(تَحْذِيرُهُ إيَّاهُمْ مِنْ إطَاعَةِ الْكُفَّارِ)

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ} [آل عمران: 149]:…

أَيْ عَنْ عَدُوِّكُمْ، فَتَذْهَبُ دُنْيَاكُمْ وآخِرَتُكُمْ {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران: 150]، فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِكُمْ صِدْقًا فِي قُلُوبِكُمْ فَاعْتَصِمُوا بِهِ، وَلَا تَسْتَنْصِرُوا بِغَيْرِهِ، وَلَا تَرْجِعُوا عَلَى أَعْقَابِكُمْ مُرْتَدِّينَ عَنْ دِينِهِ.
{سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [آل عمران: 151]: أَيْ الَّذِي بِهِ كُنْتُ أَنْصُرُكُمْ عَلَيْهِمْ بِمَا أَشْرَكُوا بِي مَا لَمْ أَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ حُجَّةٍ، أَيْ فَلَا تَظُنُّوا أَنَّ لَهُمْ عَاقِبَةَ نَصْرٍ وَلَا ظُهُورٍ عَلَيْكُمْ مَا اعْتَصَمْتُمْ بِي، وَاتَّبَعْتُمْ أَمْرِي، لِلْمُصِيبَةِ الَّتِي أَصَابَتْكُمْ مِنْهُمْ بِذُنُوبٍ قَدَّمْتُمُوهَا لِأَنْفُسِكُمْ، خَالَفْتُمْ بِهَا أَمْرِي لِلْمَعْصِيَةِ، وَعَصَيْتُمْ بِهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ، حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ، وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ، مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ، ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ، وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ، وَالله ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 152] أَيْ وَقَدْ وَفَّيْتُ لَكُمْ بِمَا وَعَدْتُكُمْ مِنْ النَّصْرِ عَلَى عَدُوِّكُمْ، إذْ تُحِسُّونَهُمْ بِالسُّيُوفِ، أَيْ الْقَتْلِ، بِإِذْنِي وَتَسْلِيطِي أَيْدِيكُمْ عَلَيْهِمْ، وَكَفَّى أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْحَسُّ: الِاسْتِئْصَالُ: يُقَالُ: حَسَسْتُ الشَّيْءَ: أَيْ اسْتَأْصَلْتُهُ بِالسَّيْفِ وَغَيْرِهِ. قَالَ جَرِيرٌ:
تَحُسُّهُمْ السُّيُوفُ كَمَا تَسَامَى حَرِيقُ النَّارِ فِي الْأَجَمِ الْحَصِيدِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَقَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ:
إذَا شَكَوْنَا سَنَةً حَسُوسا تَأْكُلُ بَعْدَ الْأَخْضَرِ الْيَبِيسَا
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: {حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ } [آل عمران: 152] : أَيْ تَخَاذَلْتُمْ {وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 152] أَيْ اخْتَلَفْتُمْ فِي أَمْرِي، أَيْ تَرَكْتُمْ أَمْرَ نَبِيِّكُمْ وَمَا عَهِدَ إلَيْكُمْ، يَعْنِي الرُّمَاةَ {وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 152] : أَيْ الْفَتْحُ، لَا شَكَّ فِيهِ، وَهَزِيمَةُ الْقَوْمِ عَنْ نِسَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا} [آل عمران: 152] : أَيْ الَّذِينَ أَرَادُوا النَّهْبَ فِي الدُّنْيَا وَتَرْكَ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ الطَّاعَةِ الَّتِي عَلَيْهَا ثَوَابُ الْآخِرَةِ {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: 152] : أَيْ الَّذِينَ جَاهَدُوا فِي اللَّهِ، وَلَمْ يُخَالِفُوا إلَى مَا نُهُوا عَنْهُ، لِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا، رَغْبَةً فِيهَا، رَجَاءَ مَا عِنْدِ اللَّهِ مِنْ حُسْنِ ثَوَابِهِ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ الَّذِينَ جَاهَدُوا فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخَالِفُوا إلَى مَا نُهُوا عَنْهُ، لِعَرَضِ مِنْ الدُّنْيَا، لِيَخْتَبِرَكُمْ، وَذَلِكَ بِبَعْضِ ذُنُوبِكُمْ، وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْ عَظِيمِ ذَلِكَ، أَنْ لَا يُهْلِكَكُمْ بِمَا أَتَيْتُمْ مِنْ مَعْصِيَةِ نَبِيِّكُمْ، وَلَكِنِّي عُدْتُ بِفَضْلِي عَلَيْكُمْ، وَكَذَلِكَ {مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 164] أَنْ عَاقَبَ بِبَعْضِ الذُّنُوبِ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا أَدَبًا وَمَوْعِظَةً، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُسْتَأْصِلٍ لِكُلِّ مَا فِيهِمْ مِنْ الْحَقِّ لَهُ عَلَيْهِمْ، بِمَا أَصَابُوا مِنْ مَعْصِيَتِهِ، رَحْمَةً لَهُمْ، وَعَائِدَةً عَلَيْهِمْ، لِمَا فِيهِمْ مِنْ الْإِيمَانِ