اللقاء في العقبة
قال ابن إسحاق: ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة، وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين إلى الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة، فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق، فحدثني معبد بن كعب بن مالك : أن أخاه عبد الله – وكان من أعلم الأنصار- حدثه أن أباه كعباً حدثه، وكان ممن شهد العقبة وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، قال: خرجنا من حجاج قومنا من المشركين وقد صلينا وفقهنا، ومعنا البراء بن معرور سيدنا وكبيرنا، فلما وجهنا لسفرنا وخرجنا من المدينة قال البراء لنا: يا هؤلاء: إني قد رأيت رأياً، والله ما أدري أتوافقوني عليه أم لا؟ قال: قلنا: وما ذاك؟ قال: رأيت أن لا أدع هذه البنية مني بظهر (يعني الكعبة) وأن أصلى إليها، قال: قلنا: والله ما بلغنا أن نبينا يصلي إلا إلى الشام، وما نريد أن نخالفه، قال: فقال: إني لمصلٍّ إليها، قال: قلنا له: لكنا لا نفعل، قال: فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام وصلى إلى الكعبة حتى قدمنا مكة، قال: وقد كنا عبنا عليه ما صنع، وأبى إلا الإقامة على ذلك، قال: فلما قدمنا مكة قال لي: يا ابن أخي انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسأله عما صنعت في سفري هذا، فإنه والله لقد وقع في نفسي منه شيء لما رأيت من خلافكم إياي فيه.
شهرة العباس بن عبد المطلب
قال: فخرجنا نسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنا لا نعرفه ولم نره قبل ذلك، فلقينا رجلاً من أهل مكة فسألناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هل تعرفانه؟ قلنا: لا، قال: فهل تعرفان العباس بن عبد المطلب عمه، قلنا: نعم، قال: وكنا نعرف العباس، كان لا يزال يقدم علينا تاجرًا، قال: فإذا دخلتما المسجد هو الرجل الجالس مع العباس، قال: فدخلنا المسجد، فإذا العباس جالس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم معه، فسلمنا ثم جلسنا إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: «هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل»؟ قال: نعم، هذا البراء بن معرور سيد قومه، وهذا كعب بن مالك، قال: فوالله ما أنسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشاعر»؟ قال: نعم، قال: فقال له البراء بن معرور: يا نبي الله، إني خرجت في سفري هذا، وقد هداني الله للإسلام، فرأيت أن لا أجعل هذه البنية مني بظهر، فصليت إليها وخالفني أصحابي
. في ذلك حتى وقع في نفسي من ذلك شيء، فماذا ترى يا رسول الله؟ قال: لقد كنت على قبلة لو صبرت عليها فرجع البراء إلى قبلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى إلى الشام، وأهله يزعمون أنه صلى إلى الكعبة حتى مات، وليس كما قالوا نحن أعلم به منهم، ثم خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة الكبرى من أوسط أيام التشريق، فلما فرغنا من الحج، وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لها، ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر سيد من ساداتنا أخذناه، وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا، فكلمناه وقلنا له: يا جابر، إنك سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطباً للنار غدًا، ثم دعوناه إلى الإسلام، وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إيانا العقبة، قال: فأسلم، وشهد معنا العقبة، وكان نقيباً.
أهل البيعة
فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم تسلل القَطَا مستخفين، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن ثلاثة وسبعون رجلاً، ومعنا امرأتان من نسائنا: نسيبة بنت كعب أم عمارة إحدى نساء بني مازن النجار، و أسماء بنت عمرو بن عدي بن نابي، إحدى نساء بني سلمة، وهي أم منيع.
مقالة العباس
قال: فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له، فلما جلس كان أول من تكلم، فقال: يا معشر الخزرج (وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج خزرجها وأوسها): إن محمدًا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده، قال: فقلنا له: قد سمعنا ما قلت: فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.
نص البيعة
قال: فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب في الإسلام، ثم قال: «أبايعكم على أن تمنعوني مما
تمنعون من نساءكم وأبناءكم»، قال: فأخذ البراء بن معرور بيده، ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق لنمنعك مما تمنع منه نساءنا أزرنا ، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنحن والله أهل الحروب، وأهل الحلقة ورثناها كابراً عن كابر، قال: فاعترض القول – والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم – أبو الهيثم بن التيهان ، فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال
حبالًا، وإنا قاطعوها (يعني اليهود) فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم»، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيباً يكونون على قومهم بما فيهم، فأخرجوا تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس».
تسمية الانثى عشر نقيباً
فمن الخزرج ثم من بني النجار: أسعد بن زرارة بن عدس ، ومن بني مالك: الأغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج: عبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن عمرو بن امرئ القيس الأكبر بن مالك الأغر ، و سعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زهير بن مالك بن امرئ القيس بن مالك الأغر. ومن بني زر يق: رافع بن مالك بن العجلان. ومن بني سلمة ثم بني حرام: عبد الله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة بن حرام . ومن بني عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة: البراء بن معرور بن صخر بن خنساء بن سنان بن عبيد. ومن بني طر يف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج: سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن أبي خزيمة بن ثعلبة بن طر يف. ومن بني ثعلبة بن الخزرج أخي طر يف: المنذر بن عمرو بن
خنيس بن لوذان بن عبد ود بن زيد بن ثعلبة. ومن بني غنم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج: عبادة بن الصامت. ومن الأوس ثم من بني عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس: أسيد بن حضير بن سماك بن عتيك بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل. ومن بني السلم بن امرئ القيس بن مالك بن الأوس: سعد بن خيثمة بن الحارث بن مالك بن كعب بن النحاط بن كعب بن حارثة بن غنم بن السلم. ومن بني أمية بن زيد: رفاعة بن عبد المنذر بن زنبر بن زيد بن أمية. قال ابن هشام: وأهل العلم يعدون فيهم أبا الهيثم بن التيهان بدل رفاعة.
المفاوض للطرفين
وعن شيخ من الأنصار: أن جبريل عليه السلام كان يشير له إلى من يجعله نقيباً. وقد قيل: إن الذي تولى الكلام مع الأنصار وشد العقد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أسعد بن زرارة. وروينا من طر يق العدني، ثنا يحيى بن سليم، عن ابن خُثيَْم، عن أبي الزبير، عن جابر …فذكر حديث العقبة وفيه: فأخذ بيده – يعني النبي صلى الله عليه وسلم- أسعد بن زرارة وهو أصغر السبعين، إلا أنا، فقال: رويدًا يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكباد المطي إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وإن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة وقتل خياركم، وإن تعضكم السيوف فإما أنتم قوم تصبرون عليها إذا مستكم بقتل خياركم ومفارقة العرب كافة، فخذوه وأجركم على الله؛ وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه فهو أعذر لكم عند الله، فقالوا: يا أسعد: أمط عنا يدك، فو الله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها … الحديث. وقيل: بل العباس بن عبادة بن نضلة. فعن سعيد بن بز يع عنه، قال: بنو النجار يزعمون أن أبا أمامة أسعد بن زرارة كان أول من ضرب على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبنو عبد الأشهل يقولون: بل أبو الهيثم بن التيهان، وقد تقدم أنه البراء بن معرور.
غضبة الشيطان
فلما انتهت البيعة صرخ الشيطان من رأس العقبة، يا أهل الجباجب : هل لكم في مذمم والصُّباَة معه قد أجمعوا على حربكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا أزب العقبة»، أتسمع أي عدو الله: أما والله لأفرغن لك، فاستأذنه العباس بن عبادة في القتال، فقال: لم نؤمر بذلك.
موقف قريش
وتطلب المشركون خبرهم، فلم يعرفوه، ثم شعروا به حين انصرفوا، فاقتفوا آثارهم، فلم يدركوا إلا سعد بن عبادة و المنذر بن عمرو ، فأما سعد فكان ممن عذب في الله، وأما المنذر فأعجزهم وأفلت. ونمي خبر سعد بن عبادة إلى جبير بن مطعم و الحارث بن حرب بن أمية على يدي أبي البختري بن هشام فأنفذه الله بهما.
وقال ضرار بن الخطاب الفهري:
تداركت سعدا عنوة فأخذته *** وكان شفاء لو تداركت منذرا
ولو نلته طلت هناك جراحه *** وكان حَرِيًّا أن يهان ويهدرا
فأجابها حسان بأبيات ذكرها ابن إسحاق.