28 رمضان 5 هـ
23 شباط 627 م
يوميّات غزوة الأحزاب: اليوم السادس

وفد خُزاعة يتوجه لتحذير النّبي صلى الله عليه وآله وسلم من غزو الأحزاب

وفي ليلته أمسى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة المنوّرة وقد جاءه وفد قبيلة خُزاعة بمؤامرة قُريش ويهود بني النّضير مع مُنافقي المدينة وتجميعهم أحزاب العرب لغزو المدينة، فعقد النّبي صلى الله عليه وآله وسلم مجلس الحرب الاستشاري لتحديد كيفيّة التعامل مع هذا الخطر المُحدق بالمدينة وكيفيّة التصدي له.

وبدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم أخبرهم بما عرفه من مؤامرة الأحزاب لغزو المدينة المنوّرة، وشدّ من عزيمتهم ووعدهم النصر إن هم صبروا عند لقاء العدو، وأمرهم بطاعة الله ورسوله.

ثم شاورهم في كيفيّة التصدّي لهذا الهجوم، فقال: «أنخرج لهم من المدينة، أم نكون فيها وندافع عنها؟»، فتذكر المسلمون مخالفتهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أُحُد وكان يُحب أن يبقى المسلمون في المدينة فكانت الهزيمة لعدم الامتثال لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابتداءً وأثناء المعركة بمعصية الرُّماة للأوامر العسكريّة النبويّة، وتشاوروا: فقال بعضهم نكون عند ثنية الوداع، فهذا المدخل الواسع للجيوش ولا يدخلها جيش إلا من هناك فالمدينة محمية شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا إما بالحجارة البُركانيّة أو بتشابك النخل والمزارع على أطرافها والبيوت على جنباتها، ولا سبيل لهذا الجيش الضخم أن يدخلها إلا من جهة الشام، وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه: “يا رسول الله إنّا كنّا بأرض فارس إذا تخوّفنا الخيل خندقنا علينا، فهل لك يا رسول الله أن نُخندِق؟”، فاستحسن النّبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الحيلة العسكري الجديدة والتي لا معرفة للعرب بها.

ثم ركب صلى الله عليه وآله وسلَّم فرسه ومعه المجموعة الاستشاريّة من المهاجرين والأنصار، وتفقَّد مدخل المدينة الشمالي وإمكانيّة حفر الخندق وتحديد مكانه، وبعد عدّة مشاورات قرّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يجعل #~~~جبل سَلْع~~~# خلف ظهر المُسلمين، ثم يُحفر الخندق بداية من #~~~أُطُم الشّيخين~~~# شمال المدينة من جهة #~~~أُحُد~~~#  في الشمال الغربي حتى شمال جبل #~~~ذباب~~~# قليلًا، ثم من شَمَال جبل سَلْع صانعًا حتى #~~~أُطُم المذاد~~~# جنوبًا [^1]، ثم استكمال خندقة الأماكن المفتوحة الشرقيّة القريبة من أُطُم الشّيخين قُرب منازل قبيلة بني عبد الأشهل وبني حارثة، وكذلك استكمال خندقة الأماكن المفتوحة الغربيّة القريبة من أُطُم المذاد عند منازل قبيلة بني حرام.

غزوة الأحزاب (حفر الخندق – اليوم الأوّل)
ثم أمر صلى الله عليه وآله وسلَّم باستنفار جميع الرجال للعمل في الخندق، وكانوا حوالي 3000، وينُصّ دستور المدينة على مُشاركة كافّة طوائف المدينة المنوّرة في الدفاع الحربي عنها باعتبار المواطنة كل من جهته، وكان السبب الرئيس في تجميع الأحزاب هو يهود بني النّضير المطرودين من المدينة، وتصرّف يهود بنو قُريظة بمقتضيات المواطنة وكان عندهم سلاح وآلات، فأعاروها المُسلمين للدفاع عن المدينة المنوَّرة ضدّ الأحزاب، فاستعار منهم المسلمين أدوات حفر الخندق.

ورسم النّبي صلى الله عليه وآله وسلَّم مسار الخندق، والرَّاجح أنّ مساره كان مقوَّسًا يمتد من أُطُم الشيخين شمال المدينة المنوَّرة فينزل جنوبًا بميل نحو الغرب حتى يمُرّ من أمام ذُباب وهو الموضع الذي فيه قُبّة النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم ليدير منها الدّفاع والحراسة، ثم يدور أمام جبل سَلْع من جهة الشَّمَال حتى الغرب فيمُر من أمام مسجد الفتح حتى يصل إلى أُطُم المذاد غربًا، وهذا هو الجزء الأساسي في الخندق وبلغ طوله على التقدير حوالي 2.7 كم تقريبًا، بالإضافة للأقواس الفرعيّة من جهة الشرق والغرب وبلغ طول كل منها حوالي 1.4 كم تقريبًا.

وقَسَّم المسلمين إلى مجموعات عمل، كل مجموعة مكوّنة من عشرة أفراد؛ مسئولين عن حفر وتعميق وترميم الجزء الخاصّ بهم من الخندق طوال فترة الحرب والدفاع عنه وحراسته، واختصّت كل مجموعة بحفر جُزء من 40 ذراعًا -18.5 مترًا طوليًا تقريبًا- بعرض 5 أذرع -2.3 متر تقريبًا-، وعُمق 5 أذرع أُخرى.وبذلك تكون كل مجموعة عمل مسئولة عن حفر وإزاحة 98 متر مكعب تقريبًا من التراب والصخور، ويكون متوسّط مسئوليّة كل فرد في المجموعة حفر حوالي 10 متر مكعب أو 1000 لتر تقريبًا.

والخُطّة أن تقوم كل مجموعة بالحفر وتجميع التراب والحجارة الناتجة من الحفر في الناحية الداخليّة للخندق كساتر مُرتَفِع يجعل محاولة قفز العدو بالخيول من جانبه المُقابل مستحيلًا -وإلا وقع في الخندق-،  ويقوموا أيضًا بجمع الحجارة من عند جبل سَلْع لاستخدامها في الدفاع من فوق ووراء ساتر الرّدم والخندق بالقذف بالنّبال.

واستعار المسلمون المجارف والفؤوس والزنابيل لأغراض الحفر من بني قُريظة، فكانوا يحفرون ويحملون التراب في الزنابيل-الزّنبيل سعة 30 لترًا تقريبًا [^2]- فوق رؤوسهم يفرّغونه على جانب الخندق، حيث سيعمل كل فرد حوالي حوالي 10-12 ساعة في الخندق يوميًا للانتهاء منه بأقصى سُرعة قبل وصول جيش العدو.

والظاهر من الروايات أنّ كل جُزء من الثلاثمائة جُزء التي قسّمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الخندق كان مسئوليّة تشاركيّة بين المجموعة لا فردًا بعينه باعتباره مسئولًا عن المجموعة ككُل، وهو نموذج جديد مختلف في إدارة المهام عن نموذج المدير والمرؤوسين.

وخرج إلى النّبي جميع الرجال والصبيان في المدينة يشاركون في الخندق، فاستعرض الصبيان ليرى أهليّتهم للمشاركة في الحرب، فمن تجاوز الخامسة عشرة من عُمره صرَّح له بالاشتراك في الحرب، ومن لم يتجاوز صرّح له بالمُشاركة في عمل الخندق فقط والعودة للحصون مع النّساء بعد الانتهاء منّه، وكان ممن صرّح لهم المُشاركة في الحرب وقد بلغوا الخامسة عشرة من عمرهم أو أكثر: عبد الله بن عُمر بن الخطاب، وزيد بن ثابت، والبراء بن عازب رضي الله عنهم.

وأمر النّبي صلى الله عليه وآله وسلَّم بنصب خيمة القيادة فوق جبل ذُباب يشرف منها على العمل في الخندق، وبدأت كل مجموعة بالحفر في الجزء المرسوم والمحدد لها في تناغم وعزم برغم الظروف البيئيّة القاسية من شدّة وعورة الأرض -كونها أرض صخور بُركانيّة بالأساس- وصعوبة الحفر فيها، وانخفاض درجة حرارة الجو جدًا -كون الزمان شتاء- وقلّة الموارد والغذاء، ولمّا دخل اللّيل عادوا للمدينة للاستراحة واستكمال العمل في الصباح.

 

[^1]: مسار الخندق محل جدل علمي بين المؤرخين سواء المتقدمين أو المُعاصرين، وهذا ما ترجّح لدينا لتفاصيل ذكرناها بالمُلحق.

[^2]: التقدير على أنّ الزنبيل أو المكتل سعته حوالي 15 صاع، والصّاع حوالي 30 كجم من المياه، وهي بالأحجام 30 لترًا، انظر الموازين والمكاييل الشرعية أ.د علي جمعة.