17 رمضان 8 هـ
11 كانون الثاني 630 م
يوميات فتح مكة: اليوم الحادي عشر

وفي ليلته أمسى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه عند #~~~مر الظهران~~~# في غزوة فتح مكَّة، وأمرهم النبي صلى الله …

عليه وآله وسلم أن يوقدوا النيران، فأوقدوا عشرة آلاف نار، واتفقت قُريش أن تُرسل أبا سفيان بن حرب يتحسس الأخبار، وقالوا: إن لقيت محمدًا فخذ لنا منه جوارًا إلا أن ترى رقة من أصحابه فآذنه بالحرب، فخرج أبو سفيان وحكيم بن حزام، فقابلا بُديل بن ورقاء الخُزاعي وخرجوا جميعًا حتى وصلوا وادي مرّ الظهران، فرأوا الخيام والعسكر والنيران وسمعوا صهيل الخيل ورغاء الإبل فأفزعهم ذلك فزعًا شديدًا، وقالوا: هؤلاء بنو كعب حاشتها الحرب، فقال بُديل: هؤلاء أكثر من بني كعب، قالوا: فتنجعت هوازن على أرضنا!، والله ما نعرف هذا إن هذا العسكر مثل حاجّ الناس!

وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد جعل عمر بن الخطاب على قيادة الحراسات، ولما نزل العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معه إلى مر الظهران قال: “واصباح قريش، والله لئن دخلها رسول الله عنوة إنه لهلاك قريش آخر الدهر”، ثم يحكي عن نفسه فيقول: “فأخذت بغلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الشهباء -البيضاء- فركبتها، وقلت ألتمس إنسانًا أبعثه إلى قُريش؛ فيلقون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يدخلها عليهم عنوة. فوالله إني لفي الأراك -نوع شجر منتشر بجزيرة العرب- أبتغي إنسانًا إذ سمعت كلامًا يقول: والله ما رأيت كالليلة من النيران. فإذا أبا سُفيان، فقلتُ-العباس-: أبا حنظلة؟!، فقال: يا لبيك أبا الفضل! -وعرف صوتي-، مالك، فداك أبي وأمي؟، فقلت: ويلك، هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عشرة آلاف. فقال: بأبي وأمي ما تأمرني، هل من حيلة؟، قلتُ: نعم تركب عجز هذه البغلة فأذهب بك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنه والله إن ظُفِرَ بك دون رسول الله لتُقتَلَنّ!، قال أبو سفيان: وأنا والله أرى ذلك، فرجع بُديل وحكيم بن حزام إلى مكة، وركب أبا سفيان خلفي، ثم وجهت به كلما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا: من هذا؟ فإذا رأوني قالوا: عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بغلته، حتى مررت بنار عندها عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلما رآني قام فقال: من هذا؟، فقلت: العباس. فذهب عُمر ينظر فرأى أبا سفيان خلفي، فقال: أبو سفيان عدو الله، الحمد لله الذي أمكن منك بلا عهد ولا عقد!، ثم أسرع عمر نحو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وركضت البغلة حتى اجتمعنا جميعًا على باب خيمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فدخلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودخل عمر ورائي، فقال عمر: يا رسول الله، هذا أبو سفيان عدو الله قد أمكن الله منه بلا عهد ولا عقد، فدعني أضرب عنقه، قُلت-العباس-:يا رسول الله إني قد أجرته، ثم التزمت رسول الله وقُلت-العباس-: والله لا يُكلمه الليلة أحد غيري، فلمّا أكثر عُمر من الكلام على قتل أبي سفيان أمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قُلت: مهلًا يا عُمر، فإنه لو كان رجل من بني عدي بن كعب ما قلت هذا، ولكنه أحد بني عبد مناف، فقال عمر، مهلا يا أبا الفضل، فوالله لإسلامك كان أحب إلي من إسلام رجل من آل الخطاب لو أسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لي: «اذهب به فقد أجرته لك، فبيته عندك حتى تغدو به علينا إذا أصبحت».

وأقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه في وادي مر الظهران هذه الليل، فلمّا كان الفجر، صلّوا الفجر، وأتى العبّاس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأبي سفيان صخر بن حرب، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ويحك يا أبا سُفيان ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟»، قال أبو سفيان: “بأبي أنت ما أحلمك وأكرمك وأعظم عفوك، قد كان يقع في نفسي أنه لو كان مع الله إله لقد أغنى عني شيئًا بعد، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟»، قال: “بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأعظم عفوك، أما هذه فوالله إن في النفس منها شيئًا بعد”. فقال العباس: “ويحك!، اشهد أن لا إله إلا الله، واشهد أن محمدًا عبده ورسوله قبل والله أن تُقتل”، قال أبو سفيان: “أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن مُحمدًا عبده ورسوله”، فقال العباس:”يا رسول الله إنك عرفت أبا سفيان وحُبه الشرف والفخر، اجعل له شيئًا، قال صلى الله عليه وآله وسلم:«نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق داره فهو آمن»، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للعباس بعدما خرج أبو سفيان: «احبسه بمضيق الوادي إلى خطم الجبل -مُقَدِّمَته- تمر به جنود الله فيراها»، فأخذ العبّاس أبا سفيان فوقف به عند مضيق الوادي إلى مُقَدِّمَة الجَبَل حتى تمر به جنود الله فيراها، فلمّا أمسكه العباس في ذلك الموضع قال له أبا سفيان: “غدرًا بني هاشم؟” فقال العباس: “إن أهل النبوّة لا يغدرون، ولكن لي إليك حاجة”، فقال أبو سفيان: “فهلا بدأت بها أوّلا!”، قال العباس: “إن لي إليك حاجة فاهدأ ولا تعجل علي، لم أكن أراك تذهب هذا المذهب!”، وعبأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكتائب ووقف وسطها، وكان حسان بن ثابت قد قال شعرًا يهجو المشركين قبل فتح مَكَّة انتشر بين الصحابة لما فيه من كلام حسّان على فتح مَكَّة -ولم يكن له به علم، وإنما الضرورة الشعريَّة-، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لرجل من الأنصار بجواره: «كيف قال حسَّان بن ثابت؟»، قال:

عَدِمنا خيلنا إن لم تَرَوْها تُثير النَّقع من كَتِفَي كَدَاء

فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «ادخلوها من حيث قال حسَّان!» -يعني من عند كَدَاء، وهي في الشمال الغربي لمَكَّة-، فمرّت الكتائب وعليها قادتها ومعهم الرايات، فكانت أوّل كتيبة مرّت هي بني سُليم يقودهم خالد بن الوليد وهم ألف مُقاتل، فيهم لواءان، لواء يحمله عبّاس بن مرداس السُّلَمي، ولواء يحمله خُفاف بن نُدبة، ويحمل الراية الحجّاج بن عِلاط.

قال أبو سفيان: “من هؤلاء؟”، قال العباس: “بنو سُليم”، فلمّا حاذى خالد بن الوليد العبّاس، وإلى جنبه أبو سفيان كبَّر ثلاثًا، ثم مضوا، فقال أبو سفيان: “من هذا؟”، قال العباس: “خالد بن الوليد”، قال أبو سفيان: “الغلام؟”، قال العباس: “نعم”.

ثم مرّ وراءه مباشرة الزبير بن العوام في خمسمائة منهم مهاجرون ومجموعات من قبائل مختلفة، ومع الزبير راية سوداء، فلما حاذى أبا سفيان كبر ثلاثًا وكبر أصحابه، فقال أبو سفيان: “من هذا؟”، قال العباس: “الزبير بن العوام”، قال: “ابن أختك؟”، قال “نعم”.

ثم مرّت قبيلة بنو غِفار في ثلاثمائة، يحمل رايتهم أبو ذر الغفاري -وقيل إيماء بن رحضة-، فلمّا حاذوه كبّروا ثلاثًا. قال: يا أبا الفضل، من هؤلاء؟، قال: بنو غفار. قال: مالي ولبني غفار!

ثم مرت قبيلة أسلم في أربعمائة، فيهم لواءان يحمل أحدهما بُريدة بن الحُصيب والآخر ناجية بن الأعجم فلمّا حاذوه كبّروا ثلاثًا. قال: “من هؤلاء؟”، قال: “أسلَم”، قال: “يا أبا الفضل، مالي ولأسلم! ما كان بيننا وبينها مرَّة قط”، قال العبّاس: “هم قوم مسلمون دخلوا في الإسلام”.

ثم مرَّت بنو عمرو بن كعب في خمسمائة، يحمل رايتهم بُسر بن سفيان. قال: “من هؤلاء؟”، قال: “بنو كعب بن عمرو”. قال: “نعم، هؤلاء حُلفاء مُحمد!”، فلمّا حاذوه كبّروا ثلاثًا.

ثم مرّت قبيلة مُزينة في ألف، فيها ثلاثة ألوية فيها مائة فَرَس، يحمل ألويتها النُّعمان بن مُقرِّن، وبلال بن الحارث، وعبد الله بن عمرو، فلمّا حاذوه كبّروا، فقال: “من هؤلاء؟”، قال: “مُزَيْنة”، قال: “يا أبا الفضل، مالي ولمُزينة! قد جاءتني تُقَعقِع من شواهقها! [^1]”.

ثم مرّت جُهينة في ثمانمائة مع قادتها فيها أربعة ألوية، لواء مع أبي روعة بن معبد بن خالد، ولواء مع سويد بن صخر، ولواء مع رافع بن مكيث، ولواء مع عبد الله بن بدر، فلمّا حاذوه كبّروا ثلاثًا.

ثم مرّت كِنانة، بنو ليث، وضَمْرَة، وسعد بن بكر في مائتين، يحمل لواءهم أبو واقد اللَّيثي، فلمّا حاذوه كبّروا ثلاثًا، فقال: “من هؤلاء؟”، قال: “بنو بكر”، قال: “نعم، أهل شؤم والله!، الذين غزانا محمد بسببهم، والله ما شُووِرتُ فيه ولا علمته، ولقد كنت له كارهًا حيث بلغني، ولكنه أمر حُمَّ -قُدِّر-”، قال العباس: “قد خار الله لك في غزو محمد صلى الله عليه وسلم، ودخلتم في الإسلام كافّة”.

ثم مرّت بنو لَيث وحدها، وهم مائتان وخمسون، يحمل لواءها الصَّعب بن جثَّامة، فلمّا مرّ كبروا ثلاثًا، فقال: “من هؤلاء؟”، قال: “بنو ليث”.

ثم مرّت قبيلة أشجع وهم آخر من مرّ وكانوا ثلاثمائة، معهم لواءان، لواء يحمله معقل بن سنان، ولواء مع نُعيم بن مسعود. فقال أبو سفيان: “هؤلاء كانوا أشد العرب على محمد”، فقال العبّاس: “أدخل الله الإسلام في قلوبهم، فهذا من فضل الله عز وجل!”، فسكت أبو سفيان ثم قال: “ما مضى بعدُ محمد!؟”، قال العباس: “لم يمض بعد، لو رأيت الكتيبة التي فيها محمد صلى الله عليه وآله وسلم رأيت الحديد والخيل والرجال، وما ليس لأحد به طاقة”، قال: “أظن والله يا أبا الفضل؛ ومن له بهؤلاء طاقة؟”، فلمّا طلعت كتيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخضراء طلع سواد وغبرة من سنابك الخيل، وجعل الناس يمرون، كل ذلك يقول: “ما مرّ محمد!”، فيقول العباس: “لا”. حتى مرّ يسير على ناقته القصواء بين أبي بكر وأُسيد بن حُضَيْر وهو يحدّثهما صلى الله عليه وآله وسلم، فقال العباس: هذا رسول الله في كتيبته الخضراء فيها المُهاجرون والأنصار، فيها الرايات والألوية، مع كل بطن -عائلة- من الأنصار راية ولواء، في الحديد -لبس الحرب- لا يُرى منهم إلا الحَدَق -عيونهم-، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه فيها وقد علا صوته  -وعليه الخوذة الحديدية-، فقال أبو سفيان: “يا أبا الفضل، من هذا المُتكلِّم؟”، قال: “عمر بن الخطاب”، قال: “لقد أمِرَ أمْرُ بني عدِيّ بعد، والله قِلَّة وذِلَّة!”، فقال العبّاس: “إن الله يرفع من يشاء بما يشاء، وإن عمر ممن رفعه الإسلام”، وكان في الكتيبة ألف دارع -مُقاتل له دِرع-، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رايته سعد بن عُبادة وهو أمام الكتيبة، فلمّا مرّ سعد براية النبي صلى الله عليه وآله وسلم نادى: “يا أبا سُفيان! اليوم يوم المَلْحَمَة! اليوم تُستَحل الحُرمة! اليوم أذلّ الله قُريشًا!”

فأقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى حاذى أبا سُفيان ناداه: “يا رسول الله، أمرت بقتل قومك؟ زعم سعد ومن معه حين مر بنا قال: يا أبا سفيان، اليوم يوم الملحمة! اليوم تستحل الحرمة! اليوم أذل الله قريشًا، وإني أنشدك الله في قومك، فأنت أبر الناس، وأرحم الناس، وأوصل الناس”، وقال أبو سُفيان للعبّاس: “ما رأيت مثل هذه الكتيبة قطّ، ولا خبرنيه مخبِّر! سبحان الله، ما لأحد بهذه طاقة ولا يدان!، لقد أصبح مُلك بن أخيك اليوم عظيمًا!”، قال العبّاس: “ويحك يا أبا سُفيان، ليس بمُلك، ولكنّها نُبوَّة”، قال:”نعم!”، قال العباس: “فانج، ويحك فأدرك قومك قبل أن يدخل عليهم”، فخرج أبو سفيان فتقدّم الناس كلهم حتى دخل مكَّة من #~~~كَدَاء~~~# وهو يقول: “من أغلق بابه فهو آمن!”، حتى وصل عند امرأته هند بنت عُتبة، فأمسكت برأسه وقالت: “ما وراءك؟”، قال: “هذا محمد في عشرة آلاف عليه الحديد، وقد جعل لي: من دخل داري فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن طرح السلاح فهو آمن”، قالت: “قبحك الله رسول قوم!”، وجعل أبو سفيان يصرخ بمكة: “يا معشر قريش، ويحكم! إنه قد جاء ما لا قبل لكم به! هذا محمد في عشرة آلاف عليهم الحديد، فأسلِموا!”، قالوا: “قبحك الله وافد قوم!”، وجعلت زوجته هند تقول: “اقتلوا وافدكم هذا، قبحك الله وافد قوم”، قال: “ويلكم، لا تغرنكم هذه من أنفسكم! رأيت ما لم تروا! رأيت الرجال والكُراع-الخيل- والسلاح، فلا لأحد بهذا طاقة!”.

وسار النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعه كتائب المسلمين من مر الظهران بعد صلاة الصبح، حوالي 10 كم في ساعتين تقريبًا حتى وصلوا #~~~سَرِف~~~# ثم أكمل هو صلى الله عليه وآله وسلم والكتيبة التي معه حوالي 15 كم في ثلاث ساعات تقريبًا، حتى وصلوا عند #~~~ثنيَّة أذاخر~~~# وهي أعلى نقطة شمالًا في النقاط التي حددها النبي صلى الله عليه وآله وسلم للكتائب لدخول مكَّة.

وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قسّم الكتائب ثلاثة في دخول مَكَّة، كتيبة دخلت معه من أذاخر، وكتيبة سعد بن عُبادة أمره أن يدخل من كَدَاء، وكتيبة خالد بن الوليد أمره أن يدخل من #~~~اللِّيِط~~~#، وكتيبة الزبير بن العوام وأمره أن يدخل من الجنوب الشرقي من #~~~كُدَيّ~~~#، ونهى الكتائب الثلاثة عن القتال، فلمّا وصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند ثنيَّة أذاخر رآى لمعان السُّيُوف من بعيد، فقال: «ما هذا؟، ألم أنه عن القتال؟»، ولمّا نظر صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيوت مكَّة حَمِدَ الله وأثنى عليه، وأشار إلى مكان نزوله بمكَّة من بعيد في #~~~الحُجُون~~~# وقال لجابر بن عبد الله: “هذا منزلنا يا جابر حيث تقاسمت علينا قريش في كفرها”، وتذكَّر جابر ما كان أخبره به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم في المدينة قبل فتح مكَّة بزمان مُحدّثا إياه عن المُستقبل، حيث قال له: “منزلنا غدًا إن شاء الله إن فتح الله علينا مكة في الخيف حيث تقاسموا على الكفر”، وهذا من دلائل نبوّته صلى الله عليه وآله وسلم.

ولمّا دخل خالد بن الوليد من اللِّيط وكان قد قدَّمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخلفه سعد بن عُبادة، فوجد خالد جماعة من قُريش وأحابيشها، فيهم صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، فمنعوه الدخول، فكلَّمهم خالد وأخبرهم أنَّه لا يريد قتالهم وأمنهم على أن يُلقوا أسلحتهم، فشهروا في وجهه السلاح، ورموه بالنَّبل، وقالوا: “لا تدخلها عنوة أبدًا!”، فصاح خالد بن الوليد في أصحابه وقاتلهم دفاعًا، فقتل منه أربعة وعشرين رجلًا من قُريش وأربعة من هُذيل، وانهزموا هزيمة نكراء وقاتلهم عند #~~~الحزورة~~~#، ففرّ منهم من فرّ في كل اتجاه، وانطلق بعضهم ليتحصن فوق رؤوس الجبال فتبعهم المسلمون، فأخذ أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام يصيحان فيهم: “يا معشر قريش، علام تقتلون أنفسكم؟؟، من دخل داره فهو آمن ومن وضع السلاح فهو آمن!”، فتقافز الناس يقتحمون الدور ويغلقون عليهم ويطرحون السلاح في الطُّرُقات فأخذه المسلمون.

وكان فيمن قاتل خالدًا، سُهيل ابن عمرو، وكان ابناه مُسلمان، عبد الله بن سُهيل بن عمرو، وأبو جندل بن سُهيل بن عمرو، فاقتحم سُهيل بيته بعد أن رأى لا جدوى من القتال وأرسل إلى ابنه عبد الله بن سُهيل وكان في جيش المُسلمين، يطلب منه أن يؤمنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فذهب عبد الله إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأخبره بخبر أبيه وطلبه الأمان، فقال: “يا رسول الله تؤمّنه؟”، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «نعم، هو آمن بأمان الله فليظهر!»، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم لمن حوله من المسلمين: «من لقي سُهيل بن عمرو فلا يشد النظر إليه، فليخرج؛ فلعمري إن سهيلًا له عقل وشرف، وما مثل سُهيل جهل الإسلام، ولقد رأى ما كان يوضع فيه أنه لم يكن له بنافع!»

فخرج عبد الله بن سهيل إلى أبيه فأخبره بمقالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويحكي سُهيل بن عمرو عن نفسه فيقول: “وجعلت أتذكر أثري عند مُحمَّد وأصحابه، فليس أحد أسوأ أثرًا مني، ولقد لقيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحُديبية بما لم يلقه أحد، وكنت كاتبته، مع حضوري بدرًا وأحُدًا، وكلما تحركت قريش كنت فيها”، ولمّا أبلغه ابنه بمقالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال سُهيل: “كان والله برًّا؛ صغيرًا وكبيرًا!”، فكان سُهيل يُقدِّم رِجلًا ويؤخِّر الأخرى، وهو على الشِّرك لم يُسلم بعد.

وجاء عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان رضي الله عنهما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالا: “يا رسول الله، ما نأمن سعدًا أن يكون منه في قريش صولة” -وهذا لما سمعوا مقالة سعد بن عُبادة أو أبلغهم بها أبو سفيان بن حرب-، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «كذب سعد -يعني أخطأ-، اليوم يوم المرحمة! اليوم أعز الله فيه قُريشًا!»، وأرسل صلى الله عليه وآله وسلم إلى سعد فعزله، وجعل اللواء إلى قيس بن سعد، ورأى صلى الله عليه وآله وسلم أن اللواء لم يخرج من سعد حين صار لابنه، فرفض سعد أن يُسلِّم اللواء إلا بأمارة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعمامته، فعرفها سعد، فأعطى اللواء إلى ابنه قيس، ومضى سعد بكتيبته سائرين حوالي 15 كم في ثلاث ساعات تقريبًا حتى وصلوا كَدَاء.

ثم أكمل صلى الله عليه وآله وسلم المسير حوالي 2 كم في ثلث الساعة تقريبًا حتى وصل كَدَاء بعد وقت وصول سعد بن عُبادة لها بقليل، وأكمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه المسير حوالي 2 كم أخرى في ثلث الساعة تقريبًا حتى وصلوا #~~~ذي طوى~~~# فوافى بها كتيبة سعد بن عُبادة، وسبقهم خالد بن الوليد فوصل بكتيبته إلى اللِّيط فدخل من عندها مكَّة كما أمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهي أقصى نقطة في الجنوب الغربي، فيكون النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قد أمَّن مداخل مكَّة الغربيَّة كلها بدخوله في الكتائب تباعًا من أعلى نقطة والتي دخل منها بنفسه الشريفة وكتيبته، ثم النقطة الوسطى في كَدَاء والتي دخل منها سعدًا، ثم النقطة الأدنى والتي دخل منها خالد بن الوليد، والتقت الثلاث كتائب بذي طُوى، فلمّا وافى خالد بن الوليد، قال: «ألم أنهك عن القتال؟»، قال: “هم يا رسول الله بدأونا بالقتال، ورشقونا بالنَّبل، ووضعوا فينا السِّلاح ، وقد كففت ما استطعت، ودعوتهم إلى الإسلام، وأن يدخلوا فيما خل فيه الناس، فأبوا، حتى إذا لم أجد بُدًا قاتلتهم، فظفرنا الله عليه وهربوا في كل وجه يا رسول الله”، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «قضى الله خيرًا»، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: «يا معشر المُسلمين، كُفُّوا السِّلاح، إلا خُزاعة عن بني بكر إلى صلاة العصر، فضربوهم إلى صلاة العصر -وهي الساعة التي أُحِلَّت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم تحل لأحد قبله-»، وكان صلى الله عليه وآله وسلم أكّدَّ على أن لا يُقتل أحد من خُزاعة، ثم أمر الكتائب بالانقسام مرَّة أخرى والافتراق لتأمين طُرُقات مكَّة كلها.

وأمر صلى الله عليه وآله وسلم الزبير بن العوام بن عمّته أن يدور حول مكَّة من جهة الجنوب فيدخلها من الجنوب الشرقي من عند كُدَيّ، ودخل هو صلى الله عليه وآله وسلم وسائر الكتائب من الشمال الغربي فطوّقوها وأمّنوها خوفًا من حدوث اقتتال ومُراعاة لحُرمتها، وأكد صلى الله عليه وآله وسلم على عدم الاقتتال، وأمر بتنفيذ حكم الإعدام على عشرة: عِكرمة بن أبي جهل، وهبّار بن الأسود، وعبد الله ابن أبي سَرح، ومقيس بن صُبابة الليثي، والحويرث بن نُقيذ، وعبد الله بن هلال بن خطل، وهند بنت عتبة، وسارة مولاة عمرو بن هاشم، وفرتنا وأرنبة مُغنيتان لأبي خطل.

ولمَّا دخل الزبير بن العوّام من الجنوب الشرقي ناحية كُدَيّ ومن معه من المسلمين وصل إلى الحُجُون فغرز الراية فيها، وقُتِل من كتيبة الزبير بن العوام رجلان سارا في طريق خاطئ فقتلهما المشركين.

ووصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتجمّعت إليه الكتائب وقت الظهر تقريبًا -وقد تعامدت الشمس وبدأت بالزوال- عند ذي طُوى، ووقفت الكتائب تنظر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى تلاحقت بقيتها التي دخلت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أذاخِر وكَدَاء، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يلبس عمامة سوداء، ورايته سوداء، ولواؤه أسود في كتيبته الخضراء، حتى وقف بذي طُوى وتوسط الناس وإن طرف لحيته ليمس رحله -موضع الركوب على الناقة- أو يقرب منه، توضُعًا لله تعالى حين رأى ما رأى من فتح الله وكثرة المسلمين، ثم قال: “العيش عيش الآخرة!” [^2]، وأخذ الفُرسان يطوفون بذي طوى في كل اتجاه ثم وقفوا وسكنوا حين توسطهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وصعد أبو قُحافة بصُغرى بناته، قُرَيبة بنت أبي قُحافة، تقوده حتى طلعت به على #~~~جبل أبي قُبَيس~~~# -وقد ذهب بصره-، فلمّا وقفا عليه قال: “يا بُنَيَّة، ماذا ترين؟”، قالت: “أرى رجلًا يسعى بين ذلك السواد مُقبلًا ومدبرًا، قال: “ذلك الوازع -قائد الجيش- يا بُنيَّة، انظري ما ترين!”، قالت: “تفرّق السواد”، قال: “تفرَّقت الجيوش! البيت! البيت!”، فنزلت به، وهي مرعوبة لما ترى، فقال أبوها: “يا بنيَّة، لا تخافي! فوالله إنّ أخاك عتيقًا -اسم أبا بكر الصديق رضي الله عنه- لآثر أصحاب محمد عند محمد”، وكانت تلبس طوقًا من فضّة، فسُرِق.

ولمّا دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه أبو بكر وعرف بأمر سرقة أخته نادى في الناس ثلاث مرات: «أنشد بالله طوق أُختي!»، ثم قال: «يا أُخيَّة احتسبي طوقك، فإن الأمانة في الناس قليل!».

ثم سار صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه حوالي 600 مترًا في عشر دقائق حتى نزل بالحُجُون شرق ذي طوى، ولمّا نزل صلى الله عليه وآله وسلم وأُقيمت له خيمته، قيل له: “يا رسول الله ألا تنزل منزلك من الشِّعب؟”، قال: «وهل ترك لنا عقيل منزلًا؟!»، وكان عقيل ابن أبي طالب ابن عمّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يزل على شِركِه بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأخذ بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمَكَّة وباعه بعد هجرته صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قيل له:”يا رسول الله فانزل في بعض بيوت مكة في غير منازلك؟”، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لا أدخل البيوت»، ولم يزل صلى الله عليه وآله وسلم مُقيمًا في خيمته بالحُجُون طيلة إقامته بمَكَّة ولم يسترد أيّا من ممتلكاته القديمة، وقال: «لا يرث الكافر المؤمن ولا المؤمن الكافر»، ولم ينزل حتى عند أحد في بيته.

ولمّا دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكّة واستقرّ بالحُجُون، وكانت أم هانئ بنت أبي طالب بنت عمّه [^3] تسكن بمَكَّة وكان زوجها مشركًا قد هرب، فدخل عندها رجلان قريبا زوجها؛ هما: عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي والحارث بن هشام وهم مُشركان يخافان القتل، ودخل خلفهما علي بن أبي طالب عليه السلام يريد قتلهما وعليه لبس الحرب ولا يظهر منه إلا عيناه، فقالت أم هانئ ولم تعرفه: “أنا أم هانئ بنت عمّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم!”، فخلع علي خوذته، فقالت: “أخي ابن أمي!”، وعانقته وسلمت عليه، فنظر علي إليهما ورفع السيف في وجههما، فقالت: “أخي من بين الناس يصنع بي هذا؟!، لا تقتلهما فقد أجرتهما!” ووضعت عليهما ثوبًا، قال علي:”تجيرين المشركين؟”، قالت: “إن أردت قتلهما فابدأ بي!”، فخرج علي عليه السلام وتركها!، فقالت لهما: “لا تخافا”، وأغلقت عليهما بيتها وخرجت تريد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند الحُجُون فلم تجده ووجدت فاطمة بنته عليها السلام فحكت لها ما حدث من أخيها عليّ رضي الله عنه، فقالت فاطمة عليها السلام: “تجيرين المشركين؟”، وطلع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي معها وعليه آثار الغُبار، يلبس ثوبًا واحدًا يلتحف به -مثل البُرنُس-، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «مرحبًا بفاختة -وهو اسمها- أم هانئ!»، فحكت له ما حدث من علي وأنها أجارت قريبا زوجها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «ما كان ذاك، قد أمّنا من أمّنتِ وأجرنا من أجرتِ»، ثم أمر صلى الله عليه وسلم فاطمة أن تستره واغتسل، ثم صلّى في ثوبه ذلك صلاة الفتح ثماني ركعات [^4]، وكان ذلك بحدود الساعة الواحدة والنصف ظهرًا تقريبًا بتوقيت مَكَّة المُكرمة وهو بعد وقت الظهر بقليل [^5]. ورجعت أم هانئ إلى حمواها -قريبا زوجها- وأخبرتهما بأنهما آمنان، وقالت: “إن شئتما أقمتما عندي أو رجعتما إلى منازلكما”، فبقيا عندها يومين ثم عادا لمنازلهما.

وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أمر بإعدام مقيس بن صبابة -من مشركي مَكَّة ومجرمي الحرب-،  والسبب في أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أهدر دمَّه أن أخاه هشام بن صبابة كان قد أسلم وشهد مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم غزوة المُريسيع، فقتله رجل من عائلة عُبادة بن الصامت الأنصاري وقت الحرب بالخطأ ظنَّه مع المشركين، ولا يعرف أنَّه مع مسلم، فقدم مقيس بن صبابة هذا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدِّية على عائلة عبادة بن الصامت مقابل هذا القتل الخطأ، فأخذها مقيس بن صبابة وادّعى الإسلام، ثم ذهب فقتل قاتل أخيه، وهرب مرتدًا كافرًا يسب المسلمين بالشِّعْر، ولمّا رجع إلى مَكَّة قال له المُشركون: “ما ردّك إلينا وقد اتبعت محمدًا؟”، قال: “لم أجد دينًا خيرًا من دينكم ولا أقدم”، ثم انطلق إلى صنمي إساف ونائلة فحلق رأسه عندهما ثم أخبرهم كيف قتل قاتل أخيه، فلمّا كان اليوم، ودخل المسلمون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم مَكَّة فاتحين، كان مقيسًا جالسًا يشرب الخمر في جماعة من المشركين بمكَّة فجاء إليه نميلة بن عبد الله الليثي رضي الله عنه وعلم بمكانه، فدعاه فخرج إليه وهو ثَمِل فقتله.

ثم خرج صلى الله عليه وآله وسلم من خيمته وقد تجهَّز ولبس السلاح، فركب ناقته القصواء، وأبو بكر الصديق يسير بجواره يحدِّثه، وأمامه خيل المُسلمين قد صفَّهم وخرجوا متوجِّهين نحو الكعبة الشريفة، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنمًا كل صنم منهم قد صنعت له أساسات من الرُّصاص والمُسَلَّح في باطن الأرض حتى لا تقتلعه السيول أو يحرّكه أحد، ومرَّ صلى الله عليه وآله وسلَّم على بعض بنات المُشركين ينظرن إلى الجيش ويلطمن وجوه الخيل بخُمُرِهِنّ، فتبسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال لأبي بكر: «ماذا قال حسَّان؟»، قال أبو بكر:

عَدِمنا خيلنا إن لم تَرَوْها تُثير النَّقع من كَتِفَي كَدَاء
تظل جيادنا مُتمطِّراتٍ يُلَطِّمُهُنّ بالخُمُرِ النِّساء

فلمّا وصل صلى الله عليه وآله وسلم عند الكعبة الشريفة ورآها، وضع مِحجَنِه -عَصَاته- على الرُّكن اليماني وكبَّر، فكَبَّر المُسلمون لتكبيره، وأخذوا يعيدون التكبير حتى ارتجَّت مَكَّة، والمُشركون قد صعدوا فوق الجبال حول مَكَّة ينظرون إليهم، وقد بدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الطواف حول الكعبة وهو على ناقته القصواء، وجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشير إليهم بيده أن اسكتوا، فسكتوا، ومُحمَّد بن مسلمة آخذ بزمام القصواء، والأصنام مُرَصّصة حول الكعبة، وهُبَل أضخمها أمام باب الكعبة، وإساف ونائلة حيث كان المُشركون ينحرون الذبائح ويتمسحون بهما، فجعل صلى الله عليه وآله وسلم كُلَّما تقدَّم في الطواف وجد صنمًا أشار إليه بعصاته وهو يقول: “جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا” فيقع الصنَّم على وجهه، والمُشركون في ذهول!، هذه أصنام قد صُنعت لها الأساسات الشديدة التي تجعلها تصمد أمام أشد وأعتى الرياح والرجال، وهي مُسَلَّحة في باطن الأرض بالرُّصاص المصبوب فلا تتتع من مكانها، فما سقوطها بالإشارة إلا مُعجزة وخرق لقوانين الطبيعة، وقد رأى المُشركون ثلاثمائة وستون مُعجزة في طواف النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، بعدد الأصنام حول البيت الحرام، لذا سارعوا إلى الدخول في الإسلام واحدًا تلو الآخر!

وطاف صلى الله عليه وآله وسلم سبعًا وهو يستلم رُكن الحجر الأسود بمحجنه -عصاته- في كل طواف، فلمّا انتهى صلى الله عليه وآله وسلم من الطواف، وقف عند مقام إبراهيم وهو يومئذ مُلصق بالكعبة، وعليه الدرع والمِغفَر -دِرع الرأس يُلبس تحت العمامة أو القلنسوة- وعمامته على كتفيه، فصلَّى ركعتين، ثم ذهب إلى زمزم فرفع له العبَّاس بن عبد المُطَّلِب دلوًا فشرب منها صلى الله عليه وآله وسلم، ووقف عند هُبَل -وهو أعظم أصنام قُريش- وقد وقع على وجهه، فأمر بتكسيره وهو واقف، فقال الزُّبير بن العوّام لأبي سفيان بن حرب: “قد كُسِرَ هُبَل!، أما إنك كنت منه يوم أُحُد في غرور!، حين تزعم أنَّه قد أنعَم!”، قال أبو سُفيان: “دع هذا عنك يا ابن العوَّام، فقد أرى لو كان مع إله محمد غيره لكان غير ما كان!”

ثم جلس صلى الله عليه وآله وسلم في ناحية من المسجد الحرام وأرسل بلالًا إلى عُثمان بن طلحة يأتيه بمفتاح الكعبة، فجاء بلال إلى عثمان بن طلحة وقال: “إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمرك أن تأتي بمفتاح الكعبة”، قال عثمان: “نعم”، فخرج عثمان إلى أمّه وكان المفتاح عندها، ورجع بلال إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره أن عثمان قال نعم وأنه سيأتي بالمفتاح، ثم جلس بلالا مع الناس.

قال عثمان لأمه: “يا أمه، أعطني المفتاح فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أرسل إلي وأمرني أن آتي به إليه”، فقالت أمّه: “أعيذك بالله أن تكون الذي تذهب مأثرة قومه على يديه -يعني الذي يُضيع شرفهم أنهم حملة مفتاح الكعبة وسدنتها-“، قال عثمان: “والله لتدفعنه إلي أو ليأتينك غيري فيأخذه منك!”، فأدخلت يدها في سِروالها فيما يُشبه الجيب وقالت: “أي رجل يُدخل يده هاهنا؟”، وبينما هما يتحدثان سمعا صوت أبي بكر وعمر في الدار، وعمر رافع صوته حين رأى إبطاء عثمان: “يا عثمان، أخرج إليّ!”، فقالت أم عثمان: “يا بني، خذ المفتاح، فأن تأخذه أنت أحب إلي من أن يأخذه تيم وعديّ -تيم هي قبيلة أبي بكر، وعديّ قبيلة عمر بن الخطّاب-، فأخذ عثمان منها المفتاح وانطلق إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وجاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو جالس في المسجد الحرام فناوله المفتاح، فلمّا ناوله بسط العبّاس بن عبد المطلب يده فقال: “يا نبي الله، بأبي أنت، اجمع لنا الحجابة والسقاية”، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «أُعطيكم ما ترزؤون فيه، ولا أُعطيكم ما ترزؤون منه» -يعني أُعطيكم ما تنفقون منه وتعطون الناس، لا ما يُعطيكم الناس مُقابله، تشريفًا لمقامكم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم-.

وأعطى صلى الله عليه وآله وسلم المفتاح لعُمر بن الخطَّاب ومعه عُثمان بن طلحة وأمره أن يفتح الكعبة، فلا يدع فيه صورة إلا محاها، ولا تمثالًا، وخرج عُمر من الكعبة ومعه عثمان، فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودخل الكعبة ومعه أسامة بن زيد، فوجد عمر قد ترك صورة إبراهيم عليه السلام وقد رسموه شيخًا كبيرًا يستقسم بالأزلام، فقال: “قاتلهم الله، جعلوه شيخًا يستقسم بالأزلام!”، ثم قال: “يا عمر، ألم آمرك ألا تدع فيها صورة إلا محوتها؟”، قال عمر: “كانت صورة إبراهيم”، قال: “فامحها”، فمحاها ومعه أسامة بن زيد والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «قاتل الله قومًا يصوّرون ما لا يخلقون».

ثم خرج صلى الله عليه وآله وسلم من الكعبة فوقف على الباب ممسكًا بخشبتي إطار الباب من جانبيه، ونظر إلى الناس ومفتاح الكعبة في كُمّه، وهم حول الكعبة جلوس، فقال: «الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده! ماذا تقولون وماذا تظنّون أنّي فاعل بكم؟» قالوا: نقول خيرًا ونظن خيرًا، أخ كريم، وابن أخ كريم، وقد قدرت!، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «فإني أقول كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الرحمين»، ألا إن كل ربًا في الجاهلية، أو دم، أو مال، أو مأثرة، فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج؛ ألا وفي قتيل العصا والسوط الخطأ شبه العمد، الدِّيَة مُغَلَّظة مائة ناقة، منها أربعون في بطونها أولادها. إن الله قد أذهب نخوة الجاهلية وتكبرها بآبائها، كلكم من آدم وآدم من تُراب، وأكرمكم عند الله أتقاكم. ألا إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام بحرمة الله، لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد كائن بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من النهار -يقصّرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده هكذا- لا يُنفر صيدها ولا يُعضَد عضاها، ولا تحل لُقطتها إلا لمُنشِد، ولا يُختلى خلاها”.
فقال العبّاس وكان شيخًا مُجَرِّبًا -صاحب خِبْرَة- : “إلا الإذخر يا رسول الله، فإنه لا بُدَّ منه، إنه للقبر وطهور البيوت”، فسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم قليلًا، ثم قال: «إلا الإذخِر فإنه حلال»، ولا وصيَّة لوارث، وإنّ الولد للفراش وللعاهر الحجر، ولا يحل لامرأة تُعطي من مالها إلا بإذن زوجها، والمسلم أخو المسلم، والمسلمون إخوة، والمسلمون يد واحدة على من سواهم، تتكافأ دماؤهم، يرد عليهم أقصاهم، ويعقد عليهم أدناهم، ومشدهم على مضعفهم، وميسرتهم على قاعدهم؛ ولا يُقتل مُسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده، ولا يتوارث أهل ملتين مختلفتين، ولا جلب ولا جنب؛ ولا تؤخذ صدقات المسلمين إلا في بيوتهم وبأفنيتهم، ولا تُنكح المرأة على عمتها وخالتها، والبيّنة على من ادَّعى واليمين على من أنكر، ولا تُسافر امرأة مسيرة ثلاث إلا مع ذي محرم، ولا صلاة بعد العصر وبعد الصبح، وأنهاكم عن صيام يومين، يوم الأضحى ويوم الفطر، وعن لبستين؛ لا يحتب أحدكم في ثوب واحد يفضي بعورته إلى السماء، ولا يشتمل الصمَّاء، ولا أخالكم إلا وقد عرفتموها”.

ثم نزل صلى الله عليه وآله وسلم ومعه المفتاح، فجلس في ناحية من المسجد، فلمّا جلس قال: «أين عثمان بن طلحة»،  وكان  بنو طلحة يفتحون الكعبة لمن يُريد قبل الفتح فلا يُدخلون إلا من يُريدون، فجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرّة يُريد دخول الكعبة -ولعلّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعاه للإسلام فأبى-، وضايقه عُثمان، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لعلَّك سترى هذا المِفتاح بيدي أضعه حيث شئت!»، فقال عثمان: “لقد هلكت إذا قُريش وذلَّت!”، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «بل عمرت وعزَّت يومئذ»، يقول عُثمان: “فلمَّا دعاني النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن خرج من الكعبة وفي يده المِفتاح، ذكرت قوله الذي كان قد قال لي، فأقبلت فاستقبلته ببِشر واستقبلني ببِشر”، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: «هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء، خُذوها يا بني أبي طلحة تالدة خالدة، لا ينزعها إلا ظالم؛ يا عُثمان، إن الله استأمنكم على بيته، فكلوا بالمعروف»، فلمّا مشى عُثمان قليلًا، ناداه صلى الله عليه وآله وسلم، فرجع عثمان إليه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «ألم يكن الذي قلت لك؟»، قال عثمان: “فذكرت قوله لي بمكة، فقلت: بلى، أشهد أنك رسول الله!”، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «أعينوه!، قُم على الباب وكُل بالمعروف» [^6]، وأقرَّ العبَّاس على السِّقاية من دون أبناء عبد المُطَّلِب، وكان للعبّاس مزارع عِنَب بالطّائف يجلب منها الزبيب فيُنبَذ في ماء زمزم في الجاهليَّة والإسلام ليشرب منه الحجّاج، وهو يتولاها لا يُنازعه فيها أحد من يوم فتح مَكَّة، فتولاها أبناءه وأحفاده من بعده حتى سيطر العبّاسيون على الدولة الإسلامية، فتعارض توليهم الحُكم مع أعمال السِّقاية، فتولّاها آل عبد الله بن الزُّبير حتى اندثرت تلك المهنة بدخول مواسير المياه والصنابير في العصر الحديث[^7].

ولمّا جلس صلى الله عليه وآله وسلَّم أتى أبو بكر الصديق رضي الله عنه بأبيه -أبو قحافة- وهو شيخ كبير فقد بصره، وأبو بكر يأخذ بيده يقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، فلمّا رآه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه؟»، فقال أبو بكر: “يا رسول الله هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي أنت إليه”، ووضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يده على صدر أبو قحافة وقال: «أسلِم»، فأسلَم مكانه، وكان شعر أبو قُحافة قد ابيضّ من الكِبَر في السِّن، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «غيروا هذا من شعره، ولا تقربوا سوادًا».

ومرّ صلى الله عليه وآله وسلم بأبي سفيان بن حرب، وأبو سفيان يقول في نفسه بغير صوت: “لو جمعت لمحمد جمعًا؟”، فلم يشعر إلا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يضرب بين كتفيه وقال: «إذًا يُخزيك الله!»، فرفع رأسه فإذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال أبو سفيان: “ما أيقنت أنك نبي حتى الساعة، إني أتوب إلى الله وأستغفره!”.

هروب ثلاثة من كبار قريش بعد الفتح
وفيه خرج من مَكَّة بعض أهلها هاربين خوفًا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، منهم صفوان بن أميَّة وكان من سادات قريش، ففرّ هاربًا إلى اليمن، وعكرمة بن أبي جهل وكان شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج هاربًا يركب البحر لعلّه يقصد الحبشة أو اليمن أيضًا، وابن الزّبعري وفرّ هو وزوج أم هانئ بنت أبي طالب هبيرة بن وهب إلى حصن نجران باليمن جنوبًا.

ولمّا عرف عُمير بن وهب بهروب صفوان بن أميَّة ذهب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وطلب له الأمان فقال: “يا رسول الله، سيد قومي صفوان بن أميَّة خرج هاربًا خائفًا منك يلقي نفسه في البحر، وخاف ألا تؤمنه، فأمنه فداك أبي وأمي!”، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «قد أمّنته».

[^1]: القعقعة؛ صوت السلاح أثناء تحرُّكه، والشواهق؛ الجبال المُرتفعة، والمقصود أنهم نزلوا بأسلحتهم من جبالهم.

[^2]: هيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومقالته عند وقوفه بذي طُوى تستدعي من كُل مُسلم، بل كل إنسان، كثير تأمل وتدبر، فإن الملوك الفاتحين إذا دخلوا القُرى منتصرين دخلوا متكبرين مظهري العظمة شاخصين بأبصارهم إلى السماء، ناهيك عن سفك الدماء واستحلال الأعراض، بل والانتقام والتشفّي، وإذا تأملنا غاية التواضع التي دخل بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم مطأطئ الرأس لمولاه سبحانه وتعالى في خشوع وخضوع واستشعار لجليل النعمة بالفتح ونشر الإسلام واستنقاذ الناس من النار، ثم لمّا تكلَّم ماذا قال؟ “العيش عيش الآخرة!”، فهذا ليس فتحًا للدنيا، هذا فتح للآخرة، طاقة نور أدخلها الله على يديه الشريفتين إلى جزيرة العرب لتنتشر منها إلى أصقاع العالم، إن هذا الفتح لا كفتح الملوك يدرّ عليهم الدنيا بسلطانها وأموالها، هو فتح للآخرة لإنقاذ بني البشر من النار، “العيش عيش الآخرة!” تلخص اعتقاد المُسلم، أو ما يجب أن يكون عليه اعتقاده في السرَّاء والضرَّاء في انتصاره وفي جميع أوقاته، وأما هيئته الشريفة من كمال التواضع فتلخص ما يجب أن يكون عليه المسلم من تمام التبري من حوله وقوته مع امتلاكه الأسباب وتعاطيها بيده كما أمره الله بهذا، فهي تطبيق عملي لـ”لا حول ولا قوة إلا بالله”، فصلى الله عليه وآله وسلَّم.

[^3]: ذكرت مصادر السيرة المختلفة أم هانئ بنت أبي طالب وأخوها عقيل بن أبي طالب في مُسلمة الفتح، والأرجح أن عقيل بن أبي طالب أسلَم بعد الحُدَيْبيَة وكذلك أخته أم هانئ وبقيت بمَكَّة، وقد جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم لها جُعلًا وإخوتها من نتاج النخل الذي غنمه بخيبر كما هو مذكور عندهم أيضًا وهو أوفق للسياق، وقد يكون عطاء خيبر بعد إسلامها في الفتح أيضًا، والسياق في حديثها في فتح مكة يلمّح بكونها على الإسلام ككلام أخيها علي بن أبي طالب رضي الله عنهما معها حين قال: “تجيرين على المشركين؟!”، فذهبت واستأمنت لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ورد غير ذلك، والله أعلم.

[^4]: كان دخوله صلى الله عليه وآله وسلم مَكَّة بعد زوال الشمس من وقت الظهيرة قطعًا، لما ذُكر من الروايات الكثيرة في مبيته بمر الظهران ليلة الفتح، وبين مرّ الظهران ومَكَّة أقلّه 30 كم تقريبًا، وهي ست ساعات من السير المُعتاد، وقد تحرّك صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه من مرّ الظهران بعد صلاة الصُّبح، وكانت بحدود 5.40 صباحًا بتوقيت مكَّة في ذلك اليوم، وبفرض 20 دقيقة للأذان والإقامة والصلاة، فيكون الوصول لمَكَّة بحدود الساعة 12.30 تقريبًا، ووقت صلاة الظهر بحسب هذا اليوم بتوقيت مكَّة هو 12.34 تقريبًا، وعليه فيكون وقت الضُّحى في الطريق قطعًا، وعليه تكون رواية أم هانئ القائلة بأنها ذهبت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم “ضُحى يوم الفتح” على احتمالين؛ الأوّل أنّها لم تكن في نفس اليوم، وهذا مُشكل لأن سياق الرواية أنّه صلى الله عليه وآله وسلم انطلق بعد هذا الغُسل وتلك الصلاة فطاف بالكعبة، ولا داع لتأجيل ذلك ليوم تالي كما هو واضح من الروايات وكذلك صلاته تلك، والثاني أن يكون المقصود بـ”ضُحى” في رواية أم هانئ هو مُطلق النهار، وهو صحيح لغويًا -انظر لسان العرب-، وهو الرَّاجِح، وهذا الاختيار فيه دليل كوني مُؤَيِّد لمن قال بأن تلك الصلاة هي صلاة الفتح والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يُصل الضُّحى، فيكون هذا التحقيق مثبتًا لكون تلك الصلاة التي صلاها صلى الله عليه وآله وسلم يوم الفتح لم تقع حتى في وقت الضُّحى وإنما وقت الظهيرة فينتفي كونها صلاة الضُّحى بالأساس، والله أعلم.

[^5]: المصادر لم تذكر صراحة متى صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الظهر، فتركنا السياق مفتوحًا لجميع الاحتمالات، فقد يكون صلاها جماعة قبل صلاة الفتح أو بعدها، لأن المذكور في الروايات من أذان بلال في فتح مكَّة وقت صلاة الظهر كان في اليوم التالي، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم تأخر في الطواف حتى الساعة الثانية ظهرًا تقريبًا، فالله أعلم.

[^6]: ولمّا مات عُثمان بن طلحة، ولم يكن له أبناء ذكور، تولّى أمانة سدانة الكعبة المشرفة شيبة بن عُثمان بن الأوقص بن أبي طلحة العبدري، وهو ابن عم عثمان بن طلحة، وكان عُثمان قد هاجر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل الفتح مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، فلمّا كان يوم الفتح هذا وأعطاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم المفتاح أعطاه بالنّيابة لابن عمه الذي تولى السدانة في حياة عثمان نائبًا عنه، ثم بالأصالة بعد وفاة عُثمان، وما زالت سدانة الكعبة في آل شيبة إلى يومنا هذا وهم عائلة “الشيبي” وآخرهم الشيخ صالح بن زين العابدين الشيبي والذي ما زال المفتاح بيده للآن ولم يأخذها منهم أحد، غير أنّ المنصب صار شرفيًا لا يتكسّبون منه في العصر الحديث، لكنّهم يباشرون غسيل الكعبة وفتحها في المواسم للزيارة لكبار العلماء والشخصيات في العالم الإسلامي.

[^7]: كان آل العبّاس رضي الله عنه يتولونها حتى سيطروا على الحُكم -بتكوين الدولة العبّاسيّة-، فصَعُب عليهم الجمع بينها وبين الحُكم، فولّوها لآل عبد الله بن الزُّبير رضي الله عنه بالنيابة عنهم وكان آل الزبير يتولون التوقيت للحرم الشريف -مواقيت الصلاة-، ثم طلب آل الزبير من العبّاسيون ترك السقاية لهم رسميًا، فتركوها لهم بموجب منشور رسمي، وعمل الأتراك العثمانيّون بعد سقوط الدولة العبّاسية على تثبيت آل الزبير في عمل السقاية واشتهروا باسم “الزّمازمة” وكان الزبيريّون يستعينون بمن يرون من غيرهم، وآل الزبير معروفون اليوم بعائلة أو بيت “الرَّيِّس”، وآخر من تولاها في العصر الحديث قبل دخول مواسير المياه السيد محمد عباس بن محمد الرضوان بن عبد السلام بن عثمان الريس الزبيري المُتوفى 1412 هـ، وكانت مواسير المياه قد دخلت وانتهت خدمتهم تقريبًا بحدود 1400 هـ، وصدر مرسومًا ملكيًا بتثبيت آل الريس تشريفًا في هذا المنصب بصرف مُخصص سنوي لشيخ ماء زمزم من الرئاسة العامة لشؤون الحرمين، وأُنشئ مكتب الزمازمة الموحد الذي انحصر عمله خارج نطاق الحرم المكي في سقيا حجاج البيت بمساكنهم داخل مكة تحت إشراف وزارة الحج السعودية.