(اجْتِمَاعُهُ بِنَفَرِ مِنْ قُرَيْشٍ لِيَبِيتُوا ضِدَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاتِّفَاقُ قُرَيْشٍ أَنْ يَصِفُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّاحِرِ، وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ)

ثُمَّ إنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ اجْتَمَعَ إلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ،…

وَكَانَ ذَا سِنٍّ فِيهِمْ، وَقَدْ حَضَرَ الْمَوْسِمَ فَقَالَ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنَّهُ قَدْ حَضَرَ هَذَا الْمَوْسِمُ، وَإِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ سَتَقْدَمُ عَلَيْكُمْ فِيهِ، وَقَدْ سَمِعُوا بِأَمْرِ صَاحِبِكُمْ هَذَا، فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا وَاحِدًا، وَلَا تَخْتَلِفُوا فَيُكَذِّبَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَيَرُدَّ قَوْلُكُمْ بَعْضُهُ بَعْضًا، قَالُوا:
فَأَنْتَ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ، فَقُلْ وَأَقِمْ لَنَا رَأْيًا نَقُولُ بِهِ، قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ فَقُولُوا أَسْمَعْ، قَالُوا: نَقُولُ كَاهِنٌ، قَالَ: لَا وَاَللَّهِ مَا هُوَ بِكَاهِنِ، لَقَدْ رَأَيْنَا الْكُهَّانَ فَمَا هُوَ بِزَمْزَمَةِ  الْكَاهِنِ وَلَا سَجْعِهِ، قَالُوا: فَنَقُولُ: مَجْنُونٌ، قَالَ: مَا هُوَ بِمَجْنُونِ.
لَقَدْ رَأَيْنَا الْجُنُونَ وَعَرَفْنَاهُ، فَمَا هُوَ بِخَنْقِهِ، وَلَا تَخَالُجِهِ، وَلَا وَسْوَسَتِهِ، قَالُوا:
فَنَقُولُ: شَاعِرٌ، قَالَ: مَا هُوَ بِشَاعِرِ، لَقَدْ عَرَفْنَا الشِّعْرَ كُلَّهُ رَجَزَهُ وَهَزَجَهُ وَقَرِيضَهُ وَمَقْبُوضَهُ وَمَبْسُوطَهُ، فَمَا هُوَ بِالشِّعْرِ، قَالُوا: فَنَقُولُ: سَاحِرٌ، قَالَ:
مَا هُوَ بِسَاحِرِ، لَقَدْ رَأَيْنَا السُّحَّارَ وَسِحْرَهُمْ، فَمَا هُوَ بِنَفْثِهِمْ وَلَا عَقْدِهِمْ  ، قَالُوا: فَمَا نَقُولُ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ؟ قَالَ: وَاَللَّهِ إنَّ لِقَوْلِهِ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ أَصْلَهُ لَعَذِقٌ، وَإِنَّ فَرْعَهُ لَجُنَاةٌ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ لَغَدِقٌ – وَمَا أَنْتُمْ بِقَائِلِينَ مِنْ هَذَا شَيْئًا إلَّا عُرِفَ أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَإِنَّ أَقْرَبَ الْقَوْلِ فِيهِ لَأَنْ تَقُولُوا سَاحِرٌ، جَاءَ بِقَوْلٍ هُوَ سِحْرٌ يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَأَبِيهِ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَأَخِيهِ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجَتِهِ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَعَشِيرَتِهِ. فَتُفَرِّقُوا عَنْهُ بِذَلِكَ، فَجَعَلُوا يَجْلِسُونَ بِسُبُلِ النَّاسِ حِينَ قَدِمُوا الْمَوْسِمَ، لَا يَمُرُّ بِهِمْ أَحَدٌ إلَّا حَذَّرُوهُ إيَّاهُ، وَذَكَرُوا لَهُمْ أَمْرَهُ.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَفِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: {ذَرْنِي وَمن خَلَقْتُ وَحِيداً، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً} [المدثر: 11-16]: أَيْ خَصِيمًا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: عَنِيدٌ: مُعَانِدٌ مُخَالِفٌ. قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ:
وَنَحْنُ ضَرَّابُونَ رَأْسَ  الْعُنَّدِ 
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ.
{سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً، إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} [المدثر: 17-22].
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: بَسَرَ: كَرَّهَ وَجْهَهُ. قَالَ الْعَجَّاجُ:
مُضَبَّرُ اللَّحْيَيْنِ بَسْرًا مِنْهَسَا
يَصِفُ كَرَاهِيَةَ وَجْهِهِ. وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ:
{ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر : 23-25].