23 ذو القعدة 5 هـ
15 نيسان 627 م
غزوة بني قريظة

المضي إلى بني قريظة

عن عائشة  رضي اللّٰه عنها، قالت: “لما رجع النبي صلى اللّٰه عليه وسلم يوم الخندق، بينا هو عندي إذ دق الباب، فارتاع لذلك رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم، ووثب وثبة منكرة، وخرج، فخرجت في أثره، فإذا رجل على دابة، والنبي صلى اللّٰه عليه وسلم متكئ على مَعْرفَة الدابة  يكلمه، فرجعت، فلما دخل قلت: من ذلك الرجل الذي كنت تكلمه؟ قال: ورأيتيه؟ قلت: نعم، . قال: بمن تشبهينه؟ قلت: ب دحية بن خليفة الكلبي، قال: ذاك جبريل، أمرني أن أمضي إلى بني قريظة“.
قال ابن إسحاق: ولما أصبح رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم انصرف عن الخندق راجعًا إلى المدينة والمسلمون، وضعوا السلاح، فلما كانت الظهر أتى جبريل النبي صلى اللّٰه عليه وسلم كما حدثني الزهري، معتجرًا  بعمامة من إستبرق على بغلة عليها رِحَالةٌ ، عليها قطيفة ديباج، فقال: أَوَقدَْ وضعت السلاح يا رسول اللّٰه؟ قال: نعم، فقال جبريل: ما وضعت الملائكة السلاح بعد، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم، إن اللّٰه يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة، فإني عامد إليهم فمزلزل بهم، . فأمر رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم مؤذنًا، فأذن في الناس: من كان سامعًا مطيعًا فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة .
عن جابر، قال: بينا رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم يغسل رأسه مرجعه من طلب الأحزاب، إذ وقف عليه جبريل، فقال: ما أسرع ما حللتم، واللّٰه ما نزعنا مِنْ لَأْمَتِناَ شيئاً منذ نزل العدو بك، قم فشَُدَّ عليك سلاحك، فوالله لأدقنهم كدق البيض  على الصفا، ثم ولى، فأتبعته بصري، فلما رأينا ذلك نهضنا. قال: وأخبرني الوليد، قال: أخبرني سعيد بن بشير، عن قتادة، قال: بعث رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم يومئذ مناديًا: “يا خيل اللّٰه اركبي“.

إنابة ابن أم مكتوم واليا على المدينة

قال ابن سعد: ثم سار إليهم في المسلمين وهم ثلاثة آلاف، والخيل ستة وثلاثون فرسًا، وذلك في يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة. واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم فيما قال ابن هشام.

حامل الراية

عن معبد بن كعب بن مالك الأنصاري: “قدم رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم علي بن أبي طالب برايته إلى بني قريظة، وابتدرها الناس، فسار حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم، فرجع حتى لقي رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم بالطريق، فقال: يا رسول اللّٰه، لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابيث، قال: لم، أظنك سمعت منهم لي أذى، قال: نعم يا رسول اللّٰه، قال: لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئاً، فلما دنا رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم من حصونهم، قال: يا إخوان القردة، هل أخزاكم اللّٰه وأنزل بكم نقمته؟ قالوا: يا أبا القاسم، ما كنت جهولًا، ومر رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم بنفر من أصحابه ب الصورين قبل أن يصل إلى بني قريظة، فقال: هل مر بكم أحد؟

زلزلة حصون اليهود

قالوا: يا رسول اللّٰه، مر بنا دحية بن خليفة الكلبي على بغلة بيضاء عليها رحالة، وعليها قطيفة ديباج، فقال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم: “ذاك جبريل بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم، ويقذف الرعب في قلوبهم“، ولما أتى رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم بني قريظة يزلزل بهم حصونهم، ويقذف الرعب في قلوبهم، ولما أتى رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم بني قريظة نزل على بئر من آبارها، وتلاحق به الناس.
فأتى رجال من بعد العشاء الآخرة ولم يصلوا العصر، لقول رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم: “لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة“، فشغلهم ما لم يكن لهم منه بد في حربهم، وأبوا أن يصَُلُّوا لقول النبي صلى اللّٰه عليه وسلم: “حتى تأتوا بني قريظة، فصلوا العصر بها بعد العشاء الآخرة“، فما عابهم اللّٰه بذلك في كتابه، ولا عنفهم به رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم.

 

محاصرة بني قريظة

وحاصرهم رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم خمسًا وعشرين ليلة، حتى جهدهم الحصار، وقذف اللّٰه في قلوبهم الرعب، وقد كان حيي بن أخطب دخل مع بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان، وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه، فلما أيقنوا بأن رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم، قال كعب بن أسد لهم: يا
معشر يهود، قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني عارضٌ عليكم خِلالًا ثلاثًا، فخذوا أيها شئتم، قالوا: وما هي؟ قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه، فوالله لقد تبين لكم أنه لنبيٌّ مرسل، وإنه للذي تجدونه في كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم، قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدًا، ولا نستبدل به غيره.
قال: فإذا أبيتم على هذه، فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مُصلتين بالسيوف، لم نترك وراءنا ثقَلاً  حتى يحكم اللّٰه بيننا وبين محمد، فإن نهلكِ نهلكِ ولم نترك وراءنا نسلاً نخشى عليه، وإن نظهر فلعمري لنجد النساء والأبناء، قالوا: نقتل هؤلاء المساكين، فما خير العيش بعدهم؟ قال: فإن أبيتم علي هذه فإن الليلة ليلة السبت، وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أَمِنوُنَا فيها، فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غِرَّة، قالوا: نفسد سبتنا، ونحدث فيه ما لم يحدث فيه
من كان قبلنا إلا من قد علمت، فأصابه ما لم يخفَ عليك من المسخ، قال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازمًا.
ثم إنهم بعثوا إلى رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف – وكانوا حلفاء الأوس- نستشيره في أمرنا، فأرسله رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال، وجَهَش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه، فرقَّ لهم وقالوا: يا أبا لبابة، أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح.

ندم أبي لبابة

قال أبو لبابة: فو اللّٰه مازالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنت اللّٰه ورسوله، ثم انطلق أبو لبابة على وجهه، ولم يأت رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب اللّٰه عليَّ مما صنعت، وعاهدت اللّٰه أن لا أطأ بني قريظة أبدًا، ولا أُرى في بلد خنت اللّٰه ورسوله فيه أبدًا، فلما بلغ رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم خبره وكان قد استبطأه، قال: “أما لو جاءني لاستغفرت له، وأما إذا فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من
مكانه حتى يتوب اللّٰه عليه“.
وحدثني يزيد بن عبد اللّٰه بن قسيط: أن توبة أبي لبابة نزلت على رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم وهو في بيت أم سلمة ، قالت أم سلمة: “فسمعت رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم من السَّحَر وهو يضحك، قالت: قلت: مم تضحك أضحك اللّٰه سنك؟
قال: تِيبَ على أبي لبابة، قالت: قلت: أفلا أبشره يا رسول اللّٰه، قال: بلى إن شئت”، قال: فقامت على باب حجرتها، وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب، فقالت: يا أبا لبابة أبشر، فقد تاب اللّٰه عليك، قالت: فثار الناس ليطلقوه، فقال: لا واللّٰه، حتى يكون رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم هو الذي يطلقني بيده، فلما مر عليه خارجًا إلى صلاة الصبح أطلقه.
قال ابن هشام: أقام أبو لبابة مرتبطًا بالجذع ست ليال، تأتيه امرأته في وقت كل صلاة فتحله للصلاة، ثم يعود فيرتبط بالجذع، فيما حدثني بعض أهل العلم.
وعن عبد اللّٰه بن أبي بكر: أن أبا لبابة ارتبط سلسلة رَبوُض- والرَّبوُض: الثقيلة- بضع عشرة ليلة، حتى ذهب سمعه، فما يكاد يسمع، وكاد يذهب بصره، وكانت ابنته تحله إذا حضرت الصلاة، أو أراد أن يذهب لحاجة، فإذا فرغ أعادته إلى الرباط، فقال رسول اللّٰه: لو جاءني لاستغفرت له.
قال أبو عمر: اختلف في الحال الذي أوجب فعل أبي لبابة هذا بنفسه، وأحسن ما قيل في ذلك ما رواه معمر عن الزهري، قال: كان أبو لبابة ممن تخلف عن رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم في غزوة تبوك، فربط نفسه بسارية، وقال: واللّٰه لا أحل نفسي منها، أو أذوق طعامًا ولا شرابًا حتى يتوب اللّٰه عليَّ أو أموت، فمكث سبعة أيام لا يذوق طعامًا ولا شرابًا حتى خر مغشًيّا عليه، ثم تاب اللّٰه عليه، وذكر نحو ما تقدم في حَلِّ رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم إياه.
ثم قال أبو لبابة: يا رسول اللّٰه، إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالي كله صدقة إلى اللّٰه وإلى رسوله، قال: “يجزئك يا أبا لبابة الثلث“.

قبول توبة أبي لبابة

وروي عن ابن عباس من وجوه في قوله تعالى: {وَآخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً …} الآية [التوبة: 102] أنها نزلت في أبي لبابة ونفَر مَعه سبعة أو ثمانية، أو سبعة سواه، تخلفوا عن غزوة تبوك ثم ندموا، فتابوا وربطوا أنفسهم بالسواري، فكان عملهم الصالح توبتهم، والسيئ تخلفهم عن الغزو مع رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم.
قال أبو عمر: وقد قيل إن الذنب الذي أتاه أبو لبابة كان إشارته إلى حلفائه بني قريظة أنه الذبح إن نزلتم على حكم سعد بن معاذ وإشارته إلى حلقه، فنزلت فيه: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ…} الآية [الأنفال: 27] .
قال ابن إسحاق: ثم إن ثعلبة بن سعية ، و أسيد بن سعية ، و أسيد بن عبيد ، وهم نفر من هدل ليسوا من بني قريظة ولا النضير، نسبهم فوق ذلك، وهم بنو عم القوم، أسلموا تلك الليلة التي نزلت فيها قريظة على حكم رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم.

محمد بن مسلمة رمز للوفاء للّٰه ورسوله

وخرج في تلك الليلة عمرو بن سعدي القرظي ، فمر بحرس رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم، وعليه محمد بن مسلمة تلك الليلة، فلما رآه قال: من هذا؟ قال: أنا عمرو بن سعدي، وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم، وقال: لا أغدر بمحمد أبدًا، فقال محمد بن مسلمة حين عرفه: اللهم لا تحرمني إقالة عثرات الكرام، ثم خلى سبيله فخرج على وجهه، حتى بات في مسجد رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم بالمدينة تلك الليلة، ثم ذهب فلم يدرِ أين وجه من الأرض إلى يومه هذا، فذكر لرسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم شأنه، فقال: “ذلك رجل نجاه اللّٰه بوفائه“.
وبعض الناس يزعم أنه كان أُوثق برُمَّة فيمن أوثق من بني قريظة حين نزلوا على حكم رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم، فأصبحت رُمَّتهُ ملقاة، ولا يدرى أين ذهب، فقال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم فيه تلك المقالة. “فاللّٰه أعلم أي ذلك كان“، فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم، فتواثبت الأوس، فقالوا: يا رسول اللّٰه، إنهم موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت.

تحكيم سعد بن معاذ في بني قريظة

وقد كان رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم قبل بني قريظة قد حاصر بني قينقاع وكانوا حلفاء الخزرج، فنزلوا على حكمه، فسأله إياهم عبد اللّٰه بن أبي ابن سلول، فوهبهم له، فلما كلمته الأوس، قال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم: “ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى، قال: فذلك إلى سعد بن معاذ“، وكان رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم قد جعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة من أسلم – يقال لها: رُفيدة في مسجده- كانت تدُاوي الجرحى، وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين.
و”كان رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب“، فلما حَكَّمهَ رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم في بني قريظة أتاه قومه، فحملوه على حمار وقد وطؤوا له بوسادة من أَدَم ، وكان رجلاً جسيمًا، ثم أقبلوا معه إلى رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم، وهم يقولون: يا أبا عمرو، أحسن من مواليك، فإن رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم إنما وَلّاك ذلك لتحُسن فيهم، فلما أكثروا، قال: لقد آن لسعد أن لا يأخذه في اللّٰه لومة لائم، فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبد الأشهل، فنعى إليهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد عن كلمته التي سمع منه.

حكم سعد بن معاذ في بني قريظة

فلما انتهى سعد إلى رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم والمسلمين، قال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم: “قوموا إلى سيدكم“. فأما المهاجرون من قريش، فيقولون: إنما أراد رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم الأنصار، وأما الأنصار فيقولون: عم بها رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم المسلمين فقاموا إليه، فقالوا: يا أبا عمر، إن رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم قد وَلّاك أمر مواليك لتحكم فيهم، فقال سعد: عليكم بذلك عهد اللّٰه وميثاقه أن الحكم فيهم كما حكمت، قالوا: نعم، قال: وعلى من هاهنا؟ في الناحية التي فيها رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم وهو معرض عن رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم إجلالًا له، فقال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم: “نعم“، قال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسُبى الذراري والنساء.
قال حميد: قال بعضهم: وتكون الديار للمهاجرين دون الأنصار، قال: فقالت الأنصار: إخواننا كنا معهم، فقال: إني أحببت أن يستغنوا عنكم.
عن علقمة بن وقاص الليثي، قال: “قال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم لسعد: لقد حكمت فيهم بحكم اللّٰه من فوق سبع أرقعة” .
قال ابن هشام: حدثني من أثق به من أهل العلم: أن علي بن أبي طالب صاح وهم محاصرو بني قريظة: يا كتيبة الإيمان، وتقدم هو و الزبير بن العوام ، قال: واللّٰه لأذوقن ما ذاق حمزة ، أو لأفتحن حصنهم، فقالوا: يا محمد، ننزل على حكم سعد.

عدد بني قريظة

قال ابن إسحاق: ثم استنزلوا، فحبسهم رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم بالمدينة في دار بنت الحارث امرأة من بني النجار، ثم خرج رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم إلى سوق المدينة، التي هي سوقها اليوم، فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم، فضرب أعناقهم في تلك الخنادق، فخرج بهم إليها أرسالًا ، وفيهم عدو اللّٰه حُيي بن أخطب، وكعب بن أسد رأس القوم، وهم ستمائة أو سبعمائة.
والمكثر يقول: كانوا ما بين الثمانمائة والتسعمائة، وقد قالوا لكعب بن أسد – وهو يذهب بهم إلى رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم أرسالًا-: يا كعب، ما تراه يصنع بنا؟ قال: أفي كل موطن لا تعقلون؟! أما ترون الداعي لا ينزع، وأنه من ذهب منكم لا يرجع، هو واللّٰه القتل، فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم، وُأتي بحيُى بن أخطب عدو اللّٰه، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، فلما نظر إلى رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم، قال: أما واللّٰه ما لمت نفسي في عداوتك، ولكنه مَنْ يَخْذُلِ اللهُ يُخْذَل، ثم أقبل على الناس، فقال: أيها الناس، إنه لا بأس بأمر اللّٰه، كتاب وقدر وملحمة كتبت على بني إسرائيل، ثم جلس فضربت عنقه.

عدم التعرض للنساء

عن عائشة، قالت: لم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة، قالت: واللّٰه إنها لعندي تحدث معي وتضحك ظهرًا وبطناً، ورسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم يقتل رجالها في السوق، إذ هتف هاتف باسمها، أين فلانة؟ قالت: أنا واللّٰه، قالت: قلت لها: ويلك، ما لك؟ قالت: أُقتل؟ قلت: ولِم؟َ قالت: لحدث أحدثته، قالت: فانطلق بها، فضربت عنقها ، فكانت عائشة تقول: فوالله ما أنسى عجباً منها، طيب نفسها، وكثرة ضحكها، وقد عرفت أنها تقتل. قال ابن هشام:هي التي طرحت الرحا على خَلَّاد بن سويد فقتلته.
وقال ابن سعد: أمر بهم رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم محمد بن مسلمة، فكُتِّفوا وجُعلوا ناحية، وُأخرجَ النساء والذرية فكانوا ناحية، واستعمل عليهم عبد اللّٰه بن سلام ، وجمع أمتعتهم وما وجد في حصونهم من الحلَْقة والأثاث والثياب، فوجد فيها ألفًا وخمسمائة سيف، وثلاثمائة درع، وألفي رمح، وخمسمائة تُرس وجحفة ، وخمرًا وجرار سكر، فأهريق ذلك كله، ولم يُخَمّس، ووجدوا جمالًا نواضح وماشية كثيرة.

استشراف الزبير بن باطا للقتل

قال ابن إسحاق: وقد كان ثابت بن قيس بن الشماس كما ذكر ابن شهاب الزهري أتى الزَّبيِر  بن باطا القرظي، وكان يكنى: أبا عبد الرحمن، وكان الزبير قد مَنَّ على ثابت بن قيس في الجاهلية، ذكر لي بعض ولد الزبير أنه كان مَنَّ عليه يوم بعُاث، أخذه فجز ناصيته ثم خلى سبيله، فجاءه ثابت وهو شيخ كبير، فقال: يا أبا عبد الرحمن، هل تعرفني؟ قال: وهل يجهل مثلي مثلك؟ قال: إني قد أردت أن أجزيك بيدك عندي، قال: إن الكريم يجزي الكريم.

النبي يمكن لثابت من الزبير بن باطا

ثم “أتى ثابتُ رسولَ اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم، فقال: يا رسول اللّٰه، إنه كان للزبير عليَّ مَِنّةٌ، وقد أحببت أن أجزيه بها، فهب لي دمه، فقال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم: هو لك، فأتاه فقال: إن رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم قد وهب لي دمك، فهو لك، قال: شيخ كبير لا أهل له ولا ولد، فما يصنع بالحياة؟ قال: فأتى ثابت رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم، فقال: يا رسول اللّٰه، بأبي أنت وأمي، امرأته وولده؟ قال: هم لك، قال: فأتاه، فقال: قد وهب لي رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم أهلك وولدك، فهم لك، قال: أهل بيت بالحجاز لا مال لهم، فما بقاؤهم على ذلك؟
فأتى ثابتُ رسولَ اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم فقال: يا رسول اللّٰه ماله؟ قال: هو لك، فأتاه ثابت، فقال: قد أعطاني رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم مالك، فهو لك“، قال: أي ثابت، ما فعل الذي كأن وجهه مرآة صينية تتراءى فيه عذارى الحي؛ كعب بن أسد؟ قال: قتل، قال: فما فعل سيد الحاضر والبادي حيي بن أخطب؟ قال: قتل.
قال: فما فعل مقدمتنا إذا شددنا، وحاميتنا إذا فررنا، عَزَّال بن سموأل؟ قال: قتل: قال: فما فعل المجلسان؟ يعني بني كعب بن قريظة، وبني عمرو بن قريظة، قال: ذهبوا، قتلوا، قال: فإني أسألك يا ثابت بيدي عندك إلا ألحقتني بالقوم، فوالله ما في العيش بعد هؤلاء من خير. فما أنا بصابر للّٰه قبَْلةَ دَلْوٍ ناضح حتى ألقى الأحبة، فقدمه ثابت فضرب عنقه.
فلما بلغ أبا بكر الصديق قوله: ألقى الأحبة، قال: يلقاهم واللّٰه في نار جهنم خالدًا مخلدًا.
وذكر أبو عبيد هذا الخبر، وفيه: فقال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم: “لك أهله وماله إن أسلم“.

تطبيق القتل على البالغين

عن عطية القرظي، قال: كان رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم قد أمر أن يقُتل من بني قريظة كل من أنبت ، وكنت غلامًا، فوجدوني لم أنبت فخلوا سبيلي، وسألت أم المنذر سلمى بنت قيس – أخت سَليط رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم، وكانت إحدى خالاته: رفاعة بن سموأل القرظي، وكان قد بلغ. قالت: فإنه زعم أنه سيصلي ويأكل لحم الجمل فوهبه لها، ثم خُمِّسَت غنائمهم، وقسمت، للفارس ثلاثة أسهم: سهم له، وسهمان لفرسه، وللراجل سهم، وهو أول فيء وقعت فيه السُّهمان وخُمِّس، وكانت الخيل ستة وثلاثين فرسًا.
ثم بعث رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم سعد بن زيد الأنصاري ، أخا بني عبد الأشهل بسبايا من بني قريظة إلى بلاد نجد، فابتاع لهم بهم خيلاً وسلاحًا، وكان رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم قد اصطفى لنفسه منهم ريحانة بنت عمرو بن خُناَفة، إحدى نساء بني عمرو بن قريظة، فكانت عند رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم حتى توفي عنها. وسيأتي ذكرها في موضعه من هذا الكتاب إن شاء اللّٰه تعالى.
وأنزل اللّٰه عز وجل في أمر الخندق وبني قريظة من القرآن القصة في سورة الأحزاب {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً}  [الأحزاب: 9] والجنود: قريش وغطفان وبنو قريظة، وكانت الجنود التي أرسل اللّٰه عليهم مع الريح الملائكة، يقول اللّٰه تعالى: {إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ} [الأحزاب: 10]: بنو قريظة {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ} [الأحزاب: 10]: قريش وغطفان إلى قوله: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب: 27]: يعني خيبر، {وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً}[الأحزاب: 27].

موت سعد بن معاذ شهيدًا

فلما انقضى شأن بني قريظة انفجر لسعد بن معاذ جُرْحُه، فمات منه شهيدًا، وأتى جبريلُ النبيَّ صلى اللّٰه عليه وسلم من الليل معتجرًا بعمامة من إستبرق، فقال: يا محمد، من هذا الذي فتحت له أبواب السماء، واهتز له العرش؟ قال: فقام رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم سريعًا يجر ثوبه إلى سعد بن معاذ، فوجده قد مات.

حمل الملائكة نعش سعد

ولما حمل على نعشه وجدوا له خفة، فقال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم: “إن له حملة غيركم“، وقال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم فيما ذكر ابن عائذ: “لقد نزل سبعون ألف ملك شهدوا سعدًا، ما وطئوا الأرض إلا يومهم هذا“. وقال ابن سعد: مرت عليه عَنَزٌ وهو مضطجع، فأصابت الجرُْحَ بظِلْفِها، فما رقأ حتى مات، وبعث صاحب دومة الجندل إلى رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم ببغلة وجَُبّةٍ من سندس، فجعل أصحاب رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم يعجبون من حسن الجبة، قال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم: “لمنَاديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن“. يعني من هذا.

من مات من الصحابة

واستشهد يوم بني قريظة خلاد بن سويد الحارثي الذي طرحت المرأة عليه الرَّحا، وقد تقدم خبر قتلها، وزاد ابن عائذ ومنذر بن محمد أخو بني جحجبا. ومات أبو سنان بن محصن الأسدي ورسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم محاصرُ بني قريظة، فدفن في مقبرة بني قريظة.

بشارة للمسلمين

ولما انصرف أهل الخندق عن الخندق، قال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم: “لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا، ولكنكم تغزونهم“. فكان كذلك.

مسجد بني قريظة الذي صلى فيه النبي صلى اللّٰه عليه وآله وسلم
مسجد بني قريظة الذي صلى فيه النبي صلى اللّٰه عليه وآله وسلم
موضع مسجد بني قريظة والذي تم هدمه
موضع مسجد بني قريظة والذي تم هدمه