نائل او سودد وحمالة *** سبقت لَهُ فِي الناس أو معروف
كم من يتيم كَانَ يجبر عظمه *** أمسى بمنزله الضياع يطوف
مَا زال يقبلهم ويرأب ظلمهم *** حَتَّى سمعت برنة التلهيف
أمسى مقيما بالبقيع وأصبحوا *** متفرقين قَدْ أجمعوا بخفوف
النار موعدهم بقتل امامهم *** عثمان ظهرا في البلاد، عفيف
جمع الحمالة بعد حلم راجح *** والخير فِيهِ مبين معروف
يَا كعب لا تنفك تبكي مالكا *** مَا دمت حيا فِي البلاد تطوف
فابكي أبا عَمْرو عتيقا واصلا *** ولواءهم إذ كَانَ غير سخيف
وليبكه عِنْدَ الحفاظ لمعظم *** والخيل بين مقانب وصفوف
قتلوك يَا عُثْمَانُ غير مدنس *** قتلا لعمرك واقفا بسقيف

وَقَالَ حسان:

من سره الموت صرفا لا مزاج لَهُ *** فليأت مأسدة فِي دار عثمانا
مستشعري حلق الماذي قَدْ شفعت *** قبل المخاطم بيض زان أبدانا
صبرا فدى لكم أمي وما ولدت *** قَدْ ينفع الصبر فِي المكروه أحيانا
فقد رضينا بأهل الشام نافرة *** وبالأمير وبالإخوان إخوانا
إني لمنهم وإن غابوا وإن شهدوا *** مَا دمت حيا وما سميت حسانا
لتسمعن وشيكا فِي ديارهم *** اللَّه أكبر يَا ثأرات عثمانا
يَا ليت شعري وليت الطير تخبرني *** مَا كَانَ شأن علي وابن عفانا!

وَقَالَ الْوَلِيد بن عُقْبَةَ بن أبي معيط يحرض عمارة بن عُقْبَةَ:

ألا إن خير الناس بعد ثلاثة *** قتيل التُّجِيبِيّ الَّذِي جَاءَ من مصر
فإن يك ظني بابن أمي صادقا ***عمارة لا يطلب بذحل وَلا وتر
يبيت وأوتار ابن عفان عنده *** مخيمة بين الخورنق والقصر

فأجابه الفضل بن عباس:

أتطلب ثأرا لست مِنْهُ وَلا لَهُ *** وأين ابن ذكوان الصفوري من عَمْرو!
كما اتصلت بنت الحمار بأمها ***وتنسى أباها إذ تُسامي أولي الفخر
أَلا إن خير الناس بعد مُحَمَّد *** وصي النَّبِيّ المصطفى عِنْدَ ذي الذكر
وأول من صلى وصنو نبيه *** وأول من أردى الغواة لدى بدر
فلو رأت الأنصار ظلم ابن عمكم *** لكانوا لَهُ من ظلمه حاضري النصر
كفى ذاك عيبا أن يشيروا بقتله *** وأن يسلموه للأحابيش من مصر

وَقَالَ الحباب بن يَزِيدَ المجاشعي، عم الفرزدق:

لعمر أبيك فلا تجزعن ***لقد ذهب الخير إلا قليلا
لقد سفه الناس فِي دينهم*** وخلى ابن عفان شرا طويلا
أعاذل كل امرئ هالك ***فسيري إِلَى اللَّهِ سيرا جميلا

خلافة أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عَلِيّ بن أبي طالب
وفي هَذِهِ السنة بويع لعلي بن أبي طالب بِالْمَدِينَةِ بالخلافة.
ذكر الخبر عن بيعة من بايعه، والوقت الَّذِي بويع فِيهِ اختلف السلف من أهل السير فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بعضهم: سأل عَلِيًّا أَصْحَاب رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يتقلد لَهُمْ وللمسلمين، فأبى عَلَيْهِم، فلما أبوا عَلَيْهِ، وطلبوا إِلَيْهِ، تقلد ذَلِكَ لَهُمْ.
ذكر الرواية بِذَلِكَ عمن رواه:
حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُحَمَّدِيُّ، قال: حدثنا عمرو بن حماد وعلى ابن حُسَيْنٍ، قَالا: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ الْفَزَارِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ الأَشْجَعِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بن الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ:
كُنْتُ مَعَ أَبِي حِينَ قُتِلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَامَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ، فأتاه اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن هذا الرجل قد قتل، ولا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ إِمَامٍ، وَلا نَجِدُ الْيَوْمَ أَحَدًا أَحَقَّ بِهَذَا الأَمْرِ مِنْكَ، لا أَقْدَمَ سابقه، ولا اقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم [فَقَالَ: لا تَفْعَلُوا، فَإِنِّي أَكُونُ وَزِيرًا خَيْرٌ من ان أَكُونُ أَمِيرًا، فَقَالُوا: لا، وَاللَّهِ مَا نَحْنُ بِفَاعِلِينَ حَتَّى نُبَايِعَكَ، قَالَ: فَفِي الْمَسْجِدِ، فَإِنَّ بَيْعَتِي لا تَكُونُ خَفِيًّا، وَلا تَكُونُ إِلا عَنْ رِضَا الْمُسْلِمِينَ] قَالَ سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: فَلَقَدْ كَرِهْتُ أَنْ يَأْتِيَ الْمَسْجِدَ مَخَافَةَ أَنْ يَشْغَبَ عَلَيْهِ، وَأَبَى هُوَ إِلا الْمَسْجِدَ، فَلَمَّا دَخَلَ دَخَلَ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارِ فَبَايَعُوهُ، ثُمَّ بَايَعَهُ النَّاسُ.
وحدثني جعفر، قال: حدثنا عمرو وعلي، قالا: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ أَبِي بَشِيرٍ الْعَابِدِيِّ، قَالَ: كُنْتُ بِالْمَدِينَةِ حِينَ قُتِلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَاجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ، فِيهِمْ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، فَأَتَوْا عَلِيًّا فَقَالُوا: يَا أَبَا حَسَنٍ، هَلُمَّ نُبَايِعُكَ، فَقَالَ: لا حَاجَةَ لِي فِي أَمْرِكُمْ، أَنَا مَعَكُمْ فَمَنِ اخْتَرْتُمْ فَقَدْ رَضِيتُ بِهِ، فَاخْتَارُوا وَاللَّهِ فَقَالُوا: مَا نَخْتَارُ غَيْرَكَ، قَالَ: فَاخْتَلَفُوا إِلَيْهِ بَعْدَ مَا قُتِلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِرَارًا، ثُمَّ أَتَوْهُ فِي آخِرِ ذَلِكَ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّهُ لا يَصْلُحُ النَّاسُ إِلا بِإِمْرَةٍ، وَقَدْ طَالَ الأَمْرُ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ قَدِ اخْتَلَفْتُمْ إِلَيَّ وَأَتَيْتُمْ، وَإِنِّي قَائِلٌ لَكُمْ قَوْلا إِنْ قَبِلْتُمُوهُ قَبِلْتُ أَمْرَكُمْ، وَإِلا فَلا حَاجَةَ لِي فِيهِ قَالُوا: مَا قُلْتَ مِنْ شَيْءٍ قَبِلْنَاهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
فَجَاءَ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فقال: انى قد كُنْتُ كَارِهًا لأَمْرِكُمْ، فَأَبَيْتُمْ إِلا أَنْ أَكُونَ عَلَيْكُمْ، أَلا وَإِنَّهُ لَيْسَ لِي أَمْرٌ دُونَكُمْ، إِلا أَنَّ مَفَاتِيحَ مَالِكُمْ مَعِي، أَلا وَإِنَّهُ لَيْسَ لِي أَنْ آخُذَ مِنْهُ دِرْهَمًا دُونَكُمْ، رَضِيتُمْ؟ قَالُوا:
نَعَمْ، قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ بَايَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ أَبُو بَشِيرٍ: وانا يومئذ عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ أَسْمَعُ مَا يَقُولُ.
وَحَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، قال: لما قتل عثمان رضي الله عنه، خَرَجَ عَلِيٌّ إِلَى السُّوقِ، وَذَلِكَ يَوْمَ السَّبْتِ لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة، فَاتَّبَعَهُ النَّاسُ وَبَهَشُوا فِي وَجْهِهِ، فَدَخَلَ حَائِطَ بَنِي عَمْرِو بْنِ مَبْذُولٍ، وَقَالَ لأَبِي عَمْرَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مِحْصَنٍ: أَغْلِقِ الْبَابَ، فَجَاءَ النَّاسُ فَقَرَعُوا الْبَابَ، فَدَخَلُوا، فِيهِمْ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، فَقَالا: يَا عَلِيُّ ابْسُطْ يَدَكَ فَبَايَعَهُ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، فَنَظَرَ حَبِيبُ بْنُ ذُؤَيْبٍ إِلَى طَلْحَةَ حِينَ بَايَعَ، فَقَالَ: أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْبَيْعَةِ يَدٌ شَلاءُ، لا يَتِمُّ هَذَا الأَمْرُ! وَخَرَجَ عَلِيٌّ إِلَى الْمَسْجِدِ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ وَعَلَيْهِ إِزَارٌ وَطَاقٌ وَعِمَامَةُ خَزٍّ، وَنَعْلاهُ فِي يَدِهِ، مُتَوَكِّئًا عَلَى قَوْسٍ، فَبَايَعَهُ النَّاسُ وَجَاءُوا بِسَعْدٍ، فَقَالَ عَلِيٌّ: بَايِعْ، قَالَ: لا أُبَايِعُ حَتَّى يُبَايِعَ النَّاسُ، وَاللَّهِ مَا عَلَيْكَ مِنِّي بَأْسٌ، قَالَ: خَلُّوا سَبِيلَهُ وَجَاءُوا بِابْنِ عُمَرَ، فَقَالَ: بَايِعْ، قَالَ: لا أُبَايِعُ حَتَّى يُبَايِعَ النَّاسُ، قَالَ: ائْتِنِي بِحَمِيلٍ، قَالَ: لا أَرَى حَمِيلا، قَالَ الأَشْتَرُ: خَلِّ عَنِّي أَضْرِبُ عُنُقَهُ، قَالَ عَلِيٌّ: دَعُوهُ، أَنَا حَمِيلُهُ، إِنَّكَ- مَا عُلِمْتَ- لَسَيِّئَ الْخُلُقِ صَغِيرًا وَكَبِيرًا.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاق بن إدريس، قَالَ: حَدَّثَنَا هشيم، قَالَ: أَخْبَرَنَا حميد، عن الْحَسَن، قَالَ: رأيت الزُّبَيْر ابن العوام بايع عَلِيًّا فِي حش من حشان الْمَدِينَةِ.
وَحَدَّثَنِي أَحْمَد بن زهير، قَالَ: حَدَّثَنِي ابى، قال: حدثنا وهب ابن جرير، قَالَ: سمعت أبي، قَالَ: سمعت يونس بن يَزِيدَ الأيلي، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: بايع الناس عَلِيَّ بن أَبِي طَالِبٍ، فأرسل إِلَى الزُّبَيْر وَطَلْحَة فدعاهما إِلَى البيعة، فتلكأ طَلْحَةُ، فقام مالك الاشتر وسل سيفه وقال: وَاللَّهِ لتبايعن أو لأضربن بِهِ مَا بين عينيك، فَقَالَ طَلْحَةُ: وأين المهرب عنه! فبايعه، وبايعه الزُّبَيْر والناس وسأل طَلْحَة وَالزُّبَيْر أن يؤمرهما عَلَى الْكُوفَة والبصرة، فَقَالَ:
تكونان عندي فأتحمل بكما، فإني وحش لفراقكما قَالَ الزُّهْرِيّ: وَقَدْ بلغنا أنه قَالَ لهما: [إن أحببتما ان تبايعا لي وان أحببتما بايعتكما، فقالا: بل نبايعك،] وقالا بعد ذَلِكَ: إنما صنعنا ذَلِكَ خشية عَلَى أنفسنا، وَقَدْ عرفنا أنه لَمْ يَكُنْ ليبايعنا فظهرا إِلَى مكة بعد قتل عُثْمَان بأربعة أشهر.
وَحَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مخنف، عن عَبْد الْمَلِكِ بْن أبي سُلَيْمَان، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مُحَمَّدِ بن الحنفية، قَالَ: كنت أمسي مع أبي حين قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى دخل بيته، فأتاه ناس من أَصْحَاب رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن هذا الرجل قد قتل، ولا بد من إمام لِلنَّاسِ، قَالَ: أو تكون شورى؟ قَالُوا: أنت لنا رضا، قَالَ: فالمسجد إذا يكون عن رضا مِنَ النَّاسِ.
فخرج إِلَى الْمَسْجِدِ فبايعه من بايعه، وبايعت الأنصار عليا الا نفيرا يسيرا، فقال طلحه: ما لنا من هَذَا الأمر إلا كحسة أنف الكلب.
وَحَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شيخ من بني هاشم، عن عَبْد اللَّهِ بن الْحَسَن، قَالَ: لما قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بايعت الأنصار عَلِيًّا إلا نفيرا يسيرا، مِنْهُمْ حسان بن ثَابِت، وكعب بن مالك، ومسلمة بن مخلد، وأبو سَعِيد الخدري، ومحمد بن مسلمة، والنعمان بن بشير، وزَيْد بن ثَابِت، ورافع بن خديج، وفضالة بن عبيد، وكعب بن عجره، كَانُوا عثمانية فَقَالَ رجل لعبد اللَّه بن حسن: كيف أبى هَؤُلاءِ بيعة علي! وكانوا عثمانية قَالَ: أما حسان فكان شاعرا لا يبالى ما يصنع، واما زيد ابن ثَابِت فولاه عُثْمَان الديوان وبيت المال، فلما حصر عُثْمَان، قَالَ: يَا معشر الأنصار، كونوا أنصارا لِلَّهِ مرتين، فَقَالَ أَبُو أيوب: مَا تنصره إلا أنه أكثر لك من العضدان فأما كعب بن مَالِكٍ فاستعمله عَلَى صدقة مزينة وترك مَا أخذ مِنْهُمْ لَهُ.
قَالَ: وَحَدَّثَنِي من سمع الزُّهْرِيّ يقول: هرب قوم مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الشام ولم يبايعوا عَلِيًّا، ولم يبايعه قدامة بن مظعون، وعبد اللَّه بن سلام، والمغيره ابن شُعْبَةَ وَقَالَ آخرون: إنما بايع طَلْحَة وَالزُّبَيْر عَلِيًّا كرها.
وَقَالَ بعضهم: لم يبايعه الزُّبَيْر.
ذكر من قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بن أحمد المروزي، قَالَ: حدثني أبي، قال: حدثني سُلَيْمَان، قال: حدثني عبد الله، عن جرير بن حازم، قال: حدثنى هشام ابن أبي هِشَام مولى عُثْمَان بن عَفَّانَ، عن شيخ من أهل الْكُوفَة، يحدثه عن شيخ آخر، قَالَ: حصر عُثْمَان وعلي بخيبر، فلما قدم أرسل إِلَيْهِ عُثْمَان يدعوه، فانطلق، فقلت: لأنطلقن مَعَهُ ولأسمعن مقالتهما، فلما دخل عَلَيْهِ كلمه عُثْمَان، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإن لي عَلَيْك حقوقا، حق الإِسْلام، وحق الإخاء- وَقَدْ علمت أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين آخى بين الصحابة آخى بيني وبينك- وحق القرابة والصهر، وما جعلت لي فِي عنقك من العهد والميثاق، فو الله لو لَمْ يَكُنْ من هَذَا شَيْء ثُمَّ كنا إنما نحن فِي جاهلية، لكان مبطأ عَلَى بني عبد مناف أن يبتزهم أخو بني تيم ملكهم.
فتكلم علي، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فكل مَا ذكرت من حقك علي عَلَى مَا ذكرت، أما قولك: لو كنا فِي جاهلية لكان مبطأ عَلَى بني عبد مناف أن يبتزهم أخو بني تيم ملكهم فصدقت، وسيأتيك الخبر .
ثُمَّ خرج فدخل المسجد فرأى أُسَامَة جالسا، فدعاه، فاعتمد عَلَى يده، فخرج يمشي إِلَى طَلْحَة وتبعته، فدخلنا دار طَلْحَة بن عُبَيْد اللَّهِ وَهِيَ دحاس مِنَ النَّاسِ، فقام إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا طَلْحَة، مَا هَذَا الأمر الَّذِي وقعت فِيهِ؟ فَقَالَ: يا أبا حسن، بعد ما مس الحزام الطبيين! فانصرف علي ولم يحر إِلَيْهِ شَيْئًا حَتَّى أتى بيت المال، فَقَالَ: افتحوا هَذَا الباب، فلم يقدر عَلَى المفاتيح، فَقَالَ: اكسروه، فكسر باب بيت المال، فَقَالَ: أخرجوا المال، فجعل يعطي الناس فبلغ الَّذِينَ فِي دار طَلْحَة الَّذِي صنع علي، فجعلوا يتسللون إِلَيْهِ حَتَّى ترك طَلْحَة وحده وبلغ الخبر عُثْمَان، فسر بِذَلِكَ، ثُمَّ أقبل طَلْحَة يمشي عائدا إِلَى دار عُثْمَان، فقلت: وَاللَّهِ لأنظرن مَا يقول هَذَا، فتبعته، فاستأذن عَلَى عُثْمَانَ، فلما دخل عَلَيْهِ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أستغفر اللَّه وأتوب إِلَيْهِ، أردت أمرا فحال اللَّه بيني وبينه، فَقَالَ عُثْمَان: إنك وَاللَّهِ مَا جئت تائبا، ولكنك جئت مغلوبا، اللَّه حسيبك يَا طَلْحَة! وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا مُحَمَّد بن عمر، قال: حدثني أبو بكر بن إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وقاص، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ طَلْحَةُ: بَايَعْتُ وَالسَّيْفُ فَوْقَ رَأْسِي- فَقَالَ سَعْدٌ: لا أَدْرِي وَالسَّيْفُ عَلَى رَأْسِهِ أَمْ لا، إِلا أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ بَايَعَ كَارِهًا- قَالَ: وَبَايَعَ النَّاسُ عَلِيًّا بِالْمَدِينَةِ، وَتَرَبَّصَ سَبْعَةُ نَفَرٍ فَلَمْ يُبَايِعُوهُ، مِنْهُمْ:
سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَمِنْهُمُ ابْنُ عُمَرَ، وَصُهَيْبٌ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَمُحَمَّدُ ابن مَسْلَمَةَ، وَسَلَمَةُ بْنُ وَقْشٍ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ أَحَدٌ مِنَ الأَنْصَارِ إِلا بَايَعَ فِيمَا نَعْلَمُ.
وَحَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُصْعَبٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي حَبِيبَةَ مَوْلَى الزُّبَيْرِ، قَالَ: لَمَّا قَتَلَ النَّاسُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبَايَعُوا عَلِيًّا، جَاءَ عَلِيٌّ إِلَى الزُّبَيْرِ فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ، فَأَعْلَمْتُهُ بِهِ، فَسَلَّ السَّيْفَ وَوَضَعَهُ تَحْتَ فِرَاشِهِ، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لَهُ، فَأَذِنْتُ لَهُ، فَدَخَلَ فَسَلَّمَ عَلَى الزُّبَيْرِ وَهُوَ وَاقِفٌ بِنَحْرِهِ، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ الزُّبَيْرُ: لَقَدْ دَخَلَ المرء مَا أَقْصَاهُ، قُمْ فِي مَقَامِهِ فَانْظُرْ هَلْ تَرَى مِنَ السَّيْفِ شَيْئًا؟ فَقُمْتُ فِي مَقَامِهِ فَرَأَيْتُ ذُبَابَ السَّيْفِ، فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: ذَاكَ أَعْجَلَ الرَّجُلَ فَلَمَّا خَرَجَ عَلِيٌّ سَأَلَهُ النَّاسُ، فَقَالَ: وَجَدْتُ أَبَرَّ ابْنَ أُخْتٍ وَأَوْصَلَهُ فَظَنَّ النَّاسُ خَيْرًا، فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنَّهُ بَايَعَهُ.
ومما كتب بِهِ إلي السري عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف بن عُمَرَ، قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّه بْن سواد بْن نويرة، وَطَلْحَة بن الأعلم، وأبو حَارِثَةَ، وأبو عُثْمَان، قَالُوا: بقيت الْمَدِينَةُ بعد قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خمسة أيام، وأميرها الْغَافِقِيّ بن حرب يلتمسون من يجيبهم إِلَى القيام بالأمر فلا يجدونه، يأتي الْمِصْرِيُّونَ عَلِيًّا فيختبئ مِنْهُمْ ويلوذ بحيطان الْمَدِينَةِ، فإذا لقوه باعدهم وتبرأ مِنْهُمْ ومن مقالتهم مرة بعد مرة، ويطلب الْكُوفِيُّونَ الزُّبَيْر فلا يجدونه، فأرسلوا اليه حيث هو رسلا، فباعدهم وتبرأ من مقالتهم، ويطلب الْبَصْرِيُّونَ طَلْحَةَ فإذا لقيهم باعدهم وتبرأ من مقالتهم مرة بعد مرة، وكانوا مجتمعين عَلَى قتل عُثْمَان مختلفين فيمن يهوون، فلما لم يجدوا ممالئا وَلا مجيبا جمعهم الشر عَلَى أول من أجابهم، وَقَالُوا: لا نولي أحدا من هَؤُلاءِ الثلاثة، فبعثوا إِلَى سعد بن أَبِي وَقَّاص وَقَالُوا: إنك من أهل الشورى فرأينا فيك مجتمع، فاقدم نبايعك، فبعث إِلَيْهِم: إني وابن عمر خرجنا منها فلا حاجة لي فِيهَا عَلَى حال، وتمثل:

لا تخلطن خبيثات بطيبة *** واخلع ثيابك منها وانج عريانا

ثُمَّ إِنَّهُمْ أتوا ابن عمر عَبْد اللَّهِ، فَقَالُوا: أنت ابن عمر فقم بهذا الأمر، فَقَالَ: إن لهذا الأمر انتقاما وَاللَّهِ لا أتعرض لَهُ، فالتمسوا غيري فبقوا حيارى لا يدرون مَا يصنعون والأمر أمرهم.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: كَانُوا إِذَا لَقَوْا طَلْحَةَ أَبَى وَقَالَ:

وَمِنْ عَجَبِ الأَيَّامِ وَالدَّهْرِ أَنَّنِي *** بَقِيتُ وَحِيدًا لا أمر وَلا أحلي

فَيَقُولُونَ: إِنَّكَ لَتُوعِدُنَا فَيَقُومُونَ فَيَتْرُكُونَهُ، فَإِذَا لَقُوا الزُّبَيْرَ وَأَرَادُوهُ أَبَى وَقَالَ:

مَتَى أَنْتَ عَنْ دَارٍ بِفَيْحَانَ رَاحِلٌ *** وَبَاحَتُهَا تَخْنُو عَلَيْكَ الْكَتَائِبُ

فَيَقُولُونَ: إِنَّكَ لَتُوعِدُنَا! فَإِذَا لَقَوْا عَلِيًّا وَأَرَادُوهُ أَبَى، وَقَالَ:

لو أن قومي طاوعتني سراتهم *** أمرتهم أمرا يَدِيخُ الأَعَادِيَا

فَيَقُولُونَ: إِنَّكَ لَتُوعِدُنَا! فَيَقُومُونَ وَيَتْرُكُونَهُ.
وَحَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْمَدَائِنِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَسْلَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قال: لما قتل عثمان رضي الله عنه أَتَى النَّاسُ عَلِيًّا وَهُوَ فِي سُوقِ الْمَدِينَةِ، وَقَالُوا لَهُ: ابْسُطْ يَدَكَ نُبَايِعْكَ، [قَالَ: لا تَعْجَلُوا فَإِنَّ عُمَرَ كَانَ رَجُلا مُبَارَكًا، وَقَدْ أَوْصَى بِهَا شُورَى، فَأَمْهِلُوا يَجْتَمِعُ النَّاسُ وَيَتَشَاوَرُونَ] فَارْتَدَّ النَّاسُ عَنْ عَلِيٍّ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ رَجَعَ النَّاسُ إِلَى أَمْصَارِهِمْ بِقَتْلِ عُثْمَانَ وَلَمْ يَقُمْ بَعْدَهُ قَائِمٌ بِهَذَا الأَمْرِ لَمْ نَأْمَنِ اخْتِلافَ النَّاسِ وَفَسَادَ الأُمَّةِ، فَعَادُوا إِلَى عَلِيٍّ، فَأَخَذَ الأَشْتَرُ بِيَدِهِ فَقَبَضَهَا عَلِيٌّ، فَقَالَ: أَبَعْدَ ثَلاثَةٍ! أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ تَرَكْتَهَا لَتَقْصُرَنَّ عنيتك عَلَيْهَا حِينًا، فَبَايَعَتْهُ الْعَامَّةُ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ يَقُولُونَ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَهُ الأَشْتَرُ.
وَكَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي حَارِثَةَ وَأَبِي عُثْمَانَ، قَالا: لما كَانَ يوم الخميس عَلَى رأس خمسة أيام من مقتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، جمعوا أهل الْمَدِينَةِ فوجدوا سعدا وَالزُّبَيْر خارجين، ووجدوا طَلْحَةَ فِي حائط لَهُ، ووجدوا بني أُمَيَّة قَدْ هربوا إلا من لم يطق الهرب، وهرب الْوَلِيد وسعيد إِلَى مكة فِي أول من خرج، وتبعهم مَرْوَان، وتتابع عَلَى ذَلِكَ من تتابع، فلما اجتمع لَهُمْ أهل الْمَدِينَةِ قَالَ لَهُمْ أهل مصر: أنتم أهل الشورى، وَأَنْتُمْ تعقدون الإمامة، وأمركم عابر عَلَى الأمة، فانظروا رجلا تنصبونه، ونحن لكم تبع فَقَالَ الجمهور: عَلِيّ بن أَبِي طَالِبٍ نحن بِهِ راضون.
وَأَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ هِلالٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَوْفٍ، قَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ يَقُولُ: إِنَّ عَلِيًّا جَاءَ فَقَالَ لِطَلْحَةَ: ابْسُطْ يَدَكَ يَا طَلْحَةَ لأُبَايِعَكَ، فقال طلحه: أنت أحق، وأنت أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَابْسُطْ يَدَكَ، قَالَ: فَبَسَطَ عَلِيٌّ يَدَهُ فَبَايَعَهُ.
وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ، قَالا: فَقَالُوا لَهُمْ: دُونَكُمْ يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَقَدْ أَجَّلْنَاكُمْ يومين، فو الله لَئِنْ لَمْ تَفْرُغُوا لَنَقْتُلَنَّ غَدًا عَلِيًّا وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَأُنَاسًا كَثِيرًا فَغَشَى النَّاسُ عَلِيًّا فَقَالُوا: نُبَايِعُكَ فَقَدْ تَرَى مَا نَزَلَ بِالإِسْلامِ، وَمَا ابْتُلِينَا بِهِ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى، [فَقَالَ عَلِيٌّ: دَعُونِي وَالْتَمِسُوا غَيْرِي فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْرًا لَهُ وُجُوهٌ وَلَهُ أَلْوَانٌ، لا تَقُومُ لَهُ الْقُلُوبُ، ولا تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْعُقُولُ فَقَالُوا: نَنْشُدُكَ اللَّهَ أَلا تَرَى مَا نَرَى! أَلا تَرَى الإِسْلامَ! أَلا تَرَى الْفِتْنَةَ! أَلا تَخَافُ اللَّهَ! فَقَالَ: قَدْ أَجَبْتُكُمْ لِمَا أَرَى، وَاعْلَمُوا إِنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ، وَإِنْ تَرَكْتُمُونِي فَإِنَّمَا أَنَا كَأَحَدِكُمْ، إِلا أَنِّي أَسْمَعُكُمْ وَأَطْوَعُكُمْ لِمَنْ وَلَّيْتُمُوهُ أَمْرَكُمْ] ثُمَّ افْتَرَقُوا عَلَى ذَلِكَ وَاتَّعَدُوا الْغَدَ.
وَتَشَاوَرَ النَّاسُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَقَالُوا: إِنْ دَخَلَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ فَقَدِ اسْتَقَامَتْ فَبَعَثَ الْبَصْرِيُّونَ إِلَى الزبير بصريا، وقالوا: احذر لاتحاده- وَكَانَ رَسُولَهُمْ حَكِيمُ بْنُ جَبَلَةَ الْعَبْدِيُّ فِي نَفَرٍ- فَجَاءُوا بِهِ يَحُدُّونَهُ بِالسَّيْفِ وَإِلَى طَلْحَةَ كوفيا وقالوا له: احذر لاتحاده، فَبَعَثُوا الأَشْتَرَ فِي نَفَرٍ فَجَاءُوا بِهِ يَحُدُّونَهُ بِالسَّيْفِ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ شَامِتُونَ بِصَاحِبِهِمْ، وَأَهْلُ مِصْرَ فَرِحُونَ بِمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَقَدْ خَشَعَ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ أَنْ صَارُوا أَتْبَاعًا لأَهْلِ مِصْرَ وَحُشْوَةً فِيهِمْ، وَازْدَادُوا بِذَلِكَ عَلَى طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ غَيْظًا، فَلَمَّا أصبحوا من يَوْمِ الْجُمُعَةِ حَضَرَ النَّاسُ الْمَسْجِدَ، وَجَاءَ عَلِيٌّ حتى صعد المنبر، فقال: يا ايها النَّاسُ- عَنْ مَلإٍ وَإِذْنٍ- إِنَّ هَذَا أَمْرُكُمْ لَيْسَ لأَحَدٍ فِيهِ حَقٌّ إِلا مَنْ أَمَّرْتُمْ، وَقَدِ افْتَرَقْنَا بِالأَمْسِ عَلَى أَمْرٍ، فَإِنْ شِئْتُمْ قَعَدْتُ لَكُمْ، وَإِلا فَلا أَجِدُ عَلَى أَحَدٍ.
فَقَالُوا: نَحْنُ عَلَى مَا فَارَقْنَاكَ عَلَيْهِ بِالأَمْسِ وَجَاءَ الْقَوْمُ بِطَلْحَةَ فَقَالُوا: بَايِعْ، فَقَالَ: إِنِّي إِنَّما أُبَايِعُ كَرْهًا، فَبَايَعَ- وَكَانَ بِهِ شَلَلٌ- أَوَّلَ النَّاسِ، وَفِي النَّاسِ رَجُلٌ يَعْتَافُ، فَنَظَرَ مِنْ بَعِيدٍ، فَلَمَّا رَأَى طَلْحَةَ أَوَّلَ مَنْ بايع قال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! أَوَّلُ يَدٍ بَايَعَتْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَدٌ شَلاءُ، لا يَتِمُّ هَذَا الأَمْرُ! ثُمَّ جِيءَ بِالزُّبَيْرِ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ وَبَايَعَ- وَفِي الزُّبَيْرِ اخْتِلافٌ- ثُمَّ جِيءَ بِقَوْمٍ كَانُوا قَدْ تَخَلَّفُوا فَقَالُوا: نُبَايِعُ عَلَى إِقَامَةِ كِتَابِ اللَّهِ فِي الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَالْعَزِيزِ وَالذَّلِيلِ، فَبَايَعَهُمْ، ثُمَّ قَامَ الْعَامَّةُ فَبَايَعُوا.
كَتَبَ إِلَيَّ السري عن شعيب، عن سيف، عن أبي زُهَيْرٍ الأَزْدِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُنْدُبٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى عَلِيٍّ، ذَهَبَ الأَشْتَرُ فَجَاءَ بِطَلْحَةَ، فَقَالَ لَهُ: دَعْنِي أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُ النَّاسُ، فَلَمْ يَدَعْهُ وَجَاءَ بِهِ يتله تَلا عَنِيفًا، وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَبَايَعَ.
وَكَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنِ الْحَارِثِ الْوَالِبِيِّ، قَالَ: جَاءَ حَكِيمُ بْنُ جَبَلَةَ بِالزُّبَيْرِ حَتَّى بَايَعَ، فَكَانَ الزُّبَيْرُ يَقُولُ: جَاءَنِي لِصٌّ مِنْ لُصُوصِ عَبْدِ الْقَيْسِ فَبَايَعْتُ وَاللُّجُّ عَلَى عُنُقِي.
وَكَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ، قَالا: وبايع الناس كلهم.
قَالَ أَبُو جَعْفَر: وسمح بعد هَؤُلاءِ الَّذِينَ اشترطوا الذين جيء بهم، وصار لامر أمر أهل الْمَدِينَةِ، وكانوا كما كَانُوا فِيهِ، وتفرقوا إِلَى منازلهم لولا مكان النزاع والغوغاء فيهم.

اتساق الأمر فِي البيعة لعلي بن أبي طالب عليه السلام
وبويع علي يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجة- والناس يحسبون من يوم قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فأول خطبة خطبها علي حين استخلف- فِيمَا كتب بِهِ إلي السري، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن سُلَيْمَان بن أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْن- حمد اللَّه وأثنى عَلَيْهِ، فَقَالَ: إن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أنزل كتابا هاديا بين فِيهِ الخير والشر، فخذوا بالخير ودعوا الشر الفرائض أدوها إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ يؤدكم إِلَى الجنة إن اللَّه حرم حرما غير مجهولة، وفضل حرمة المسلم عَلَى الحرم كلها، وشد بالإخلاص والتوحيد المسلمين و [المسلم من سلم الناس من لسانه ويده إلا بالحق، لا يحل أذى المسلم إلا بِمَا يجب] [بادروا أمر العامة، وخاصة أحدكم الموت، فان الناس امامكم، وان ما خلفكم الساعة تحدوكم تخففوا تلحقوا، فإنما ينتظر الناس أخراهم] [اتقوا اللَّه عباده فِي عباده وبلاده، إنكم مسئولون حَتَّى عن البقاع والبهائم، أطيعوا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَلا تعصوه، وإذا رأيتم الخير فخذوا بِهِ وإذا رأيتم الشر فدعوه، {وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي ٱلأَرْضِ} [الإنفال: 26].
ولما فرغ علي من خطبته وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَر قَالَ الْمِصْرِيُّونَ:

خذها واحذرا أبا حسن *** إنا نمر الأمر إمرار الرسن

وإنما الشعر:
خذها إليك واحذرا أبا حسن.

فَقَالَ علي مجيبا:

إني عجزت عجزة مَا أعتذر *** سوف أكيس بعدها وأستمر

وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا:
ولما أراد علي الذهاب إِلَى بيته قالت السبئيه:

خذها إليك واحذرا أبا حسن *** إنا نمر الأمر إمرار الرسن
صولة أقوام كأسداد السفن *** بمشرفيات كغدران اللبن
ونطعن الملك بلين كالشطن *** حَتَّى يمرن عَلَى غير عنن

فَقَالَ علي وذكر تركهم العسكر والكينونة عَلَى عدة مَا منوا حين غمزوهم ورجعوا إِلَيْهِم، فلم يستطيعوا أن يمتنعوا حَتَّى.

إني عجزت عجزة لا أعتذر *** سوف أكيس بعدها وأستمر
أرفع من ذيلي مَا كنت أجر ***وأجمع الأمر الشتيت المنتشر
إن لم يشاغبني العجول المنتصر *** أو يتركوني والسلاح يبتدر

واجتمع إِلَى علي بعد مَا دخل طَلْحَةُ وَالزُّبَيْر فِي عدة من الصحابة، فَقَالُوا:
يَا علي، إنا قَدِ اشترطنا إقامة الحدود، وإن هَؤُلاءِ القوم قَدِ اشتركوا فِي دم هَذَا الرجل وأحلوا بأنفسهم فَقَالَ لَهُمْ: يَا إخوتاه، إني لست أجهل مَا تعلمون، ولكنى كيف اصنع بقوم يملكوننا وَلا نملكهم! ها هم هَؤُلاءِ قَدْ ثارت معهم عبدانكم، وثابت إِلَيْهِم أعرابكم، وهم خلالكم يسومونكم مَا شاءوا، فهل ترون موضعا لقدرة عَلَى شَيْء مما تريدون؟ قَالُوا: لا، قَالَ: فلا وَاللَّهِ لا أَرَى إلا رأيا ترونه إِنْ شَاءَ اللَّهُ، إن هَذَا الأمر أمر جاهلية، وإن لهؤلاء القوم مادة، وَذَلِكَ أن الشَّيْطَان لم يشرع شريعة قط فيبرح الأرض من أخذ بِهَا أبدا.
إن الناس من هَذَا الأمر إن حرك عَلَى أمور: فرقة ترى مَا ترون، وفرقة ترى مَا لا ترون، وفرقة لا ترى هَذَا وَلا هَذَا حَتَّى يهدأ الناس وتقع القلوب مواقعها وتؤخذ الحقوق، فاهدءوا عني وانظروا ماذا يأتيكم، ثُمَّ عودوا.
واشتد عَلَى قريش، وحال بينهم وبين الخروج على حال، وإنما هيجه عَلَى ذَلِكَ هرب بني أُمَيَّة وتفرق القوم، وبعضهم يقول: وَاللَّهِ لَئِنِ ازداد الأمر لا قدرنا عَلَى انتصار من هَؤُلاءِ الأشرار، لترك هَذَا إِلَى مَا قَالَ علي أمثل.
وبعضهم يقول: نقضي الَّذِي علينا وَلا نؤخره، وو الله إن عَلِيًّا لمستغن برأيه وأمره عنا، وَلا نراه إلا سيكون عَلَى قريش أشد من غيره.
فذكر ذَلِكَ لعلي فقام فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وذكر فضلهم وحاجته إِلَيْهِم ونظره لَهُمْ وقيامه دونهم، وأنه ليس لَهُ من سلطانهم إلا ذَلِكَ، والأجر من اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ، ونادى: برئت الذمة من عبد لم يرجع إِلَى مواليه فتذامرت السبئيه والأعراب، وَقَالُوا: لنا غدا مثلها، وَلا نستطيع نحتج فِيهِمْ بشيء.
وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا:
خَرَجَ عَلِيٌّ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ عَلَى النَّاسِ، فقال: يا ايها النَّاسُ، أَخْرِجُوا عَنْكُمُ الأَعْرَابَ وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الاعراب، ألحقوا بمياهكم فابت السبئيه وَأَطَاعَهُمُ الأَعْرَابُ وَدَخَلَ عَلِيٌّ بَيْتَهُ وَدَخَلَ عَلَيْهِ طلحه والزبير وعده من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: دُونَكُمْ ثَأْرَكُمْ فَاقْتُلُوهُ، فَقَالُوا: عَشَوْا عَنْ ذَلِكَ، قَالَ: هُمْ وَاللَّهِ بَعْدَ الْيَوْمِ أَعْشَى وَآبَى وَقَالَ:

لَوْ أَنَّ قَوْمِي طَاوَعَتْنِي سُرَاتُهُمْ *** أَمَرْتُهُمْ أَمْرًا يَدِيخُ الأَعَادِيَا

وَقَالَ طَلْحَةُ: دَعْنِي فلات البصره فلا يفجؤك إِلا وَأَنَا فِي خَيْلٍ، فَقَالَ: حَتَّى أَنْظُرَ فِي ذَلِكَ وَقَالَ الزُّبَيْرُ: دَعْنِي آتِ الْكُوفَةَ فلا يفجؤك إِلا وَأَنَا فِي خَيْلٍ، فَقَالَ: حَتَّى أَنْظُرَ فِي ذَلِكَ، وَسَمِعَ الْمُغِيرَةُ بِذَلِكَ الْمَجْلِسِ فَجَاءَ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّ لَكَ حَقُّ الطَّاعَةِ وَالنَّصِيحَةِ، وَإِنَّ الرَّأْيَ الْيَوْمَ تُحْرِزُ بِهِ مَا فِي غَدٍ، وَإِنَّ الضَّيَاعَ الْيَوْمَ تُضَيِّعُ بِهِ مَا فِي غَدٍ، أَقْرِرِ مُعَاوِيَةَ عَلَى عَمَلِهِ، وَأَقْرِرِ ابْنَ عَامِرٍ عَلَى عَمَلِهِ، وَأَقْرِرِ الْعُمَّالَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، حَتَّى إِذَا أَتَتْكَ طَاعَتُهُمْ وَبَيْعَةُ الْجُنُودِ اسْتَبْدَلْتَ أَوْ تَرَكْتَ قَالَ: حَتَّى أَنْظُرَ.
فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَعَادَ إِلَيْهِ مِنَ الْغَدِ، فَقَالَ: إِنِّي أَشَرْتُ عَلَيْكَ بِالأَمْسِ بِرَأْيٍ، وَإِنَّ الرَّأْيَ أَنْ تُعَاجِلَهُمْ بِالنُّزُوعِ، فَيَعْرِفُ السَّامِعُ مَنْ غَيْرَهُ وَيَسْتَقْبِلُ أَمْرَكَ، ثُمَّ خَرَجَ وَتَلَقَّاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ خَارِجًا وَهُوَ دَاخِلٌ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى عَلِيٍّ قَالَ:
رَأَيْتُ الْمُغِيرَةَ خَرَجَ مِنْ عِنْدِكَ فَفِيمَ جَاءَكَ؟ قَالَ: جَاءَنِي أَمْسِ بِذِيَّةَ وَذِيَّةَ، وَجَاءَنِي الْيَوْمَ بِذِيَّةَ وَذِيَّةَ، فَقَالَ: أَمَّا أَمْسِ فَقَدْ نَصَحَكَ، وَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ غَشَّكَ قَالَ: فَمَا الرَّأْيُ؟ قَالَ: كَانَ الرَّأْيُ أَنْ تَخْرُجَ حِينَ قُتِلَ الرَّجُلُ أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَتَأْتِيَ مَكَّةَ فَتَدْخُلَ دَارَكَ وَتُغْلِقَ عَلَيْكَ بَابَكَ، فَإِنْ كَانَتِ الْعَرَبُ جَائِلَةً مُضْطَرِبَةً فِي أَثَرِكَ لا تَجِدُ غَيْرَكَ، فَأَمَّا الْيَوْمُ فَإِنَّ فِي بَنِي أُمَيَّةَ مَنْ يَسْتَحْسِنُونَ الطَّلَبَ بِأَنْ يُلْزِمُوكَ شُعْبَةً مِنْ هَذَا الأَمْرِ، وَيُشَبِّهُونَ عَلَى النَّاسِ، وَيَطْلُبُونَ مِثْلَ مَا طَلَبَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَلا تَقْدِرُ عَلَى مَا يُرِيدُونَ وَلا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، وَلَوْ صَارَتِ الأُمُورُ إِلَيْهِمْ حَتَّى يَصِيرُوا فِي ذَلِكَ أَمْوَتَ لِحُقُوقِهِمْ، وَأَتْرَكُ لَهَا إِلا مَا يُعَجِّلُونَ مِنَ الشُّبْهَةِ وَقَالَ الْمُغِيرَةُ: نَصَحْتُهُ وَاللَّهِ، فَلَمَّا لَمْ يَقْبَلْ غَشَشْتُهُ وَخَرَجَ الْمُغِيرَةُ حَتَّى لَحِقَ بِمَكَّةَ.
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، عَنِ ابْنِ سَعْدٍ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: دَعَانِي عُثْمَانُ فَاسْتَعْمَلَنِي عَلَى الْحَجِّ، فَخَرَجْتُ إِلَى مَكَّةَ فَأَقَمْتُ لِلنَّاسِ الْحَجَّ، وَقَرَأْتُ عَلَيْهِمْ كِتَابَ عُثْمَانَ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ وَقَدْ بُويِعَ لِعَلِيٍّ، فَأَتَيْتُهُ فِي دَارِهِ فَوَجَدْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ مُسْتَخْلِيًا بِهِ، فَحَبَسَنِي حَتَّى خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، فَقُلْتُ: مَاذَا قَالَ لَكَ هَذَا؟ فَقَالَ: قَالَ لِي قَبْلَ مَرَّتِهِ هَذِهِ: أَرْسِلْ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ وَإِلَى مُعَاوِيَةَ وَإِلَى عُمَّالِ عُثْمَانَ بِعُهُودِهِمْ تُقِرُّهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَيُبَايِعُونَ لَكَ النَّاسَ، فَإِنَّهُمْ يُهَدِّئُونَ الْبِلادَ وَيُسَكِّنُونَ النَّاسَ، فَأَبَيْتُ ذَلِكَ عَلَيْهِ يَوْمَئِذٍ وَقُلْتُ: [وَاللَّهِ لَوْ كَانَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ لاجْتَهَدْتُ فِيهَا رَأْيِي، وَلا وَلَّيْتُ هَؤُلاءِ وَلا مِثْلَهُمْ يُوَلَّى] قَالَ: ثُمَّ انْصَرَفَ مِنْ عِنْدِي وَأَنَا أَعْرِفُ فِيهِ أَنَّهُ يَرَى أَنِّي مُخْطِئٌ، ثُمَّ عَادَ إِلَيَّ الآنَ فَقَالَ: إِنِّي أَشَرْتُ عَلَيْكَ أَوَّلَ مَرَّةٍ بِالَّذِي أَشَرْتُ عَلَيْكَ وَخَالَفْتَنِي فِيهِ، ثُمَّ رَأَيْتُ بَعْدَ ذَلِكَ رَأْيًا، وَأَنَا أَرَى أَنْ تَصْنَعَ الَّذِي رَأَيْتُ فَتَنْزَعَهُمْ وَتَسْتَعِينَ بِمَنْ تَثِقُ بِهِ، فَقَدْ كَفَى اللَّهُ، وَهُمْ أَهْوَنُ شَوْكَةً مِمَّا كَانَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
فَقُلْتُ لِعَلِيٍّ: أَمَّا الْمَرَّةُ الأُولَى فَقَدْ نَصَحَكَ، وَأَمَّا الْمَرَّةُ الآخِرَةُ فَقَدْ غَشَّكَ، قَالَ لَهُ عَلِيٌّ: وَلِمَ نَصَحَنِي؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لأَنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابَهُ أَهْلَ دُنْيَا، فَمَتَى تُثْبِتْهُمْ لا يُبَالُوا بِمَنْ وُلِّيَ هَذَا الأَمْرَ، وَمَتَى تَعْزِلْهُمْ يَقُولُوا:
أَخَذَ هَذَا الأَمْرَ بِغَيْرِ شُورَى، وَهُوَ قَتَلَ صَاحِبَنَا، وَيُؤَلِّبُونَ عَلَيْكَ فَيُنْتَقَضُ عَلَيْكَ أَهْلَ الشَّامِ وَأَهْلَ الْعِرَاقِ، مَعَ أَنِّي لا آمَنُ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ أَنْ يكرا عليك [فَقَالَ عَلِيٌّ: أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ إِقْرَارِهِمْ فو الله مَا أَشُكُّ أَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا لإِصْلاحِهَا، وَأَمَّا الَّذِي يَلْزَمُنِي مِنَ الْحَقِّ والمعرفة بعمال عثمان فو الله لا أُوَلِّي مِنْهُمْ أَحَدًا أَبَدًا، فَإِنْ أَقْبَلُوا فَذَلِكَ خَيْرٌ لَهُمْ: وَإِنْ أَدْبَرُوا بَذَلْتُ لَهُمُ السَّيْفَ] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَطِعْنِي وَادْخُلْ دَارَكَ، وَالْحَقْ بِمَالِكَ بِيَنْبُعَ، وَأَغْلِقْ بَابَكَ عَلَيْكَ، فَإِنَّ الْعَرَبَ تَجُولُ جَوْلَةً وَتَضْطَرِبُ وَلا تَجِدُ غَيْرَكَ، فَإِنَّكَ وَاللَّهِ لَئِنْ نَهَضْتَ مَعَ هَؤُلاءِ الْيَوْمَ لَيُحَمِّلَنَّكَ النَّاسُ دَمَ عُثْمَانَ غَدًا فَأَبَى عَلِيٌّ، فَقَالَ لابْنِ عَبَّاسٍ: سِرْ إِلَى الشَّامِ فَقَدْ وَلَّيْتُكَهَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
مَا هَذَا بِرَأْيِ، مُعَاوِيَةَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ عُثْمَانَ وَعَامِلُهُ عَلَى الشَّامِ، وَلَسْتُ آمَنُ أَنْ يَضْرِبَ عُنُقِي لِعُثْمَانَ، أَوْ أَدْنَى مَا هُوَ صَانِعٌ أَنْ يَحْبِسَنِي فَيَتَحَكَّمَ عَلَيَّ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: وَلِمَ؟ قَالَ: لِقَرَابَةِ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَإِنَّ كُلَّ مَا حُمِلَ عَلَيْكَ حُمِلَ عَلَيَّ، وَلَكِنِ اكْتُبْ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَمَنِّهِ وَعِدْهُ فَأَبَى عَلَيَّ وَقَالَ: وَاللَّهِ لا كَانَ هَذَا أَبَدًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَحَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي هِلالٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ مِنْ مَكَّةَ بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ، فَجِئْتُ عَلِيًّا أَدْخُلُ عَلَيْهِ، فَقِيلَ لِي: عِنْدَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، فَجَلَسْتُ بِالْبَابِ سَاعَةً، فَخَرَجَ الْمُغِيرَةُ فَسَلَّمَ عَلَيَّ فَقَالَ: مَتَى قَدِمْتَ؟ فَقُلْتُ: السَّاعَةَ.
فَدَخَلْتُ عَلَى عَلِيٍّ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ لِي: لَقِيتَ الزُّبَيْرَ وَطَلْحَةَ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَقِيتُهُمَا بِالنَّوَاصِفِ قَالَ: مَنْ مَعَهُمَا؟ قُلْتُ: أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فِي فِئَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَ عَلِيٌّ: أَمَا إِنَّهُمْ لَنْ يَدَعُوا أَنْ يَخْرُجُوا يَقُولُونَ: [نَطْلُبُ بِدَمِ عُثْمَانَ،] وَاللَّهِ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ قَتَلَةُ عُثْمَانَ قَالَ ابْنُ عَبَّاس: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَخْبَرَنِي عَنْ شَأْنِ الْمُغِيرَةِ، وَلِمَ خَلا بِكَ؟ قَالَ: جَاءَنِي بَعْدَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ بِيَوْمَيْنِ، فَقَالَ لِي: أَخْلِنِي، فَفَعَلْتُ، فَقَالَ: إِنَّ النُّصْحَ رَخِيصٌ وَأَنْتَ بَقِيَّةُ النَّاسِ، وَإِنِّي لَكَ نَاصِحٌ، وَإِنِّي أُشِيرُ عَلَيْكَ بِرَدِّ عُمَّالِ عُثْمَانَ عَامَكَ هَذَا، فَاكْتُبْ إِلَيْهِمْ بِإِثْبَاتِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، فَإِذَا بَايَعُوا لَكَ وَاطْمَأَنَّ الأَمْرُ لَكَ عَزَلْتَ مَنْ أَحْبَبْتَ وَأَقْرَرْتَ مَنْ أَحْبَبْتَ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لا أُدْهِنُ فِي دِينِي وَلا أُعْطِي الدَّنِيَّ فِي أَمْرِي قَالَ: فَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَبَيْتَ عَلَيَّ فَانْزَعْ مَنْ شِئْتَ وَاتْرُكْ مُعَاوِيَةَ، فَإِنَّ لِمُعَاوِيَةَ جُرْأَةً، وَهُوَ فِي أَهْلِ الشَّامِ يُسْمَعُ مِنْهُ، وَلَكَ حُجَّةٌ فِي إِثْبَاتِهِ، كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَدْ وَلاهُ الشَّامَ كُلَّهَا، فَقُلْتُ: لا وَاللَّهِ، لا أَسْتَعْمِلُ مُعَاوِيَةَ يَوْمَيْنِ أَبَدًا فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِي عَلَى مَا أَشَارَ بِهِ، ثُمَّ عَادَ فَقَالَ لِي: إِنِّي أَشَرْتُ عَلَيْكَ بِمَا أَشَرْتُ بِهِ فَأَبَيْتَ عَلَيَّ، ثُمَّ نَظَرْتُ فِي الأَمْرِ فَإِذَا أَنْتَ مُصِيبٌ، لا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَأْخُذَ أَمْرَكَ بِخُدْعَةٍ، وَلا يَكُونُ فِي أَمْرِكَ دُلْسَةٌ.
قَالَ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقُلْتُ لِعَلِيٍّ: أَمَّا أَوَّلُ مَا أَشَارَ بِهِ عَلَيْكَ فَقَدْ نَصَحَكَ، وَأَمَّا الآخِرُ فَغَشَّكَ، وَأَنَا أُشِيرُ عَلَيْكَ بِأَنْ تُثْبِتَ مُعَاوِيَةَ، فَإِنْ بَايَعَ لَكَ فَعَلَيَّ أَنْ أُقْلِعَهُ مِنْ مَنْزِلِهِ [قَالَ عَلِيٌّ: لا وَاللَّهِ، لا أُعْطِيهِ إِلا السَّيْفَ قَالَ] : ثُمَّ تَمَثَّلَ بِهَذَا الْبَيْتِ:

مَا مِيتَةٌ إِنْ مِتُّهَا غَيْرُ عَاجِزٍ *** بِعَارٍ إِذَا مَا غَالَتِ النَّفْسَ غَوْلُهَا

فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْتَ رَجُلٌ شُجَاعٌ لَسْتَ بِأَرِبٍ بِالْحَرْبِ، اما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «الْحَرْبُ خَدْعَةٌ!» فَقَالَ عَلِيٌّ: بَلَى، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ أَطَعْتَنِي لأَصْدُرَنَّ بِهِمْ بَعْدَ وِرْدٍ، وَلأَتَرْكُنَّهُمْ يَنْظُرُونَ فِي دُبُرِ الأُمُورِ لا يَعْرِفُونَ مَا كَانَ وجهها، فِي غَيْرِ نُقْصَانٍ عَلَيْكَ وَلا إِثْمَ لَكَ فَقَالَ: يا بن عَبَّاسٍ، لَسْتُ مِنْ هَنِيئَاتِكَ وَهَنِيئَاتِ مُعَاوِيَةَ فِي شَيْءٍ، تُشِيرُ عَلَيَّ وَأَرَى، فَإِذَا عَصَيْتُكَ فَأَطِعْنِي قال: فقلت: افعل، ان ايسر مالك عِنْدِي الطَّاعَةُ.

مسير قسطنطين ملك الروم يريد الْمُسْلِمِينَ
وفي هَذِهِ السنة- أعني سنة خمس وثلاثين- سار قسطنطين بن هرقل- فِيمَا ذكر مُحَمَّد بن عُمَرَ الْوَاقِدِيّ عن هِشَام بن الغاز، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نسي- فِي ألف مركب يريد أرض الْمُسْلِمِينَ، فسلط اللَّه عَلَيْهِم قاصفا من الريح فغرقهم، ونجا قسطنطين بن هرقل، فأتى صقلية، فصنعوا لَهُ حماما فدخله فقتلوه فِيهِ، وَقَالُوا: قتلت رجالنا.