0 ق.هـ
621 م
الْهِجْرَة الشَّرِيفَة سنة ثَلَاث عشرَة من النُّبُوَّة

فَلَمَّا رَحل الْأَنْصَار السبعون وانشرحت الصُّدُور وقرت الْعُيُون وَفهم الْمُسلمُونَ خُرُوج الصَّحَابَة فرموا إِلَى جهتهم سِهَام الْإِصَابَة …

وضيقوا عَلَيْهِم وضاعفوا الْإِسَاءَة إِلَيْهِم وبالغوا فِي شتمهم وخبطوا فِي ظلمات ظلمهم.
فشكوا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثقلهم واستأذنوه فِي الْهِجْرَة فَأذن لَهُم فَجعلُوا يَتَجَهَّزُونَ ويترافقون وَيخرجُونَ خيفة ويتلاحقون حَتَّى قدمُوا الْمَدِينَة كهولا وفتيانا وطاروا إِلَى أوكار الْأَنْصَار زرافات ووحدانا فآووهم وبغيث الْإِحْسَان غمروهم فَعِنْدَ ذَلِك خَافَ الْمُشْركُونَ خُرُوج الرَّسُول وَعَلمُوا أَن فَرِيضَة الْمُسلمين بهجرته تعول فَاجْتمعُوا فِي دَار الندوة وَاتَّفَقُوا على قتل من جعله الله للنَّاس قدوة ورصدوه فِي بَيته لَيْلًا وظنوا أَنهم ينالون مِنْهُ نيلا فخابوا وخسروا وبأفهار الْقدْوَة الإلهية كسروا.

ثمَّ هَاجر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَخرج بِإِذن من أنزل الْقُرْآن وَتكلم فَمضى وَمَعَهُ أَبُو بكر إِلَى غَار ثَوْر وَاشْتَدَّ فِي طلبهما أهل الظُّلم والجور وذهبوا يقصون الْآثَار حَتَّى انْتَهوا إِلَى بَاب الْغَار فَلَمَّا رَأَوْا إِلَى بَيت العنكبوت وعش الْحمام نكصوا على أَعْقَابهم كَأَنَّمَا يساقون إِلَى الْحمام ، ثمَّ قوى عزمهما على الترحال بعد مكثهما فِي الْغَار ثَلَاث لَيَال فَأمر عبد الله بن أريقط بِالْمَسِيرِ وصحبا مِنْهُ أَي دَلِيل بالطرق خَبِير وتبعهم عَامر بن فهَيْرَة على سَبِيل الْخدمَة وَسَارُوا مشمولين ببركة من أتم الله عَلَيْهِ النِّعْمَة.

فَبَيْنَمَا هم سائرون وَإِلَى جِهَة قصدهم صائرون عرض لَهُم سراقَة بن مَالك فِي الطَّرِيق فرسخت قَوَائِم فرسه معْجزَة لصَاحب الْوَجْه الشريق ثمَّ أطلق ببركة دُعَائِهِ وَالْتزم برد الْمُشْركين المشتدين من وَرَائه ، ومروا فِي سيرهم بِأم معبد وَكَانَت مِمَّن يُرْجَى قراه ويقصد فنزلوا فِي ظلّ خيمتها المعقودة وَبَارك صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي شَاتِهَا المجهودة فاجترت وَدرت بِاللَّبنِ وَشَرِبُوا حَتَّى ضربوا بِعَطَن.

ثمَّ سَارُوا لَا يصعدون جبلا إِلَّا تأرج بعطرهم الفائح وَلَا يقطعون وَاديا إِلَّا كتب لَهُم بِهِ عمل صَالح حَتَّى قدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مبارك الْقدَم مَرْفُوع الْعلم مضيء المقياس رَحْمَة عَامَّة على النَّاس فَنزل بقبائها وأناخ بِحَضْرَة فنائها.
وَخرج الْمُسلمُونَ إِلَى لِقَائِه وابتهجوا بِمَا ظهر لَهُم من أفق سمائه وهرعوا للسلام عَلَيْهِ وتشرفوا بالمثول بَين يَدَيْهِ وَأقَام بهَا أَرْبَعَة عشر يَوْمًا وتحول وَكَانَ قدومه يَوْم الْإِثْنَيْنِ فِي شهر ربيع الأول
وَلما دخل الْمَدِينَة مضى حَتَّى انْتهى إِلَى مَوضِع مَسْجده وَخرج كل من قبائلها يَدعُوهُ إِلَى عدده وعدده وسروا بمقدمة الميمون وَاسْتَبْشَرُوا بِحِفْظ جوهره الْمكنون.

ثمَّ نزل فِي بَيت أبي أَيُّوب وَملك من دَار هجرته عنان الْمَطْلُوب وَحط بهَا رَحْله وَأرْسل إِلَى مَكَّة من أحضر أَهله وآخى بَين الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَاسْتمرّ مُجْتَهدا فِي طَاعَة من لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار وَهُوَ يدْرك الْأَبْصَار
وَسمع أهل مَكَّة بعد رحيله هاتفا يَقُول:

جزى الله رب النَّاس خير جَزَائِهِ *** رَفِيقَيْنِ حلا خَيْمَتي أم معبد
هما نزلا بِالْبرِّ وارتحلا بِهِ *** فأفلح من أَمْسَى رَفِيق مُحَمَّد
لِيهن بني كَعْب مَكَان فَتَاتهمْ *** ومقعدها للْمُؤْمِنين بِمَرْصَد

وَفِي نُزُوله بِالْمَدِينَةِ يَقُول أَبُو قيس الْأنْصَارِيّ من أَبْيَات:

ثوى فِي قُرَيْش بضع عشرَة حجَّة *** يذكر لَو يلقى صديقا مواتيا
فَلَمَّا أَتَانَا أظهر الله دينه *** فَأصْبح مَسْرُورا بِطيبَة رَاضِيا
يقص لنا مَا قَالَ نوح لِقَوْمِهِ *** وَمَا قَالَ مُوسَى إِذْ أجَاب المناديا
نعادي الَّذِي عادى من النَّاس كلهم *** جَمِيعًا وَإِن كَانَ الحبيب الموافيا
وَأصْبح لَا يخْشَى من النَّاس وَاحِدًا *** قَرِيبا وَلَا يخْشَى من النَّاس نَائِيا