قراءات مرحلية للسيرة النبوية

فضيلة الشيخ الدكتور السيد عبد الله محمد فدعق

عمّان- المملكة الأردنيّة الهاشميّة

مقدمة

الحمد لله الذي منّ علينا بنور الوجود، سيدنا محمد، صاحب اللواء المعقود، والحوض المورود، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، تسليماً كثيرا، أما بعد، ، فبعد توجيه عاطر الشكر لمؤسستنا الرائدة، مؤسسة آل البيت الملكية للفكر الإسلامي، على اختيارها هذا الموضوع الحيوي (نحو جدول تاريخي لأحداث السيرة)، لتناوله في هذا اللقاء العلمي المبارك؛ استخرت الله في المساهمة مع السادة العلماء في الكتابة المختصرة عما سميته «قراءات مرحلية للسيرة النبوية »، وجعلت ذلك في ثلاث مراحل، هي مرحلة الطفولة في حياة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فمرحلة الشباب، واختتمتها بمرحلة الرجولة، ثم أهم التوصيات، والمقترحات. سائلا الله أن يبارك في لقائنا هذا، وأن يحقق لنا غاياته المباركة.

المرحلة الأولى: مرحلة الطفولة

تم تقسيم هذه المرحلة إلى سبعة أقسام رئيسية، تبتدئ بمرحلة ما قبل ولادة النبي صلى الله عليه وسلم، وتنتهي بكفالة عمه أبي طالب.

القسم الأول: مرحلة ما قبل الولادة
لقد كانت لانتقال النبي صلى الله عليه وسلم في الأصلاب والأرحام الطاهرة آثار ذكرت في جلّ مصنفات العلماء، تستحق منا البحث و التأمل. قال الله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي ٱلسَّاجِدِينَ} [الشعراء : 219] يعني «تقلبه من صلب نبي إلى صلب نبي إلى أن أخرجه نبيا»(1) . وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني عندَ اللهِ مَكتوبٌ بخاتَمِ النَّبيِّينَ، وإنَّ آدَمَ لِمُنْجَدِلٌ في طينتِه وسأُخبِرُكم بأوَّلِ ذلك: دعوةُ أبي إبراهيمَ، وبشِارةُ عيسى، ورؤيا أمِّي الَّتي رأَتْ حينَ وضَعَتْني أنَّه خرَج منها نورٌ أضاءَتْ لها منه قصورُ الشَّامِ »(2).
انتقل والد النبي صلى الله عليه وسلم سيدنا عبدالله إلى الرفيق الأعلى في المدينة المنورة، وقد كان جنيناً؛ تاركًا له خمساً من الإبل، و قطيعاً من الغنم، وجارية هي أم أيمن بركة الحبشية. وذكر المؤرخون جملة من البشائر والإرهاصات إبان ولادته، وأنه كان عام خصب وبركة ونصر، وذكرت السيدة آمنة بنت وهب أنها لم تجد وحماً ولا وهناً ولا ألماً في حملها، وتعددت الرؤى والبشارات قبل بروزه صلى الله عليه وسلم .

القسم الثاني: المولد الشريف
وُلد الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم فجر يوم الأثنين من عام الفيل(3)، ورأى أكثر أهل الحديث أنه ولد في اليوم الثامن من ربيع الأول(4)، و رجح المحققون(5) أن ولادته صلى الله عليه وسلم كانت في  التاسع من ربيع الأول، الموافق 20 نيسان (إبريل)، سنة 571 م، ومن أشهر الأقوال ما ذكره ابن إسحاق أن الولادة كانت في الثاني عشر من ربيع الأول، واعتمد جمع من العلماء  عليها(6).
تقول فاطمة بنت عتبة أم عثمان بن العاص الثقفي: «شهدت ولادة النبي صلى الله عليه وسلم حين وضعته أمه السيدة آمنه، وكان ذلك ليلاً، قالت: فما شيء أنظر إليه من البيت إلا نور، وإني أنظر إلى النجوم تدنو، حتى إني لأقول: ليقعن علي »(7). وأورد الإمام السيوطي ما رواه أبو نعيم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن السيدة آمنة كانت تحدث عن نفسها وتقول: «فلما خرج من بطني نظرت إليه فإذا أنا به ساجدا، قد رفع إصبعيه كالمتضرع المبتهل»(8).
وقد صحب مولده صلى الله عليه وسلم كما أورد المؤرخون سقوط شرفات إيوان كسرى إلا أربعة عشرة شرفة، وغيض بحيرة ساوة حتى جفت، وخمود نار فارس التي كانت تعبد، والتي لم تخمد لألف عام، ونكست أصنام الدنيا. وفي هذا المعنى يقول سيدنا العباس بن عبدالمطلب، الملقب بساقي الحرمين رضي الله عنه:
وأنت لما ولدت أشرقت الأرض  **   وضاءت بنورك الأفق
فنحن في ذلك الضياء وفي     **  النور وسبل الرشاد نخترق 

القسم الثالث: التسمية
رأت السيدة آمنة بنت وهب في الرؤيا من يقول لها إذا ولدتيه فسميه محمداً، وقيل سماه جده عبدالمطلب بعدما ألهم بذلك. ويمكن الجمع بين القولين بأن السيدة آمنة أمرت في المنام أثناء حملها برسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسميه، فأخ رت جده فسماه. ب وقيل لجده عبدالمطلب: ما حملك على أن تسميه بمحمد، وليس من أسماء آبائك، ولا قومك؟ فقال: رجوت أن يحمد في السماء و الأرض.

القسم الرابع: الرضاعة
كانت أمه السيدة آمنة أول من أرضعه صلى الله عليه وسلم، ثم أرضعته ثويبة الأسلمية مولاة أبي لهب(9)، وكان من عادة العرب الاسترضاع من قبائل أخرى(10)، وقد فاز بشرف رضاعته السيدة حليمة السعدية رضي الله عنها في القصة المشهورة عند قدومها مكة، مع زوجها ومجموعة من قومها يلتمسون الرضعاء، وأعرض الكثير من نساء بني سعد عن أخذه صلى الله عليه وسلم رجاء الكرامة من الآباء، فأخذته السيدة حليمة، بعد أن كلمها جده عبدالمطلب، وبعد أن شاورت زوجها؛ أشار عليها بأخذه، وكان آخر المسترضعين؛ ولما دخلت السيدة حليمة بيت السيدة آمنة ورأته، بدأت تتوالى عليها من بركاته ويمنه، هي ثم زوجها ثم بنيها ثم قومها ثم أرضها، وبعد سنتين من الرضاع كان صلى الله عليه وسلم يشب فيها شباباً لا يشبه الغلمان، معرضاً عن اللعب واللهو الذي يصاحب مرحلة الطفولة، طلبت السيدة حليمة من السيدة آمنة أن يمكث عندها بعد الفطام رجاء بركته، وبعد عودته صلى الله عليه وسلم معهم بشهرين أو ثلاثة حصلت حادثة شق الصدر، فحملته لأمه، سيدتنا آمنة، ولما علمت بخبره، قالت: كلا والله ما للشيطان عليه سبيل، وإنه كائن لابني شأن عظيم.
اختلفت الأقوال حول سنين مكثه عند السيدة حليمة، وذكر الإمام الزرقاني أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث هناك أربع سنين، محتجًا بما ذهب إليه الحافظ العراقي، وهو ما ذكره الحافظ ابن حجر أيضاً.

القسم الخامس: فقدان الأم
روى الزهري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ست سنين خرجت به أمه إلى أخوال جده وهم بنو عدي بن النجار بالمدينة تزورهم، ومعها أم أيمن بركة الحبشية، فأقامت به عندهم شهراً.
كان صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة يذكر أموراً كانت في مقامه ذلك، فلما نظر إلى الدار قال، «ههنا نزلت بي أمي، وأحسنتُ العوم في بئر بني عدي بني النجار، وكان قوم من اليهود يختلفون ينظرون إلي فقال: يا غلام ما اسمك؟ قلت: أحمد، ونظر أحدهم إلى ظهري فسمعته يقول: هذا نبي هذه الأمة، وذهب إلى إخوانه، فأخبرهم، فأخبروا أمي فخافت علي، فخرجنا من المدينة، فلما كانت بالأبواء توفيت ودفنت بها».

القسم السادس: رعاية الجد
كان لسيد قريش عبدالمطلب بن هاشم الأثر العظيم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعد وفاة أمه تكفل برعايته، ونقلت السير الكثير من الأخبار التي أظهرت لعبدالمطلب شرفه وبركته صلى الله عليه وسلم، و أنه نبي هذه الأمة.
كان جده عبدالمطلب لا يأكل إلا بمعيته، وكان يشاركه مفرشه عند الكعبة، وينهى من يمنعه عن الجلوس عليه، ويقول: «دعوا ابني يجلس عليه، فإنه يحس من نفسه بشرف، وأرجو أن يبلغ من الشرف ما لم يبلغه عربي قبله ولا بعده» .
وكان عبدالمطلب يحرص على أحواله، ولا يتركه يغيب عنه لفترات طويلة، وقد أوصى به أبنائه حين قارب على الوفاة، وتوفاه الله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ثمان سنين، وذكرت أم أيمن أنها رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي خلف سرير جده بعد وفاته.
القسم السابع: كفالة العم
كان لعم النبي صلى الله عليه وسلم أبي طالب شرف كفالته، وشرف زعامة قريش بعد وفاة جده عبدالمطلب، وقد اختلف علماء السيرة في سبب كفالة أبي طالب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وكان اختلافهم على ثلاثة أقوال:
الأول: أنها كانت وصية عبدالمطلب، والثاني: الاقتراع، والثالث: اختيار النبي صلى الله عليه وسلم له.
وأجمع علماء السير على أن أبا طالب كان شديد الحب للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان يؤثره على أبنائه في الطعام والشراب، وكان لا ينام إلا جنبه، وكان إذا أكل عياله جميعًا أو فرادى دون النبي صلى الله عليه وسلم لا يشبعوا، وإذا أكلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم شبعوا، فيقول له أبو طالب «إنك لمبارك».

المرحلة الثانية: مرحلة الشباب

وتم تقسيم هذه المرحلة إلى تسعة أقسام رئيسية، وهي:

القسم الأول: حفظ الله
قال صلى الله عليه وسلم: «لقد رأيتني في غلمان قريش ننقل حجارة لبعض ما يلعب به الغلمان، كلنا قد تعرى، وأخذ إزاره فجعله على رقبته، يحمل عليه الحجارة؛ فإني لأقبل معهم كذلك وأدبر، إذ لكمني لاكم ما أراه؛ لكمة وجيعة، ثم قال: شد عليك إزارك؛ قال: فأخذته وشددته علي، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي، وإزاري علي من بين أصحابي»(11).

القسم الثاني: مكارم الأخلاق
نشأ عليه الصلاة والسلام على فطرة سليمة، وأخلاق حسنة، تكفلت بها رعاية المولى عز وجل، فكان عليه الصلاة والسلام يكره كشف العورة، ويمقت حضور أعياد الأصنام، ولا يأكل ما ذبح لها، ولم يحلف قط بها، وكان يعرض على من يئد ابنته بأن يكفلها، وكان مشهورًا بين قومه بالصدق، والأمانة، وحسن الخصال؛ حتى نال لقب «الصادق الأمين» .

القسم الثالث: رعي الغنم
حرص سيدنا محمد الشاب على مشاركة أبناء عمه أعمالهم، وكان مهتماً برعاية نفسه، والاعتماد عليها، ومساعدة عمه أبي طالب في طلب الرزق.
كان صلى الله عليه وسلم يرعى غنم أهله بأجياد، وفي الحديث: «بعث داود وهو راعي غنم، وبعث موسى وهو راعي غنم، وبعثت أنا وأنا أرعى غنماً لأهلي في جياد»(12)، وقال عليه الصلاة والسلام: «ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم، فقال أصحابه وأنت؟، فقال: نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة»(13).

القسم الرابع: قصة بحيرا الراهب
أظهر بحيرا الراهب النصراني في أرض بصرى بالشام اهتماماً جماً بموكب قريش عندما توقف بجانب صومعته، وقد كان لا يفعل ذلك سابقاً، وكان لا ينشغل عن عبادته بهم ولا يلتفت إليهم، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم في صحبة عمه أبي طالب في القافلة القرشية، شاهد الراهب من علامات ودلالات النبوة تظليل الغمامة للنبي صلى الله عليه وسلم، وجلوسه تحت شجرة قال عنها بحيرا لم يجلس تحتها قط إلا نبي، وأخبر قريشاً بأنهم حين أشرفوا من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجداً، ولا يسجد إلا لنبي؛ وبعدما تأكد الراهب بحيرا من نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أخبر عمه أبا طالب بأنه سيكون لابن أخيه شأن عظيم وأشار إليه بأن يرجع به إلى مكة، وحذره من أن يراه اليهود حتى لا يكيدوا له بشر.
قال ابن إسحاق: فلما فرغ يعني بحيرا أقبل على عمه أبي طالب، فقال له: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني. قال له بحيرا: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حياً؛ قال: فإنه ابن أخي؛ قال: فما فعل أبوه ؟ قال: مات وأمه حبلى به؛ قال: صدقت، فارجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه يهود، فوا الله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنَّه شرًا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، فأسرع به إلى بلاده(14).

القسم الخامس: حلف الفضول
كان عليه الصلاة والسلام يشارك مجتمعه تفاصيل حياتهم التي تجمع على الخير، والفعل الحسن، ونصرة المظلوم، وإعانة الضعيف. وقد حضر صلى الله عليه وسلم حلف الفضول، وقال عنه: «لقَدْ شَهِدْتُ دَارِ عَبْدِ اللهَّ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لَيِ بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ، وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الإِسْلامِ لأَجَبْتُ»، وَكَانَ سَبَبُ الْحلِْفِ أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تَتَظَالَمْ بالْحَرَمِ، فَقَامَ عَبْدُ الله بْنُ جُدْعَانَ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ فَدَعَواهُمْ إِلَى التَّحَالُفِ عَلَى التَّنَاصُرِ، وَالأَخْذِ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ فَأَجَابَهُمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَعْضُ الْقَبَائِلِ مِنْ قُرَيْشٍ» (15).

القسم السادس: حرب الفجار
شارك عليه الصلاة والسلام في حرب الفجار مع أعمامه، ورمى فيها بسهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كنت أنبل على أعمامي: أي أرد عليهم نبل عدوهم إذا رموهم». قال ابن هشام: فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة سنة أو خمس عشرة سنة، فيما حدثني أبو عبيدة النحوي، عن أبي عمرو بن العلاء، هاجت حرب الفجار بين قريش ومن معها من كنانة، وبين قيس عيلان(16).

القسم السابع: العمل في التجارة
ذكرت السير أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عمل في التجارة، واختلفوا على عدد زياراته للشام، فقد اتفق البعض على أنها كانت ثلاث زيارات، الأولى مع عمه أبي طالب، والثانية وهو ابن عشرين سنة بصحبة سيدنا أبي بكر الصديق، والثالثة في تجارة السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنهما، أما البعض الآخر فقد اكتفوا فقط بزيارته مع عمه أبي طالب، وزيارته بتجارة السيدة خديجة.
تناهى إلى أسماع السيدة خديجة رضي الله عنها، وهي القرشية التاجرة ذات الحسب والنسب، أخبار صدق وأمانة وحسن خلق الشاب سيدنا محمد بن عبد الله، وكانت حريصة على تولية تجارتها من يحمل مثل هذه الصفات، فبعثت له تعرض عليه أن يخرج بتجارتها مع غلامها ميسرة، فقبل، وخرج في مالها.
قال ابن إسحاق: «وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه، بشيء تجعل لهم منه، وكانت قريش قوماً تجارًا؛ فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها، من صدق حديثه، وعظم أمانته، وكرم أخلاقه، بعثت إليه فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجرًا، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار، مع غلام لها يقال له ميسرة، فقبله رسول الله منها، وخرج في مالها ذلك، وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدم الشام. فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة قريباً من صومعة راهب من الرهبان، فاطلع الراهب إلى ميسرة، فقال له: من هذا الرجل الذي نزل تحت هذه الشجرة ؟ قال له ميسرة: هذا رجل من قريش من أهل الحرم؛ فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي، ثم باع رسول الله صلى الله عليه وسلم سلعته التي خرج بها، واشترى ما أراد أن يشتري، ثم أقبل قاف إلى مكة ومعه ميسرة. فكان ميسرة، فيما يذكرون، إذا كانت الهاجرة واشتد الحر، يرى وكأن ملكين يظلانه من الشمس، وهو يسير على بعيره، فلما قدم مكة على خديجة رضي الله عنها بمالها، باعت ما جاء به، فأضعف أو قريباً، وحدثها ميسرة عن قول الراهب، وعما كان يرى من إظلال الملكين إياه»(17).

القسم الثامن: الزواج
ذكر ابن هشام في سيرته: «كانت خديجة امرأة حازمة شريفة لبيبة، مع ما أراد الله لها من كرامته، فلما أخبرها ميسرة بما أخبرها به بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت له – فيما يزعمون-: يا ابن عم،  إني قد رغبت فيك لقرابتك، وسطتك أي منزلتك في قومك، وأمانتك، وحسن خلقك، وصدق حديثك، ثم عرضت عليه نفسها. وكانت خديجة رضي الله عنها يومئذ أوسط نساء قريش نسباً، وأعظمهن شرفاً، وأكثرهن مالًا ؛ كل قومها كان حريصاً على ذلك منها لو يقدر عليه»(18).

القسم التاسع: بناء الكعبة المشرفة
بعدما ضرب مكّة سيل عارم كاد أن يؤدي إلى انهيار بنيان الكعبة المشرفة، قررت قريش أن تعيد البنيان من طيب مالها، فقالوا: «يا معشر قريش، لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيبا، لا يدخل فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس»(19).
وقد شارك النبي صلى الله عليه وسلم في هذا البناء مع عمه العباس، وكان يحمل الحجارة وينقلها وهو ابن خمس وثلاثين سنة.
بعدما انتهت قريش من بناء الكعبة الشريفة، اختلفوا اختلافاً شديدًا على اختيار شرف حمل الحجر الأسود، ووضعه في مكانه المخصص، حتى كادوا أن يقتتلوا، ولكن عناية الله عز وجل كتبت أن تختار الحكمة فيهم أول داخل من الباب ليفصل بينهم، وقد كان ذلك الداخل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتذكر كتب السير أنه لما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا به، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: «هلم إلي ثوباً، فأتي به، فأخذ الركن فوضعه فيه بيده، ثم قال صلى الله عليه وسلم: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعاً، ففعلوا: حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه هو بيده، ثم بنى عليه».(20)

المرحلة الثالثة: مرحلة الرجولة

وقُسمت هذه المرحلة إلى إثنا عشر قسماً رئيسياً، من مبعثه إلى وفاته صلى الله عليه وسلم.

القسم الأول: البعثة
كانت أول إشارات النبوة التي حدثت لرسول الله صلى الله عليه وسلم هي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا في نومه إلا وتحققت، وحُببت له الخلوة، والتحنث، ولما بلغ الأربعين من عمره، وفي يوم الاثنين لإحدى وعشرين مضت من شهر رمضان ليلًا الموافق 10 آب (أغسطس)، سنة 610 م، أتاه الوحي بنزول {اقرأ}(21)، في غار حراء ليعلن انطلاق الرسالة الخاتمة.
بعد أن راعه صلى الله عليه وسلم ما رأى في الغار مع أمين وحي السماء جبريل، توجه لداره حيث زملته و دثرته السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ، وهدأت من روعه، ثم ذهبت بخبره لابن عمها ورقة بن نوفل، فأخبرها بأنه الوحي، وبشرها بأنه نبي هذه الأمة، وأخبره بأمر أمين الوحي، و أنه الناموس الذي نزل على سيدنا موسى عليه السلام، وذكر له بعض ما سيلقاه من خصومه، وبهذا بدأت بعثة رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم.

القسم الثاني: الدعوة
يرى بعض العلماء أن الدعوة المكية كانت على ثلاث مراتب: المرحلة السرية، وقد امتدت لثلاث سنين لمن حوله صلى الله عليه وسلم من المقربين، والمرحلة الثانية هي العشيرة {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]،ثم المرحلة الثالثة قريش بعمومها؛ ويذكر الشيخ
ابن القيم رحمه الله أن الدعوة بعمومها كانت على مراتب خمس: «الُمرْتَبَةُ الْأُولَى: النُّبُوَّةُ، الثَّانِيَةُ: إِنْذَارُ عَشِيرَتِهِ الْأَقْرَبِينَ، الثَّالِثَةُ: إِنْذَارُ قَوْمِهِ، الرَّابِعَةُ: إِنْذَارُ قَوْمٍ مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِهِ وَهُمُ الْعَرَبُ قَاطِبَةً، الْخَامِسَةُ: إِنْذَارُ جَمِيعِ مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَتُهُ مِنَ الجِنِّ وَالْإِنْسِ إِلى آخِرِ الدَّهْر»(22).

القسم الثالث: الهجرة إلى الحبشة
لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يُصيب أصحابه من المستضعفين من البلاء، وما هو فيه من العافية، بمكانة من الله سبحانه وتعالى ، ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه»، فخرج المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة، وفراراً إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة كانت في الإسلام»(23).

القسم الرابع: الحصار
لما رأى كفار قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزلوا بلداً أصابوا به أمناً وقراراً، وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم، وأن عمر قد أسلم، فكان هو وحمزة بن عبد المطلب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وجعل الإسلام يفشو في القبائل، اجتمعوا وائتمروا بينهم أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم، وبني المطلب، على أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئاً، ولا يبتاعوا منهم، فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيفة ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم(24)، فاستمر الحصار إلى ثلاث سنوات، ثم سعى في نقض تلك الصحيفة أقوام من قريش، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه: أن الله قد أرسل على تلك الصحيفة الأَرَضَةَ، فأكلت جميع ما فيها إلا ذكر الله، فكان كذلك(25).

القسم الخامس: عام الحزن
رجع بنو هاشم وبنو المطلب إلى مكة، ويذكر الحافظ ابن كثير أنه لما نُقِضَتِ الصحيفة، وافق موت السيدة خديجة، وموت أبي طالب، وكان بينهما ثلاثة أيام، فاشتد البلاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفهاء قومه، وأقدموا عليه أي اجتمعوا عليه ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف لكي يؤوه وينصروه، ودعاهم إلى الله، فلم يجيبوه إلى شيء من الذي طلب، وآذوهُ أذى عظيماً، فرجع عنهم، ودخل مكة في جوارِ المُطْعِمِ بن عديِّ بن نوفل ابن عبد مناف.
وأُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى بيتِ المقدس، راكباً البُراقَ في صحبة سيدنا جبريل، فنزل ثَمّ وَأَمَّ بالأنبياء ببيتِ المقدس، فصلَّى بهم ثم عُرج به تلك الليلة من هناك إلى السماء الدنيا، ثم للتي تليها، ثم الثالثة، ثم إلى التي تليها، ثم الخامسة، ثم التي تليها، ثم السابعة، ورأى الأنبياء في السماوات على منازلهم، ثم عرج به إلى سدرة المنتهى، ورأى عندها جبريل على الصورة التي خلقه الله عليها، وفرض الله عليه الصلوات تلك الليلة(26).
ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه، أخبرهم بما أراه الله من آياته الكبرى، فاشتد تكذيبهم له وأذاهم، واستجراؤهم عليه.

القسم السادس: الهجرة إلى المدينة
روى البخاري ومسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي ظني إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب» . وكان أول الأمر بعد اشتداد الأذى بمن بقي من المسلمين في مكة، هو مقابلة الوفود والقبائل في الحج وعرض الإسلام عليهم، إلى أن أراد المولى عز وجل أن يقابل مجموعة من يثرب وذلك قبل الهجرة بعامين، فأسلم إثنا عشر رجلاً بعد مبايعتهم رسول الله، وأرسل معهم مصعب بن عمير يعلمهم القرآن وأمور دينهم، ثم ما لبث في العام القادم إلا أن قدم وفد من ثلاثة وسبعين رجلاً وامرأتان وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسميت بيعة العقبة الثانية.
لما رأت قريش كثرة خروج المسلمين إلى المدينة خافوا من خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فاجتمعوا في دار الندوة وقرروا قتله صلى الله عليه وسلم بعد أن يأخذوا من كل قبيلة من قريش شاباً، ويضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه بين القبائل. فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وأبلغه بألا يبيت ليلته هذه في بيته، وأن الإذن بالهجرة قد حان، فأمر عليه الصلاة والسلام عليًا بأن ينام في بيته. واجتمع شباب قريش على بابه صلى الله عليه وسلم، وراقبوه، وأعمى الله عز وجل أبصارهم، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيته وحثى عليهم التراب، ثم توجه إلى دار سيدنا أبي بكر الصديق إيذانًا ببدء هجرته، وكان الصديق قد جهز الركب والدليل.
ويروي الإمام البخاري عن البراء بن عازب أنه قال: «أول من قدم علينا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم فجعلا يقرئاننا القرآن، ثم جاء عمار وبلال وسعد، ثم جاء عمر بن الخطاب، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم به حتى رأيت الولائد والصبيان يقولون هذا رسول الله قد جاء فما جاء حتى قرأت {سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ} [الأعلى: 1] في سور مثلها».

القسم السابع: الاستقرار وإعداد المجتمع
وصل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه صاحبه الصديق إلى قباء في شهر ربيع الأول، واستقبل بحفاوة كبيرة من الأنصار، ومن سبق من المهاجرين، ونزل بقباء وبنى فيها أول مسجد في الإسلام، وخطب أول جمعة وهو في طريقه إلى المدينة وكانت في بني سالم بن عوف. ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب الأنصاري، بعد أن بركت ناقته أمام البيت.
ثم عمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اتخاذ خطوات رئيسية لتكوين المجتمع المسلم في المدينة المنورة وكانت كالآتي:

  • بناء المسجد النبوي: ليكون المقر الرسمي للدولة المسلمة، ولاجتماع المسلمين، وإقامة الصلوات.
  • تسوية الأوضاع الداخلية بين الأنصار أوسهم وخزرجهم، والمؤاخاة بينهم وبين المهاجرين.
  • إعطاء اليهود العهد بالموادعة والأمان على أموالهم وأنفسهم وحرية عقيدتهم.
  • إنشاء سوق لأهل المدينة بعيدًا عن سيطرة اليهود على اقتصاد المدينة.
  • التنظيم الإداري للسرايا والغزوات.

القسم الثامن: مواقف من السرايا والغزوات
غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه سبعاً وعشرين غزوة، قاتل في تسع منها فقط وبعث أصحابه في سبع وأربعين سرية، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم، وصحابته رضي الله عنهم هم المعتدى عليهم دائماً، وتجلت لكل منصف أخلاق الإسلام خلال هذه الغزوات، إن كان ذلك في القتال، أو في معاملة الأسرى؛ فليس الغرض من الغزوات والمواقع إلا الدفاع عن الدين وأهله، ورد المظالم إلى أصحابها.
في صفر سنة اثنين من الهجرة خرج بنفسه صلى الله عليه وسلم حتى بلغ وَدَّان – قرية جامعة من نواحي الفرع بين مكّة المكرمة والمدينة المنورة، بينها وبين (الأبواء) نحو من ثمانية أميال، قريبة من الجحفة، والأبواء قرية من أعمال الفرع من المدينة المنورة، بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلاً – ولم يلق حرباً، فسرية حمزة بن عبد المطلب إلى سيف البحر، وسرية عبيدة بن الحارث بن المطلب إلى بطن رابغ، فكان هذان البعثان أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن اختُلف في أيِّهما كان أول.
ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غزوة بُوَاطٍ، ثم كانت بعدها غزوة العُشَيْرَةِ أو الْعُشَيْرَاء. وذكر الواقدي: «أنّ هذه السفرات الثلاث – يعني ودّان، وبواط، والعُشيرة كان صلى الله عليه وسلم يخرج فيها لتلقي تجار قريش حين يمرون إلى الشام، ذهاباً وإياباً، وبسبب ذلك كانت وقعة بدر الكبرى»(26) – و شعبان من هذه السنة: حُوِّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وذلك على رأسِ ستَّة عشر شهراً من مقدمهِ المدينة، وقيل سبعة عشر شهراً وهما في «الصحيحين»، وَفُرِض صوم رمضان، وَفُرضت لأجلهِِ زكاة الفطر قُبَيْلَهُ بيَوْم.
كانت بدرٌ الكبرى – اسم بئر سُميت باِسم رجل من غِفار حفرها هناك عقب بدر الأولى، وكانت صبيحة يوم الجمعة لسبعة عشر من رمضان في السنة الثانية من الهجرة، ولم يكن الهدف من هذه الغزوة القتال وإنما كان خروجه صلى الله عليه وسلم لاعتراض عير قريش التي كان على رأسها أبو سفيان صخر بن حرب.
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خروج قريش استشار أصحابه، فتكلم كثير من المهاجرين فأحسنوا، ثم استشارهم، وهو يريد ما يقول الأنصار، فبادر سيدنا سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله! كأنك تُعرِّضُ بنا فو الله يا رسول الله! لو استعرضت بنا البحر، لخضناهُ معك فسرْ بنا يا رسول الله على بركة الله، فَسُرَّ صلى الله عليه وسلم بذلك، وقال: «سِيرُوا وأبشِرُوا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين»(27).
منح الله المسلمين الغلبة على المشركين، فقتلوا منهم سبعين، وأسروا سبعين، وأخذوا غنائمهم، وأنزل الله في غزوة بدر سورة الأنفال، فقسَّم صلى الله عليه وسلم المغانمَ كما أمره الله تعالى، واستشار أصحابه في الأسارى ماذا يصنع بهم؟؛ فأشار سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأن يُقتلوا، وأشار سيدنا أبو بكر رضي الله عنه بالفداء، وهويَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر(28).
وتوالت الغزوات بعد غزوة بدر الكبرى، فبعد فراغه صلى الله عليه وسلم بسبعة أيام نهض لغزوة بني سليم، ولم يلق حرباً، فغزوة بني قينقاع، وغزوة السويق، وغزوة ذي قرقرة، وغزوة ذي أمر وغطفان، وغزوة بحران.
بعد بحران جاءت غزوة أحد، فبعد خسارة قريش لصناديدها في بدر، قررت وعلى رأسها أبو سفيان أن يأخذوا بثأرهم ويقاتلوا رسول الله والمسلمين في المدينة، ولما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بخروجهم استشار أصحابه في القتال، وكان رأيه صلى الله عليه وسلم أن يبقوا في المدينة ويقاتلوا فيها، وكان رأي الأغلب من أصحابه أن يخرجوا لقتالهم، فأخذ عليه الصلاة والسلام برأي الأغلبية. وعندما بدأ القتال كانت الغلبة للمسلمين، وظن الرماة أن المعركة قد انتهت فنزل أكثرهم لجمع الغنائم بالرغم من نهي قائدهم لهم (29) عن النزول، وتحولت الدفة إلى مصلحة المشركين، وقد ظهرت في هذه المعركة أعظم معاني الحب والفداء حيث وقف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستبسلوا في الدفاع عنه وسلمه الله من أيدي المشركين.
بعدها غزوة حمراء الأسد، وغزوة بني النضير، وغزوة ذات الرقاع، وغزوة بدر الثالثة (الأخيرة)، وغزوة دومة الجندل، وغزوة المريسيع – بني المصطلق ، وغزوة الخندق – الأحزاب – (30)، وغزوة بني قريظة، وغزوة بني لحيان، وغزوة الغابة (غزوة ذي قرد)، ثم غزوة الحديبية، وغزوة خيبر، وغزوة عمرة القضاء، وسرية مؤتة، وفتح مكة، وغزوة حنين، وغزوة الطائف، وغزوة تبوك.

القسم التاسع: صلح الحديبية
وقع صلح الحديبية في أواخر السنة السادسة من الهجرة، حيث خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجموعة من أصحابه يريدون العمرة، وعندما علمت قريش بخروجهم ضجت وأبوا أن يدخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه معتمرين وأرسلوا المقاتلين لاعتراض طريقه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم اختار طريقا آخر إلى مكة حتى وصل إلى الحديبية ونزل بها. ثم تتابعت رسل قريش ومبعوثيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدون أن يثنوه عن أداء العمرة ويطلبون منه الرجوع إلى المدينة، ولكن في كل مرة يخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ما جاء لقتال وإنما أراد العمرة.
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان ليطمئن قريش بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما قدم إلا لأداء العمرة، فاطمأن القوم واحتجزوا عثمان بن عفان وأخروه عن الرجوع لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظن المسلمون أنه قتل، عندها بايع الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على القتال، وسميت بيعة الرضوان.
بعد ذلك بعثت قريش سهيل بن عمرو للتفاوض والصلح مع رسول الله، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً قال: «قد سهل لكم أمركم، أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل». فصالحهم على أشياء منها:

  • أن يرد الرسول صلى الله عليه وسلم من يأتيه من قريش مسلماً بدون إذن وليه، وألا ترد قريش من يعود إليها من المسلمين.
  • أن من أراد أن يدخل في عهد قريش دخل فيه، ومن أراد أن يدخل في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم دخل فيه.
  • أن تقف الحرب بينهم مدة عشر سنين.
  • أن يرجع المسلمون ذلك العام إلى المدينة على أن يدخلوا مكة معتمرين في العام المقبل.
    ودخلت قبيلة خزاعة في عهد محمد، ودخل بنو بكر في عهد قريش(31).

القسم العاشر: فتح مكة المكرمة
لما دخل صلى الله عليه وسلم مكّة المكرمة فاتحاً مظفراً منصوراً، سميت بفتح الفتوح؛ لأن العرب كانت تنتظر بإسلامها إسلام قريش، وتقول: هم أهل الحَرم، وقد أجارهم الله من أصحاب الفيل، فإن غلبوا لا طاقة لأحد بمحمّد، فلما فتح الله مكّة، دخلوا في دين الله أفواجاً، بعد أن كانوا يدخلون فيه فُرادى، ولم يقم بعده للشرك قائمة(32).
لا تخفى معاملته صلى الله عليه وسلم لأهل مكّة والطائف ورؤساء الفتنة وزعماء الشر، وشمول عفوه صلى الله عليه وسلم البلاد والسادة والزعماء الذين أسرفوا في إيذائه واضطهاده.

القسم الحادي عشر: حجة الوداع
صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر يوم الخميس لست بقين من ذي القعدة، من سنة عشر للهجرة بالمدينة، ثم خرج منها بمن معه من المسلمين من أهل المدينة، ومن تجمع من الأعراب، فصلى العصر بذي الحليفة ركعتين وبات بها، وأتاه آتٍ من ربه عز وجل في ذلك الموضع، وهو وادي العقيق يأمره عن ربه عز وجل أن يقول في حجته هذه: «حجة في عمرة».
كان أكبر تجمع للصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هو يوم النحر في حجة الوداع، حين وقف عليه الصلاة والسلام قائلاً لهم: «أتدرون أيُّ يوم هذا؟» قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: «أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى، قال: أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس ذا الحجة؟ قلنا: بلى، قال: أي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليست بالبلدة الحرام؟ قلنا: بلى، قال: فإن دماءكم وأموالكم  وفي رواية وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى يوم تلقون ربكم»، وهذا الحديث رواه أئمة كثر في كتب السنة، منهم الإمام البخاري في تسعة مواطن من صحيحه(33).

القسم الثاني عشر: الوفاة
قال ابن إسحاق، قال الزهري: حدثني أنس، قال: كان يوم الاثنين الذي قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الناس، وهم يصلون الصبح فرفع الستر وفتح الباب. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام على باب السيدة عائشة رضي الله عنها ؛ فكاد المسلمون يفتنون في صلاتهم فرحاً به، حين رأوه، وتفرجوا عنه فأشار إليهم: أن اثبتوا على صلاتكم، قال: وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سرورًا، ولما رأى من هيئتهم في صلاتهم. وما رؤي أحسن منه هيئة تلك الساعة. قال: ثم رجع، وانصرف الناس، وهم يرون أنه قد أفرق من وجعه، وخرج أبو بكر إلى أهله بالسنح. فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الضحى من ذلك اليوم.
وعن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عمر. فقال: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توفي، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما مات، ولكنه قد ذهب إلى ربه، كما ذهب موسى بن عمران. فقد غاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل مات. ووالله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد حين، كما رجع موسى، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنه قد مات. قال: وأقبل أبو بكر، حتى نزل على باب المسجد.
حين بلغه الخبر وعمر يكلم الناس فلم يلتفت إلى شيء، حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجى في ناحية البيت، عليه برد حبرة.
فأقبل حتى كشف عن وجهه. ثم أقبل عليه فقبله، ثم قال: بأبي أنت وأمي، أما الموتة التي كتبها الله عليك: فقد ذقتها، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبدا. ثم رد البرد على وجهه. وخرج وعمر يكلم الناس فقال: على رسلك يا عمر، أنصت. فأبى إلا أن يتكلم. فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس. فلما سمع الناس كلام أبي بكر أقبلوا عليه، وتركوا عمر. فحمد الله تعالى، وأثنى عليه. ثم قال: أيها الناس، من كان يعبد محمدًا. فإن محمدًا قد مات. ومن كان يعبد الله تعالى، فإن الله حي لا يموت. قال: ثم تلا هذه الآية؛ {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي ٱللَّهُ ٱلشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144].
قال: فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت، حتى تلاها أبو بكر يومئذ، قال: وأخذها الناس عن أبي بكر، فإنما هي في أفواههم. قال أبو هريرة فقال عمر: فو الله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها. فعثرت حتى وقعت إلى الأرض، ما تحملني رجلاي، فاحتملني رجلان، وعرفت أن رسول الله قد مات(34).

خاتمة

آمل أن تكون هذه القراءات المختصرة مع الأبحاث التي قدمت في هذا الملتقى المبارك مساهمة في تحقيق كل ما يقرب الناس من النبي صلى الله عليه وسلم، ويقربه إليهم صلوات ربي وسلامه عليه حسًا ومعنى.

التوصيات والمقترحات

  1. تنقية مصادر السيرة من الروايات الموضوعة، والشديدة الضعف، والتحذير من الاعتماد عليها في دراسة السيرة.
  2. الاعتماد على كتب السنة الشريفة في كتابة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لعلو درجتها في الدقة والتوثيق.
  3. المزج في دراسة السيرة بين منهج المحدِّثين القائم على توثيق الروايات، ومنهج المؤرخين القائم على النظر الموضوعي في متون الروايات والأخبار.
  4. ضرورة الاهتمام بالمناسبات النبوية، ورعايتها من أعلى المستويات، وإعطائها القيمة اللائقة بها.
  5. صناعة جيل قدوته النبي صلى الله عليه وسلم، وزرع محبته في قلوبهم وعقولهم.
  6. العكوف على المزيد من الدراسات المتعلقة بالسيرة النبوية للقيام بما يعالج واقع الأمة وفق منهج نبيها صلى الله عليه وسلم .
  7. التركيز على الجوانب الإنسانية والحضارية للسيرة النبوية، والإفادة منها في الانتهاض بالأمة.
  8. ترجمة البحوث والدراسات الجادة والموضوعية عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى اللغات الأجنبية.
  9. متابعة آراء المستشرقين والعناية برصد رؤاهم، وتصوراتهم حول السيرة النبوية وتقويمها.
  10. إعداد مشروع بحثي ضخم يقوم على إعادة النظر في السيرة النبوية وما كتب حولها.
  11. جمع مواد السيرة النبوية المبعثرة في المصادر ذات الصلة بالدراسات التاريخية.
  12. الكشف عن التراث الذي لا يزال مخطوطاً في ميدان السيرة النبوية ونشره بعد تحقيقه.
  13. إعادة النظر في مناهج السيرة النبوية وطرق تدريسها في مراحل التعليم المختلفة.
  14. التركيز على عرض السيرة النبوية في وسائل الإعلام المختلفة وتيسيرها للناس كافة، واستخلاص ما تنطوي عليها من فوائد وقيم.
  15. تشجيع أعمال حديثة مختصة بالسيرة على قواعد كتابة نصوص السيناريو للأعمال المصورة، عوضاً عن دراسة ما يقدم من أصحاب الاختصاص في الأعمال الدرامية.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه،
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين