الشورى بين التطبيقات النبوية وواقعنا المعاصر

سعادة الأستاذ الدكتور بكر زكي عوض

عمّان- المملكة الأردنيّة الهاشميّة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد
يطيب لي أن أكتب عن هدي الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في التطبيقات العملية للشورى في الإسلام، ولست أول من كتب فيها – الشورى – ولا عنها، فالبحث مسبوق بمئات الأعمال العلمية حول هذا الموضوع، كما أنه لن يتوقف إلى قيام الساعة، لأنه متصل بنصوص قرآنية وأحاديث نبوية، وهما محفوظان بحفظ الله لهما.
وإنما الجديد في البحث – بعد التأصيل له – هو استنباط صور للشورى يمكن أن نفعلها الآن في المجتمع الإسلامي، وكذلك بيان آداب إبداء الرأي بين الماضي – العصر النبوي – والحاضر – الواقع الذي نعيشه، مع بيان كيف أساءت تيارات محسوبة على الإسلام إلى هذا المبدأ من حيث الكلام عن الديمقراطية والخلط بينها وبين الشورى، ثم الذهاب إلى حرمة الترشح للمجالس النيابية والمشاركة في أعمال الانتخابات وبطلان كل اللوائح والقوانين الصادرة عن مجالس التشريع على اختلاف صورها ووصفها بمجالس الطاغوت والشرك، فضلاً عن تقديم تصور للشورى من قبل هذه الجماعات قاصر على رؤيتهم الشخصية مع حداثة سن هؤلاء وقلة علمهم وانعدام خبرتهم ووهن إرادتهم إلا من التسلط على الحكم واستحلال دم ومال وعرض المخالف في بعض الأحيان، الأمر الذي شوه صورة الإسلام في تصور الغرب عنه، وضلل الناشئة في بلاد الشرق، وجعل قليلين يدينون بهذا الفكر المتطرف الذي انعكس سلباً على مسيرة الدعوة الإسلامية.
لقد وصلت الأمور ببعض التيارات المتاجرة بمبادئ الإسلام أن رفضت فكرة الترشيح لمجالس الشعب والشورى لأنها مخالفة للشريعة ثم بدا لها بعد أن لاح في الأفق أمل الفوز أن ترشح بعض كوادرها، ولما وهمت نفسها أو توهمت الفوز أعلنت عن رغبتها في ترشيح رئيس للدولة من بين أفرادها، كل هذا في غضون شهور معدودة، مما يدل على عدم الثبات على المبدأ وعدم توفر الدليل المقنع وانعدام الخبرة السياسية.
وإن كان مصطلح السياسة في فهمهم ضلال وطاغوت – الأمر الذي استوجب استحضاري للجانب العملي بحق الشورى في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، علَّنا ننتفع بهذا المنهج في واقعنا المعاصر وقد حرصت على تناول الأمور التالية:
الأمر الأول: الشورى في اللغة والاصطلاح.
الأمر الثاني: التأصيل الشرعي للشورى في الإسلام.
الأمر الثالث: الآداب التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم للشورى وهديه في التطبيق.
الأمر الرابع: التطبيق النبوي العملي للشورى.
الأمر الخامس: مدى إمكانية الانتفاع بهذا الهدي في أيامنا هذه والآثار الإيجابية المترتبة على هذا.
الأمر السادس: التيار السلفي المعاصر وخلطه الأوراق وموقفه من الانتخابات والترشيح والمجالس النيابية وقرارتها.
الأمر السابع: التوظيف السلبي للشورى عند بعض التيارات الإسلامية وأثره على أمن وسلم المجتمع.
الأمر الثامن: تجارب غير المسلمين ما نأخذه منها وما ندع.
الأمر التاسع: نتائج البحث والتوصيات.
الخاتمة وفيها:

  1. التوصيات.
  2. المراجع.
  3. الفهرس العام.

الأمر الأول: الشورى في اللغة والاصطلاح

سنّة متبعة أن تحدد المفاهيم في البحث العلمي مع التركيز على المعنى المراد حتى لا تتسع دائرة البحث وبخاصة إذا اقتضت ظروفه التركيز في المعالجة فأقول وبالله التوفيق:
الشورى في اللغة: مأخوذة من مادة «شور» وهي تعني دلالات عدة نأخذ منها ما له صلة بموضوعنا.
فمن معانيها في اللغة إذا تعدت بعلى: نصحه أن يفعله مبيناً ما فيه من صواب وشاوره في الأمر طلب رأيه فيه، واشتور القوم: شاور بعضهم بعضاً واستشار فلاناً في الأمر أي شاوره – وطلب رأيه – والشورى التشاور في التنزيل العزيز {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] والأمر الذي يتشاور فيه والمستشار: العالم الذي يؤخذ رأيه في أمر هام هام علمي أو فني أو سياسي أو قضائي، والمشورة ما ينصح به من رأي وغيره(1)
وفي معجم ألفاظ القرآن الكريم ورد: شاورهم أي طلب رأيهم [آل عمران: 159].
والتشاور تبادل الرأي [البقرة: 233] والشورة هي التشاور [الشورى: 38] وهذه المعاني مأخوذة عن المعاجم السابقة عليها.
وأما الشورى في الاصطلاح فلها تعاريف عدة بحسب حال المعرف وثقافته واتجاهاته الفكرية ومما ورد حولها من تعريفات نذكر:

الشورى في الاصطلاح:

هي رجوع الحاكم أو القاضي أو آحاد المكلفين في أمر لم يستبن حكمه بنص قرآني أو سنة أو ثبوت إجماع إلى من يرجى منهم معرفته بالدلائل الاجتهادية من العلماء المجتهدين ومن قد ينضم إليهم من أهل الدراية والاختصاص(2).
وقيل: هي استطلاع الرأي من قبل أهل الاختصاص فيما لا نص فيه(3).
و يلاحظ أن المعرفين قد ركزوا على الشورى في المسائل الدينية والصواب أن تعرف بمعناها العام: استطلاع رأي الآخرين فيما لا علم للإنسان به أو ما عنده علم يريد أن يتثبت منه في أمور الدين والدنيا، وبهذا تتسع دائرة المشورة لتشمل كل شؤون الحياة، لأن طلب العلم لما فيه نص لا يعد شورى بل استفتاء أو تعلم أو استيضاح، وما لا نص فيه هو محل المشورة.

الأمر الثاني: التأصيل الشرعي للشورى في الإسلام

إن العلم الكامل الشامل قد استأثر الله به، ومن هذا العلم الكامل الشامل علم الله الإنسان وجملة ما علمه للإنسان وصفه بقوله: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 85].
ولم يشأ الله أن يخلق الإنسان الذي يحيط بكل شيء علماً، بل صرح الصفوة ممن علمهم الله عن طريق الوحي الجلي الأنبياء والمرسلون] أنه لا علم لهم بكثير من الأمور التي أظهروها في الرد على خصومهم، فهذا نوح عليه السلام يقول لقومه: {وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِيۤ أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ ٱللَّهُ خَيْراً} [هود: 31]، وخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم قال بعد سؤاله عن الساعة: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللَّهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (187) قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ ٱلسُّوۤءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الاعراف: 187 – 188].
وهذه الحكمة الإلهية – عدم إعطاء العلم الشامل لأحد من الخلق – تشكل عاملاً من عوامل الربط بين البشر وتفتح باباً من أبواب تلاقح الأفكار، وتسقط القدسية عن أي إنسان يدعي أنه قد أحاط بكل شيء علماً.
كما أن الغاية من تلاقح الأفكار هو تولد فكر جديد تجاه قضية لم يرد فيها نص ولم تتضح فيها السبل ولم تظهر بعد النتائج التي ستفضي إلى هذه السبل وبخاصة بحق المستفتي، الأمر الذي يتطلب تحمل كل فرد مسؤوليته تجاه مجتمعه، إذا تعلق الأمر محل الاستفتاء بالأمة ككل، ويتحمل مسؤوليته – أيضاً – إذا تعلق الأمر محل الطرح بقضية خاصة بجماعة من الناس دون غيرهم، وهو ما يعبر عنه بالنقابات الآن، حيث صار لكل مهنة جماعة من أهلها تختارهم ليعبروا عن آمالهم وأمانيهم وآرائهم أمام ولاة الأمر ولهذا سلك القرآن سبلاً عدة في التأصيل لهذا المبدأ ومن هذه السبل ما يلي:

  1. أن المشورة سنّة من الله بين البشر وأن الأمم السابقة لم تستطع التخلي عن هذه السنّة، ولكنه نص على أمر ينبغي أن يراعى، وهو وصف التشاور على فعل شر بالكيد والمكر مع بيان سوء العاقبة، ووصف التشاور في الخير وعلى فعل الخير بالثناء والمدح مع الحث على التأسي.
    ومن الشورى التي عبر عنها بالمكر مع بيان سوء العاقبة ما ورد في قول الحق سبحانه واصفاً خصوم صالح عليه السلام {وَكَانَ فِي ٱلْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ (48)قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِٱللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (50) فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوۤاْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [النمل: 48 – 52].
    وعندما تشاور كفار قريش على التصرف واتخاذ موقف من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصف الله تشاورهم – لأنه في شر – بالمكر وبين عاقبته قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].
    ومن الشورى التي نالت ثناء واستحساناً وكانت سبباً في النجاة من الهلكة أو السبي والذل والإهانة ما ورد بحق ملكة سبأ، وقد نصّ القرآن على شأنها واستطلاعها رأي الصفوة من أتباعها وأشار إلى رجاحة عقلها وإلى عزّتها وحرصها على هذه العزّة حتى مع اللحظات الأخيرة حين أعلنت إسلامها قائلة {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ} [النمل: 44]، ولم تقل أسلمت لسليمان أو أسلمت قومي لسليمان وجنده وإنما معه، فهما سواء في اعتناق الإسلام وأكرمهم عند الله من فضله بالنبوة والرسالة، قال تعالى بشأن هذه المرأة العاقلة المدبرة لشئون الرعية الراغبة في استبقاء الرعية وإن ذهب الملك والجاه بعد أن وصلتها الرسالة التي حملها الهدهد إليها {قَالَتْ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ إِنِّيۤ أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) {قَالَتْ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ أَفْتُونِي فِيۤ أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ (32) قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَٱلأَمْرُ إِلَيْكِ فَٱنظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ ٱلْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوۤاْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً وَكَذٰلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ ٱلْمُرْسَلُونَ} [النمل: 29 – 35].
    وقد رفض سليمان الرشوة في دين الله وطلب إثبات سلطانه وسطوته في الحق مستطلعاً رأي كل قادر على أن يأتي بعرشها قبل أن يؤتى بها أو تأتي هي طواعية، وتأكد أن أصحاب العلم أقدر على صنع العجائب والغرائب من أصحاب السحر والدجل والشعوذة لأن فعل الأولين حقائق وفعل الآخرين تخييل وتضليل وإيهام.
    وجيء بالعرش قبل أن تأتي ملكة سبأ، وعرض عليها عرشها وتأكد لها أن سليمان داعية إلى الله وليس طالب ديناً ولا عاشق سلطان ولا عابد كرسي وأعلنت إسلامها لله رب العالمين، ولما كان الناس على دين ملوكهم فإن الإسلام لم يذكر شأن رعيتها اعتماداً على المشهور.
    وهناك صور شتى في القرآن الكريم لاستطلاع الرأي بشقيه [الخير – الشر] بما لا يتسع المقام لذكره هنا.
  2. أمة الرسول صلى الله عليه وسلم والشورى:
    القرآن وصف هذه الأمة بصفات شتى محل حمد وثناء منها قول الحق سبحانه: {وَٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الشورى: 38]
    ومن بين هذه الصفات الكريمة سميت السورة التي وردت فيها هذه الآية بسورة الشورى. ولقد ورد الوصف بالشورى بين أركان الإسلام، فالإيمان بالله رأس الأمر والصلاة عمود الدين والزكاة في خاتمة الآية أو الصدقة بمعناها العام.
    وبين هذه الخصال كان الوصف بالشورى، ويمكن القول: إن إبداء الرأي وتقديم النصح هو ضرب من الإنفاق في الرأي.
    وهل كانت هذه الصفات توطئة وتهيئة للأمة وسياسة تعليمية لهم أم أنها وصف للواقع ؟ الكل محتمل.
    كما أن الحق سبحانه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستطلع رأي المحيطين به في كل أمر لم ينزل فيه قرآن، ولم يتلق رسول الله فيه إلهاماً السنة وجعل ذلك من دلالة الرأفة والرحمة والرقة وائتلاف القلب، حتى لا يؤدي هذا إلى نقيض المراد، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي ٱلأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].
    ومن الملاحظ أن السورة الأولى «الشورى» مكيّة، والسورة الثانية «آل عمران» مدنيّة، وكان الأمر الإلهي للرسول صلى الله عليه وسلم بالتطبيق العملي للشورى مع أصحابه من باب التدريب للأمّة وتباينه لوسائلها الممكنة وآثارها الإيجابية وليخرج الأسس الأربعة للحكم في الإسلام من النظرية إلى التطبيق وهذه الأسس هي: الشورى – الحرية – العدل – المساواة.
    ومع قيام النبوة به واتصاله المباشر بوحي السماء، وقدرته على اتخاذ القرار منفرداً فإن وافق الوحي كان بها وإن كانت الأخرى نزل الوحي ليصوّب له ما كان منه، إلا أنّه – عليه السلام – حرص على أن يلتزم بالأمر الإلهي وشاورهم في الأمر في كل أمر لا نصّ فيه، كما حرص أن يلزم كل من ولي أمر المسلمين أن لا يستبد برأيه ولا يستعبد أمته وإنما يحمّلهم تبعة القرار المبني على الشورى إلى قيام الساعة.
    وقد حرص عليه السلام عند تطبيقه العملي للشورى أن يكون أسوة وقدوة وأن يربي أصحابه على استقلال الرأي عند إبدائه وأن لا يكونوا مقلدين غير مدركين ولا فاهمين ومن لا يعرف فلا عليه أن لا يتكلم أو أن يبدي رأياً.
    يقول أبو هريرة: ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم(4) وقد ورد في السنّة أن أبا بكر وعمر قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن الناس ليزيدهم حرصاً على الإسلام أن يروا عليك زياً حسناً من الدنيا فقال: «وأيم الله لو أنكما تتفقان على أمر واحد ما عصيتكما في مشورة أبداً»(5).
    وقد وصف الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه أكثر الناس مشورة لأصحابه، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما رأيت أحداً أكثر استشارة للرجال من رسول الله» صلى الله عليه وسلم(6).  ومن أقواله صلى الله عليه وسلم : «ما خاب من استخار ولا عال من اقتصد»(7).
    وبين صلى الله عليه وسلم أن «المستشار مؤتمن» من حديث طويل ورد في كتب السنن(8) وفي رواية ثانية «المستشار أمين المستشار أمين»(9).
    وإبداء النصح وتقديم الشورى من المحامد والمكارم وليس من الواجبات وفي الأثر «المستشار بالخيار ما لم يتكلم فإذا تكلّم فحق عليه أن ينصح»(10).
    وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد دعا إلى المشورة، فإنه قد نبّه على توفر العلم لدى المستشار في الموضوع محل التشاور، وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم من تَقَّول عَلَيَّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار ومن استشاره أخوه المسلم فأشار عليه بغير رشد فقد خانه، ومن أفتى فتيا بغير ثبت فإثمه على من أفتاه»(11).
    وعلى من يبدي رأيه أن لا يكون مقلداً لغيره في المشورة وفي غيرها، وفي الحديث «لا تكونوا إمّعة تقولون إن أحسن الناس أحسنّا وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا»(12).
    وإذا كان إبداء الرأي في القضايا الكبرى من المدعو إليه، فإن المسلم مطالب بإبداء الرأي في كل أمر يرى نفسه مسؤولا عن إبداء الرأي فيه، وفي الحديث «لا يحقرنَّ أحدكم نفسه أن يرى أمراً لله عليه فيه مقال فلا يقول به فيلقى الله عزّ وجل وقد أضاع ذلك فيقول: ما منعك ؟ فيقول خشية الناس فيقول فإياي كنت أحقّ أن تخشى»(13).
    «وقد سئل صلى الله عليه وسلم من رجل قال له: يا رسول الله ما الحزم ؟ قال أن تشاور ذا رأي ثم تطيعه»(14).
    وقد كان للسنّة القولية كبير الأثر في ثقافة المسلمين، خواصّهم وعوامهم فقد ورد عن مروان ابن الحكم أنّه وصّى ابنه عبد العزيز قائلاً: ولا تدع المشورة فإنه لو استغنى عنها أحد لاستغنى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم(15).
    ومن أقوال أحد الحكماء: «من أعطى أربعاً لم يمنع أربعاً: من أعطى الشكر لم يمنع المزيد ومن أعطى التوبة لم يمنع القبول ومن أعطى الاستخارة لم يمنع الخيرة ومن أعطى المشورة لم يمنع الصواب»(16).
    وفي حلية الأولياء لأبي نعيم ما نسب إلى أحمد بن عاصم الأنطاكي، إجابته عن سؤال سائل قال له: ماذا تقول في المشورة ؟ قال: لا تَثِقَنَّ فيها بغير الأمين قلت: فما تقول في المشورة ؟ قال: انظر فيها لنفسك بدءاً كيف تسلم من كلامك.

الأمر الثالث: الآداب التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم للشورى

ذكرت أن الشورى في الإسلام فيما لا نصّ فيه، وأما المواطن التي ورد فيها نص فلا يستطلع فيها رأي ولا يستشار فيها أحد، وإنما يجوز فهم النص وتقديم هذا الفهم في ضوء القواعد المتعارف عليها عند مفسري القرآن وشرّاح السنّة ومستنبطي الأحكام الفقهية في حدود قوله تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً} [الأحزاب: 36].
وبهذه التربية القرآنية وهذا الهدي النبوي تخلّق الصحابة، فكانوا إذا اختلفوا في أمر طلبوا النص فإن وجدوه التزموا به، وإن جاءهم النص وقت الاختلاف وقفوا عنده وإن ظهر لهم بعد استطلاع الرأي فإن كان الرأي موافقاً حمدوا الله وإن كانت الأخرى عادوا إلى النص الشريف.

آداب الشورى في ضوء السيرة النبوية:

للشورى من الآداب في السنّة النبوية الكثير والكثير ومن يعش معها من حيث المضمون يدرك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد سلك مسالك يمكن أن ينتفع بها الآن، بل نحن أحوج ما نكون إليها الآن عن ذي قبل ومن هذه الآداب ما يلي:

  1. التصريح بأن الشورى والمشورة ضرب من الأمانة وأن استطلاع الرأي ينزل منزلة الأمانة في الإسلام وفي الحديث الشريف «المستشار مؤتمن» أي على الرأي الذي يبديه والكلام الذي سمعه، إن كان سراً وجب كتمانه وإن كان خيراً فمرد إفشائه إلى صاحبه إن أذن له بإظهاره أظهره وإن لم يأذن له وجب كتمه وبخاصة إذا تعلقت الشورى بالقضايا الكبرى كالحروب والتعيينات والتنقلات والانتدابات وقرارات الفصل وقرارات العودة بعد الفصل وكل أمر لا يجوز إظهاره، وبخاصة أن بعض ما يستشار فيه قد يتعلق بالأعراض التي يفضي كشف الستر فيها إلى إراقة الدماء، كما أن إفشاء الخطط العسكرية قد يؤدي إلى دمار الجيش بعد إلحاق الهزيمة بسبب الخيانة في إفشاء السرّ …
  2. قليلاً ما أظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيه في القضية محل التشاور لأن الناس على دين ملوكهم، وهذا حتى لا يولّد تأثيراً على الرأي وتبقى الموضوعية هي السمة اللازمة للمستشارين، ليقول كل قوله في ضوء ما هو مقتنع به.
  3. انتفاء المكافأة المادية والأدبية عقب إبداء الرأي – إلا الدعاء بخير – حتى لا يكون الباعث على إبداء الرأي أو المشورة هو طلب الكسب المادي وقد عاب الله من يسلك هذه السبيل {وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي ٱلصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58].
  4. انتفاء العقوبة وإن خالف رأي المستشار أو من يبدي رأيه رأي الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد رأينا عمر بن الخطاب وهو من أشد الناس تأييداً للرسول في كل المواطن رأيناه أشد الناس تحفظاً على شروط صلح الحديبية وقد توجه بهذه الأسئلة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، «يا رسول الله أولسنا على الحق ؟ والرسول يقول: بلى، عمر: أوليسوا على الباطل ؟ والرسول يجيب: بلى فقال يا رسول الله فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟ فيقول يا عمر إني رسول الله ولن أعصيه»(17).
  5. وعدم الثبات في الرأي على حال واحدة كما هي النظم الحديثة، تأييد مستمر أو معارضة مستمرة، فمن يؤيد اليوم قد يعارض غداً ومن يعارض اليوم قد يؤيد غداً، ولم توصف جماعة بأنها مؤيدة على الدوام وأخرى معارضة على الدوام بل لا يلبس الأمر أن ينتهي بانتهاء الموقف وإبداء الرأي.
  6. في ضوء السيرة النبوية، ولي الأمر هو المسؤول عن اتخاذ القرار بعد استطلاع الرأي بصرف النظر عن رأي الأكثرية أو رأي الأقلية، لأنه قد يبدو لولي الأمر من العواقب ما لا يبدو لغيره، وقد يدرك من التبعات ما يخشى الإفصاح عنه حال اتخاذ القرار، وقد يكون في قراره الذي يبدو أنه غير مقبول من الخير أو الآثار أو التوجه ما لا يمكن الإفصاح عنه، وقت اتخاذ القرار، ولعل أوضح الأمثلة على هذا صلح الحديبية، ونزول سورة الفتح بعده تصف الصلح بأنه فتح مبين، وقد أدرك الصحابة بعد هذا أن تحييد قريش عن قتال المسلمين ساعد على تحرك المسلمين في شبه الجزيرة لفتح بلدان شتى لولا اتفاقية السلم مع مكة ما كان هذا الفتح المبين.
  7. جواز قبول رأي المكلف من قبل ولي الأمر والأخذ بمشورته إذا قدم من الدلائل ما يقنع، ففي صلح الحديبية عرض الرسول صلى الله عليه وسلم على عمر بن الخطاب أن يذهب إلى قريش وأن يبدي لهم السبب في مجيء الرسول حتى يؤذن له بالعمرة فقال عمر للرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله: إني أخاف قريشاً على نفسي وليس بمكة من عدي بن كعب أحد يمنعني وقد عرفت قريش عداوتي إياها، وغلظتي عليها، ولكني أدلك على رجل أعز بها مني عثمان بن عفان، فدعا رسول الله عثمان بن عفان فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب وأنه جاء زائراً لهذا البيت ومعظماً حرمته »(18).
  8. لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يستشير الرجال وحدهم، بل استشار النساء في بعض الأحيان، وأحياناً يُشرن عليه بالرأي فيأخذ به ويكون الخير فيه، وليس أدل على هذا من تخييره نساءه بين الطلاق وبين البقاء في عصمته، كما ورد في الآية الكريمة {يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (28) وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 28 – 29].
    وقد تكون المشورة من النساء دون طلب وقد يكون بالعرض دون طلب، ذكر ابن الأثير في الكامل قوله: «فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من قضيته قال «قوموا فانحروا ثم احلقوا» فما قام أحد منهم حتى قال ذلك مراراً، فلما لم يقم أحد منهم دخل على أم سلمة فذكر لها ذلك، فقالت: يا نبي الله: اخرج ولا تكلم أحداً منهم حتى تنحر بدنك وتحلق شعرك، ففعل، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وحلقوا»(19).

الأمر الرابع: التطبيق النبوي العملي للشورى

السيرة النبوية تفيض بالتطبيقات العملية للشورى، ويمكن أن نظهر بعض هذه الجوانب مع بيان كيفية الاستفادة منها في واقعنا المعاصر فنقول:

أولاً: استطلاع الرسول صلى الله عليه وسلم رأي الجمهور أو عموم الناس، وذلك في كل أمر تكون فيه المصيبة عامة ويكون الخطر داهماً محدقاً بالجميع إن وقع، عندها كان يأمر عليه السلام أحد الصحابة أن يصعد إلى أعلى المسجد وأن ينادي الصلاة جامعة: الصلاة جامعة، فإذا اجتمعوا أخبرهم بالخطر المحدق واستطلع رأيهم ثم اتخذ قراره في ضوء ما فيه المصلحة ومن أوضح الأمثلة على هذا ما كان في غزوة أحد، حث الرسول صلى الله عليه وسلم مسلمي المدينة على الاجتماع في المسجد بعد أن علم بخروج قريش تريد هدم المدينة على من فيها، وعندما اجتمعوا عرض عليهم عليه السلام خيارات منها: البقاء داخل المدينة حتى إذا أتت قريش أقاموا بشر مقام، فإذا دهموا المدينة قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والغلمان بالحجارة من فوقهم، وإن أقام العدو ولم يدخل المدينة فإن طول المقام صارف له لا محالة، وتعددت الآراء، وغلب صوت من لم يشهد بدراً ومن يتمنى الشهادة ومن غلبت عليه نخوة العرب كيف الانتظار داخل الديار إلى آخر الآراء، فلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم ملابس الحرب وطلب من الكل الاستعداد للخروج وكان من أمر المعركة ما كان من هزيمة حسية دون الهزيمة المعنوية وقد نتجت الهزيمة الحسية من رجوع عبد الله بن أبي رأس النفاق والمنافقين بثلث الجيش عند مكان يسمى بالشوط، كما نسى الرماة الأمر النبوي بأن يبرحوا مكانهم حتى تنتهي المعركة عن آخرها، فلما لاح النصر للمسلمين انصرفوا يجمعون الغنائم فكانت أم الهزائم الحسية(20).

ثانياً: استطلاع رأي النقباء أو ممثلي القبائل – ممثلي العشائر في أيامنا هذه – وقد حدث هذا في مواطن شتىّ، والغاية من هذا استيضاح الموقف وتأكيد أمر التأييد أو المعارض وقد حدث هذا في غزوة بدر قبل المعركة وعلى أثر المفاجأة عندما غيَّر أبو سفيان طريق القافلة التجارية، وفوجئ الرسول صلى الله عليه وسلم بقريش قد جمعت جموعها وأتت عن بكرة أبيها معها خيلها وجمالها تريد الحرب وإذا بالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «أشيروا عليّ أيها الناس»، فقام أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب والمقداد بن عمر فتكلموا بكلام طيب عبروا فيه عن رأي المهاجرين، وإذا بالرسول صلى الله عليه وسلم يقول «أشيروا علي أيها الناس»، قال له سعد بن معاذ والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال – عليه السلام – «أجل». فعبّر عن رأي الأنصار خير تعبير، وأبان أنهم ملزمون بنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم داخل المدينة وخارجها وإن سار بهم إلى برك الغماد ما يقارب اليمن ما تخلفوا عنه عليه السلام(21).

ثالثاً: استطلاع رأي أصحاب الشأن أو المشكلة دون غيرهم من سائر الصحابة وهو أوضح ما يكون في غزوة الأحزاب، عندما رمت العرب المسلمين عن قوس واحدة، وحرص عليه السلام على تفتيت الأحزاب، وذلك من خلال طرحه على غطفان أن ترجع ولها ثلث ثمار المدينة، وعندما استطلع عليه السلام رأي الأنصار وحدهم دون رأي المهاجرين، سألوه هذا السؤال: يا رسول الله أوَحيٌ نزل أم أمر بدا؟ فقال: «بل أمر بدا لي أن أصنعه لكم: إني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة»، فقال الأنصار يا رسول الله لقد كنّا وهم على الشرك والله ما طعموا منها إلا قرى أو شرى، أبعَد أن أعزنا الله بالإسلام نعطي الدنية، والله ما لهم عندنا إلا السيف.
ولم يتم استطلاع رأي المهاجرين لأن التملك في المدينة كان للأنصار دون المهاجرين وثلث ثمارها سيكون من الأنصار لا من المهاجرين(22).

رابعاً: الاستفادة من تجارب الآخرين عندما تطرح عليه، وتقدير الآراء محل الاعتبار إذا طرحت من ذوي الاختصاص، وقد ظهر ذلك كثيراً من الرسول صلى الله عليه وسلم في قبول مشورة أن يغيّر مكان المعركة في بدر ووفق مشورة الحباب بن المنذر بن الجموح(23) وقبوله رأي سلمان الفارسي في حفر الخندق وكان الأمر مفاجئاً لقريش والأحزاب(24) وحصناً حصيناً للمسلمين.

خامساً: مراعاة الجوانب النفسية عند استطلاع الرأي وطلب المشورة، فلم يستطلع عليه السلام ذات يوم رأي الأوس في الخزرج ولا الخزرج في الأوس، حتى لا يحدث مثل هذا الأمر صراعاً بين القبيلتين أو يبعث الماضي البغيض بينهم.
كما أن الصحابة كانوا يضعون هذا في الاعتبار، فعندما استطلع عليه السلام رأي الصحابة بشأن أسرى بدر، فإن الذين تكلموا ثلاثة هم: أبو بكر الصديق، عمر بن الخطاب من المهاجرين، عبد الله بن رواحة(25) من الأنصار، وقد أبدى كلٌّ رأيه بما يراه صالحاً لخدمة الدعوة، ولم يبد أي من الأنصار رأيه بعد رأي ابن رواحة بشأن الأسرى رعاية لحرمة وصلة الدم بين المهاجرين والأسرى.

سادساً: كان عليه السلام يطلب النقباء في بعض الأحيان دون أن يطرح القضية على جموع الحاضرين، وفي الحديث: ارفعوا إليَّ عرفاءكم(26). كما أنه في بيعة العقبة دعا إلى اختيار نقباء عليهم فاختاروا اثني عشر نقيباً(27).
ومن مجموع هذه الصور والمظاهر للتطبيقات النبوية الشورى يمكن الاستفادة منها في واقعنا المعاصر على النحو التالي:

الأمر الخامس: مدى إمكانية الانتفاع بهذا الهدي في أيامنا هذه

لقد نوع عليه السلام ميادين التطبيق كما سبق ويمكن الاستفادة من هذا التنويع كما يلي:

  1. أن تعميم الرأي لا يكون إلا في القضايا التي تشغل المجتمع كله، ويعود النفع والضرّ على جميع أفراده، ويمكن تطبيق ذلك عند انتخاب المجالس النيابية أو مجلس الأمة أو مجلس الشعب على اختلاف الوصف واتحاد الهدف، باعتبار أن هؤلاء ممثلين عن الأمة بعد هذا، وهم صانعو القرار وواضعو القوانين، والمشرعون في حدود الشريعة لواقع الأمة ومستقبلها.
    ولكن ينبغي أن لا نهمل الشروط المعتبرة فيمن يبدي رأيه، فالعلم بالأمر محل الشورى أو الاختيار والقدرة على الموازنة عند إبداء الشورى وفقه الأولويات وتوفر الخبرة فضلاً عن الإخلاص(28)، كل هذه قيود لابد منها عند الاستفتاء، وقد قال الحق سبحانه: {وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14] وقال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] وقال تعالى: {فَاسْئَلُوۤاْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7].
    كما أن توفر الدليل على الرأي من الأمور المعتبرة شرعاً {لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} [الكهف: 15] وقال تعالى: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 64].
    وتقوم التجارب والخبرات مقام الدليل، وذكر العلة يعدّ برهاناً ودليلاً على صحة الرأي المقدم من المستشار.
    وهنا يجب على الإعلام الصادق أن يلعب دوره في إيضاح الصورة الخاصة بكل مرشح كما هي دون مدح أو قدح ودون تحريف أو تزييف حتى يكون الرأي ومثل هذا أيضاً القضايا ذات الصلة بمستقبل الدول كاتفاقيات الصلح أو نقضها ومعاهدات السلام أو إبطالها، على أن يحتفظ لولي الأمر بحقه في اتخاذ القرار وفق ما فيه المصلحة.
  2. يجوز لولي الأمر أن يستدعي ممثلي النقابات والأحزاب والجماعات والقبائل والطوائف منفردين أو مجتمعين لإبداء الرأي في قضية من القضايا أو أمر من الأمور الذي يرى أن إذاعته ضارة بمصلحة الأمة وأن الأمر يحتاج إلى مشورة سرية.
  3. يمكن لممثلي هذه الهيئات أن يذهبوا ابتداء دون دعوة من ولي الأمر لإبداء الرأي، والمطالبة بالحقوق بعد استطلاع رأي من يمثلونهم ومن أنابوهم للتعبير عن الرأي بلا مظاهرات ولا شجب ولا إيقاف عمل ولا تدمير مصنع ولا حرق مركبة ولا قتل شرطي أو جندي ولا إفضاء بنفس إلى التهلكة، على أن يعودوا مخبرين من وراءهم بما يراه ولاة الأمر ذاكرين السبب محاولين الإقناع مادامت المصلحة فيما يراه.
  4. يمكن استطلاع الرأي في زمننا هذا على أساس من التخصص نقابات .
    جماعات مدنية . منظمات حقوق الإنسان على اختلاف صورها وبخاصة العنصر النسائي في قضايا المرأة، وصلة هذه المؤسسات بالواقع أقرب من صلة ولي الأمر به، فتكون عيناً رائية للواقع كاشفة عن آماله وأمانيه مبلغة ولي الأمر بهما.
  5. ويمكن الاستعانة بمشورة أهل الكتاب وبخاصة بالقضايا التي تتعلق بالوطن كإنشاء المصانع واتفاقات السلم والاستيراد والتصدير من قبل الدولة، مادام في رأيهم خير يراه ولي الأمر، وليس أدل على هذا من كون الرسول صلى الله عليه وسلم قد استعان بعبد الله بن أريقط دليلاً له في رحلته إلى المدينة المنورة مهاجراً وكان الرجل مشركاً(29)، كما أن خبرات غير المسلمين يؤخذ بها عند الشورى، وهذا ما أخذ به الرسول صلى الله عليه وسلم من خبر سلمان الفارسي حين قال له: يا رسول الله: كنا إذا أصابنا شيء من هذا في فارس تخندقنا(30)، وكان الخندق أحد الأسلحة المفاجئة لقريش ولم نسمع أحداً من الصحابة يقول: كيف استعان بمشرك ليلة الهجرة أو كيف أخذ بعمل المجوس.
  6. وتتسع ميادين الشورى في الإسلام لتشمل ميادين الحياة كافة كما في هدي الرسول صلى الله عليه وسلم ، ونذكر هذه الميادين كعناوين ليكون ولي الأمر في سعة عندما يستشير وليكون الأمر كما قال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] ومن هذه الميادين:
    أ- الميدان السياسي: وهو المتعلق بالعلاقات الدولية في السلم والحرب كما في المعارك والنتائج المترتبة عليها وشأن الأسرى واتفاقيات الصلح ونقض هذه الاتفاقات إذا نقضها الطرف الآخر أولاً وهو أوضح ما يكون في غزوة بدر وبني قينقاع وأُحُد والنضير والأحزاب والمصطلق وصلح الحديبية وغيرها من الغزوات، فضلاً عن اختيار النقباء والعرفاء.
    ب- في المجال الاقتصادي: وهو أوضح ما يكون في استطلاع الرأي في الخروج إلى بدر كضرب من التعويض عما أصاب المهاجرين من ضرر، وإطلاق أسرى بني المصطلق ورد مال زينب في فدائها لأبي العاص، وقبول رأي عمر بن الخطاب في عدم ذبح أو نحر الإبل في غزوة تبوك حتى لا تفضي إلى الهلكة وهبوط رأس المال، وفتح باب التبرعات وبخاصة في غزوة العسرة.
    ج- المجال الاجتماعي: والشورى فيه قد وردت فيه أوامر كثيرة في القرآن والسنة، بدءاً من إرادة الأم فطام الوليد فإنه لا يكون إلا بتراضي الأبوين {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [البقرة: 233]. ورغبة المطلقة في العودة إلى زوجها بعد التشاور والتراضي، قال تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بِٱلْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232].
    وعلى مستوى الأسرة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشير نساءه في بعض الأمور المتعلقة بهن، ومن أوضح الأمثلة على هذا عندما نزلت آية التخيير بين الاستبقاء كزوجات للرسول عليه السلام وبين الفراق أو الطلاق خيرهن عليه السلام، وبدأ بأحبهنّ إليه منزلة ومكانة لذاتها من ناحية ولمنزلة أبيها من ناحية ثانية وقد قال لها بعد العرض: «لا عليك أن تستعجلي حتى تستشيري أبويك»، فقالت أفيك أستشير أبوي، بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة(31).
    وعندما وقعت حادثة الإفك وتولى كبرها مسطح، بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشير بعض الصحابة من الرجال والنساء، ومن هؤلاء علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد ومن النساء بريرة وزينب بنت جحش، وقد ذكر ابن كثير في إحدى الروايات التي أوردها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قام خطيباً فتشهد فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: «أما بعد أشيروا علي في أناس أبنوا في أهلي وأيم الله ما علمت على أهلي إلا خيراً وما علمت على أهلي من سوء وأبنوهم بمن والله ما علمت عليه من سوء قط ولا يدخل بيتي قط إلا وأنا حاضر…»(32).

وفي إطار الترابط الاجتماعي: سألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجارية ينكحها أهلها. أتستأمر أم لا ؟ قال: «نعم. تستأمر» فقالت عائشة فقلت له. فإنها تستحي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فذاك إذنها إذا هي سكتت»(33).

الأمر السادس: التيار السلفي المعاصر وخلطه الأوراق
وموقفه من الانتخابات والترشيح لها والمجالس النيابية وقراراتها

لم استخدم مصطلح «الدعوة السلفية» فليس لها أصل من الكتاب أو السنة وهي تسمية بدعية مصادمة للكتاب والسنة النبوية.
فالله سمّى دينه الإسلام والرسول سمّى دعوته بالدعوة الإسلامية وكثيراً ما كتب كتبه مفتتحاً إياها بقوله «أدعوك بدعاية الإسلام»(34) أي بدعوة الإسلام، مع أنه عليه السلام قد أمر {أَنِ ٱتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النحل: 321] وأمرنا كذلك بهذا الأمر {قُلْ صَدَقَ ٱللَّهُ فَٱتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [آل عمران: 95] ومع هذا لم نؤمر بالقول إنا سلفيون بل أمرنا بما أمر به الرسول عليه السلام {قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ ٱشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64].
وأولى بنا أن نظهر هذا المصطلح «الدعوة الإسلامية» بدلاً من مصطلحات شتّى دعاها هؤلاء وأولئك، فكانوا كما قال الله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} [النجم: 23].
وهذه التيارات والتي بلغت حداً في الكثرة في الآونة الأخيرة، حيث انقسم أتباع التيار الواحد إلى أقسام شتّى فقيل: سلفية دعوية، سلفية جهادية، سلفية علمية، ثم انقسمت هذه السلفيات إلى مدارس فقيل المدرسة السلفية بالإسكندرية، المدرسة السلفية بالوجه القبلي. ثم انقسمت على أساس النسبة فقيل جماعة فلان، أو التابعة لفلان…
كل هذا قد أضعف شأن الأمة، وتتحقق فيها قول الله تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] وقد تنازعنا ففشلنا فذهبت ريحنا. مع أن الحق حذرنا أن نسلك سبيل السابقين في هذا التنازع {إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } [الأنعام: 159].
وقوله سبحانه تحذيراً من الإعراض عن الهدي والعمل بالكتاب والسنة وحثاً على عدم التنازع وبيان آثار هذا السلوك {قُلْ هُوَ ٱلْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام: 65].
وحديث افتراق الأمة ورد على سبيل التحذير لا التبشير ودعوة إلى الإنشاء لا الاستعجال، ولو كان الافتراق وكانت الفرقة مما يحمد ما أكثر القرآن من ذم الفرقة والافتراق وما حذرت السنة منهما.
لقد مزقت الأمة شر ممزق، وكثير من هذه الأحزاب نشأ على أساس سياسي موظفاً الدين لتحقيق غايته، فالإخوان رد فعل للاستعمار والاستيطان ثم كان التطلع إلى الحكم ولا يزالون، والسلفية لكبح جماح الطائفتين معاً:
الشيوعية كنشاط مضاد للدين، والإخوان كحركة تتطلع إلى الحكم والسلطة باعتبار أن السلفية في أصلها زاهدة في السلطة والمناصب والكراسي معرضة عنها وإمامهم في هذا أبو حنيفة والإمام مالك والإمام أحمد.
كما أنها حركة مضادة للتيار الصوفي الذي يميل إلى التزكية وإن رُمي من قبل التيار السلفي بالشركي والبدعي والقبوري…
وهناك فرق ومذهبيات أخرى على أساس فقهي أو لغوي أو عرقي أو أيديولوجي ولكن المعنى في الآونة الأخيرة بالحكم والحاكم والحاكمية والسياسة طائفتان من هذه الطوائف:
الأولى: جماعة الإخوان وقد شكّلت ركيزة نشأة كثير من التيار الدعوية الأخرى.
الثانية: التيار السلفي وقد تفرع عنه ما لا يخفى على أحد من المسلمين.
والطائفة الأولى وإن استبقت الشورى فيما بينها إلا أن مواقفها تجاه الشورى العامة متذبذبة، فهي لا ترى الرأي للرأي بل ترى الرأي للمصلحة، للمكسب والخسارة، للوجود واللاوجود، فإذا أدركت أن المصلحة في المشاركة وإبداء الرأي وممارسة الشورى العامة فإنها تقدم، وكثيراً ما تتفق مع الحكومات على نصيبها من الكعكة قبل خوض الانتخابات {فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58].
والعقود الأخيرة خير شاهد على هذا الكلام.
والطائفة الثانية أقل عدداً من الطائفة الأولى وأقل خبرة وأحدث سناً وأقل تجربة وأقل قيادة وأشد طيشاً من الأولى، يندفعون على عجل ويتراجعون على وجل ومهل، كثيراً ما وظفوا دون أن يشعروا، وتوظيفهم قد يكون لجماعة أو حكومة أو عدد داخلي أو خارجي، يأخذون بظواهر النصوص والنتائج عندهم متوفرة والمطلوب طلب المقدمات لها أو الدلائل الموصلة إليها، وإن قال كبيرهم قالوا سمعنا وأطعنا، وإن نأى وانشق أحدهم قالت طائفة له معك سرنا، يلعبون على كل الأحبال، فهم في بعض الأحيان مع الحكومة وأحياناً ضدها، ومع الإخوان وأحياناً ضدهم، ومع الأزهر وأحياناً ضده وهم مع الأمن – فأكثرهم كذلك – وأحياناً ضده، وهم مع الجهاديين وأحياناً ضده وهم مع الزهد وكثيراً ضده، وهم مع تحريم التصوير وكثيراً ما يستحوذون على الكاميرا بل وأنشأوا قنوات فضائية في العقود الأخيرة لبث فكرهم وفرض رأيهم مع تحريمها على كل من لم يؤمن بمبادئهم ويتبع طريقتهم وبخاصة إذا كان من علماء الأزهر الذين ينعتون من السلفيين بأنهم أشعريون صفاتيون مؤولون بدعيون وتوجه إليهم أحياناً رسائل لتصحيح العقائد عندهم.

دعاة السلفية والديمقراطية والشورى والمجالس النيابية:

في الآونة الأخيرة غلب اصطلاح الديمقراطية على اصطلاح الشورى في كثير من ديار الإسلام، وإذا كنا لا نرى الديمقراطية مطابقة للشورى أو مثيلاً لها أو مغنية عنها لاختلاف المنشأ والقضايا محل التناول والحدود المأذون بها وطبيعة الرأي في كل أمر، إلا أن الغاية في كثير من الأحيان متقاربة.
ولما كان السلفيون يقفون عند الألفاظ والمباني لا الأهداف والمعاني فإنهم قد رفضوا التسميات الحديثة مجالس نيابية – مجالس شعب ديمقراطية – قومية.. مع أن هؤلاء لهم مجالس شورى خاصة بهم ولهم مجالس حكماء – كما يتصورون يديرون شؤونهم، ومع هذا فكتاباتهم حول هذا الأمر فيها غلو وتطرف وتجاوز ومن الأمثلة على هذا ما يلي:
ذكر صاحب كتاب العروة الوثقى وواقعنا المعاصر بحثاً طويلاً عبر به عن فكر التيار السلفي وموقفه من الانتخابات والمجالس النيابية والأحكام الصادرة عنها والقوانين التي تقدر عند كل الأمم “الدستور» وليس بالإمكان نقل كل كلامه، ولكني سأقتطف من كلامه ما يحقق الغاية المرجوة من بيان موقف هذا التيار من مظهر من مظاهر الشورى في العالم الإسلامي وإن عبروا بكلمة الديمقراطية ولكنهم لم ينسوا في نفس الوقت الآيات القرآنية التي صانت التنزيل عن التأويل أو العدول والميل وهذا بعض ما ورد في كتابه “القوانين الوضعية دين من الأديان الباطلة إذ أنها طريقة متبعة وشريعة ملزمة ومعنى الإلزام فيها أن واضعيها والآمرين بها يلزمون الناس بطاعة هذه القوانين ويعاقبون من خالفها… ص 86 .
ومن الأديان الباطلة الديمقراطية وهي حكم الشعب أو سلطة الشعب أو سيادة الشعب أي أن الأمر والنهي للشعب لا غير… ففي دين الديمقراطية إن الحكم إلا للشعب وفي دين الله {إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ} [يوسف: 40]، وفي دين الديمقراطية الشعب يحكم لا معقب لحكمه، وفي دين الله {وَٱللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد: 41]،وفي دين الديمقراطية إن الشعب يحكم ما يريد وفي دين الله {إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1] – المرجع السابق 88.
وعن الانتخابات والترشيح والمشاركة يقول: «يقول البعض: نحن لا نلتزم بالأساس النظري للديمقراطية بل نأخذ بآلياتها التي لا تخالف شرع الله ونسي هؤلاء أن الوسائل لها أحكام المقاصد، فآليات الديمقراطية لها نفس حكم الديمقراطية… فإذا كانت الديمقراطية كفراً مخرجاً من الملّة فوسائلها لها نفس الحكم ومن وسائلها حرية تكوين الآراء وحرية الدعوة إليها وحرية تكوين الأحزاب وحق المعارضة للسلطة القائمة ومساءلتها وحق الاقتراع العام وحق الترشيح وتنظيم الانتخابات للوصول إلى الحكم وتداول السلطة بين أفراد الشعب واعتماد مبدأ الأغلبية في اتخاذ القرارات وسن القوانين، والفصل بين السلطات» المرجع السابق 92 / 93 .
وعن وجود بعض الإيجابيات في الديمقراطية يقول: «إنه لا يمكن إنكار أن في الديمقراطية مساحات مضيئة ينتج عنها بعض الفوائد والمنافع ولكن هذه المنافع والعوائد في تقويمنا لها من خلال فهمنا للإسلام، تناظر حديث القرآن عن الخمر والميسر قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [البقرة: 219]، وهذا كاف في المنع من الديمقراطية والتحذير منها فما تعود به من مضار ومفاسد أضعاف ما تأتي به من منافع وواقعنا المعاصر خير شاهد على ما نقول»  ص 95 المرجع السابق.

ذكر شبهة أوردها الكاتب ثم ردها:

يقول: «ويطيب لبعض الناس أن يستشهد بيوسف عليه السلام حين قال للملك الذي لا يحكم بما أنزل الله {ٱجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55].
ثم يرد قائلاً: والجواب من وجوه:
أولاً: هذا سوء أدب مع نبي الله يوسف وتنقص له، التنقيص يدخل في السب ويوسف وسائر الأنبياء بريئون من هؤلاء الذين لا يدخلون البرلمان ولا يتقلدون الوزارة حتى يقسموا على احترام الطاغوت، والتزام العمل به والعمل من أجله والطاغوت هنا هو الدستور والقانون اللذين يتحاكم إليهما من دون الله وتحت بند ثالثاً قال: على الذين يستدلون بعمل يوسف لملك مصر على إجازة المكفرات ينبغي عليهم أن يتوبوا إلى الله تعالى من هذا الضلال وأن ينتهوا عن المشاركة في الانتخابات الديمقراطية ولا يدعوا الناس إليها، لأن الانتخابات جزء من العملية الديمقراطية وهي تحقيق للمبدأ الذي تقوم عليه الديمقراطية، وهو أن الحق في الحكم والسيادة المطلقة للشعب، وللشعب أن يختار من ينوب عنه في مزاولة السلطة ويتم كل ذلك عن طريق الانتخابات فالاشتراك في الانتخابات الديمقراطية إيمان بالديمقراطية، وتحقيق عملي للمبدأ الذي قامت عليه والاعتراف بالديمقراطية والاحتكام إليها والمشاركة فيها كل هذا إيمان بالطاغوت وكفر بالله عظيم. والذين يزعمون أنهم يشاركون في الانتخابات ليختاروا من يحكم بشرع الله ولكن لا يتركون المجال مفتوحاً للذين لا يريدون حكم الله هؤلاء واهمون ويعيشون في خيال… ص 97 .
«ومن الأديان الباطلة الدستور وهو القانون الأساسي والحاكم في الدولة وهو مجموعة القواعد والأحكام التي تحكم شكل الدولة، ونظام الحكم فيها وسلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية وطريقة توزيع السلطات وبيان اختصاصها ومدى ارتباطها ببعضها… والذين يضعون الدستور مجموعة من المشرعين انتخبهم الشعب لهذه الوظيفة وهم أصحاب السلطة التأسيسية أو الجمعية التأسيسية، وهؤلاء المشرعون غير ملزمين بالرجوع إلى مصدر معين في وضع الدستور بل لهم السلطة المطلقة في هذا…
ومرحلة الانتخاب لوضع الدستور ومرحلة تشريع الدستور ومرحلة الاستفتاء عليه كل هذا من دين الديمقراطية القائم على أن الحكم والسياسة والسلطة المطلقة للشعب لا لله وحده، والمشاركة في أي مرحلة من هذه المراحل يعد إيماناً بالديمقراطية والإيمان بها إيمان بالطاغوت وكفر بالله ودينه ورسوله » نفس المرجع ص 99 .
«وعملية الاستفتاء على الدستور هي احتكام للشعب على أنه صاحب الحق في الحكم والسيادة فمن شارك في عملية الاستفتاء فقد قبل أن يحتكم إلى رأيه ويكون حكماً من دون الله.
ثم إن هذا الدستور إن كان من تشريع غير الله فهو كفر بالله تعالى، وهم يعرضون هذا الكفر على الناس، فإن اختاره الأغلبية صار هو الحق الذي لا يجوز مخالفته…
كذلك لو فرضنا أن الدستور كله مستمد من شريعة الله تعالى فعرضه على الاستفتاء كفر بالله تعالى ما بعده كفر، لأنه احتكام لمخلوق في قبول حكم الخالق أو رده… فهل بعد هذا كفر ؟ ص 100 .
هذه رؤية أحد أركان التيار السلفي حول الانتخابات والبرلمانات والقوانين
والدساتير، ولا يتسع المقام لنقض هذا الكلام.
ومما يدعو إليه السلفيون «في النظام الإسلامي لا ينتخب للإمارة أو لعضوية مجلس الشورى أو لأي منصب من مناصب المسؤولية من يرشح نفسه لذلك أو يسعى فيه سعياً ما، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنا لا نولي هذا العمل أحداً سأله أو حرص عليه ومن المؤكد أنه ليس في المجتمع الإسلامي محل للترشيح للمناصب والدعايات الانتخابية أصلاً، لذا لم يكن من شأن السلف الصالح الحرص على تولي الولايات والقضاء ولا يطلبونها ولا يقبلونها إلا إذا شعروا أن مصلحة المسلمين في ذلك، وعندئذ يقبلونها وهم كارهون لها»(35).

أحكام السلفيين على البرلمانات والمجالس النيابية:

كتب أبو عمر محمود بن عمر السلفي الأثري كتابه «بين منهجين» أوضح فيه سبيل الوصول إلى الحكم في ضوء التصور السلفي الجهادي وأما عن الواقع الإسلامي وبخاصة بعض الدول العربية فقد أصدر أحكام بشركية برلمانها وكفرها وحرمة دخولها أو التعامل معها ولو كان الدخول بنية جعلها إسلامية، وهذه إشارات من كتابه:
«ونحن نصر ونؤكد أن هذا المسار شركي كفري لأن البرلمان هو مالك السيادة التشريعية في النظم العلمانية» ص 21 .
«لو افترضنا جدلاً أن فرقة من الفرق وصلت إلى سدة الحكم عن طريق الديمقراطية وحكمت الشريعة فهل يكون الحكم إسلامياً بهذه الطريقة ؟ الجواب بكل وضوح: لا.
فكل قانون وإن كان يلتقي مع الشريعة الإسلامية في حده ووصفه وفرض عن طريق البرلمان وخيار الشعب لن يكون إسلامياً بل هو قانون طاغوتي كفري» ص 91 .
«فالقانون الصادر عن البرلمان مصدر بكلمة: باسم الشعب أو قرر مندوبو البرلمان فهو قانون طاغوتي اكتسب قوته من إله باطل…» ص 92 .
«فحين يصدر قانون من البرلمان أو مجلس النواب أو مجلس الشعب فإنه يكسب قوته بكونه صادراً من السيد الحاكم فهو حاكم شعبي برلماني ديمقراطي علماني أي هو في دين الله تعالى حكم شركي طاغوتي» ص 94.
«عرفنا أن البرلمان مجلس شركي طاغوتي لأن فيه إسناد حق التأليه لغير الله تعالى، فهو المشرع في الديانة العلمانية، فهل يجوز للمسلم أن يدخله بنية أخرى تخالف حقيقته؟… وبمعنى أكثر وضوحاً هل فتوى بن باز في جواز الدخول في البرلمان إذا كانت نية الدخول فيه الإصلاح وتبليغ الشريعة صحيحة أم باطلة؟ نقول: إن هذه النيات لا قيمة لها، ولا أهمية لها في تغيير التوصيف الشرعي لهذه العملية ولا للقائم بها وعليها… » 96 «وعلى هذا فالنيات لا تنفع في رفع الحكم الشرعي » ص 98 .
«وعن الوحدة الوطنية والسلم الاجتماعي كتب» لابد من التنبيه على ضلال دعوة بعض قادة الحركات المهترئة بوجوب الحفاظ على النسيج الوطني أو اللحمة الوطنية أو الوحدة الوطنية، فعلاوة على أن هذا القول فيه شبهة الوطنية الكافرة، إلا أنه يدل على أنهم لم يفهموا قط الطريقة السننية لسقوط الحضارات وبنائها» ص 103 .
«وعن سبيلهم للوصول إلى الحكم قال الجهاد بالسيف» ستطهر الأرض من غربان الشر وأبوام الرذيلة، سنلاحق هذه المسوخ التي تسمى كذباً بالمفكرين… نعم نحن نعرف أننا لن نصل حتى نعبد الطريق بجماجم هؤلاء… خلال مرحلة الجهاد سنقطف رؤوس الصحفيين المفسدين في الأرض فنحن لسنا بحاجة إلى سحرة فرعون..» ص 89 .

الأمر السابع: التوظيف السلبي للشورى عند بعض التيارات الإسلامية وأثره على الدعوة الإسلامية والأمن والسلم الاجتماعي

كتبت المدرسة السلفية في النظم الثلاثة السياسي – الاقتصادي – الاجتماعي بدعوى تقديم تصور لحكم إسلامي رشيد، وعند تناول قضية الإمامة وقضية النيابة عن الأمة طرحوا تصورات قاصرة تدل على أنهم في واد والعالم في واد سحيق، ورغبتهم صادقة في العودة بالبشرية إلى القرن السابع والثامن الميلادي بكل صوره وأشكاله السياسية والاجتماعية والاقتصادية فإن طرحت على أحدهم نموذجاً لا يقبله أمسك عن الكلام أو هاج وماج، مثلاً تغيير نظام الحكم من الخلافة إلى الملكية، الصراع بين الصحابة، معايير الاختيار …
ومما ذهبوا إليه بدعوى أنه الإسلام أو النظام الإسلامي مع رفض كل ما عداه ما يلي:

  1. رفض الانتخابات على اختلاف صورها وأشكالها لأنها نازلة على اختيار من بين المرشحين والإسلام لا يعطي الأمر من يطلبه في الولاية.
  2. منع المرأة من تولي المناصب العالية كأن تكون وزيرة أو قاضية وخاصة رئاسة الدولة، وفي صحيح البخاري لا يفلح قوم ولوّا أمرهم امرأة وهو دليل على تحريم تولي المرأة للولاية العظمى وغيرها من الولايات الكبرى لأن الحديث لفظ عام… وقد أجمع أولو الأمر من أهل الحل والعقد من الأمراء والعلماء على منع المرأة من تولي منصب رئاسة الدولة(36).
    «لا يجوز للمرأة خوض غمار الانتخابات حماية لأنوثتها الطاهرة من العبث والعدوان والبعد عن مظاهر الريبة وبواعث الافتتان» (37).
    وهكذا نرى تصوراً قائماً على الشورى كما يزعمون، فهل التزم التيار السلفي بهذه المبادئ التي دعا إليها وهل أقلع عن الديمقراطية ومبادئها في كل الظروف والأحوال؟

الواقع لا:

لقد قدم التيار السلفي ولا يزال نفسه بديلاً عن كل ما يتاح له، قدموا أنفسهم مرشحين لرئاسة الدولة وإن ثبت كذب المرشح بعد هذا، وقدموا أنفسهم طالبين عضوية البرلمان مع أنه طاغوت بنص كلامهم، وذهبوا لتوقيع اتفاقات مع المرشحين حال تولي رئاسة الدولة وحال تشكيل الحكومة وحددوا وزارات بعينها وبخاصة، التعليم – الأوقاف – المالية.
وكثيراً ما أنكروا أنهم قابلوا أو لاقوا هذا أو ذاك ليخرج علينا من يكذبهم على الهواء ويقول لكبيرهم لقد زرتني يوم كذا في منزل كذا تطلب وزارة كذا…
كما أن حجب المرأة عن الترشيح لهذه المواقع فيه إهدار لنصف عقل المجتمع وكم رأينا رجاحة عقل النساء عند إبداء الرأي قبل الإسلام وفي حياة الرسول عليه الصلاة والسلام.
ورد البرلمانات ورفضها ورمي أهلها بالشرك والضلال كل هذا لا أساس له من الصحة، فلقد شارك السلفيون في لجنة صياغة الدستور كما شاركوا في انتخابات مجلس الشعب ويبذلون كل جهد ممكن في السيطرة على اتحاد الطلاب داخل الجامعة وخارج الجامعة في النقابات والجمعيات والمحليات ولهم مساجد خاصة بهم، يديرون شئونهم الاجتماعية ودعوتهم الموسومة بالسلفية من خلالها.
والتحالف من أجل المصالح لا ضير فيه، فبعد الفرقة والقطيعة والصراع بين التيار السلفي وجماعة الإخوان، عندما بدا لهم أن المصلحة في التحالف تحالفوا وعندما تولد الأمل في إسقاط الإخوان أسقطوا، وعندما شكلت جبهة من تيارات ليبرالية وعلمانية واشتراكية تحالفوا معهم، وكل هذا يطلبون له مبرراً من نص قرآني يؤول أو حديث نبوي صح أم ضعف، فالغاية تبرر الوسيلة.
ومع هذا لهم مجالس شورى خاصة بهم أدنى ما فيها من مذمة أنها تعمل في خفاء ولا تكاد تبين عن أسماء أعضائها أو كفاءتهم العلمية. والإخوان قد وظفوا الشورى لصالح جماعتهم، فلهم مجلس شورى أعلى ممثلاً في الحكماء ولهم مجالس شورى محلية ومن يقرأ الكتب المشار إليها أدناه يدرك أن موضوع الشورى عندهم إنما يتناول هذه القضايا بالدرجة الأولى:

  1. السبيل لتغيير نظام الحكم القائم هل بالدعوة أم بالسيف أم بهما.
  2. السبيل لرد الفعل المناسب على الاعتداء عليهم أهو بالقتل أم بالخطف حتى يكون الإفراج عن مسجونيهم.
  3. السبيل للقضاء على هذا أو ذاك من المناوئين أهو بالاغتيال الحسي أم الاغتيال الأدبي أم بهما معاً.
  4. السبيل الأمثل لجمع السلاح والتدريب عليه وتخزينه ومتى يكون استخدامه ومتى يكون كتمانه.
  5. السبيل للإفراج عن المعتقلين أو إخفاء المطلوبين أو تهريب الملاحقين.
  6. السبيل للرد على سياسة الحكومات وكتابة ما يتناسب من المقالات وتوزيع ما يمكن من المنشورات.
  7. السبيل لفرض سياسة الأمر الواقع عندما يحال بين الإخوان وبين مؤتمر يريدون عقده فما السبيل ؟ أإقامة مأتم وهمي أم تشييع جنازة مزعومة، أم الحضور الفردي إلى هذا المسجد أو ذاك لأداء صلاة يعقبها كلمة هذا أو ذاك أو التخفي في نقاب من قبل بعض القيادات ليكون الوصول إلى الهدف والمقام لا يتسع لذكر الكثير مما قرأته في مشورتهم ومشاوراتهم(38).

الأمر الثامن: تجارب غير المسلمين ما نأخذ منها وما ندع

من الإشارات السابقة بشأن الشورى في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن خلال ما عرض عليه في غير ما ذكر، كضرورة اتخاذ خاتم لكتبه لأن بعض الأمم لا تقبل كتاب هذا أو ذاك إلا إذا كان مختوماًَ، فقد قبل الرسول عليه السلام واتخذ خاتماً نقش عليه محمد رسول الله.
وعلى هذا الهدي سار الخلفاء الراشدون من بعده.
والدول الغربية تمارس نظاماً شورياً دعته بالديمقراطي، يتفق في بعض جوانبه مع الشورى في الإسلام، ويختلف في عدم اعتبار القدسية لشيء ما.
وما على المسلمين من سبيل إذا أخذوا بتجارب الغرب في تطبيق مبدأ الشورى فالإسلام وإن أوجبها إلا أنه لم يحدد كيفية التطبيق لها، أهي بالنطق أم بالصمت أهي بالإشارة أم بالكتابة، أهي بالبقاء حال المناقشة أم بالانصراف إعراضاً وإنكاراً ؟
وفي الآونة الأخيرة ترى كثيرين من غير المسلمين قد تقدموا في هذا الميدان، فمن التصويت عن طريق الاقتراع العلني إلى التصويت عن طريق الاقتراع السري ومن اعتماد بطاقة الهوية كمستند إلى اعتماد بصمة الأصبع كدليل ومن إبداء الرأي في فترة ما ورقيا إلى إبداء الرأي إليكترونياً، ومن الاقتصار على التصويت الداخلي إلى إجراء التصويت الخارجي، ومن الجمود عند رأي طائفة أو جماعة إلى تعميم إبداء الرأي لكل المواطنين. إن الاستفادة من طرق التطبيق غير محرمة ولا مكروهة لأنها تساعد على ضبط عملية الانتخاب وتكمم الأفواه، وتدفع تشكيك المشككين وضلال المضللين وزيغ الزائفين.
وبهذا كل ما يخدم عملية الشورى والتجارب السياسية الإيجابية فلا ضير أن ننتفع به في أيامنا هذا، حتى تكون لنا تجاربنا الذاتية التي نستغني بها عن استيراد نظم وإن كانت بشرية وضعية إلا أنها حققت نجاحات في ديارها، فأي مانع أن نستفيد من هذه النجاحات في ديارنا.

الأمر التاسع: نتائج البحث والتوصيات

من خلال العيش مع البحث وبعد حمد الله على التوفيق في المعالجة والعون من أجل الفراغ منه أرى الآتي:

  1. ضرورة دراسة السيرة النبوية دراسة متأنية واستخراج الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية منها مع صياغتها بلغة العصر حتى يسهل التطبيق والتنفيذ.
  2. التعامل مع السيرة النبوية بروح اليسر لا العسر والرحمة لا العقوبة وإبراز كثير مما خفي منها: لأن ظواهر كتب السيرة تعبر عن مرحلتين من الزمن:
    الأولى: العهد المكي وكلها صراع وصدام وشقاق ونفرة…
    الثانية: العهد المدني وكلها إعمال للسيف، ما أن يفرغ الكاتب من الحديث عن غزوة حتى ينتقل إلى الحديث عن غزوة أخرى، دون إبراز الوجه المشرق حتى لأدب القتال في الإسلام.
  3. مواجهة الفكر المتطرف بالفكر المعتدل السامي الراقي، حتى لا ينشا داخل ديار الإسلام تيارات تسيء إلى دينها ونفسها ووطنها والبشرية جمعاء.
  4. التحذير من إساءة توظيف السيرة توظيفاً سلبياً، كإباحة الاغتيال قياساً على حادثة كعب بن الأشرف، وإباحة التنظيمات السرية قياساً على فترة الدعوة الأولى، ودار الأرقم، وإباحة الهروب من الشرطة أو قتلها إذا أرادت اعتقال هذا أو ذاك، قياساً على خروج الرسول بالليل مستخفياً من أذى قريش، أو إرادته قتل عمر عندما قرع عليهم باب دار الأرقم.
  5. إجراء مسابقات حرة بين الشباب في بعض قضايا السيرة ليكون الربط بين هؤلاء الشباب وبين سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ليتحقق قوله تعالى {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب: 21].

أهم مراجع البحث

أولاً: القرآن الكريم.
ثانياً: أهم الكتب:

  1. الإخوان المسلمين بين عهدين – فتحي العسال. ط دار الكتاب الإسلامي. الطبعة الثانية.
  2. الإخوان المسلمون والجماعات الإسلامية في الحياة السياسية المعاصرة د. زكريا بيومي، ط 2 ، مكتبة وهبة، 1978 م.
  3. بين منهجين. أبو عمر محمود بن عمر السلفي دار أشبيلية، ط 1، 2011 م.
  4. البداية والنهاية – الحافظ بن كثير.
  5. البوابة السوداء. أحمد رائف، ط 14 ، الزهراء للإعلام العربي.
  6. تفسير القرآن العظيم – الحافظ بن كثير، عيسى البابي الحلبي.
  7. جماعة الإخوان المسلمين – رؤية نقدية شرعية ، أحمد كريمة ط 1، 2014 م.
  8. حدائق الأنوار ومطالع الأسرار، ابن الديبع الشيباني ، ت عبد الله الأنصاري ، دار إحياء التراث العربي – قطر ت.
  9. حسن البنا والحلقة المفقودة، عون معين القدومي، دار الفتح، بيروت، 2013 م.
  10. حصاد الأيام أو مذكرات هارب. حسن العشماوي، دار الفتح، بيروت ط 2، 1985م.
  11. السيرة النبوية- ابن هشام الأنصاري، عبد السلام شقرون ت طه عبد الرؤوف.
  12. صحيح الإمام البخاري متن ط محمد علي صبيح، مشكولة، مصر.
  13. صحيح الإمام مسلم متن ، عيسى البابي الحلبي، مصر.
  14. العروة الوثقى وواقعنا المعاصر، محمد خميس العزومي، دار الخلفاء الراشدين – الطبعة الأولى، 2014 م.
  15. الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، محمد البهي، مكتبة وهبة.