معاملة غير المسلمين من خلال أحداث السيرة النبوية الشريفة وواجب الدعوة إلى الإسلام دراسة تحليلية

الدكتور عبد السلام العبادي

عمّان- المملكة الأردنيّة الهاشميّة

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على النبي العربي الهاشمي الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبة الغر الميامين وعلى من التزم بشرعه واتبع هداه ليوم الدين، وبعد:
فهذه دراسة في السيرة النبوية تعرض تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع غير المسلمين في مرحلة ما قبل الهجرة وما بعدها.. وهذا التعامل بأحداثه المتتابعة مر بمراحل متعددة ترتبط بتبليغه عليه الصلاة والسلام لما حُمل من رسالة، وولي من دعوة، باختياره من الله سبحانه وتعالى رسولا خاتماً وللناس كافة، فكان بذلك الإسلام الدين الخاتم وللناس جميعاً. قال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ: 28]، وقال سبحانه: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وقال جل من قائل: {هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الجمعة: 2].
ونستطيع أن نقسم سيرته عليه السلام في تعامله مع غير المسلمين إلى المراحل التالية:

  1. مرحلة التبليغ السري.
  2. مرحلة التبليغ العلني.
  3. مرحلة الاصطدام مع المعارضين للتبليغ والاضطهاد والتعذيب والتهجير للمؤمنين.
  4. مرحلة الجهاد وإقامة المجتمع الإسلامي الأول بالهجرة وتحديد العلاقة مع غير المسلمين قرآناً وسنة وسيرة.

هيكل البحث:

إن المتابع لآيات القرآن نزولاً على محمد صلى الله عليه وسلم، والملاحظ لتصرفاته عليه الصلاة والسلام دعوة ليستطيع بسهولة أن يقسم مراحل نشر الإسلام الأولى إلى ثلاثة مراحل هي:
أولاً: مرحلة التبليغ المجرد للإسلام.
ثانياً: مرحلة الاصطدام مع من حاول منع البليغ والصبر على التبليغ والتعذيب والاضطهاد والتهجير للمؤمنين.
ثالثاً: المرحلة الأخيرة وهي مرحلة الجهاد وإقامة المجتمع الأول بالهجرة بعد أن عجزت جميع الوسائل في صرف المانعين عن غيهم، ومحاولتهم القضاء على الإسلام في مهده.
والتقسيم هذا نابع أيضاً من حقيقة واقعيه أن نشر كل دعوة دينية أو فكرية عامة لا بد وأن يصطدم بأعداء له، فيأخذ هؤلاء الأعداء بالتحرش باتباع هذه الدعوة والكيد لهم، فتكون الحرب حينئذ ضرورة يقتضيها حق الدفاع وحسن السياسة وضرورة نشر الدعوة.
ولا بد من هذا الاستعراض قبل دراسة ما هية الجهاد في الإسلام وحقيقته لذا سأعرض لهذه المراحل الثلاث بإيجاز لتكون بعدها دراسة الجهاد وما يتعلق به في مكانها الصحيح. وفي سلوك هذا من النبي صلى الله عليه وسلم فائدتان: ففيه أولاً عرض السيرة النبوية عرضاً يتفق مع المهمة الأساسية للرسول عليه الصلاة والسلام، وهي تبليغ الدعوة ونشر الإسلام.
وفيه ثانياً رد مفحم على من يدعي أن الإسلام قد انتشر بالسيف وبالإكراه الحربي الملجئ، فليس ارتباط الجهاد مع الإسلام ارتباط الملزم بالملزم عليه، بل ما هو إلا وسيلة لحماية نشر الإسلام بعد مرحلة الاصطدام مع من أراد منع النشر، وأصر عليه وسلك إليه كل السبل. فالجهاد فرض في الإسلام بعد أن تحزب الأعداء، وتبنى المعاندون الكيد والعدوان، وأخذوا يكيدون للإسلام الكيد تلو الكيد، ولو تركوه لسلك بسهولة إلى بقاع الأرض ينشر فيها الإيمان والخير والعدالة في كل مجال من مجالات الحياة.
وقد جاء هذا في مقدمة لبحث أعددته عن الجهاد في الإسلام، وإنني إذ تعجلت فوضعت نتيجة لبحثي قبل أن أعرض لمقدمات كثيرة تؤدي إليها أقصد من ذلك أن يضع القارئ في ذهنه هذه النتيجة، وينظر لما سأعرضه في سبيل الوصول إليها ولغيرها على أساسها، ويقسه بأقيسة المتجرد الموضوعي الذي يبغي الوصول إلى الحق، ولا يهمه إلا ذلك، ويهمني هنا عرض ما يتعلق بالسيرة النبوية وارتباطها بموضوع الجهاد وهو ما سوف أركز عليه في هذه الدراسة.
وقد قسمت هذا البحث وهذه الدراسة إلى ثلاثة أقسام:

  1. القسم الأول ويتعلق بالتقسيم الثلاثي المار.
  2. القسم الثاني ويتعلق بماهية الجهاد وحقيقته.
  3. القسم الثالث ويتعلق بالجهاد الإسلامي في هذه الأيام.

وسوف أركز في بحثي هنا على القسم الأول من بحثي ذالك ودراستي تلك، هذا البحث الذي أتقدم به إلى مؤتمر مؤسسة آل البيت الملكية للفكر الإسلامي السابع عشر الذي يعقد بعنوان: «نحو جدول تاريخي لأحداث السيرة النبوية» في الفترة من: 22 – 24 محرم 1438 هـ الموافق: 23 – 25 أكتوبر 2016 م، وقد اخترت عنواناً لبحثي هذا: «معاملة غير المسلمين من خلال أحداث السيرة النبوية الشريفة وواجب الدعوة إلى الإسلام (دراسة تحليلية)».

عرض التقسيم الثلاثي لأحداث السيرة النبوية

أولاً: مرحلة التبليغ المجرد للإسلام:
تبدو هذه المرحلة للناظرين مرحلتين يوضوح: مرحلة التبليغ السري، ومرحلة التبليغ العلني:

أ- مرحلة التبليغ السري:

لما اختار الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم وهو في سن الأربعين رسولاً للعالمين أخذ ينزل عليه القرآن آيات تلو آيات، يدعوهم فيها إلى الإيمان بالله وباليوم الآخر وبالكتب السماوية وبالأنبياء والملائكة، ويحضهم على ترك اعتقاداتهم الباطلة وعاداتهم المنحرفة؛ يرسم لهم اعتقادات جديدة، ويطلب منهم أفعالاً جديدة، ويبشر من يتبع ، وينذر من يعرض.. قام عليه الصلاة والسلام يدعو الناس للإيمان بهذا الذي يتنزل عليه من خالق السماوات والأرض، وكانت دعوته وتبليغه للدين الجديد يتسم بالسرية والهدوء في فترته الأولى تقديراً لظروف المجتمع الذي بدأ فيه دعوته: فقريش شديدة التعصب لدين آبائها وأجدادها، ومكة منطلق الدعوة بالنسبة له عليه السلام هي مركز دين العرب فيها أصنامهم وأوثانهم المقدسة عند سائرهم، فعملية الدعوة تزداد عسراً وشدة عما لو كانت في غيرها، فالسرية ضرورية لئلا يفاجئ أهل مكة بما يثيرهم.
ثم لا يمكن لفرد أن يجابه المجتمع، بدين جديد دون أن تكون له طائفة تدلل بإيمانها به على إمكانية اتباعه، وأثر هذا الاتباع عليها، وليكون منها من يخلفه أو يعينه فيما إذا تعرض لأذى ليضمن بذلك استمرار الدعوة. وسرية الدعوة أيضاً في فترتها الأولى تمكن الداعي من إيصال الدعوة لمن يتوقع فيهم الاستجابة، ويطمئن إليهم لقرابة أو صداقة أو اشتهار بخير. ويأمن بالسرية كذلك عداء المتعصبين والمتعنتين سيما والدعوة غضة طرية في أيامها الأولى.
فالتبليغ هنا كما هو واضح هو تبليغ أفراد.
واستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو سراً ثلاث سنوات فأمن بدعوته من الرجال والنساء بلغ عددهم في أواخر هذه المرحلة ما يقارب الثلاثين فرداً، منهم الغني والعزيز والقوي، ومنهم الفقير والبائس والضعيف.
وكان هؤلاء لا يتمكنون من إظهار إسلامهم حذراً من قريش؛ فإذا صلوا ذهبوا إلى الشعاب يستخفون بصلاتهم عن قومهم، وكان الرسول إذا حضرته الصلاة خرج إلى شعاب مكة ومعه علي بن أبي طالب مستخفياً من أبيه وأقربائه، فيصليان صلواتهما، ويعودان بعد ذلك إلى مكة.
واختار الرسول دار الأرقم بن أبي الأرقم مكاناً لاجتماع المسلمين يعلمهم ويرشدهم فيها.
وأخذت الآيات تتابع فتزيد المسلمين أيماناً وثباتاً، وكان لهم في رسول الله أسوة حسنة، فقد كان عليه السلام مثال الإيمان والرحمة والتواضع والثبات.

ب- مرحلة التبليغ العلني:

بلغ المسلمون ما يقارب الثلاثين، ومضت ثلاث سنوات، وبدأ القريشيون يتناقلون خبر محمد عليه السلام، فجاء أمر الله لرسوله بالجهر بالدعوة والإعراض عن المعارضين والمعاندين في قوله تعالى: {فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94]، وقوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلأَقْرَبِينَ (214) وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء: 214 – 216]، فبدل رسول الله صلى الله عليه وسلم منهجة في الدعوة من السرية إلى العلنية والجهر، ممتثلاً أمر ربه، مطمئنا لوعده ونصره، فأخذ يحضر اجتماعات قريش ومجالسها ونواديها، ويقوم بجمعهم في بيته يدعوهم إلى الإيمان بالدين الجديد بالحكمة والموعظة الحسنة {ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، ويقابل وفود قبائل العرب عند قدومهم إلى مكة يدعوهم كما يدعو قريش.
فالتبليغ هنا قد أصبح تبليغ جماعات عام، ويأتي مزيد بيان لهذا التبليغ تفصيلاً وتمثيلاً في شرحي للمرحلة الثانية وهي مرحلة الاصطدام.

ج- مرحلة الاصطدام مع من حاول منع التبليغ والصبر على التبليغ والتعذيب والاضطهاد والتهجير للمؤمنين:

تتابع الآيات الكريمة تثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواجهته ما يتعرض له من صعاب وتحديات في دعوته لما حمل من رسالة، وما يبلغ من دين بسرد قصص الأنبياء السابقين وما واجهوا من أقوامهم من عناد واستكباراً، ورفض للالتزام والاتباع، فتذكر له قصة نوح عليه السلام مع قومه، فيأتي قوله تعالى على لسان نوح: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيۤ إِلاَّ فِرَاراً (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوۤاْ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِمْ وَٱسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَٱسْتَكْبَرُواْ ٱسْتِكْبَاراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً} [نوح: 5- 8]، والواقع أن هذه المرحلة تكاد أن تكون نفس المرحلة السابقة: فما أن برز رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قومه يدعوهم إلى الإسلام حتى عارضه قومه، ووقفوا في طريق تبليغه لرسالة ربه. ولكنه عليه السلام صبر على تبليغ الرسالة، وتحمل في سبيل ذلك من الشدائد والمصاعب والأهوال ما تنوء بحمله الجبال.
ولكن أفراد هذه المرحلة بالشرح والتعليق يوضح ما أريد من التقسيم الثلاثي توضيحاً بيناً. فيعرض شرح هذه المرحلة الأشكال التي قابل بها قوم محمد محمداً من عدم مبالاة واستهزاء، إلى محاولة منع وتفكير في حلول وسطى وعرضها عليه، ثم إلى إيذاء ومحاولة قتل. ويعرض شرح هذه المرحلة أيضاً الصور والأشكال التي قابل بها قوم محمد اتباع محمد من الاستهزاء إلى التعذيب إلى القتل. فيكون في هذا الشرح خير مقدمة للمرحلة الثالثة: مرحلة الجهاد.
في أواخر الثلاث سنوات التي كان فيها التبليغ سرياً بدأ محمد ينكشف، وأخذ الناس يتحدثون عنه وعن دعوته، على أن أهل مكة لم يعبؤوا بهذا الأمر، وظنوا أنه لن يزيد عما تعودوا سماعه من أحاديث الرهبان والحكماء من أمثال قس وورقة وغيرهما وأن دينهم هو الباقي، وأن كل هذه الأمور إلى زوال: {وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِٱلَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} [الأنعام: 10]، فلما بدأ صلى الله عليه وسلم يعلن دعوته داعياً إلى الله قابلته قريش بعدم المبالاة والاكتراث مرة، وبالسخرية والاستهزاء أخرى، فإنه صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه قوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، دعا عشيرته إلى طعام في بيته وقال لهم: «إن الرائد لا يكذب أهله، والله لو كذبت الناس جميعاً ما كذبتكم، ولو غررت الناس جميعاً ما غررتكم، والله الذي لا إله إلا هو إني رسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس كافة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، ولتجزون بالإحسان إحساناً، وبالسوء سوءاً، وإنها للجنة أبداً أو للنار أبداً». فتكلم القوم كلاماً لينا غير عمه أبي لهب الذي كان سريع الغضب، فقد قال: خذوا على يديه قبل أن تجتمع عليه العرب، فأن سلمتموه أذن ذللتم، وأن منعتموه قتلتم. وقال لهم رسول الله عليه السلام مرة: «قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني ربي أن أدعوكم إليه فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر» فأعرضوا جميعاً إلا علي الذي وقف وكان صبياً دون الحلم وقال: أنا يا رسول الله عونك، أنا حرب على من حاربت)… فظهرت ابتسامات على الشفاه، وتعالت قهقهات من الأعماق، وانصرفوا مستهزئين: {قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [هود: 38 -39].
هكذا كان موقف عشيرته أيام دعوته العلنية الأولى: موقف سلبي عادي أو موغل في سلبيته موقف الابتسام مرة، والقهقهة أخرى. عدم المبالاة مرة، والاستهزاء والسخرية أخرى.
ولما انتقل عليه السلام من دعوة عشيرته الأقربين إلى دعوة أهل مكة أجمعين أخذ الكثير من كفار مكة يسخرون بمحمد في مجالسهم وفي طرقاتهم، فكانوا إذا مر عليهم يقولون: هذا ابن أبي كبشه يكلم من السماء (أبو كبشه هو زوج حليمه السعدية مرضعة الرسول صلى الله عليه وسلم)، هذا غلام عبد المطلب يكلم من السماء.
وقد استمر موقفهم على هذا الشكل لا يزيدون عليه حتى أخذ الرسول يبين لهم فساد اعتقاداتهم، ويعيب الهتهم وينسبهم إلى الضلال ويسفه عقولهم، ويقول لهم: «والله يا قوم لقد خالفتم دين أبيكم إبراهيم». وذلك لأنهم كانوا يحتجون لمحمد بأنهم يتبعون ويقلدون آباءهم، فاضطر محمد إلى وصفهم ووصف آبائهم بالضلال وسفه العقول، ونزل في هذا المعنى آيات قرآنية كثيرة منها: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170].
وفي الآية التالية يبين القرآن مدى تعصبهم وتقليدهم لما وجدوا عليه آبائهم فقال: {قَٰلَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ قَالُوۤاْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف: 24].
هناك عظم الأمر على قريش وثارت في النفوس حمية الجاهلية غيرة على تلك الآلهة التي كان يعبدها آباؤهم وأجدادهم، فلقد تحرك تعصبهم الشديد لدين الآباء والأجداد.. وهنا بدأوا يفكرون تفكيراً جدياً في أمر محمد. فتغير الموقف السلبي في المعارضة إلى موقف إيجابي في المعارضة، فلم يبق الأمر موضع استهزاء وسخرية، بل أصبح يحتاج إلى التفكير والتدبير: فآلهتهم وأصنامهم المقدسة عند سائر العرب هي التي منحت مكة المركز التجاري الهام، فجعلت من مكة محج وفود العرب، فنشطت تجارتها، فإلى ماذا تؤول تجارة مكة ومركزها الديني إذا نجح محمد في دعوته، وصرف الناس عن عبادة هذه الآلهة. وأخذ يدعم هذا التفكير العصبية القبلية، ورغبة كل قبيلة أو زعيم في أن تكون لهم السيطرة وخوفهم من زعامة محمد، سيما وهم قد أخذوا يلاحظون مدى أخلاص جماعة محمد له عليه الصلاة والسلام.
وكان محمد عليه السلام في تلك الفترة في حماية عمه أبي طالب سيد بني هاشم وأبو طالب هذا أخذ على نفسه حماية أبن أخيه، ورد كل شر عنه، رغم أنه لم يدخل في الإسلام، لذلك ذهب رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب فقالوا: «يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا، فأما أن تكفه عنا وأما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فسنكفيكه» فردهم أبو طالب رداً جميلاً، فانصرفوا عنه.
ولما عرف العرب بأمر محمد اجتمع القرشيون ليتداولوا في كلمة يطلقونها على محمد كي لا يكون لدعوته أثر في نفوسهم، والذين تتابع وفودهم إلى مكة بين الفينة والأخرى، وبعد مداولة طويلة قرروا إطلاق كلمة ساحر عليه باقتراح من الوليد بن المغيرة(1). وقد
سجل ذلك القرآن الكريم في سورة المدثر: قال تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاَّ إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَٱسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ قَوْلُ ٱلْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ} [المدثر: 11 – 29].
ومضى الرسول في دعوته لدين الله يبين للناس أمر هذا الدين، فيزداد الداخلون مع الأيام، فيأخذ قريشاً من ذلك مأخذه، فتزداد عليه حنقاً وغضباً وتفكيراً في أمره، فعادوا ثانية لأبي طالب وقالوا: «يا أبا طالب إن لك سناً وشرفاً ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين» وانصرفوا عنه.
عظم الأمر على أبي طالب؛ فقد عز عليه فراق قومه وعداوتهم له، وهو لم يطب نفساً بخذلان أبن أخيه وتسليمه، فبعث إلى رسول الله وقال له: «يا ابن أخي إن قومك قد جاؤني وقالوا لي كذا وكذا – وقص عليه ما جرى – فأبق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق».
وأطرق محمد بن عبد الله عليه السلام يفكر، وهو يظن أن عمه خاذِله ومسلمه: يفكر في قوته وقوة اتباعه، فيبدون في عينه ضعافاً لا يقوون على حرب، ولا يستطيعون مقاومة قريش ذات السلطان والمال والعدد والعدة. ولكنه وهو يعلم أنه وأن خذله أبو طالب، فالله لن يخذله، وأن الإيمان والحق سينتصران حتما لا محاله، قال: «يا عم لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر، ما تركته حتى يظهره الله، أو أهلك دونه» وما أن أتم هذه الكلمات حتى خنقته العبرة، فقام وابتعد فنادى عليه عمه، وقال له بعد أن تأثر بموقفه هذا: أذهب يا ابن أخي، فقل ما أحببت، والله لا أسلمك لشيء تكره أبداً».
وجمع أبو طالب حوله في هذا الموقف بني هاشم وبني المطلب مسلمهم وكافرهم إلا أبا لهب الذي صارحهم عداوته لمحمد وخصومته له يدعمه في موقفه هذا زوجته أم جميل بنت حرب – حمالة الحطب – التي كانت تذيع الأكاذيب عن رسول الله في مجالس النساء  تذكي بها نار العداوة للرسول عليه السلام في قلوبهن.
فلما رأت قريش(2) أن أبا طالب أبى خذلان ابن أخيه مشى الأشراف من قريش مرة أخرى، ومعهم عمّارة بن الوليد بن المغيرة، وقالوا له: هذا عمّارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجملهم، فخذه فلك عقله ونصرته، واتخذه ولداً فهو لك ، وأسلم إلينا ابن أخيك، وهو الذي خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك، وسفه أحلامهم فنقتله، فإنما هو رجل برجل فقال لهم: والله لبئس ما تسومونني، أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه هذا والله ما لا يكون أبدا.
الحرب التعذيبية: قال تعالى: {قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 59].
لما تأكدت قريش من موقف أبي طالب هذا، ومعه بنو هاشم وبنو المطلب، اشتد الخلاف، واستحكمت الخصومة بين الفريقين، ففكرت قريش في طريق آخر تسلكه مع المسلمين؛ فكان أن أعلنت حرباً تعذيبيه على من آمن بالرسول كل قبيلة تعذب من آمن منها، فسجل التاريخ صفحات يندى لها الجبين المتجرد. وقد نال من ليس له عشيرة تحميه، وترد كيد الأعداء الكثير الكثير من صنوف التعذيب والإيذاء.
وكان من هؤلاء الذين أوذوا في الله بلال بن رباح الذي كان عند إسلامه مملوكاً لأمية بن خلف الجمحي، فلما أسلم عزم أمية هذا على رده عن الإسلام ومنعه منه: فكان يربط حبلاً في عنقه ويدفعه إلى الصبيان يلعبون به، وهو يردد أحدٍ أحد، فلم يشغله ما هو فيه من عذاب عن توحيد الله وذكره. وكان أمية هذا يلقيه على الرمل تحت الشمس المحرقة، ويضع الصخرة العظيمة على صدره، ويقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى. فيعلو صوت بلال مردداً أحدٍ أحد، وبقي بلال رضوان الله عليه يلاقي أشد أنواع التعذيب وأطوله حتى مر به أبو بكر يوماً فقال لأمية: أما تتقي الله في هذا المسكين، فحتى متى تعذبه؟! فرد عليه أمية قائلاً: أنت الذي أفسدته فأنقذه مما ترى، فاشتراه أبو بكر منه، واعتقه.
ومن الذين عُذّبوا حمامة أم بلال كانت تُعذّب حتى لا تدري ما تقول، وعُذّبت  زنيرة وهي امرأة ضعيفة أمنت بمحمد إيماناً راسخاً، فلم يزدها التعذيب الذي أوصلها للعمى إلا إيماناً على إيمان، وفيها قال أبو جهل: ألا تعجبون لهؤلاء وإتباعهم لو كان ما أتى به محمد خيراً ما سبقونا إليه أفتسبقنا زنيرة إلى رشد ونزل في ذلك قوله تعالى: {وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11]. وكان أمر زنيرة أن اشتراها أبو بكر واعقتها.
ومرّ أبو بكر يوماً بجارية لعمر بن الخطاب كانت قد أسلمت، وكان عمر يعذبها قبل إسلامه، فكان يضربها حتى إذا مل يقول لها: إني أعتذر إليك، فأني لم أتركك إلا ملالة، فتقول له: كذلك فعل الله بك، فاشتراها أبو بكر وأعتقها، كما أعتق غيرها رغبة في مرضاة الله، وابتغاء لوجهه، فما لأحد عنده من نعمة تجزى.
ومن الذين لاقوا أشد أنواع التعذيب عمّار بن ياسر وأبيه وأمه فقد كان بنو مخزوم يخرجون بهم إلى رمضاء مكة، يعذبونهم بها وبالنار وبكل ما يخطر على بالهم من وسائل التعذيب، فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول لهم: «صبراً آل ياسر فموعدكم الجنة اللهم أغفر لآل ياسر»، ولقد مات أبو عمّار تحت هذا التعذيب، وكذلك زوجته سميّة أول شهيدة في الإسلام ماتت هي الأخرى بطريقة تعذيبية تقشعر لها الأبدان على يد عدو الله أبي جهل. وأما عمّار فقد ثقل عليه العذاب واشتد، فقال بلسانه كلمة الكفر: فقد كان يقوم بتعذيبه أبو جهل فيجعل له درعاً من حديد يلبسها أياه في اليوم الصائف، فيعذبه بعد ذلك بمختلف أنواع التعذيب، بكل ما تتفتق عنه النفس الشريرة الحاقدة، فقال المسلمون: كفر عمّار فقال عليه السلام: «عمّار ملئ إيماناً من فرقه إلى قدمه». وفي شأنه نزل الاستثناء من حكم المرتد الذي ورد في القرآن الكريم: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ} [النحل: 106]، وسار في ركب هؤلاء الذين عذبوا واضطهدوا أيما تعذيب واضطهاد خباب بن الأرت الذي كان مملوكاً لأم أنمار، فلما أسلم كانت مولاته تعذبه بالنار، فتأتي بالحديدة المحماة، فتجعلها على ظهره، ليرتد عن دين الإسلام، فلا يزيده ذلك إلا إيماناً،
وكان يشاركها في هذا العمل الشنيع عدد من رجالات قريش حتى تبثر ظهره أشد تبثر، فتضاعف عليه العذاب، فجاء رسول الله مرة وهو متوسد بردة في ظل الكعبة فقال: يا رسول الله ألا تدعو لنا فرد الرسول عليه قائلاً: «أنه كان من قبلكم ليمشَّط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب، ويضع المنشار على فرق رأس أحدهم فيشق ما يصرفه ذلك عن دينه، ليظهرن الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه»(3).
والخلاصة فإن الحرب التعذيبية التي شنتها قريش على المسلمين لم يسلم منها أحد من المسلمين يعرف ذلك بالعودة إلى كتب السيرة والمغازي، ولكنها لم تزد المسلمين إلا إيماناً بالحق الذي التزموا به… وقد كانت الآيات تترى على الرسول تزيد المسلمين إيماناً وتقوم بتثبيتهم في هذا الصراع الطويل المضني مع الباطل مثل قوله تعالى: {أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2- 3]، وقوله تعالى: {إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود: 38]، {فَٱعْفُواْ وَٱصْفَحُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 109].
وتتابع الآيات تثبيتاً للرسول عليه الصلاة والسلام وتحميلاً له لواجبات الدعوة والتبليغ لدين الله سبحانه، قال تعالى: {فَٱسْتَمْسِكْ بِٱلَّذِيۤ أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف: 43 – 44].
لذلك كان لهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مواقف ومواقف، فلذلك رأيناهم مع الرسول الذي عصمه الله بعمه أبي طالب وببني هاشم والمطلب، ويسر له من زوجه خديجة كل استقرار وتشجيع ومعونة، فقد حاول القرشيون أموراً أخرى بعد أن شاهدوا إصرار من آمن بالرسول على هذا الإيمان وصبرهم على التعذيب والإيذاء بكافة أشكاله وصوره ومن هذه الأمور:

  1. عرضهم عليه صلى الله عليه وسلم حلولاً وسطى لم يوافقهم على شيء منها، بل أصر على السير في طريق الدعوة مهما لاقى من صعاب وكان من هذه الحلول:
    أ- عرضهم عليه أن ينزع من القرآن ما يثير غضبهم من ذم أوثانهم وتسفيه أحلامهم وعقولهم والوعيد الشديد الموجه لهم وغير ذلك مما يكرهون فأنزل الله تعالى إليه: {قُلْ مَا يَكُونُ لِيۤ أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِيۤ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىۤ إِلَيَّ} [يونس: 15].
    ب- عرضوا عليه المشاركة في العبادة: يشاركهم في عبادتهم ويشاركوه في عبادته فنزل الله تعالى: {قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَافِرُونَ (1) لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ (3) وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4) وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 1- 6].
    ج- عند إسلام حمزة وازدياد عدد المسلمين يوماً بعد يوم اجتمع كبار قريش في ناديهم، وكان فيهم عتبة بن ربيعة فخاطبهم قائلاً: يا معشرقريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه، وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء، ويكف عنا ؟ فقالوا: بلى يا أبا الوليد، قم إليه فكلمه.
    فانطلق عتبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي في الكعبة، وقال له: يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السطة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضاً. فقال له الرسول عليه السلام: «قل يا أبا الوليد أسمع». قال: يا ابن أخي إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا، حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا؛ وإن كان هذا الذي يأتيك رئيّا (4) تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع (5) على الرجل حتى يداوى منه.
    ولما فرغ عتبة ورسول الله منصت إليه قال له: «فاسمع مني، فقال عتبة أفعل؛ قال صلى الله عليه وسلم: «بسم الله الرحمن الرحيم {حـمۤ (1) تَنزِيلٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِيۤ أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَٱعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ فَٱسْتَقِيمُوۤاْ إِلَيْهِ وَٱسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ} [فصلت: 1- 6] واستمر الرسول يتلوا آياته تعالى في سورة فصلت حتى أمسك عتبة بفيه، وناشده الرحم أن يكف عن القراءة، وغادر رسول الله إلى قومه، فقالوا له: ما وراءك يا أبا الوليد قال: ورائي أني قد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة. يا معشر قريش أطيعوني فاجعلوها لي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لكلامه الذي سمعت نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه، وإن يظهر على العرب فعزه عزكم. واستمر يقول: ولقد كان محمد فيكم غلاماً حدثاً أكرمكم خلقاً، وأصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغية الشيب، وجاءكم بما جاءكم به، قلتم: كاذب وساحر ومجنون. فقالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم.
    ثم دعا كبار قريش محمد إليهم، وعرضوا عليه هذه الأمور مرة أخرى فقال لهم الرسول عليه السلام: «ما بي ما تقولون ما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا… فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم».
    د- وأرادوا مرة مفاوضته عليه السلام، فيتنازلوا له عن شيء، ويتنازل لهم عن شيء، فانطلقوا إِلى أَبي طالب، وطلبوا منه أن يوفق بينهم وبين محمد، فيأخذ لهم على ابن أخيه، ويعطه منهم، فلما أعلم أبو طالب محمداً بذلك، والقوم جالسون قال عليه السلام  «نعم كلمة واحدة تعطونيها تملكون بها العرب، وتَدين لكم بها العجم»،فقال أبو جهل: نعم وأَبيك وعشر كلمات، قال: «تقولون: لا إِله إلا الله، وتحلفون ما تعبدون من دونه». فصفَّقوا بأَيديهم، ثم قالوا: أَتريد أَن تجعلَ الآلهة إِلهاً واحداً؟ إِنَّ أمرك لعجيب. وقال بعضهم لبعض: إِنَّه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئاً مما تريدون، فانطلِقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه(6).
  2. حرب الدعاية:
    وكانوا في هذه الأثناء وما قبلها قد شنوا بشعرائهم أمثال أبي سفيان بن عبدالله بن الزبعري حرباً شعرية هجائية على الرسول الكريم على عادة العرب في تلك الأيام انبرى للرد عليها طائفة من شعراء المسلمين.
  3. محاولة تعجيز الرسول:
    {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَٰتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [الأنعام: 4]. وبعد رفض الرسول عليه السلام ما عرضته قريش من حلول وسطى سلكت في اصطدامها مع دعوة الحق ودعاته وجهة جديدة تدل على مدى العناد والاستكبار، وهي: محاولة تعجيز الرسول بطلب الآيات والخوارق والمعجزات، ليدلل بها على صدقه: فجاؤوا عليه السلام مرة وقالوا له: يا محمد إن كنت صادقاً فأرنا آية نطلبها منك، وهي أن تشق لنا القمر فرقتين، فأعطاه الله هذه المعجزة، فلقد انشقّ فرقتين، وإلى ذلك يشير قوله تعالى: {ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ} [القمر: 1]،فقال لهم الرسول: «اشهدوا» ولكن بعضهم قال: لقد سحركم ابن أبي كبشة، ومضوا في عنادهم، وفي ذلك يقول تعالى: {وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} [القمر: 2].
    وقالوا له مرة: أنك قد علمت أن ليس من الناس أحد أضيق بلداً، ولا أقل ماءً، ولا أشد عيشاً منا، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به، فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليفجر لنا فيها أنهاراً كأنهار الشام والعراق… وقالوا له مره: سل ربك أن يبعث معك ملكًا يصدقك بما تقول، ويراجعنا عنك. ويسرد هذا وغيره قوله تعالى: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ ٱلأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ ٱلسَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِٱللَّهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي ٱلسَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ} [الإسراء: 90 – 93].
    وكان جواب الرسول لهم في كل مره ينبع من قوله تعالى: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 93]، فهو على علم بما تكنه أنفسهم من عناد واستكبار، وأن قصدهم من هذا هو التعجيز والتعنت، وأنهم لن يؤمنوا: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109]، ثم فهذه الشريعة تعرض أمامهم عرضاً عقلياً، وهذا قرآنها معجزة، وهاهم يؤمنون بألوهية أحجار جامدة لا تضر ولا تنفع دون أن يطالبوها بما يثبت ألوهيتها، وكيف يؤمن من يقول: {ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]،بدل أن يقولوا فاهدنا إليه.
  4. استخدام سياسة القوة مع شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم:
    وأخيراً تفتق القرشيون عن سياسة جديدة يقفون بها في طريق الدعوة، ليمنعوا تبليغه عليه الصلاة والسلام لرسالة ربه وشريعته تعالى وكانت هذه السياسة الجديدة هي سياسة القوة، سياسة أن يضعوا كل ثقلهم في معركتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعمدوا إلى:

أ- إيذائه عليه السلام في شخصه: وأن كتب السيرة لحافلة بأمثلة كثيرة على المدى الذي ذهبت إليه قريش في إيذائها للرسول عليه السلام.. فلقد اشتهر جماعة من كفار قريش بإيذائهم له حتى سموا بالمستهزئين، ومن هؤلاء عقبة بن أبي معيط فقد كان جاراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم نذر نفسه لإيذائه وضرره: صنع مره وليمة ودعا إليها أشراف قريش ودعا معهم رسول الله، فقال له عليه السلام: «والله لا آكل طعامك حتى تؤمن بالله»، فتشهد عقبة، فعلم بذلك أبي بن خلف، وكان صديقاً له، فقال له: ما شيء بلغني عنك؟ قال: لا شيء دخل منزلي رجل شريف، فأبى أن يأكل طعامي حتى أشهد له، فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم فشهدت له، فقال له أبي: وجهي من وجهك حرام، إن لقيت محمداً فلم تطأ عنقه وتبصق في وجهه وتلطم عينه، فلما رأى عقبة رسول الله العامل في سبيل الدعوة التي ستحقق لهؤلاء المعاندين كل خير لو اتبعوها، ففعل به ما قال ذاك اللعين. وفيه نزل قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يٰلَيْتَنِي ٱتَّخَذْتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يَٰوَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً} [الفرقان: 27 – 28]،ومما صنعه هذا اللعين المعاند المتعصب ما رواه البخاري في صحيحة قال: بينما النبي يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه في عنق رسول الله فخنقه خنقاً شديداً فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ} [غافر: 28]، ومن الذين وقفوا حياتهم في تلك الفترة على إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو جهل (أبو الحكم بن هشام)؛ فقد روى البخاري عن ابن مسعود قال: كنا مع رسول الله في المسجد وهو يصلي، فقال أبو جهل: ألا رجل يقوم إلى فرث جزور بني فلان فيلقيه على محمد وهو ساجد؟ فقام عقبة بن أبي معيط وجاء بذلك الفرث ورمى به على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فلم يقدر أحد من المسلمين الذين كانوا بالمسجد على إلقائه عنه، لضعفهم عن مقاومة عدوهم، ولم يزل عليه السلام ساجداً حتى جاءت فاطمة بنته فأخذت القذر ورمته، فلما قام دعا على من صنع هذا الصنع القبيح فقال: «اللهم عليك بالملأ من قريش وسما أقواماً» قال ابن مسعود فرأيتهم قتلوا يوم بدر، وأبو جهل هذا هو الذي سبب إيمان حمزة لكثرة ما كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأثار بذلك روح  الغيرة على القريب عند حمزة فأعلن إسلامه.
ومنهم أيضاً أبو لهب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان أشد عليه من غيره وكان جاراً للرسول صلى الله عليه وسلم، فكان يرمي القذر. على بابه، فيطرحه ويقول: يا بني عبد مناف أي جوار هذا؟! وكانت تشاركه في قبيح عمله هذا زوجته أم جميل بنت حرب. وفيهما نزلت سورة اللهب التي منها يعرف مقدار ما كانا يقومان به من الإيذاء والإضرار بالرسول الكريم عليه الصلاة والسلام.
وغير هؤلاء أناس كثيرون جادت قرائحهم الشريرة في كل يوم بأنواع مختلفة من الإيذاء؛ حتى الصبيان دربّهم قومهم على الاستهزاء به وإيذائه عليه السلام، فلقد قابله سفهاء قريش يوماً ونثروا التراب على رأسه الشريف. ودخل الرسول بيته وهو في تلك الحال فقامت إليه ابنته فاطمه تزيل عنه التراب، وهي تبكي، فقال لها الرسول: «لا تبكي لا تبكي فإن الله مانع أباك».

الهجرة إلى الحبشة: وفي غمرة ما يلاقيه الرسول من الأذى والضرر نظر الرسول إلى أصحابه والإيذاء والتعذيب يشتد عليهم اشتداداً لا يكادون له احتمالاً. فما وجهته قريش لأصحابه عليه السلام يزيد بكثير عن الإيذاء الموجه إلى الرسول نفسه، وذلك لأنه عليه السلام قد عصم بعمه أبي طالب وبني هاشم والمطلب حتى تلك الحين، فقال لهم وهو لا يستطيع لهذا الإيذاء دفعاً: «تفرقوا في الأرض فإن الله سيجمعكم». فلما سألوه أين يذهبوا قال: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق؛ حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه». عند ذلك خرج فريق من المسلمين إلى الحبشة فراراً بدينهم، وخوفاً على أنفسهم من الفتنة تاركين ديارهم وأموالهم في سبيل الله، وكان عددهم عشرة رجال وخمسة نسوه، وكانت بهم أول هجرة في الإسلام، وكانت في السنة السادسة من البعثة النبوية.
وبعد خروج المهاجرين إلى الحبشة أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان لإسلامه الأثر القوي في دعم مسيرة الدعوة الإسلامية في مكة، قال عبد الله بن مسعود: ما كنا نقدر أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر بن الخطاب، فلما أسلم قاتل قريشاً حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه، ولإسلامه قصة معروفة بينتها كتب السيرة النبوية.
فبإسلام حمزة وعمر عزت نفوس المسلمين وقويت، ولما كان مهاجرو الحبشة قليلو العدد بعيدو الغربة، وهم لم يعتادوا على تلك الغربة الطويلة، وهم أشراف قريش، فلذا عند سماعهم بهذه الأمور عادوا إلى مكة، ولكنهم لم يستطيعوا دخولها إلا مستجيرين أو مستخفين وكان ذلك بعد ثلاثة أشهر من خروجهم إلى الحبشة.

ب. المقاطعة التامة: والثاني مما عدت إليه قريش كان المقاطعة التامة، فقبل عودة المهاجرين من الحبشة رأت قريش أن أصحاب رسول الله قد وجدوا ملجأ ومقراً في الحبشة، ولاحظت اعتزاز من بقي من المسلمين بإيمان حمزة وعمر، وأن الإسلام أخذ ينتشر بين القبائل، فعزموا على منابذة المسلمين، ومن يحميهم من بني هاشم والمطلب، ومقاطعتهم والتضييق عليهم، فلا يبيعونهم ولا يبتاعون منهم، ولا ينكحوا إليهم ولا منهم. وكتبوا في ذلك صحيفة علقوها في جوف الكعبة، فانحاز الجميع إلى شعب أبي طالب وعاشوا في حصار مدني قاس شديد لاقوا فيه من الجوع والوحشة والأذى الشيء الكثير.

إلى الحبشة مرة أخرى: أمر الرسول بعد ذلك جميع المسلمين بالهجرة إلى الحبشة، حتى يكون بعضهم لبعض عوناً ومساعد في هذه الغربة البعيدة. فبلغ عدد المهاجرين ثلاثة وثمانين رجلاً وثماني عشرة امرأة. وبقي عدد من المسلمين حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تتركهم قريش حتى في هجرتهم، وهم الذين تركوا ديارهم وأموالهم لقريش، وانطلقوا إلى حيث وجدوا الأمان والاطمئنان؛ كل ذلك في سبيل الدين الذي آمنوا به، فأرسلت قريش رجلين منها هما عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص إلى النجاشي ليردهم إلى مكة، ليعاودوا فتنتهم عن دينهم، و حملوا معهم من الهدايا الشيء الكثير، ولكن خاب مسعاهم هذا، ورد النجاشي طلبهم وهداياهم، وقال للمهاجرين: من سبكم غرم من سبكم غرم. ما أحب أن لي دَبْرَ(7) ذهب، وأني آذيت رجلًا منكم.

المقاطعة في الشعب: ومكث الرسول وبنو هاشم والمطلب في الشعب ثلاث سنوات في شدة ما بعدها شده، وعناء ما بعده عناء، لا يصلهم شيء من الطعام إلا خفيه حتى أكلوا أوراق الشجر، وتعرضوا لأشد حالات الجوع، ولقد منع القرشيون أي إنسان من بيعهم ومتجارتهم.

الحياة منذورة في سبيل الدعوة: وكان الرسول في هذه الفترة لا يتاح له الاجتماع بالناس والتحدث إليهم إلا في الأشهر الحرم، ففيها تأتي وفود القبائل حاجة إلى مكة من كل نواحي الجزيرة العربية، وفيها تزول الخصومات فلا اعتداء على أحد، ولا تعذيب لأحد، فكان الرسول يتحدث مع هذه الوفود العربية يدعوهم إلى الإسلام ويبشرهم وينذرهم، وكانت المقاطعة التي فرضتها قريش عليه، وعلى من معه سبباً قوياً في عطف الكثيرين عليه، وملاحظتهم الدليل على صدقه، فلقد عرضت قريش عليه أشياء كثيرة، ولكنه أبى إلا سيراً في سبيل الدعوة، واتباعاً لها، وتحمل في سبيل ذلك ما يشاهدونه من إيذاء.

نقض الصحيفة الظالمة القاطعة: لاحظ خمسة من أشراف قريش الحالة التي وصل إليه المقاطعون في الشعب وهم: هشام بن عمرو وزهير بن أبي أمية والمطعم بن عدي وأبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود. فقرروا محاولة إلغاء الصحيفة، واتفقوا على ذلك ليلاً، فلما أصبحوا خرج زهير، فطاف بالبيت سبعاً، ثم أقبل على الناس، فقال: يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يبيعون ولا يبتاعون، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة الظالمة القاطعة. وأيد الخمسة بعضهم بعضاً، فقام زهير إليها لشقها فوجد أن الأرضة قد أتلفتها، إلا ما كتب فيه (باسمك اللهم). وخرج بعد ذلك المقاطعون من الشعب إلى مساكنهم.

عام الحزن: بعد خروجه عليه السلام من الشعب بقليل، وقبل الهجرة بثلاث سنين توفيت زوجه خديجة بنت خويلد، فحزن عليها الرسول حزناً شديداً لما كانت تقدمه له من تشجيع ومعونة ودفع للكفار عنه، وبعد وفاة خديجة بشهر توفي عمه أبو طالب الذي بذل الكثير في دفع أذى أعدائه عنه، وسمى الرسول العام الذي فقد فيه زوجه وعمه بعام الحزن.

إلى الطائف: وبموت أبي طالب وقف محمد عليه السلام وجهاً لوجه مع قريش فأخذت تنال من أذاه ما لم تكن تناله في حياته، فاشتد الأمر على رسول الله وتكالب المعاندون عليه يصيبونه بوابل من أنواع الاستهزاء والإيذاء بشخصه وبمن اتبعه، لذلك أخذ الرسول يفكر في ميدان جديد ينشر فيه دعوة الحق والخير، مع علمه أنه قد انسلخت عشرة سنوات من عمر الدعوة أو يقارب، ولم تظفر بأشياء مهمة. فخرج إلى ثقيف في الطائف، ومعه زيد بن حارثه؛ ما يحمل معه إلا دين الله، ليعرضه عليها فقابل سادتها وأشرافها، وكانوا أخوة ثلاثة عبد يا ليل ومسعود وحبيب أولاد عمر بن عمير ودعاهم إلى الله سبحانه وطلب منهم نصرة دينه، فرد عليه كل واحد منهم رداً قبيحاً، فعلم الرسول أن لا خير فيهم فغادرهم، وقد قال لهم: «إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني»، وذلك حتى لا تعلم قريش بما فعل الرسول من طلب نصرة ثقيف عليها، فلا تزيد إيذاءها له ولأصحابه عليه الصلاة والسلام، ولكن هؤلاء الثلاثة لم يفعلوا ما طلب منهم الرسول فأغروا به سفهاءهم وغلمانهم، فقعدوا له هؤلاء صفين اثنين، فما سار بينهم حتى أخذوا يسبونه ويقذفونه بالحجارة حتى أدموا قدميه الطاهرتين صلى الله عليه وسلم، وألجأوه إلى بستان من بساتين الطائف، فجلس يسترد قواه، ورددت شفتاه عليه السلام هذا الدعاء الخالد الدال على المدى الذي وصله الناس في إيذائه واضطهاده عليه السلام، ويدلل أيضاً على مدى الإيمان الذي يتمتع به الرسول الكريم، فقال: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، أن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل عليَّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك».

الحرص على هداية الناس: والرسول في هذه الحال التي وصفت أتاه جبريل وقال له: إن الله أمرني أن أطيعك في قومك لما صنعوه معك، فقال عليه السلام: «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون»، فقال جبريل: صدق من سماك الرؤوف الرحيم، ثم عاد الرسول إلى مكة ولم يستطع دخولها إلا بعد احتمائه بالمطعم بن عدّي.
والرسول في هذه الحال من الشدة والمعاناة، وقد أغلقت في وجهه سبل الدعوة وأبوابها على الأرض تفتح له أبواب السماء، وتكون حادثة الإسراء التي تؤكد الارتباط الخالد بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى قرآنا يتلى على مر العصور، وبذلك تم الربط بين القبلة الأولى والقبلة الثانية، كما تؤكد بإمامة الرسول صلى الله عليه وسلم بجميع الأنبياء في المسجد الأقصى أنه الرسول الخاتم وللناس كافة، وتكون حادثة المعراج إلى السماوات العلى، ويكون فيها فرض الصلاة لتكون معراجاً لأرواح المسلمين على مر العصور تحكم صلتهم بالله سبحانه، ويسجل ذلك القرآن الكريم في مطلع آيات سورة الإسراء وفي آيات سورة النجم، قال تعالى: {سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَا ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ} [الإسراء: 1]، وقال سبحانه: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ (13) عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ (14) عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ (15) إِذْ يَغْشَىٰ ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ (16) مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ (17) لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ} [النجم: 13 – 18].
وقال جل من قائل: {ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِٱللَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ} [البقرة: 285].
هم الرسول صلى الله عليه وسلم ينصرف إلى الوفود التي تحضر المواسم: وفي مكة والرسول عليه السلام قد اقتنع أنه لا خير في قريش أخذ يوجه همه إلى المواسم العربية يدعو الوافدين إليها إلى دين الله، ويخبرهم أنه رسول الله ويسألهم حمايته ونصرته حتى يبلغ دينه تعالى.
قال ربيعة بن عباد: (أني لغلام شاب مع أبي بمنى ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل من العرب، فيقول: «يا بني فلان إني رسول الله إليكم يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وأن تخلوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي وتصدقوا بي حتى أبين من الله ما بعثني به». وخلفه رجل أحول وضيء له غديرتان عليه حلة عدنية فإذا فرغ رسول الله من قوله، وما دعا إليه؛ قال ذلك الرجل: يا بني فلان إن هذا إنما يدعوكم أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم.. إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه، ولا تسمعوا منه، فقلت لأبي من هذا الذي يتبعه، ويرد عليه ما يقول؟ قال: هذا عمه عبد العزى بن عبد المطلب أبو لهب.
هكذا عرض الرسول نفسه على كندة فأبوا، وعلى بني عمّار بن صعصعة.
فطلبوا منه أن يكون لهم الأمر من بعده، فقال لهم الرسول: «الأمر لله يضعه حيث يشاء». وعلى بني حنيفة ولم يكن من القبائل اقبح رداً منهم وهم رهط مسيلمة الكذاب، والسبب في رفض هذه القبائل الإيمان بالإسلام يعود لمعارضة قريش له، ودعايتها ضده بين القبائل، ثم وهذه القبائل لا تستطيع لقريش معارضة وحرباً؛ وهي مركز العرب الديني الأول، ومجمعهم التجاري الكبير.
واستمر الرسول على ذلك لا يسمع بقادم إلى مكة من العرب إلا دعاه إلى الإسلام، وفي أحدى المواسم وبينما الرسول عند العقبة، وهي التي ترمى عندها الجمار في الحج، فإذا به يلقى رهطاً من الخزرج من أهل يثرب يبلغ عددهم الستة، فكلمهم الرسول داعياً الله فقال بعضهم لبعض: إنه للنبي الذي كانت تعدكم(8) اليهود فلا تسبقنكم إليه، فآمنوا به، وقالوا له: إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك، ووعدوه المقابلة في الموسم القادم.

بيعة العقبة الأولى: فلما رجعوا إلى يثرب ذكروا لقومهم لقياهم رسول الله ودعوهم إلى الإيمان به، وفي الموسم القادم قدم إلى مكة اثنا عشر رجلاً من الأوس والخزرج، ولقوا رسول الله في العقبة، وهناك بايعوا رسول الله على: فعن عبادة بن الصامت بألفاظ متقاربة: بايعنا رسول الله ليلة العقبة الأولى: (ألا نشرك بِالله شيْئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أَولادنا، ولا نأتي بِبهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، وقال عليه الصلاة والسلام: «فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم شيئا من ذلك فأخذتم بحده في الدنيا فهو كفارة له، وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة، فأمركم إلى الله، إن شاء عذب، وإن شاء غفر(9). فإن وفوا فلهم الجنة، وإن غشوا من ذلك شيئاً فأمرهم إلى الله عز وجل إن شاء عذب وإن شاء غفر» وسميت هذه البيعة بيعة النساء لتميزها عن بيعة الحرب، وهي بيعة العقبة الثانية، ولأنها على نمط بيعة النساء التي كانت في اليوم الثاني من فتح مكة على جبل الصفا بعد الفراغ من بيعة الرجال. ولما غادروا مكة إلى المدينة أرسل الرسول معهم مصعب بن عمير؛ يعلمهم القرآن، ويفقهم في الدين، وهو الذي أصبح صاحب خبرة واسعة بعد رجوعه من الحبشة، وتخرجه من مدرسة الاضطهاد التي أرادتها قريش لأصحاب محمد فتخرجوا منها وهم أشد حماسة، وأخبر بمقاومة الشدائد، وهناك في المدينة تمكن مصعب بن عمير والمؤمنين الجدد من نشر الإسلام بشكل قوي حتى لم تبق دار من دور يثرب إلا ويذكر فيها رسول الله بخير .

بيعة العقبة الثانية: في موسم الحج من العام التالي خرج مؤمنون من أهل يثرب قاصدين تأدية مناسك الحج في مكة، وهناك وفي العقبة اجتمع هؤلاء مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأرادوا مبايعته، وقالوا له: خذ لنفسك ولربك ما احببت، فقال: «أشترط لربي أن تعبدوه وحده، ولا تشركوا به شيئا، ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم متى قدمت عليكم». فأمسك البراء بن معرور وكان من أهل يثرب بيده وقال له: نعم والذي بعثك بالحق نبياً لنمنعك مما نمنع منه أزرنا (تستعمل كناية عن النساء أو النفوس)، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحلقة، ورثناها كابراً عن كابر. وهنا، والبراء ما يزال يتكلم، وقف أبو الهيثم ابن التيهان، وقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالا وأنا قاطعوها(يعني عهودهم مع اليهود) فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا. ففتر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثل حب اللؤلؤ، وقال: «بل الدَم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم». وبعد ذلك تمت البيعة، وانتدب الرسول عليهم اثني عشر نقيباً منهم عليهم.

في دلالة البيعة هذه: وسميت هذه البيعة ببيعة الحرب، وذلك لأنهم فهموا من قولهم، منع الرسول مما يمنعون منه نساءهم وأولادهم، أنهم يبايعونه على حرب الأحمر والأسود، فقد اعترض العباس بن عبادة القوم لما هموا بالمبايعة قائلاً: يا معشر الخزرج أتعلمون علام تبايعون الرجل؟! إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلاً  أسلمتموه، فمن الآن فدعوه، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة. وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة. فأجاب القوم: إنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك، فأجابهم عليه الصلاة والسلام بثقة واطمئنان قائلاً: «الجنة»، وذلك كله يحدث عند توافر شرط المنع والحماية، وشرط وجود التعدي فلا يكون منع و حماية إلا بعد تعدي. ولا يفهم من بيعة العقبة هذه أن فيها إعلاناً للحرب وإذناً بالقتال، يدلل على ذلك أن العباس بن عبادة قال للرسول عليه السلام بعد انتهاء المبايعة: والله الذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى غداً بأسيافنا. فقال الرسول عليه السلام: «لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم»(10).
وغاية ما تدل عليه هذه البيعة المسماه ببيعة الحرب أن القوم فهموا أنهم ببيعتهم هذه سيدفعون عن الرسول صلى الله عليه وسلم كل اعتداء عليه، وذلك عند خروجه وهجرته إليهم. ويدلل على أن المنع سيكون عند هجرته إلى المدينة ما جرى قبيل غزوة بدر من أن الرسول قال لأصحابه: «أشيروا علي» – يريد بذلك الأنصار لأنه كان متخوفاً من أن يكون الأنصار لا يرون نصرته إلا ممن يدهمه في المدينة – وكان هذا التخوف نابعاً مما جرى في بيعة العقبة الثانية هذه، فقال له سعد بن معاذ الأنصاري: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله. قال: «أجل». فرد عليه سعد قائلاً: لقد آمنا بك وصدقناك، شهدنا أن ما جئت به الحق، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، فهذه البيعة ما هي إلا مرحلة من مراحل الدعوة كانت لازمة لسعي الرسول صلى الله عليه وسلم لإيجاد منطلق ومركز جديد للدعوة.

هجرة الأصحاب إلى المدينة: ازداد أذى قريش على الرسول وأصحابه عندما تأكدت من محالفتهم أهل يثرب عليها، فأمر الرسول أصحابه بالهجرة إلى يثرب؛هرباً بدينهم وأنفسهم من اعتداء قريش، وكانت هجرتهم لها ارسالا ومستخفين حتى لا يثيروا قريشاً فيما اذا هاجروا مجتمعين، ولكن قريش عرفت بالأمر، وأخذت تمنع من تستطيع منعه من المسلمين من الهجرة لتعذبه حتى تفتنه عن دينه. وهكذا تتابع المسلمون مهاجرين إلى يثرب التي سميت فيما بعد بالمدينة.
وأراد أبو بكر الهجرة، ولكن الرسول قال له: «لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً» فيطمع أبو بكر أن يكون هذا الصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك ابتاع راحلتين وحبسهما في داره إعداداً لذلك.

ج. محاولة القتل: والثالث مما عمدت إليه قريش مع الرسول الكريم كان محاولة قتله عليه السلام، وخبر هذا: أن قريشاً بعد مبايعة اليثربيين للرسول صلى الله عليه وسلم الذود عنه حتى الموت، أخذت تحسب لخروج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يثرب ألف حساب فها قد أصبحت يثرب مجمعاً إسلامياً ضخماً بهجرة المسلمين إليها، وهي تقع في طريق تجارة مكة، والتي هي مصدر رزق القرشيين الأساسي، فإذا خرج الرسول هنالك كان في إمكانه مهاجمة طرق تجارة مكة ومحاصرتها، كما فعلت معه عندما حاصرته في شعب أبي طالب، بل سيكون في إمكانه مع الأيام مهاجمة مكة واحتلالها، لذا اجتمع كبار قريش وأشرافها في دار الندوة والتي هي دار قصي بن كلاب، وكانت قريش لا تقضي أمرًا إلا بها، وأخذوا يتشاورون في أمر محمد عليه الصلاة والسلام، ووصلوا في اجتماعهم هذا إلى وجوب قتله، وذلك لأنهم لايستطيعون تركه يخرج ليثرب لما ذكرت، ولا يستطيعون حبسه، وذلك خوفاً من تجمع أصحابه وقدومهم لإخراجه، وحتى لا يطالب بنو هاشم والمطلب بدمه، فيثيروا عليهم القلاقل والمشاكل، والتي قد تكون أشد مما أرادوا دفعه قرروا أن يأخذوا من كل قبيلة شاباً قوياً ويعطوه سيفاً بتاراً، ويجتمع هؤلاء الشباب المختارون من القبائل أمام داره فإذا خرج ضربوه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه بين القبائل فلا يستطيع بنو هاشم والمطّلب حرب كل بطون قريش فيرضون بالدية. وقوله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].

هجرة النبي صلى الله عليه وسلم: عزمت قريش على هذا، فأعلم الله رسوله بهذا، وأذن له بالهجرة إلى يثرب؛ وفي ليلة التنفيذ وضع القرشيون أناس لمراقبة فراش الرسول r حتى لا يفوتهم وذلك لتوقعهم مغادرته مكة في أي لحظة، ولكن الرسول أنام علي بن أبي طالب فإذا نظر هؤلاء إلى الفراش، ورأوا ما فيه اطمأنوا إلى أن محمداً، لم يخرج، وفي ثلث الليل الأخير خرج الرسول الأعظم في غفلة منهم، واستقبل هو وأبو بكر المدينة مهاجرين، وسلكوا إليها طرقًا ملتوية، وأقاما بغار ثور الواقع جنوب مكّة ثلاثة أيام، لتعمية أنظار قريش عنهما، علمت قريش بخروج الرسول فجنّ جنونها، وأرسلت من يبحث عنه في كل جهة، ووضعت مئة من الإبل مكافأة لمن يأتيها به حياً أو ميتاً، فخرج المغامرون يبحثون عن الرسول في كل مكان، لكن خاب مسعاهم، ووصل الرسول وصاحبه إلى يثرب بسلام وأمان، بعد أن لاقوا المتاعب الكثيرة من ملاحقة قريش لهم، ومن شدة الحر ووعورة الطريق التي سلكوا وطولها، فلقد استمر سيرهم سبعة أيام بكاملها.
يقول وليم موير (احتمل المؤمنون العذاب بروح الصبر والسماح – فمائة رجل وامرأة آثروا نبذ الوطن وراءهم ظهريا، وسعوا إلى معزل بالنفي في الحبشة فرارا من أن يفتنوا في دينهم العزيز عليهم حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولا، وها هم أولاء الآن في عدد أكبر بكثير وفيهم النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه يخرجون من مدينتهم الوالهين بها فرارًا بدينهم إلى المدينة)(11).

حقد وأي حقد: فشلت قريش فيما أرادت، ولكنها نفّست عن حقدها على الرسول وأصحابه باشتدادها في التعذيب على من منعته من الهجرة من أمثال الوليد بن الوليد وهشام بن العاص وعباس بن ربيعة، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو لهم كثيرًا في صلاته بالمدينة.

الهجرة نقطة تحول: وهكذا تمت الانطلاقة الجديدة التي بتمامها انتقلت الدعوة الإسلامية من مرحلة إلى مرحلة؛ من مرحلة التحمل والصبر، إلى مرحلة الأعداد والتحضير لرد الاعتداء بكل قوة، وذلك عندما توافر للمسلمين منطلق جديد للدعوة بشكل يكونون فيه مستقلين؛ في إمكانهم الإعداد والاستعداد؛ فالهجرة نقطة تحول خطيرة في تاريخ نشر الدعوة الإسلامية وامتدادها.
وهذا الذي دفع عمر بن الخطاب لتحديدها كبداية للتاريخ الإسلامي المسمى بالتاريخ الهجري.
وقد اهتم القرآن الكريم بالهجرة وبين أنها فضل الله ونعمته على المسلمين، قال تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلْعُلْيَا وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التوبة: 40]، وقال سبحانه: {وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].

في المدينة: ولم تكن طريق الدعوة في المدينة مفروشة بالورود والرياحين، بل بالإضافة إلى عداء قريش الذي استمر بعد الهجرة بشكل أقوى مما عليه كان عداء اليهود للدعوة يساعدهم في عدائهم هذا فئة المنافقين، وهي الفئة التي اعتنقت الإسلام شكلاً، وأخذت تحاربه بكل ما تستطيع من الوسائل، وهذه الفئة كانت خطيرة على الدعوة خطراً شديداً، وذلك لأنها كانت مندسة في صفوف المسلمين تعلم أسرارهم وتخبرها لأعدائهم التقليدين، وكانت تسعى للإيقاع بين فئات المسلمين المهاجرين والأنصار، الأوس والخزرج، ولكن الرسول قبل الظاهر وترك لله الباطن وحذر منهم على كل حال.

فأما علاقتهم مع اليهود: فقد كان متوقعاً منهم الإيمان بالإسلام، وعدم سلوك مسلك مشركي قريش، وذلك لأن الإسلام في أسسه يتفق مع ما في ديانة موسى عليه السلام قال تعالى: {ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146].
وهؤلاء اليهود هم الذين كانوا يستفتحون على أهل المدينة بزمان نبي قد اقترب ظهوره آخذين ذلك من توراتهم، ولكنهم لم يؤمنوا به، قال تعالى: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ} [البقرة: 89].
بل لقد سفهوا وناصبوا العداء لكل من آمن منهم، وذلك كما فعلوا مع عبد الله بن سلام وجماعته، فبعد أن كانوا يعدونه من زعمائهم وخيرة أحبارهم عدوه من سفهائهم وأعدى أعدائهم.
واليهود قد شاركوا أهل المدينة بفرحتهم بقدوم الرسول، ولكنها كانت مشاركة في الظاهر، وذلك لرغبتهم في عدم الوقوف في وجه تيار الفرحة الدافق الذي عم أهل المدينة، وموقفهم هذا أملته عليهم طبيعتهم في التملّق والنفاق للمجتمع الذي يفقدون السيطرة عليه، ولكنهم يضمرون الحقد والكراهية لمن سلبهم السيطرة، ويعملون لاستعادتها بكل وسائل المكر والخداع والدس والتعمية والمؤامرات، وهذه ناحية بارزة في اليهود يلاحظها كل من يتتبع تاريخهم على مر العصور، وقد يكون توجيبهم هذا ناتجاً عن رغبتهم في استمالة الرسول إليهم، ولكنهم لما يئسوا من ذلك عادوا إلى طبيعتهم المعروفة.

ما أروع هذا الموقف: الذي تجلّى في الكتاب الذي كتبه عليه السلام بعد الهجرة لتنظيم العلاقات بين فئات السكان في المدينة المنورة والذي يعتبر في نظر كثير من الباحثين بمثابة الإعلان الدستوري للدولة الوليدة، وموقف الرسول منهم عند قدومه المدينة كان فيه أحسن رد على استقبالهم له بالترحيب، وقد دلل موقفه هذا على تقدير الإسلام لحرية الأديان وإيمانه العميق بالتسامح الصحيح، وعدم الإجبار على الإسلام بأي حال من الأحوال، فما أن وصل المدينة حتى كتب عليه السلام كتاباً بين المهاجرين والأنصار بين فيه موقفه من اليهود، فأبدى رغبة المسلمين في التعاون مع اليهود في سبيل حفظ الأمن ونشر السكينة والقضاء على العابثين بالأمن ومدبري الفتنة في ربوع المدينة، ولقد طلب منهم أن يسهموا في نفقات الدولة الجديدة كما يسهم المسلمين، وأن يتعاونوا معهم لدرء الخطر عن المدينة فيما إذا هاجمها أي عدو من الخارج، وأن يشاركوا المسلمين في نفقات الحرب إذا كانت الدولة في حالة حرب، فلقد كان به تحالف دفاعي وتعاون تام ضد العدوان والتعدي من أي مصدر كان.
ثم أعلن حرية الأديان، وأن لليهود دينهم وأموالهم، وللمسلمين دينهم وأموالهم، وكذلك فرض الحماية على المسلمين لمن أراد أن يعيش معهم من غيرهم مسالماً متعاوناً وأعلن أيضاً حرية الانتقال في الدولة، وأن لا يؤاخذ إنسان بجريمة أو ذنب غيره.
وطلب الرسول في هذا الكتاب من المسلمين ومن غيرهم عدم إسداء أية معونة لمشركي قريش الذين ناصبوا الإسلام العداء من يوم ظهوره.
هكذا كان موقف الرسول من اليهود موقف التسامح والاحترام ورغبة التعاون التام، وإقرار العدالة بين جميع الناس، ففي هذا الكتاب اعتبر المسلمون أمة واحدة دون الناس، فعاقدت هذه الأمة الأمم الأخرى، والتي تدين بديانات أخرى، فنشأ من ذلك التعاقد الأممي ميثاق تتعاون فيه الأمم على نصرة المظلوم و حماية الأوطان وصون عقائد المتعاقدين وضمان الحرية لهم في الدعوة لدينهم يقول عبد الرحمن عزام: (ولقد سبق الإسلام بهذا الميثاق عهد عصبة الأمم الحديثة بأكثر من ثلاثة عشر قرناً وهذا التحالف ابتدأ به رد الفعل لاضطهاد وظلم دام أربع عشرة سنة لم تمنع فيه عظة حسنة ولا لين ولا قربى ولا رحم ولا هجرة)(12).
ولم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم بتنظيم العلاقات بين فئات السكان في المدينة المنورة بإصدار هذا الكتاب، إنما قام بجملة من الأعمال الأساسية لبناء الدولة وإقامة المجتمع الإسلامي الأول فكان من أعماله الأولى في المدينة المنورة بعد الهجرة إليها بناء المسجد لتحكم به العلاقة بالخالق جل وعلا، وتبنى الشخصية الإسلامية السوية، وكان أيضاً من أعماله الأولى المؤاخاة التي أقامها بين المهاجرين والأنصار، وكذلك إنشاء سوق للمسلمين في المدينة ليكسر احتكار اليهود للتجارة بسيطرتهم على سوق المدينة، هذا غير اهتمامه عليه السلام بتحريك السرايا ومواجهة من يحاولون الاعتداء على المجتمع الوليد كما سنري في هذه الدراسة.

عاد اليهود إلى طبيعتهم: ولكن كيف يخلص اليهود لما جاء في نصوص هذا الكتاب، وهم ما سكتوا إلا لأنهم لمحوا فيه مصلحة مؤقتة، فلما زالت هذه المصلحة وتأكدوا من أن الإسلام سيصنع من العرب أمة واحدة قوية تزداد وتتسع مع الأيام، كيف لا واليهود لا يعيشون ولا ينعمون بالراحة والهدوء إلا بالتفرقة والتمزيق، وذلك حتى تسهل سيطرتهم على المتفرقين، فعاد اليهود إلى طبيعتهم، وناصبوا دين الإسلام العداء، وأخذوا يكيدون في كل مجال؛ فشجعوا المنافقين وعاونوهم، وأخذوا يطعنون في كثير من المبادئ الإسلامية التي وردت في القرآن الكريم، مما خلق حرباً جدلية طويلة بينهم وبين المسلمين قامت على تعنّت اليهود وانصرافهم عن الحق، وقد فاقت ما جرى مع مشركي مكة، وكانت غالباً ما تصل إلى التشابك بالأيادي بين المتجادلين، وعمدوا إلى الاستهزاء والسخرية بالمسلمين، ومحاولة الإيقاع بينهم، كما حاولوا ذلك مراراً بين الأوس والخزرج بتذكيرهم بالحزازات القديمة والحروب التي كانت بينهم قبل الإسلام كيوم بعاث وأسبابه، وأخيراً بإعلان التحدي الحربي للمسلمين، وقتل بعضهم كما سيأتي.

الموقفان: هكذا تبع اليهود والمنافقون قريشاً في سيرها في طريق العناد ومجانبة الصواب ثلاثة عشر عاماً، حتى أخرجت الرسول وأصحابه من مكة بغير حق تاركين ديارهم وأموالهم، نهباً لهؤلاء المعاندين المعتدين، وبقي الرسول يتلطف في عرض الإسلام، ويبين مختلف نواحيه بالحكمة والموعظة الحسنة، بالتبشير والإنذار، وبكل وسائل الاقناع السلمي، وشعاره في ذلك قوله تعالى: {فَٱعْفُواْ وَٱصْفَحُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 109]. وقوله تعالى: {فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} [الأحقاف: 35].
هذا ولقد تتابعت الآيات تحذر الأعداء من الاستمرار في عدائهم وإلا فأنهم سيلاقون ما لاقاه من قبلهم من الهلاك والتدمير، ولكنهم أصروا على غيهم، ولم يرتدعوا عن باطلهم فجاء أمر الله.

ثالثاً: مرحلة الجهاد وإقامة المجتمع الإسلامي الأول بالهجرة وتحديد العلاقة مع غير المسلمين قرآناً وسنة وسيرة:

أ- الإذن بالقتال ثم الأمر به:
لماذا جاء الإذن ثم الأمر استمرت قريش بعد الهجرة في عدائها لرسول الله ودينه وصحابته، فلما رأت أنه عليه السلام وجد من شباب يثرب عوناً ومبايعة على الموت في سبيل الدعوة اعتبرت أن في هذه القوة الجديدة الخطر كل الخطر عليها، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فهي ومن والاها ترغب في القضاء على هذا التجمع الإسلامي الذي يتسع يوماً بعد يوم حتى لا ينازعها السيادة على بلاد العرب، ويصرفهم عنها إليه فهي باستمرارها في العداء تأمل هذه المرة القضاء على الدعوة قضاء مبرماً، وأخذت في إيجاد التجمعات من كثير من قبائل العرب لتكون لها عوناً في هدفها هذا، وأخذت الأنباء تتابع إلى الرسول الكريم بأن قريشاً تدبر أمراً وتتربص به الدوائر لتفاجئه في معقله الجديد وتحمل على طرده منه كما طردته من مكة.
وهي ما زالت معلنة حالة الحرب على الرسول عليه الصلاة والسلام ودعوته، يساعدها في ذلك العديد من قبائل العرب.
والمستضعفون من أصحابه عليه السلام يلاقون أشد أنواع التعذيب في مكة، وأصحابه صلى الله عليه وسلم في المدينة من المهاجرين أخرجوا من أوطانهم وأموالهم. واليهود بطبيعتهم الحاقدة المتآمرة يجاورون الرسول عليه الصلاة والسلام، ويعرف ذلك منهم، وهاهم بدأوا في المعاداة العلنية للدعوة، والدعوة الإسلامية يجب أن تبلغ، وأن يزال كل مانع للتبليغ من طريقها، وأي منع أشد من هذا المنع؟ والمسلمون بعد سنين من الضعف والأذى والصبر أصبحت لهم قوة ومعقل وأنصار.
والإسلام دين واقعي يواجه الواقع، ولا يهرب منه، محلقاً في أجواء المثل العليا، تاركاً الناس الذين لا يؤمنون بهذه المثل بل يحاربونها ولا يحترمونها ينعمون على الأرض فكان لا بد للإسلام من الاحتماء بالقوة، والاستعداد لرد كل عدوان، أياً كان نوعه حتى تبلغ الدعوة كل الناس، وتعم أرجاء الكون، ولا يجد الناس حرجاً في اتباعها من ظالم أو متسلط أو معاند.

آية الإذن: لهذا وغيره أذن الله المؤمنين بالقتال، وكان في بداية السنة الثانية من الهجرة، وقبل هذا الإذن لم يكن القتال مشروعاً للمسلمين، فنزل قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) ٱلَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا ٱسمُ ٱللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) ٱلَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَـاةَ وَأَمَرُواْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ ٱلأُمُورِ} [الحج: 39 – 41].
فهذه الآية هي أول الآيات التي نزلت بالقتال والإذن به، ويلاحظ على هذه الآية الكريمة ما يلي:

  1. قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} يفيد أن الحالة في الإذن لهم بالقتال هي كونهم يقاتلون اضطهاد وتعذيباً، وهذا واضح مما سبق عرضه، ومن القواعد الأصولية المقررة من أن تعليق الحكم بالمشتق يفيد علية ما منه الاشتقاق، ويقاتلون مشتقة من المقاتلة، فالإذن بالقتال كان رداً لهذه المقاتلة أي رداً للعدوان ومعاملة بالمثل.
  2. وقوله تعالى: {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ} يفيد أن هذه المقاتلة التي وقعت من أعدائهم كانت ظلماً وعدواناً متعسفاً لا مبرر له.
  3. وقوله تعالى: {ٱلَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ} بيان لنوع من أنواع المقاتلة والاضطهاد الذي حصل من هؤلاء وهو أخراج المسلمين من الوطن والمال، وأي ظلم أشد من أن يخرج الإنسان من وطنه ويشرد من أرضه وماله.
  4. وقوله تعالى: {إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ} بيان لأن المؤمنين لم يضطهدوا ويقاتلون ألا لأنهم آمنوا بالله وخالفوا قومهم في عبادتهم للآلهة الباطلة، فمما شرع القتال لأجله هو تأمين حرية العقيدة لهم.
  5. وقوله تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا ٱسمُ ٱللَّهِ كَثِيراً} يبين أن هذا القتال الذي شرع ليؤمن حرية العقيدة سيستفيد منه غيرهم، فليس ذلك لهم فقط، بل ولأصحاب الديانات السماوية الأخرى، فيحمي هؤلاء من استعلاء الملحدين والوثنين عليهم، وعلى أمكنة عبادتهم.
  6. وقوله تعالى: {ٱلَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَـاةَ وَأَمَرُواْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ} بيان لما يجب أن يكون عليه موقف المسلمين عندما ينتصروا.

الأمر بالقتال: وبعد هذه الآية تتابعت الآيات توجب القتال على المسلمين وتحضهم عليه، وهذا القتال الذي أباحه الإسلام وأذن به أولاً، ثم أوجبه وأمر به قتال يختلف عن أي قتال عرف في تاريخ البشرية أسباباً وطابعاً وأهدافاً كما هو معروف في تاريخ الحروب الإسلامية.

ب- في سبيل الدعوة:
مهمة الرسول الأولى هي تبليغ الدعوة، وإيصالها للناس، ومما يلزم به نجاح التبليغ وتمامه على خير وجه حمايته من كل اعتداء، لذلك كان للرسول صلى الله عليه وسلم قتال وغزوات. وإنني تحت هذا العنوان سأعرض لقتال الرسول عرضاً موجزاً أهتم بأسبابه وسيره العام، ثم أعرض أيضاً للجهود السلمية الأخرى في نشر الدعوة فلقد صور الأعداء في هذه الأيام حياة الرسول في المدينة حياة حافلة بالحروب والغزوات والسرايا و العنف بل والإبادة، قتال في قتال، ولكن الحقيقة أن حياة الرسول في المدينة كانت امتداد لحياته في مكة من حيث سعيه لتبليغ الرسالة الإسلامية على خير وجه بأي وسيلة مشروعة، لذلك سابحث هذه الفترة تحت عنوانين الأول «قتال الرسول» والثاني «الناحية السلمية للدعوة في المدينة».

أولاً: قتال الرسول: علمنا مما سبق أن حالة الحرب كانت قائمة بين قريش والمسلمين بسبب قريش، وكانت قريش تسعى لجمع قبائل العرب حولها في هذه الحرب ضد رسول الله، وكان من أهم مصادر الرزق للقرشيين تجارتهم مع الشام وطريق هذه التجارة لا بد وأن يمر على دار الهجرة.
وهذه الأمور حددت موقف الرسول في حربه مع قريش بما يلي:

أ- خروج الرسول على رأس جيشه أو إرساله السرايا لمصادرة قوافل قريش الذاهبة للشام أو الراجعة منها.
ب- الخروج لترقب أخبار قريش ومن والاها.
ج- الخروج لتأمين مسالمة القبائل العربية المتعددة له عليه السلام.
د- الدخول في معارك حربية في أي مكان إذا تحتم ذلك وكان لابد منه.

وبلغت غزوات الرسول 26 غزوة وسراياه 38 سرية، والغزوة التي حضرها الرسول الكريم، والسرية التي هي التي لم يحضرها في اصطلاح المؤرخين المسلمين. هذا وأنه قد يكون للسرايا والغزوات أهداف أخرى غير هذه الأهداف الكبرى، والتي منها أن يظهر المسلمون قوتهم أمام أعراب البادية الضاربين خيامهم حول المدينة، حتى لا يطمعوا في غزوها، والتعدي عليها، سيما وهم في ذلك الوقت قد طبعوا على حب الغزو والنهب والسلب، فيكون بهذه السرايا والغزوات إرهاب لهم فلا تتعرض المدينة على حين غفلة لشيء من أذاهم وضررهم.
ويكون فيها إرهاباً لمشركي المدينة ويهودها ومنافقيها حتى يعلموا أن عهد الضعف قد ولّى، وأن المسلمين قد أصبحوا في قوة ومنعة يردون على كل اعتداء بكل قوة.
ويكون فيها أشعار لقريش بان الأمر لم يعد سهلاً عليها، وعليها أن تحذر من الاستمرار في عدائها للرسول ودعوته، وذلك لأنها ستلاقي كل مقاومة ودفاع، بل قضاء عليها واحتلال لبلادها.
وفيما يلي عرض لتلك النواحي الأربعة الكبرى:

أ- خروج الرسول وإرساله السرايا لمصادرة قوافل قريش الذاهبة إلى الشام والراجعة منها: قالى تعالى: {وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120] وهذا الخروج والإرسال ليس رغبة في سلب الأموال وقطع الطرق، كما حاول تصويره بعض المستشرقين ومن يسير وراءهم، وقد دفع إلى هذا الموقف:
1. عمل قريش في طردها المسلمين من ديارهم وأموالهم، فكان في هذا الموقف من المسلمين معاملة بالمثل واسترجاع لأموالهم وحقوقهم، مصادرة بمصادرة، واستيلاء باستيلاء، وعقاب المشركين على فعلتهم، وهذا المبدأ معترف فيه في كل زمان ومكان، فمثلاً في هذه الأيام أيلام العرب إذا صادروا سفناً لإسرائيل حاولت عبور قناة السويس، كما فعلوا مراراً؟! ويدل على هذه الناحية أن أفراد هذه السرايا كانوا كلهم من المهاجرين أصحاب الحق الذين سلبت ديارهم وأموالهم، وكانوا كذلك حتى استحكمت الحرب بين المسلمين وقريش، فأعانهم الأنصار وغيرهم على هذه الأعمال.
2. أن الحرب أي حرب لا تكون فقط بالقتل والقتال، بل تكون أيضاً بتخضيد قوة الأعداء عن طريق مصادرة أموالهم التي عليها يعتمدون في حروبهم، فالعملية ما هي إلا إضعاف للقوة المالية والاقتصادية والتي تكون بها الحروب والمعارك، فيكون ذلك أدعى لخذلان العدو في الحروب التي ستقع، ثم وهذا النوع من الحروب جرى ويجري في مختلف العصور، فهو نوع من حرب العدو اقتصادياً.
ومن هذه الغزوات والسرايا(13) السرية التي أرسلها الرسول بقيادة عبيدة بن الحارث في أواخر السنة الأولى من الهجرة، وهي أول سرية بعثها الرسول، وسرية حمزة التي جاءت بعدها، والسرية التي أرسلها الرسول في السنة الثانية من الهجرة بقيادة زيد بن حارثه في مائة راكب بعد أن غيرت قريش طريق قوافلها إلى طريق العراق، فسارت السرية، ولقيت عير قريش عند ماء اسمه القرده فصادرتها ولم يحدث قتال فيها، ومثلها السرية التي أرسلها الرسول عليه الصلاة والسلام في السنة السادسة أيضاً بقيادة زيد بن حارثه.

ب. خروج الرسول أو إرساله السرايا لترقب أخبار العدو: لقد كان الرسول مقتنعاً أن قريشاً لن ترجع عن غيها بسهولة، وبخاصة والأنباء تتردد إليه عن استعداد قريش لغزوه في مستقره الجديد لتقضي على الدعوة قبل استفحال أمرها، فكان من حسن السياسة وحق الدفاع ومما يقره العرف الدولي في هذه الأيام أن يخرج الرسول أو يبعث السرايا ليتعرف على أخبار العدو وما يعده وما يستعد له، ومن هذا النوع غزوة بواط في السنة الثانية، وسرية سعد بن أبي وقاص، وفي رجب من السنة الثانية أرسل عليه السلام سرية عدتها ثمانية رجال يرأسهم عبد الله بن جحش وأعطاه كتابا مختوماً وأمره ألا ينظر فيه إلا بعد مسيرة يومين، فسار عبد الله وبعد يومين فض الكتاب وقرأه فإذا فيه «إذا نظرت في كتابي هذا فامضي حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريش وتعلم لنا من أخبارهم».

ج. خروج الرسول أو إرساله السرايا لتأمين مسالمة القبائل العربية للمسلمين:
كانت قريش تحضر لتكتيل القبائل العربية حولها في حرب الرسول عليه السلام، ففطن لذلك عليه السلام، وصار يخرج أو يرسل السرايا ليتم فيها تحديد مواقف القبائل المختلفة من المسلمين، فإما أن تسالم الرسول وتحالفه، وإما أن يعرف فيها الرسول روح العداء، فيحذر منها هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كانت القبائل العربية كما هو معروف في ذلك الوقت ترغب في الغزو والسلب فعندما ترى قوة الرسول تبتعد عن غزو المدينة كما ذكرت سابقاً، فلا يتكرر الفعل الذي قام به كرز بن جابر الفهري الذي أغار على المدينة في السنة الثانية من الهجرة وقد خرج الرسول في طلبه، بعد ذلك سمي هذا الخروج بغزوة بدر الأولى ولكنه لم يلحق به، ومن هذا النوع كانت غزوة ودان التي صالح فيها بني ضمرة على أنهم آمنون على أنفسهم، ولهم النصر على من اعتدى عليهم على أن ينصروا المسلمين إذا دعوا، وغزوة العشيرة التي صالح فيها الرسول بني مدلج وحلفائهم، وكانت هاتين الغزوتين في الأصل لمصادرة قوافل قريش فيها، وفيهما سبقت القوافل وصول المسلمين. وقد كان يقوم الرسول بمثل هذا الخروج في إرسال السرايا بين الفينة والأخرى وكثيراً ما كان لا يجد أحداً فيعود، وكان يخرج خاصة إذا علم أن هناك تجمعات ضده، كما في غزوة غطفان وغزوة بحران في السنة الثالثة وغزوة الرقاع في السنة الرابعة وغزوة دومة الجندل وبني المصطلق في السنة الخامسة.

د. الدخول في معارك في أي مكان، إذا تحتم ذلك، وكان لا بد منه: دخل الرسول معارك عديدة حتمتها ضرورة حماية نشر الدعوة من مختلف أنواع العدوان التي حصلت  ضدها، وفيما يلي ذكر المهم من هذه المعارك مع بيان الأسباب التي جعلتها أمراً لا بد منه:

1- معركة بدر كانت في اليوم السابع عشر من شهر رمضان للسنة الثانية من الهجرة، وسببها أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما علم برجوع القافلة التجارية الضخمة التي خرجت إلى الشام، والتي حاول الاستيلاء عليها بغزوة العشيرة، ولكنه لم يستطع ذلك، لأنها فاتته، قال لأصحابه: هذه عير قريش فاخرجوا إليها، لعل الله أن ينفلكموها. فخرج معه ثلاثمائة وثلاثة عشر أو أربعة عشر رجلاً، ولم يخرج معه كثير من المسلمين لأنهم لم يعلموا أن رسول الله سيلقى حرباً، وكان معهم سبعون جملاً وفرسان أو ثلاثة أفراس فقط. وعندما علم أبو سفيان قائد هذه القافلة بخروج الرسول غير طريق القافلة، وبعث من يخبر قريشاً بخروج الرسول، فخرجت قريش بنحو ألف مقاتل معهم سبعمائة بعير ومائة فرس ومعهم القيان يضربن لهم بالدفوف ويغنين بهجاء المسلمين تحميساً لهم، واستطاع أبو سفيان بتغييره طريق القافلة أن ينجو بها، وأرسل إلى قريش أن تعود إلى مكة، لأن القافلة نجت، وهذا ما خرجت لتحقيقه لكن أبا جهل قال: «لا نرجع حتى نحضر بدراً فنقيم فيها ثلاثاً ننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبداً»
وأما الرسول فإنه لما خرج بأصحابه عليه السلام أرسل من يأتيه بأخبار العير، ولكنه لما بلغ الروحاء – اسم مكان – جاءته الأخبار بمسير قريش لمنع أموالهم، وبأن العير ستصل بدراً أيضاً، فجمع أصحابه وقال لهم «أيها الناس إن الله قد وعدني أحد الطائفتين أنها لكم العير أو النفير» فسار بهم إلى بدر، ولما لم تحضر القافلة، بل وجد قريشاً هنا صف الجيش، ونظر إلى قريش وقال: «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك، وتكذب رسولك، اللهم نصرك الذي وعدتني به» وفي هذا الوقت حاول جماعة من كبار قريش منهم عتبة بن ربيعة منع قريش من الحرب، وطلبوا منها العودة من حيث أتت لكن أبا جهل اتهمهم بالجبن وقال: «والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد..».
واشتبك الفريقان، وحكم الله بينهم وبين محمد صلى الله عليه وسلم فأعطى النصر لرسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، وهزمت قريش شر هزيمة، وقتل منها سبعون فارساً وأسر سبعون آخرون، وقد سجل القرآن الكريم هذا النصر فقال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران: 123].

2.جلاء بني قينقاع من اليهود: بعد انتصار المسلمين على عدوهم في بدر بدت واضحة بغضاء بني قينقاع للمسلمين، وقد كانوا من أشجع اليهود وأمرسهم على القتال، فانتهكوا حرمة سيدة من نساء الأنصار، وقتلوا المسلم الذي قتل من انتهك حرمتها، فدعا الرسول زعمائهم وحذرهم، وحذرهم من مغبة نقضهم العهد الذي بينهم وبين المسلمين فقالوا له: «يا محمد لا يغرنك ما لقيت من قومك، فإنهم لا علم لهم بالحرب، ولو لقيتنا لتعلمن أنا نحن الناس» فعند ذلك نبذ لهم عهدهم، فتحصنوا بحصونهم، فحاصرهم الرسول خمس عشرة ليلة بعدها طلبوا من الرسول أن يتركهم ليخرجوا من المدينة، وترافقهم نساؤهم وأولادهم ويتركوا للمسلمين الأموال، فقبل منهم الرسول، وخرجوا إلى أذرعات في شمال الجزيرة العربية.

3. وبعد هزيمة قريش في بدر: رأى أبو سفيان رداً لاعتبار قريش، وإبرازاً لقوتها أن يفاجأ المدينة بغارة خاطفة فحقق لقريش ذلك، وكان قد أقسم ألا يصيب رأسه ماء حتى يغزو محمداً صلى الله عليه وسلم، وخرج في مائتي راكب حتى وصل إلى مساكن بني النضير في أطراف المدينة، وقاموا ببعض الاعتداءات على أطراف المدينة، وقتلوا رجلاً من الأنصار وحليفاً له، ثم لاذوا بالفرار عائدين إلى مكة، وأخذوا يتخففون مما يحملون من الأزواد وبخاصة السويق، وقد طاردهم المسلمون لما علموا بفعلتهم وغنم المسلمون ما تحققوا به سويق وغيره، وسمي هذا الخروج بغزوة السويق.

4. معركة أحد: بعد عودة قريش من معركة بدر اجتمع من بقي من أشرافها إلى أبي سفيان رئيس تلك القافلة التي جلبت عليهم المصائب والأحزان، وقالوا له: «إن محمداً قد وترنا، وقتل خيارنا، وإن رضينا أن نترك ربح أموالنا فيها استعداد لحرب محمد وأصحابه»، وهكذا رصدوا ربح القافلة لمحاربة محمد صلى الله عليه وسلم، وجهزوا جيشاً يزيد على ثلاثة آلاف مقاتل، وخرجوا إلى المدينة لقتال الرسول عليه السلام، فهم يشعرون بخطر قطع المسلمين لطريق قوافل تجارتهم، وبخاصة بعد تمكن المسلمون من مصادرة قافلتهم التي اتجهت بطريق آخر نحو العراق أولاً، ثم الشام بواسطة سرية قادها زيد بن حارثة في مائة راكب، وعسكروا عند أحد، وهو جبل يبعد عن المدينة ميلين، فخرج لهم عليه السلام بعد المشاورة التي عقدها عليه السلام بالخروج لقتالهم أو البقاء في المدينة ورد هجومهم، وكان الأكثر مع الخروج، فدخل الرسول عليه السلام بيته ولبس لامته، وخرج مستعداً للقتال. وكانت معركة أحد في السنة الثالثة، وكانت من المعارك البارزة في تاريخ السيرة النبوية تعرض فيها المسلمون لنكسة كبيرة عندما خالف الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوا مكانهم الذي حدده عليه السلام لهم بعد أن بدأ للمسلمين أنهم هزموا قريشاً، وانتصروا عليهم، فاستغل خالد بن الوليد الأمر، وقد كان ما زال على الشرك فانقض بحركة التفافية حول جبل أحد وهاجم المسلمين، وبينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل وحشي عم رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة بن عبد المطّلب، ولاكت هند بنت عتبة زوج أبي سفيان كبده رضي الله عنه، وجرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وشج وجهه وكسر أنفه وكسرت رباعيته، وتفجر الدم منه، واستبسل عدد من المسلمين والمسلمات في الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشيع أنه عليه السلام قد قتل وقاوم الرسول الأعظم والمقاتلون من المسلمين وثبتوا أيما ثبات، وقد سجل الله سبحانه كثيراً من أحداث هذه المعركة في كتابه الكريم(14) والتي كان منها، قال تعالى: {أَوَلَمَّآ أَصَـٰبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَـٰذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ وَلِيَعْلَمَ ٱلْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوِ ٱدْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) ٱلَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ (171) ٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ للَّهِ وَٱلرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ ٱلْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَٱتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ} [آل عمران: 165-173].

5. إجلاء بني النضير في السنة الرابعة للهجرة: كان بنو النضير من الداخلين في العهد الذي عقده الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهود ففي هذه السنة، وبينما الرسول عليه السلام وبعض أصحابه عندهم يبحثون أمراً معهم وهو مستند إلى جدار من بيوتهم ائتمروا على قتله فقالوا: “إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، فمن رجل يعلو على هذا البيت، فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه” فقام أحدهم لذلك، وقبل أن يلقيها ألهم الله رسوله بما يحيكون ضده، فخرج لساعته، وأرسل لهم محمد ابن مسلمة يطلب منهم الخروج من المدينة، وأمهلهم بذلك مدة عشرة أيام، ومالت قلوبهم لذلك، وأخذوا يتجهزون اليه بعد فعلتهم الشنيعة تلك التي أدت إلى نقض عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن عبد الله بن أبي سلول زعيم المنافقين أرسل لهم يطلب منهم التحصن والدفاع، وأخبرهم أنه سيرسل لهم ألفين من جماعته للدفاع معهم، فعدلوا عن النزوح، وأرسلوا لمحمد يقولون له: اصنع ما بدا لك، فخرج الرسول في أصحابه إليهم وحاصرهم ست ليال سلموا بعدها، حيث لم يقم ابن أبي سلول بما وعدهم به، وكان تسليمهم على أن يخرجوا من المدينة دون سلاحهم، ويحملوا ما يستطيعون من أموالهم، ودماؤهم محترمة لا تسفك منها قطرة واحدة، فخرجوا إلى خيبر ومناطق أخرى.

6. معركة الأحزاب أو الخندق: بعد اجلاء بني النضير أخذ رؤساؤهم يحرضون قريشاً وقبائل العرب على غزو محمد في المدينة، والقضاء عليه نهائياً، فتجمع نحو عشرة الآلف رجل من قريش وغطفان وبني فزاره ومره وأشجع وساروا نحو المدينة، وكان يقابل هذا العدد الضخم من هؤلاء الأحزاب ثلاثة آلاف مسلم، وفي هذه المرة لم يخرج الرسول إلى المدينة لملاقاتهم، بل حفر خندقاً حول المدينة كما أشار عليه سلمان الفارسي. واستطاع حيي بن أخطب إقناع بني قريظة الجماعة اليهودية الوحيدة الباقية في المدينة بالدخول في هذا الحلف، وقد كانت المدينة من جهة بني قريظة غير مخندقة، فاشتد الأمر على المسلمين أيما اشتداد، فهاهم قد اصبحوا محاطين من كل جهة: {إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ ٱلأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَاْ (10) هُنَالِكَ ٱبْتُلِيَ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب: 10 – 11].
إن هذه الحرب لتعد مثالاً على المدى الذي بلغ فيه اعداء الدعوة في عداءهم لها، وإنني أتخيل هول تلك الساعات التي عاشها المسلمون في الليل والنهار أيام ذاك الحصار الرهيب لا ندفع في وجوه من يلومون الإسلام على شرعة الجهاد، وحثه عليه، متهماً إياهم بالجهل والخيانة والتملّق والتقليد.
حدث قتال جزئي قام بعده نعيم بن مسعود بالإيقاع بين قريش وحلفائها من جهة، واليهود من جهة أخرى، وأرسل الله على قريش وحلفائها ريحاً عاتية وشتاء بارداً قارصاً، فامتلأت نفوسهم رعباً فرحلوا من ليلتهم، وتفرقت جموعهم: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9] ولقد بقوا في حصارهم للمدينة نحو شهر.

7. تصفية اليهود من الجزيرة العربية:

أ. علمنا نكث بني قريظة العهد الذي كان بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم وتسبيبهم بذلك شدة وعناء للمسلمين ما بعدها شدة وعناء، فلما فكّت قريش وحلفاؤها الحصار عن المدينة، وعادت أدراجها نادى الرسول في أصحابه قائلاً لهم: «لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة» فخرجوا اليهم وحاصروهم في حصونهم خمسة وعشرين يوماً، ولم يقبل منهم الرسول إلا النزول على حكمه، وبعد أخذ ورد قبلوا بذلك، فأنزلهم الرسول على حكم سعد بن معاذ زعيم الأوس حلفاء بني قريظة في ذلك الوقت، وكان سعد بن معاذ جريحاً من سهم أصابه في حرب الأحزاب، وقد كان حكم سعد القتل للرجال، والسبي للنساء والذرية، فقال له الرسول الأعظم صلوات الله عليه وسلم: «لقد حكمت فيهم حكم الله يا سعد». ونفذ فيهم هذا الحكم، ويلاحظ في إنزال الرسول لهم على حكم سعد بن معاذ أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يبين مقدار ما لاقى المسلمون من فعلة بني قريظة والأحزاب، فاختار لذلك حليفا لهم جرح في معركة هم ساعدوا فيها كل مساعدة.

ب. في أوائل السنة السابعة، وبعد عقد صلح الحديبية بين المسلمين وقريش، وتمكن المسلمون، أمرهم عليه السلام بالتجهز لقتال يهود خيبر الذين كانوا أهم عنصر في أحداث حرب الأحزاب وإيثارتها، فسار المسلمون إليهم، ودعوهم إلى التسليم فرفضوا، وتمكنوا في حصونهم، فحاصرهم المسلمون، وأخذوا يفتحوا حصونهم حصناً حصناً إلا الحصنين الأخيرين الذين رغب أهلها، في حقن دمائهم، وترك ذرياتهم، فيخرجوا جميعًا من خيبر.
وقتل في هذه المعركة ثلاثة وتسعون يهودياً، واستشهد من المسلمين خمسة عشر مسلماً.

8. فتح مكة: بعد صلح الحديبية حالف الرسول الأعظم قبيلة خزاعة، وحالفت قريش بني بكر، وحدث أن اعتدى بنو بكر على خزاعة وساندتها في ذلك قريش، وقتل من خزاعة نحو عشرين رجلاً، وانحازت خزاعة للحرم ومع ذلك لحق بها بنو بكر وأصابوا منهم رجالاً، فبعثت خزاعة عمرو بن سالم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة يقص عليه نبأ ما فعل بنو بكر وقريش بخزاعة رغم احتمائها بالحرم. وكان مما قاله:

يَا رَبّ إنّيِ نَاشِدٌ مُحَمّداً    **    حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا
إنّ قُرَيْشّا أَخْلَفُوك اْلموْعِدَا   **  وَنَقَضُوا مِيثَاقَك الُموَكّداَ

وبعد أن ختم قصيدته قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نُصِرْتَ يَا عَمْرَو بْن سَالِمٍ»، وحاول أبو سفيان إنقاذ العقد المهدر، وسارع للمدينة المنورة يناشد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبار صحابته إنقاذ العهد، ولكنه فشل في مهمته وكانت مسارعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح مكة. ودخل مكة خاشعاً شاعراً بفضل الله سبحانه ونعمته ونصره، ويبلغه كلام صدر عن سعد بن عبادة زعيم الأوس الذي تذكر ما فعلته قريش مع الرسول الأعظم في السنوات الخالية فقال: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذل الله قريشاً، فيقول الرسول عليه السلام: «بل اليوم يوم تعظم فيه الكعبة، اليوم أعز الله قريشاً»، ويتوجه عليه السلام إلى الكعبة، ويكسر فيها ما قام من أصنام وأوثان، وهو يقول: {وَقُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ إِنَّ ٱلْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء: 81]، وقال في تجمع قريش فيها: «يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم فقال: فأني أقول لكم ما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم، أذهبوا فانتم الطلقاء»، إلى غير ذلك من تفصيلات هذا الفتح العظيم.

9. معركة مؤته: كانت في السنة الثامنة، وسببها قتل أحد أمراء العرب الغساسنة رسول رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى أمير بصرى، وهو الحارث بن عمير الأزدي، ولم يقتل له رسول غيره ممن بعثهم إلى الملوك والأمراء كما سيأتي، فتأثر الرسول صلى الله عليه وسلم تأثرا شديداً، وجهز لذلك من أجل تأديب الفاعلين جيشاً عدته ثلاثة آلاف مقاتل، وأمّر زيد بن حارثة فإن أصيب فجعفر بن أبي طالب فإن أصيب فعبد الله بن رواحه فخرجوا، وعند مؤته اصطدموا مع جموع هائلة من الروم والعرب أعدت لغزو المدينة، وقتل في المعركة القادة الثلاثة، وتولى القيادة بعد ذلك خالد بن الوليد بموافقة المسلمين فاستطاع بدهائه الحربي إنقاذ الجيش الإسلامي، والعودة به إلى المدينة.

10. معركة حنين: وكانت في السنة الثامنة وسببها أنه بعد أن فتح الله مكة على المسلمين عزم زعماء هوازن وثقيف على حرب الرسول عليه السلام، فجمعوا بذلك ما يزيد على العشرين ألف مقاتل،فخرج الرسول لهم بعشرة آلاف، واشتبك معهم في هذه المعركة، وكان النصر في النهاية للمسلمين، وهذه المعركة هي آخر معركة ذات شأن بين المسلمين ومشركي العرب دخل بعدها العرب في الإسلام دخولاً عاماً، وقد سجل القرآن الكريم أحداث هذه المعركة، قال تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنَزلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَذٰلِكَ جَزَآءُ ٱلْكَافِرِينَ} [التوبة: 25 – 26]، وبعد انتهاء المعركة حدث تراجع هوازن وتوبتها، وطالبوا ما غنم منهم في معركة حنين فحث رسول الله جنده على إعادة ما قسم لهم ففعلوا، وأما ثقيف فقد تراجعوا لحصونهم في الطائف، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقع بعض الشهداء من المسلمين، ولم يحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على اقتحام هذه الحصون، فتركهم وشأنهم، وأمر أصحابه بذلك، فلما انطلقوا راجعين شكا بعض أصحابه من نبال ثقيف فقالوا لرسول الله: ادع الله تعالى عليهم، فقال: «اللهم اهد ثقيفاً». وبعد شهور أقبلوا على الإسلام، وأرسلوا وفدهم إلى المدينة يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.

11. غزوة تبوك: وكانت في السنة التاسعة فقد علم الرسول صلوات الله عليه وسلامه بتحشدات من الروم ونصارى العرب تهدف للقضاء على الدولة الناشئة التي أخذت تقوم في الجزيرة العربية تحمل الدين الجديد وتدعو له، فخرج الرسول إليهم بجيش سمي بجيش العسرة لما لاقى المسلمون من صعوبة في إعداده وتموينه، وبلغ عدده ثلاثين ألف مقاتل معهم عشرة آلاف من الخيل، فبلغ تبوك وأقام فيها نحو عشرين ليلة لم يلق الرسول عليه السلام حرباً فعاد إلى المدينة.
وإنني لم أذكر صلح الحديبية فيما ذكرت من تسلسل أحداث العلاقة مع غير المسلمين في أحداث السيرة النبوية، لأنني أريد إفراده مع ما يلي من حديث عن الناحية السلمية في الدعوة.

ثانياً: البعد السلمي في الدعوة بعد الهجرة:
يمكن ملاحظة البعد السلمي للدعوة في أمور عديدة منها:

  • عقده صلى الله عليه وسلم الحلف تلو الحلف، والصلح تلو الصلح مع كثير من قبائل العرب.
  • إرساله صلى الله عليه وسلم البعوث والكتب إلى شيوخ القبائل وملوك الدول أيضاً لنشر الدعوة.
  • استقباله الوفود التي تأتي المدينة من مناطق متعددة، وترحيباً بها وملاطفته لها وعدم إجبارها على الدخول في الإسلام.
  • اعتناء الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الفترة بالتشريع العلمي للمسلمين وتطبيق وتبيين القواعد والأحكام التي أخذ الوحي ينزل بها عليه.
    وفيما يلي كلمة موجزة عن هذه النواحي الأربعة:

أ. عقده صلى الله عليه وسلم الحلف تلو الحلف والصلح تلو الصلح مع كثير من قبائل العرب :
تحدثت عن هذا فيما مر بعض الشيء، ويهمني الآن أن أتحدث عن صلح الحديبية الذي عقده الرسول مع قريش ألد أعدائه في أواخر السنة السادسة.
رأى الرسول في منامه أنه قد دخل البيت الحرام وصحابته آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين لا يخافون شيئاً، فأمر الناس أن يتجهزوا للخروج إلى مكة لأداء العمرة، فهو لا يريد لقريش حرباً و قتال، وخرج معه ما يقارب الألف والخمسمائة مسلم يتحرقون شوقاً لرؤية البيت الحرام بعد حرمان من رؤيته استمر ست سنوات، وكيف لا يتحرق المهاجرون لذلك، خاصة وهناك دورهم وأموالهم وأهليهم والأرض التي درجوا عليها، والشعاب التي فيها ترعرعوا، والبطاح التي عليها عاشوا السنين والسنين.
وساق معه عليه السلام الهدي للبيت الحرام، وأحرم بالعمرة من ذي الحليفة ليكون في هذا وذاك الدلالة لقريش على أنه لا يريد قتالاً، ولما وصلوا إلى عسفان ولم يكن معهم إلا السيوف في أغمادها – وهي سلاح المسافر في تلك الأيام – جاء من يقول له (هذه قريش قد سمعت بمسيرك، فخرجوا وقد لبسوا جلود النمور يحلفون بالله لا تدخلها عليهم).

كلمة رائعة
: فقال عليه السلام «يا ويح قريش؛ لقد أكلتهم الحرب؛ ماذا عليهم لو خلو بيني وبين سائر العرب؟! فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظن قريش؟ فو الله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله حتى يظهره الله، أو تنفرد هذه السالفة – صفحة العنق –».
ولما تأكد الرسول من خروج فرسان لقريش لمقابلته غير سيره وفي ثنية المرار– اسم مكان – بركت ناقته فزجروها فلم تقم فقالوا: «خلأت الناقة » فقال عليه السلام: «ما خلأت، وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها»، ونزل هناك، وأخذت قريش ترسل الوفود إليه عليه السلام يسألوه عن سبب مسيرته إليهم، ليؤكد لهم أنه لم يأت لقتال، وإنما أتى معتمراً، وأخذت قريش ترسل الوفود إليه عليه السلام يسألونه عن سبب مسيرته إليهم، ولكن قريشاً لم تقتنع بكلام الوفود، فأرسل لهم الرسول عليه السلام عثمان بن عفان، ولكن عثمان تأخر، فأشيع أنه قتل، فقال عليه السلام: «لا نبرح حتى نناجز القوم» ودعا إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان ومنها يقول القرآن الكريم: {لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح: 18]، وتبين من بعد أن عثمان بن عفان لم يقتل، وأرسلت قريش سهيل بن عمرو إلى رسول الله وقالوا له: ” ائت محمداً فصالحه ، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فوالله لا تحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبداً » فجاءه سهيل، وتباحثوا في أمر الصلح، واتفقوا عليه، فدعا عليه الصلاة والسلام علياً بن أبي طالب ليكتب الكتاب فقال له: «اكتب بسم الله الر حمن الرحيم، فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن اكتب باسمك اللهم، ثم قال: اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو، فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم ابيك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب هذا ما صلح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو؛ اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس، ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم يردوه عليه، وإن بيننا عيبة مكفولة (كناية عن قوة التعاقد) وأنه لا إسلال – سرقة مخفية – ولا إغلال – خيانة – وأنه من أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وأنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك، فأقمت بها ثلاثاً معك سلاح الراكب السيوف في القرب، لا تدخلها في غيرها». وقد صعبت على المسلمين شروط هذه البيعة، وأخذوا يجادلون الرسول بشروطها التي بدت قاسية على المسلمين، وكان الرسول يقول لهم: «أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني».
وفي الحقيقة أن هذا الصلح سمح للمسلمين نشر دينهم بسلام، وهو يوضح فكرة أن المهم هو أن يسمح للمسلمين نشر دعوتهم، وأن الحرب ما هي إلا لحماية نشر الدعوة من أي اعتداء عليه، ولقد سمى القرآن الكريم هذا الصلح بالفتح المبين، وقال أبو بكر: (ما كان فتح في الإسلام أعظم من فتح الحديبية، ولكن الناس قصر رأيهم عما كان بين محمد وربه) يدلل على ذلك أن المسلمين الذين كان عددهم عند هذا الصلح ألف وخمسمائة رجل بلغوا في فتح مكّة عشرة آلاف رجل.

ب. إرساله صلى الله عليه وسلم البعوث والكتب إلى شيوخ القبائل وملوك الدول يدعوهم فيها إلى الإسلام:
نظراً لحرصه صلى الله عليه وسلم على الدعوة فقد سلك في المدينة طريقين لذلك عدا عن ما يقوم به هو شخصياً في هذا السبيل وهاتان الطريقتان هما:

1- إرسال البعوث: قام عليه السلام بإرسال عدة بعوث إلى مناطق عدّة من الجزيرة العربية لدعوة أهلها إلى الإسلام، وتعليمهم الدين الجديد، ولقد لاقت هذه البعوث الكثير من العنت والشدة والقتل. يقول سيرت أرنولد: تلك البعوث التي يدل مجرد إخفاقهم في بعضها على أن الجهود التي بذلت كانت ذات صبغة تبشيرية خالصة، كما تدل على أنها لم تكن تميل لاستخدام القوة(15):

أ. ففي السنة الثالثة من الهجرة بعد أحد قدم على الرسول الكريم أفراد من قبيلتي عضل والقارة فقالوا: يا رسول الله إن فينا إسلاماً فأبعث معنا نفراً من أصحابك يفقهونا في الدين ويقرئوننا القرآن ويعلموننا شرائع الإسلام.
فأرسل الرسول معهم عدداً من أصحابه، وأمر على الجميع مرثد بن أبي مرثد، فلما كان القوم على الرجيع (اسم مكان) غدروا بهم واستصرخوا عليهم هذيلاً، فقتلوا ثلاثة منهم، وأسروا ثلاثة ثم قتلوا واحداً منهم حاول الافلات بعد أن علم سوء نيتهم، وقد باعوا الاثنين إلى أهل مكة وهما زيد بن الدثنه وخبيب بن عدي.
وكان مما جرى مع زيد بن الدثنه أنه لما قدم للقتل قال له أبو سفيان: أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمداً عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه، وأنك في أهلك، قال: والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي، فيقول أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد لمحمدٍ. ثم قتلوه. وأما مع حبيب بن عدي فلما رفعوه على الخشب موثقاً قال: اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك، فبلغه الغداة ما يصنع بنا، ثم قال: اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تغادر منهم أحداً. ثم قتلوه.

ب. وفي السنة الرابعة قدم على رسول الله أبو البراء بن عامر بن مالك فعرض عليه رسول الله الإسلام ودعاه إليه، فلم يسلم، ولم يبعد عن الإسلام وقال: يا محمد لو بعثت رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك، فقال الرسول: «إنا أخشى عليهم من أهل نجد»، فقال له أبو البراء: أنا لهم جار، فابعثهم ليدعوا الناس إلى أمرهم، فبعث معه أربعين رجلاً من خيار المسلمين، فلما نزلوا بئر معونة ، بعثوا بكتاب رسول الله إلى عامر بن الطفيل فلما قدم عليه حامله قتله ولم ينظر بالكتاب، واستصرخ عليهم قبائل بني سليم فقاتل المسلمون حتى قتلوا عن آخرهم إلا واحداً.

2. إرسال الكتب: بعد أن عقد الرسول صلح الحديبية وهدأ أعداؤه عن عدائهم انصرف الرسول إلى دعوة ملوك الأرض المعروفين في ذاك الوقت، وكان ذلك في أواخر سنة ست للهجرة.
فوجه دحية الكلبي بكتاب إلى قيصر ملك الروم عن طريق عظيم بصرى وكان: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعوة الإسلام، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسييين:» {قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ ٱشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64].
ووجه الحارث بن عمير بكتاب إلى أمير بصرى، وقد قتله شرحبيل بن عمرو الغساني قبل أن يوصل الكتاب، وحزن الرسول بسبب ذلك حزناً شديداً إذ لم يقتل له رسول غيره.
وأرسل شجاع بن وهب بكتاب إلى الحارث ابن أبي شمر أمير دمشق من قبل هرقل، كما أرسل حاطب بن أبي بلتعه بكتاب إلى المقوقس أمير مصر من قبل القيصر.
ووجه عمرو بن أميه بكتاب إلى النجاشي ملك الحبشة. ووجه عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى ملك الفرس. وأرسل العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى ملك البحرين، كما أرسل عمرو بن العاص إلى جيفر وعبد ابني الجلندي وكان ملكين على عمان، وأرسل سليط بن عمرو بكتاب إلى هوذه ملك اليمامة.
وخبر هذه الكتب تجده مبسوطاً بسطاً واسعاً من ناحية نصوصها ومقابلة الملوك لها ومدى استجابتهم لما فيها تجده بكتب السيرة. ولقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم في أغلب هذه الكتب على أنه إذا آمن الملك وأسلم أبقاه الرسول والياً على قومه يطبق فيهم الإسلام، مما يدلل على أن المهم هو نشر الدعوة.

ج. استقباله صلى الله عليه وسلم الوفود التي تؤم المدينة من القبائل العربية المتعددة وترحيبه بها وتأليفها على الإسلام وملاطفتها في ذلك وعدم إجبارها عليه.
فمثلاً وقع ثمامه بن أثال أسيراً في أيدي المسلمين، فجاءوا به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال لهم: «أحسنوا أساره»، وقال: «اجمعوا ما عندكم من طعام فابعثوا به إليه». ولقد دعاه النبي إلى الإسلام وأبى وقال: أن ترد الفداء فسل ما شئت من المال، فأطلق الرسول سبيله بدون فداء، فكانت النتيجة أن دخل في الإسلام، بعد أن لاقى هذه المعاملة الكريمة، وشبيهة بذلك قصة ضمام بن ثعلبة.
وكتب السيرة حافلة بأخبار هذه الوفود ولقد تعددت وكثرت بعد انتصاراته عليه السلام على قريش، وأكثرها كان في العام التاسع والذي سمي في كتب السيرة بعام الوفود وقد جاءت هذه الوفود المدينة معلنة إسلامها. قال تعالى: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ ٱلنَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَٱسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر: 1- 3].
قال ابن اسحق: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وفرغ من تبوك، وأسلمت ثقيف وبايعت، ضربت إليه وفود العرب من كل وجه. وكان من الوفود التي استقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران الذين استقبلهم في المسجد، وكان أول ما صنعوا أن اتجهوا لبيت المقدس وصلوا صلاتهم وأراد المسلمون منعهم فقال لهم رسول الله عليه السلام: «دعوهم حتى انتهوا من عبادتهم»، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم في نقاش متنوع كما بينته كتب السيرة، والذي انتهى إلى طلب الرسول صلى الله عليه وسلم منهم المباهلة قال تعالى في تسجيل ذلك: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (59) ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن ٱلْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 59 – 61]، ونزل قوله تعالى: {لاَّ يَنْهَاكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوۤاْ إِلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ} [الممتحنه: 8]، وعلى هذا النهج سار المسلمون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان عهد خالد بن الوليد مع أهل الحيرة فقد جاء فيه: (وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنياً فافتقر، وصار أهل دينه يتصدقون عليه؛ طرحت جزيته، وعيل من بيت مال المسلمين و عياله، ما أقام بدار الهجرة ودار الإسلام، فإن خرجوا إلى غير دار الهجرة ودار الإسلام، فليس على المسلمين النفقة على عيالهم)(16).
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة عامله على البصرة قائلاً: (وانظر من قبلك من أهل الذمة قد كبرت سنه، وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب؛ فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه، فلو أن رجلاً من المسلمين كان له مملوك كبرت سنه،وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب، كان من الحق عليه أن يقوته حتى يفرق بينهما موت أو عتق، وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر مرّ بشيخ من أهل الذمة، يسأل عن أبواب الناس فقال: ما أنصفناك إن كنّا أخذنا منك الجزية في شبيبتك، ثم ضيعناك في كبرك. قال: ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه)(17).

د. عناية الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الفترة بالتشريع العملي للمسلمين وتطبيق وتبيين القواعد التي أخذ ينزل بها الوحي، عليه وتعليمه المسلمين كل صغيرة وكبيرة في دينهم.
وذلك لعناية القرآن بعد الهجرة بوضع النظام العملي الذي يجب أن يسير عليه المسلمون في مختلف أطوار حياتهم ومجالاتهم يعرف ذلك من الاطلاع على السور التي نزلت في المدينة.
عمّ الاستقرار الجزيرة العربية فانتشر الإسلام في كل نواحيها، وطاف بها أصحاب رسول الله يعلمون الناس دينهم ويقوون إيمانهم، فما كان الثالث من ربيع الأول من السنة الحادية عشرة من الهجرة يوم أن التحق بالرفيق الأعلى محمد صلى الله عليه وسلم عن حوالي 63 سنة قمرية من العمر كان الإسلام قد رفرفت أعلامه على كل الجزيرة العربية.
وإلى هنا أكون قد أنهيت ذاك التقسيم الثلاثي الذي أوضحت المقصود منه طويلاً فيما سبق، وفي الحقيقة فإنني ما أردت إلا عرضاً لتاريخ نشر الدعوة من قبل الرسول على أساس هذا التقسيم، ولم أكن أقصد عرضاً لحياة الرسول في كل جزئياتها وأوضاعها المختلفة. مصادر هذا البحث من كتب السيرة النبوية:

  1. تهذيب سيرة ابن هشام الجزء 1 و 2 لعبد السلام هارون.
  2. حياة محمد لمحمد حسين هيكل.
  3. نور اليقين في سيرة سيد المرسلين لمحمد الخضري.
  4. فقه السيرة للدكتور مصطفى السباعي.
  5. فقه السيرة لمحمد الغزالي.
  6. محاضرات في تاريخ الدولة الأموية لمحمد الخضري.
  7. محمد الثائر الأعظم لفتحي رضوان.

خلاصة وتعليق

وإلى هنا أكون قد عرضت للسيرة النبوية مقسماً لها لمراحل ترتبط بعملية نشر الدعوة، وقد بينت كيف تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع غير المسلمين خلال هذه المراحل، وقد أظهرت هذه الدراسة الحقائق التالية:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حرصه الأول العمل على تبليغ ما حمل من رسالة، وأنه عليه السلام صبر وصابر على أداء هذه المهمة التي انتدبه إليها ربه الأعلى رسولاً خاتماً وللناس كافة، وأن الجهاد والقتال شرع لرد العدوان، والوقوف في وجه الذين عادوا نشر الدعوة، وحاولوا منع نشرها وقد استعرضت أحداث السيرة النبوية مؤكداً بهذا الاستعراض هذه الحقيقة موضحاً حقيقة كبرى أن اللجوء للقتال كان لرد العدوان والوقوف في وجهه عبر مسيرة طويلة من الأحداث، وأن تبليغ الدعوة كان الشغل الشاغل للرسول الأعظم عبر مسيرة طويلة. وقد أوضحت هذه الحقيقة الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة مصدري هذا الدين العظيم وهذه الشريعة الإسلامية الخالدة.
وقد سجل هذان المصدران جملة من الحقائق أوضحت موقف الإسلام من الجهاد والقتال وحددوا إجازتهما في مواجهة هذه الظاهرة.
ولعلي استطيع ذكر رأي الإسلام في هذا الموضوع بشكل موجز فيما يلي:

  1. قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
    فقوله تعالى وهو كره لكم يقرر أن النفس البشرية تكره القتال والحرب، لذلك قال الفقهاء المسلمون في الجهاد أنه حسن لغيره لما فيه من إعلاء لكلمة الله ونشر للحق والعدل ومنع للفتنة والضلال. وهذا المعنى هو الذي هدفت إليه الآية الكريمة.
  2. قال تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ ٱلأَرْضُ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ} [البقرة: 251].
    فهذه الآية الكريمة تقرر وجود التدافع والتزاحم والصراع بين الناس، فقد فطر الله سبحانه الناس على أن تتعارض مصالحهم وتتزاحم طاقاتهم، وتبين أيضاً أن هذه هي إرادة الله في الأرض لصالح الناس وخيرهم، فلولا هذا التدافع والتزاحم والصراع لفسدت الأرض وخربت، فبهذا التدافع والتزاحم والصراع يسعى الناس إلى الصلاح والخير والنماء، وفيه أيضاً ينصر الله الفئة الخيرة المؤمنة، فتنشر الخير والإيمان في جنبات الأرض، فيكون بذلك صلاحها.
    فالإسلام يقر بوجود الصراع، فيواجه الواقع، ولا يفر منه، ولكنه يرى أنه صراع سيؤدي إلى الخير بإرادة الله، فالله خلق الصراع وأراده، ولكنه جعل من هذا الصراع طريقاً لعدم فساد الأرض بنصره للقوة الخيرة، وبخذلانه للقوى الشريرة.
    ويوضح موقف الإسلام هذا قوله تعالى: {كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَٰحِدَةً فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلْكِتَٰبَ بِٱلْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا ٱخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَٰتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [البقرة: 213].
    فقوله تعالى: {لِيَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخْتَلَفُواْ} [البقرة: 213] يبين أن من طبيعة الناس أن يختلفوا، لأن هذا الاختلاف أصل من أصول خلقهم.
    وإنزال الله تعالى النبيين مبشرين ومنذرين، وإنزاله معهم الكتاب بالحق يبين إرادة الله في أن يزول هذا الاختلاف، فيوصل منه إلى الخير والصلاح في الدنيا والآخرة. وقوله تعالى: {وَمَا ٱخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَٰتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [البقرة: 213] يقرر حقيقة هامة وهي أن الناس يختلفون حتى في الحق وأن منهم من يعارض الحق ويخالفه بغياً منه. قال تعالى: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118 – 119]، وقال تعالى: {وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم} [المائدة: 48]، وقال مخاطباً الرسول: {وَمَآ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103].
    وهذا التقرير بأن اختلاف الناس هو من إرادة الله ينزع من نفوس المسلمين الحقد الديني والاضطهاد للمخالفين، ويترك الحرية الدينية لكل إنسان كما سيأتي توضيحه.
  3. والإسلام إذ يقرر مبدأ الحرب نظاماً من أنظمته فإنه يقره في الحدود وللأهداف التي من أجلها شرع الجهاد والقتال، فهو إذ أقر أن من طبيعة البشر أن يختلفوا لم يقل لهم اختلفوا كما تشاؤون، بل عدل وأصلح من هذه الطبيعة، فهدف الشرائع السماوية هو أن تصلح وتعدل من طبائع البشر وتسيرها في خدمة الحق والخير والعدل في هذه الأرض. وقوله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ} [الحجرات: 13] تشير إلى هذا المفهوم ولو من بعد غير بعيد.
    فالإسلام مع طبيعة الاختلاف جعله اختلافاً على ضوء الإيمان الإسلامي فجعل الاختلاف المهم، والذي يبذل فيه الغالي والرخيص، هو الاختلاف بين الإيمان والكفر ولقد قلل من شأن الاختلافات الأخرى التي تولد صراعاً وحروباً وقيمها تقييا إسلامياً كاد يؤدي إلى عدم اعتبارها ولكن هذا مع ضمانه لحقوق وواجبات كل فرد.
  4. والإسلام وهو يقر الجهاد (الحرب بالمفهوم الإسلامي) ويعتبره نظاماً من أنظمته يبين أنه لولا هذا الإقرار لطغى الباطل على الحق، ولقضي عليه ولمنع الناس من حرية العبادة، واستعلى غير المؤمنين على المؤمنين ويقول تعالى بعد إذنه بالقتال: {وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا ٱسمُ ٱللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40].
    طابع الحروب عند غير المسلمين: {وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَظْلِمُونَ ٱلنَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى 41 – 42].
    الباعث على الحروب عندهم: إن نظرة مستعرضة للأمم المتحاربة من قديم الزمان لتستطيع حصر الباعث على الحرب عندهم بما يلي:
    1- من الأمم من تتخذ الحروب صناعة وحرفه، تعقدت الحياة في مواطنها وصعبت، فكانت هذه الحروب بالنسبة لها موارد للرزق ومحاولة للتنفيس عن الحقد الذي ترعرع في النفوس من بيئتها الأولى، ومثال هذه الأمم المغول، والتتار، وقبائل الشمال في أوروبا، والقبائل العربية قبل الإسلام.
    2- ومن الأمم من قامت حياتها على التجارة فكانت الحروب بالنسبة لها وسائل فتح أسواق تجارية جديدة، فتغزوا هذه الأمم البلاد الاجنبية لتأخذ خيراتها من المواد الأولية، وتعود بها صناعات مختلفة مجال تصريفها هذه البلاد المغلوبة على أمرها.
    ومثال هذه الأمم الفينقيون في حروبهم القديمة، والبندقية التي لعبت دوراً هاماً في الحروب الصليبية، ويقف على رأس هذا النوع الأمم الاستعمارية الأوروبية التي نعرف والتي مثلت تاريخ الحروب من القرن السادس عشر حتى هذه الأيام، وما يلوح في أفق العلاقات الدولية من أشباح الحروب الناتجة من الخلاف على مناطق النفوذ، والاختلاف في نظم الاقتصاد ليؤكد انتساب هذه الأمم لهذا النوع.
    3- وهنالك أمم تضيق بها الأرض التي تسكنها فتغزو بلاداً أخرى طلباً لمقر جديد يعيش فيها أهلها، ويمثل هذا النوع الحروب التي سبقت الهجرات الأوروبية إلى القارة الأمريكية.
    4- وهنالك أمم ترتبط فيها الحروب بقيام قائد مغرم بالفتوح والشهرة، فيقود أمته من فتح إلى فتح، ولكن هذه الفتوحات تموت مع موته، وفتوح الإسكندر المقدوني، و حملات نابليون على أوروبا والشرق مثال على ذلك.
    5- وهنالك أمم تصاب بداء الاستعلاء فترى نفسها من طينة غير طينة الأمم الأخرى، وترى أن لها حق استعبادها واحتلال بلادها، كما هو معروف عن حروب اليهود عبر العصور، وعن غزوات ألمانيا أيام هتلر لكثير من بلدان العالم(18).
    إن تعمقنا في دراسة هذه البواعث دراسة نظرية يستطيع أن يبين لنا الطابع الذي ستكون عليه حروب هذه بواعثها ولكن التاريخ كفانا مؤنة هذا التعمق، فاستعراض مختلف أنواع الحروب الحافلة بها كتب التاريخ يبين لنا طابع هذه الحروب، فإن حروباً هذه بواعثها لبعيدة حتماً عن المثل العليا كل البعد، فهي ليست خالية من مجازر القتل الجماعي ومن السلب والنهب والاستباحة بخيرات الأمم والأفراد ومن الظلم والقسوة وروح الوحشية البربرية في كل شيء.
    إن التاريخ الحافل بمجازر اليونان والرومان، وأن صور العبودية التي صورها هؤلاء على شاشة التاريخ لتقشعر لها الأبدان، وذلك في معاملتهم أسرى الأمم التي غلبوها فقد كانوا عبارة عن وسيلة لتسلية أباطرتهم وزعمائهم، وذلك حين يقدموهم للوحوش لتفترسهم بعد دفاع مستميت عن الحياة، إنه منظر لا يمكن تصوره وخاصة عندما تتعالى الهتافات، ويدوي التصفيق للوحش الذي افترس إنساناً ضعيفاً بريئاً.
    وأما الحرب عند اليهود فهي حرب موغلة في البعد عن المعاني الإنسانية، فهي حروب الإبادة والاستئصال؛ تمثلوا فيها المبادئ التي دعتهم لها كتبهم المقدسة على مر العصور، جاء في الإصحاح الثالث عشر من تثنية الاشتراع في العهد القديم (فضرباً تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف، وتحرّمها بكل ما فيها مع بهائمها بحد السيف، تجمع كل أمتعتها إلى وسط ساحتها وتحرق بالنار المدينة وكل أمتعتها كاملة للرب إلهك فتكون تلا إلى الأبد لا تبنى بعده)(19)، وجاء في الإصحاح العشرين (حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن إجابتك بالصلح، وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك، وأن لم تسالمك بل عملت حرباً فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة، كل غنيمتها فتغنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك، هكذا تفعل بجمع المدن البعيدة منك جداً التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا، وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيباً فلا تستبقي منها نسمة ما)(20)، وجاء في الكتاب الخامس من الزبور (وإذا أدخلك ربك في أرض لتملكها وقد أباد أمماً كثيرة من قبلك فقاتلهم حتى تفنيهم عن آخرهم ولا تعطهم عهداً ولا تأخذك عليهم شفقة أبداً)(21).
    وهذه أيضاً جحافل المغول والتتار تتلاحق فتنشر المجازر والويل والدمار هنا وهناك تمر على المدينة أي مدينة فما أن تخرج منها حتى لا تجد لتلك المدينة أثراً.
    إن ما فعله هؤلاء في بغداد ودمشق وغيرها لخير شاهد ولخير مصور لطابع الحروب عند غير المسلمين، حروب ضد الإنسانية والتقدم والعلم، فماذا عمل هؤلاء في سكان بغداد ومكتباتها العلمية وماذا وماذا..؟.
    وفي الأندلس كيف كانت حروب الفرنجة ضد المسلمين؟ لقد وقع فرديناند وزوجته إيزبيلا سنة 1491 م معاهدة ذات خمس وخمسين مادة لضمان حقوق الإسلام ورعاية المسلمين، وإطلاق حرية دينهم لهم، فلم يتموا أمانهم هذا، بل غدروا بالمسلمين وأرادوا أن يدينوهم بالمسيحية(22)، فكانت محاكم التفتيش التي تعد لطخة عار ألقاها هؤلاء على جبين التاريخ الذي امتلأ من هؤلاء وهؤلاء لطخات ولطخات. ويكفي أن نعلم أن هذه المحاكم حكمت بحرق 10220 شخصاً من المسلمين، وأن 6860 أعدموا شنقاً بعد التشهير بهم وأن 97023 حكم عليهم بعقوبات مختلفة هذا عدا عن الأحكام الفردية والمجازر الوحشية التي قامت بها جيوش هؤلاء (23) وهذا غير الذين طردوا من بلادهم في حالة لا يتصورها الضمير الحي فمخروا عباب البحار هرباً من هذا الظلم وهذه الوحشية، ويكفي أن نعلم أن المسلمين قد فقدوا في تلك الأيام ما يقارب من ثلاثة ملايين من بني جلدتهم(24).
    وقد نصح كردنال طليطلة الذي كان رئيساً لمحاكم التفتيش بقطع رؤوس جميع من لم يتنصر من العرب رجالاً ونساءً وولداناً، ولقد أمرت محاكم التفتيش بتعميد المسلمين كرهاً ثم حرق كثير من المعمدين(25)، ومن المعلوم أن عدد سكان أسبانيا في أواخر عهود الإسلام هنالك بلغ أربعين مليوناً وهم الآن لا يتجاوزون الثلاثين مليوناً مع طول العهد بين هذه الأيام وخروج المسلمين من أسبانيا ويكفي في هذا دلالة.
    والحروب الصليبية التي عرفها الشرق طوال قرنين كيف كان طابعها، ماذا عمل رعاع أوروبا في الشرق المسلم؟ وإنني في هذا المجال سأستشهد بأقوال غربيين لأبرهن إن ما أتكلمه ويتكلمه غيري ليس نابعاً من تعصب يقال عنه أنه تعصب إسلامي، بل هذه الحقيقة ولا غير لم تتأثر بهوى ولا ميل. يقول ديسون: الواقع أن الصليبين أنفسهم قد ظهروا للمسلمين وغير المسلمين أيضاً كبرابرة مخيفين حقاً، وقد أظهروا في آسيا ضروباً من العنف والفظائع لم تكن تعرفها هذه البلاد التي كان قد مر عليها أربعة قرون وهي تعيش في نظام من العدل العربي لم تكن قد رأته قبلاً(26).
    ويقول: قد أقتحم الصليبيون القدس في 15 تموز عام 1019 م، وقتلوا في اليوم نفسه عشرة آلاف من المسلمين التجأوا إلى جامع عمر، ظناً منهم أنه مانعهم من أعدائهم الفاتحين، ثم لم يكفيهم هذا ولا خفف من ثورتهم الدموية شيئاً فراحوا في الأسبوع نفسه يقتلون من المسلمين واليهود والمسيحيين الذين لم يكونوا من الكاثوليك ما يقرب من 60 ألف نسمه(27).
    لذا وصف برنارد الصليبيين عند دخولهم القدس فاتحين بقوله عن حالتهم أنها (جنون غريب)(28). ووصف روبرت ل موان مذبحة سكان مارات المسلمين قائلًا:لقد بدأت مذبحة الترك في 13 كانون الأول، ولم يكف ذلك اليوم لقتل جميع الأسرى فأجهزنا على البقية في اليوم التالي(29).
    يقول الأب ريموند داجيل: لقد استمر القتل في هيكل سليمان وكثرت فيه الجثث حتى أن الجند الذين قاموا بهذه المذبحة لم يعد بإمكانهم أن يطيقوا الرائحة التي كانت تتصاعد من جثث القتلى(30). وقد ذكرت المصادر الغربية أن عدد من قتل في المسجد الأقصى وحده بلغ سبعين ألف مسلم بينهم الشيوخ والنساء والأطفال والزهاد(31).
    هذا غيض من فيض مما عمله الصليبيون في حروبهم التي ادعوا أنها لنشر ديانة السلام والمحبة التي نادى بها عيسى عليه السلام، وهذه الديانة منهم براء(32). فإن الدارس لأسباب الحروب الصليبية والمتابع لها ليعلم بسهولة أنها حروب تمخضت عن حقد دفين على الإسلام لم يكن للمسيحية الروحانية الأولى أي أثر فيه، ومن الغريب أن نعلم أنه قد سفكت باسم المسيحية، وفي سبيلها دماء أغزر مما سفك في سبيل أي دعوة في تاريخ البشرية.
    وأخيراً فإني أترك للقارئ استعراض تاريخ الحروب الاستعمارية في مختلف البلاد التي استعمروها. فماذا عمل الفرنسيون في الجزائر ومراكش وتونس والهند الصينية وماذا فعل البريطانيون في مصر والصين مثلاً: (ولا تغرب عن البال حرب الأفيون).
    ثم ماذا جرّت الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية من مصائب وويلات (مثل إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما وأثر ذلك حتى الآن، ومثل استباحة الروس برلين في الحرب الثانية لمدة ثلاثة أيام).
    فماذا استفاد العالم من قتل ملايين الشباب الذين ماتوا في الحرب الأولى والثانية وماذا استفاد العالم من القناطير المقنطرة من الأموال والعتاد الذي بذل في تلك الحروب، وماذا تغير في حال العالم بعد هاتين الحربين. حروب في حروب، تتلاحق وتترابط لا لهدف. ما يحركها ويدفع إليها إلا الأهواء والمطامع والشهوات.
    ولا يفوتني في هذا المجال أن أقرر أنه حتى نهاية الحرب العالمية الأولى في سنة 1918 م كانت فكرة كون الحرب حقاً من حقوق الدول الطبيعية، ومظهراً من مظاهر سيادتها هي السائدة، والتي تتحكم في العلاقات الدولية، فالدولة حرة في إعلان الحرب وقت ما تشاء؛ ولأي هدف تريد، ولا يحد من حريتها هذه شيء إلا اتباع بعض الإجراءات الشكلية. وظلت أيضاً الحرب الهجومية مشروعة طيلة القرون الماضية. وفي النصف الأول من هذا القرن، بل لقد وجد القانون الدولي في أول وجوده ليضفي صفة المشروعية على حروب الدول المسيحية الاستعمارية هنا وهناك، ويعلم ذلك من الاطلاع على كتب آباء القانون الدولي ككتاب فرانسوا دي فيتوريا وكتاب فرانسوا سواريز(33)، ويكفي في هذا المجال نقل كلمة انتريلوتي أحد مؤسسي القانون الدولي في مقدمة كتابه: (إن تفكيرنا الدولي يصدر عن التكتل المسيحي ضد بلاد المسلمين)(34).
    وفي هذا العصر الذي نعيش عصر القرن الواحد والعشرين، عصر التقدم والرقي والمثل كما يسمونه نجد أن الحرب هي الحاكم الفيصل في علاقات الدول رغم حالة التحريم القانوني للحرب، والتي تصبح بين فينة وفينة حبراً على ورق. وما يرى من وجود مؤسسات دولية لحماية السلام فهي في الحقيقة لحماية مصالح الدول الكبرى المسيطرة عليها، وإلا ما معنى وجود هذه الحروب التي تندلع هنا وهناك وهي أشد ما تكون ضراوة وإهلاكاً للحرب والنسل، وجلباً للمصائب والكوارث، وما معنى هذا التسابق في التسلح الذي جعل الناس وكأنهم يعيشون في جو المعركة بما يشعرون به من قلق وخوف واضطراب وحيرة. ينامون وهم يتوقعون أن يصحوا في اليوم التالي على نار حرب ثالثة تأكل الأخضر واليابس بأسلحتها الحديثة المعروفة.
    لذا فإن الإنسان ليعجب من هؤلاء الذين يريدون من الإسلام أن يحرم الحرب قبل أربعة عشر قرناً، وها هم الآن يخرجون من حرب ليدخلوا في حرب أخرى ولا يعدموا تبرير ذلك وتجويزه، ويعجب أيضاً من هؤلاء الذين يريدون منه أن يحرمها على أتباعه ومن ثم إذا اضطروا إليها فعلوها غير آبهين بتحريمه كما حدث من أهل الديانات الأخرى وخاصة مع المسيحيين.
    والطامة الكبرى متابعة ما يجري في هذه الأيام من ممارسات يندى لها جبين الإنسانية في بلاد العرب والمسلمين وعلى مستوى العالم كله من نظام الإرهاب والتعصب الطائفي الذي قدّم صور من القتل والعدوان لم تعرف البشرية لها مثيلاً.
    بهذا الشكل الموجز أردت أن أبين طابع الحروب عند غير المسلمين وعند المدعين للإسلام حتى ترتسم في الذهن الصورة الحقيقية لهذه الحروب وتتضح مميزات الجهاد الإسلامي عند عرض أسبابه وبيان طابعه وملامحه. وقد أوضحت ما يتعلق بأسباب الجهاد في النظر الإسلامي والمبادئ التي تحكم علاقة المسلمين مع غير المسلمين في بحوث أخرى لي كان منها بحثي الواسع حول: المواجهة الإسلامية للغلو والتطرف وما يسمى بالإرهاب في هذه الأيام، وغيره مما يمكن الرجوع إليه هناك، وما جاء في هذا البحث تمهيد أو تأكيد لما ورد فيه.
    والله الموفق والمعين.

 

وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ